حدث ورؤية

السيادة على قناة السويس: تحديات نفوذ القوى الدولية والإقليمية

 

مقدمة:

في ظل ما تعانيه مصر من ضغوط اقتصادية وسياسية متفاقمة، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول مطالبة مصر بإعفاء السفن الأميركية من رسوم المرور في قناة السويس، لتثير تساؤلات واسعة حول مغزى هذا التصريح وتوقيته وأهدافه الخفية.

فرغم الصيغة الاقتصادية التي اتخذتها التصريحات، إلا أن خلفياتها يبدو أنها تتجاوز الحسابات المالية إلى أبعاد استراتيجية تتصل بتوازنات النفوذ في الممرات البحرية الدولية، وحدود الهيمنة الأميركية في منطقة يشهد نفوذها التقليدي فيها تراجعًا لحساب قوى أخرى، في مقدمتها الصين.

وفي ذات سياق انحسار السيادة المصرية على مواردها الاستراتيجية، برز تمدد إماراتي جديد عبر اتفاق مجموعة “موانئ أبو ظبي” لتطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية قرب بورسعيد لمدة 50 عامًا، بصلاحيات تشمل الإدارة والتمويل والتشغيل.

الاتفاق يعكس تموضعًا إماراتيًّا طويل الأمد في مفاصل النقل البحري المصري، مستغلًا هشاشة الوضع الاقتصادي، ومضيفًا بُعدًا إقليميًّا جديدًا إلى خريطة التنافس على أهم ممرات الشرق الأوسط الحيوية.

أولاً: قناة السويس في خريطة السيطرة البحرية الأمريكية:

تُعد قناة السويس شريانًا استراتيجيًّا في منظومة النقل العالمية، وبالنسبة للولايات المتحدة، لا تُختزل القناة في بعدها الاقتصادي فحسب، بل تمثل معبرًا حيويًّا لتحركات أساطيلها العسكرية، خاصة الأسطول السادس في البحر المتوسط والأسطول الخامس في الخليج العربي.

عقب السابع من أكتوبر، دفعت واشنطن بحاملتي طائرات إلى المنطقة، إحداهما تمركزت في البحر الأحمر، والأخرى في شرق المتوسط، لتتحول القناة إلى ممر لوجستي مفصلي بين جبهات انتشار القوات، وقد بدا جليًّا أن قدرة أمريكا على التحرك السريع عبر القناة يُعدُّ عنصرًا حاسمًا في ترجيح كفة التوازن العسكري لصالح الاحتلال الإسرائيلي.

ثانيًا: قناة السويس بين منطق التاجر وابتزاز الهيمنة:

في ضوء منطق ترامب الذي يحسب كل خطوة بلغة الربح والخسارة يمكن تحليل ما كشفت عنه تسريبات من تطبيق “سيغنال”، فيما أصبح يُعرف إعلاميًّا بـ “سيغنال غيت”، عن نقاش دار بشأن تكلفة ضرب الحوثيين في اليمن، وقد شارك في هذا النقاش، الذي سبق تنفيذ الضربات، كل من نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ومستشار الأمن القومي السابق مايك والتز، حيث دار جدل حول جدوى الضربات، ومن الجهة التي ينبغي أن تتحمل كلفتها، واقترح بعضهم أن تتحمل مصر بعض التكلفة نظرًا لاستفادتها من عودة حركة الملاحة التجارية عبر القناة لسابق عهدها.

في هذا السياق يمكن فهم تصريحات، دونالد ترامب – التاجر قبل أن يكون رئيسًا لأمريكا – بنظرته الحاسبة إلى الكلفة العالية للعمليات العسكرية في الشرق الأوسط، ومنها تدمير أكثر من 20 طائرة مسيّرة من طراز MQ-9، تجاوزت تكلفتها نصف مليار دولار، باعتبارها استنزافًا غير مسوَّغ دون مقابل، ومن هذا المنطلق، ينبع طلبه للمرور المجاني عبر قناة السويس من فلسفة ترى أن الولايات المتحدة تدفع ثمن الهيمنة مرتين: مرة بتكاليف العمليات، ومرة برسوم العبور.

وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها مصر، خاصة مع الخسائر التي مُنيت بها قناة السويس والتي بلغت نحو 7 مليارات دولار خلال عام واحد، قد لا يكون الدفع النقدي خيارًا ممكنًا لمصر، ما يفتح الباب أمام مقترحات تتعلق بإعفاء السفن الأميركية من الرسوم، كنوع من التعويض غير المباشر، أو كأداة ضغط تمارسها واشنطن لتحقيق مصالح استراتيجية بأدوات اقتصادية ناعمة في ملفات الحضور الصيني في القناة وملف التهجير ما يخدم ترتيبات إقليمية تصبُّ في مصلحة الاحتلال الإسرائيلي.

ثالثًا: قناة السويس بين واشنطن وبكين:

بالنسبة لواشنطن تكمن أهمية قناة السويس في أكثر من مجرد كونها ممرًّا استراتيجيًّا مصريًّا؛ فهي تمثل أيضًا نقطة خلاف استراتيجية على خلفية النفوذ الصيني المتزايد بالقناة، فبموجب مبادرة “الحزام والطريق”، تسعى الصين لتأمين خطوط الملاحة البحرية وتخفيف اعتمادها على نقاط خاضعة للنفوذ الأمريكي، مما يثير قلقًا أميركيًّا بشأن توسعها في قناة السويس، إذ تستقطب المنطقة الاقتصادية لقناة السويس اهتمامًا متزايدًا من الصين، التي تسعى لتوسيع نفوذها الاقتصادي في هذه المنطقة الحيوية.

فمنذ بداية عام 2025، بلغ عدد المشروعات الصينية في المنطقة نحو عشرة، ما يعكس التوسع المستمر للصين في البنية التحتية المصرية، خاصة في مجال الموانئ، ويعزز حضورها الاستراتيجي بالمنطقة.

من جهة أخرى، أعلن الجيش الصيني عن إجراء أول تدريب جوي مشترك مع مصر خلال مايو الجاري، تحت اسم “نسر الحضارة 2025″، ما يعكس تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، هذا التدريب الذي يحمل دلالات واضحة على تعزيز العلاقات الدفاعية، وهو ما يُعدُّ جزءًا من استراتيجية الصين لتوسيع نطاق تأثيرها العسكري في المنطقة.

من أجل ذلك، تعتبر واشنطن أن تعزيز النفوذ الصيني في قناة السويس يشكل تهديدًا لمصالحها الاقتصادية والعسكرية إذ لا تقتصر أهمية قناة السويس على كونها ممرًّا تجاريًّا حيويًّا فحسب، بل هي نقطة حاسمة في استراتيجيات النقل العسكري لأساطيلها البحرية.

رابعًا: تَمدُّدٌ إماراتيٌّ جديد:

في سياق ذات الصراع المتنامي على النفوذ في قناة السويس، يأتي الاتفاق الذي عُقد هذا الشهر بين مجموعة “موانئ أبو ظبي” والهيئة الاقتصادية لقناة السويس، لتطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية بمساحة 20 كيلومترًا مربعًا قرب مدينة بورسعيد (شمال شرق)، ولمدة 50 عامًا قابلة للتجديد، ليُمثل إجحافًا بالغًا بحقوق الدولة المصرية في إدارة مواردها الاستراتيجية.

فهذه المساحة الكبيرة، الممنوحة لشركة أجنبية في موقع حيوي عند المدخل الشمالي لقناة السويس وبالقرب من ميناء شرق بورسعيد، تُثير تساؤلات جدية حول حدود السيادة المصرية، كما أن طول مدة الانتفاع، وما يرافقه من قابلية التجديد، يفتح الباب أمام تحكُّم طويل الأمد في مفصل جغرافي حرج، بما يعكس نمطًا متسارعًا من التنازل عن أصول سيادية تحت ضغط الأزمات الاقتصادية، بالإضافة إلى ما يراه بعض المراقبين من أن هذا الاتفاق ربما يكون لإضعاف الموانئ المصرية لحساب موانئ الإمارات، ما يجعل الخسارة المصرية مضاعفة.

ويُعد هذا التمدد الإماراتي الجديد امتدادًا للتمدد السابق الذي شهدته مصر في مجالات متعددة، حيث تمكنت الإمارات سابقًا من حيازة واسعة في مشروعات البنية التحتية المصرية، مثل حيازتها لجزء كبير من أراضي منطقة العين السخنة عبر شركة “موانئ دبي العالمية”، التي تدير موانئ مصرية استراتيجية.

كما مثّل الاتفاق الإماراتي لتطوير مدينة رأس الحكمة نموذجًا صارخًا في نقل ملكية شريط ساحلي بالغ الأهمية، يمتد لأكثر من 180 مليون متر مربع، إلى إدارة أجنبية بعقود طويلة الأمد، في صفقة وُصفت بأنها تخلٍّ صريح عن واحدة من أندر وأغلى واجهات البحر المتوسط.

ويأتي هذا الاتفاق الجديد بقناة السويس ليمثل تهديدًا جديدًا للسيادة المصرية، حيث يتزايد دور الإمارات في إدارة العديد من المرافق الحيوية التي تشكّل أساس الأمن الاقتصادي المصري.

خامسًا: بين السيادة والامتيازات الاقتصادية:

إن مصر، كما يظهر، تواجه تحديات كبيرة فيما يخص تلقي المطلب الأميركي بشأن قناة السويس على نحو إيجابي، رغم أن مثل هذه المطالب تمس سيادتها، بجانب أن القبول بهذه الاشتراطات يعني إمكانية فتح الباب لدول أخرى للمطالبة بنفس الامتيازات، لذلك فمن من المرجح أن تسعى مصر إلى التوصل إلى صيغة أخرى، فقد تقترح مصر على الولايات المتحدة عرضًا يتضمن تخفيض الرسوم المفروضة على السفن الأميركية، سواء كانت عسكرية أو تجارية، وقد تقدم تسهيلات خاصة للسفن العسكرية الأميركية، مثل تسريع إجراءات مرورها وتخصيص مسارات خاصة لتسهيل مرورها.

ويضاف إلى هذه الضغوط الأمريكية، الضغوط الاقتصادية والسياسية الناتجة عن الاتفاق الأخير بين مصر والإمارات، مما يفاقم من تحديات مصر في الحفاظ على سيادتها على مرافقها الحيوية في مواجهة هذه الضغوط الخارجية.

خاتمة:

 تظل قناة السويس نقطة محورية في توازنات القوى الإقليمية والعالمية، ومع الضغوط الاقتصادية التي تواجهها مصر، تبرز تحديات كبيرة على السيادة المصرية من جهة المطالب الأميركية بتسهيلات مرور السفن مجانًا، وكذلك مع التوسع الإماراتي في منطقة القناة، إضافة إلى ذلك يمثل النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة الاقتصادية تهديدًا آخر للدور التقليدي للولايات المتحدة على حساب الموارد المصرية، وفي ظل هذه التحديات، تصبح السيادة المصرية في حالة تآكل، مع تنامي تأثير القوى المختلفة، في هذه الحقبة من عهد جمهورية الضباط!

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى