بحوثمشاريع

الفرص الضائعة والممكنة في الحالة المصرية

مدخل

الحديث عن الفرص بشكل عام والضائعة خصوصاً مهم لأي تجمُّع يسعى إلى تحقيق أهدافه، خاصة إذا كان صاحب هدف كبير يتمثل في “التغيير”، وتتأكد هذه الأهمية إذا كانت عملية التغيير تجري في بلد عظيم المكانة وواسع التأثير كمصر.

نستطيع أن نطلق  على الفترة الزمنية الممتدة من ثورة 25 يناير 2011 إلى انقلاب 3 يوليو 2013 “عصر الفرص الضائعة” بجدارة، فقد اتسمت هذه المرحلة بالتخبط والعشوائية من قِبل قوى الثورة والمعارضة على جميع المستويات تقريباً، بدءاً من الثورة نفسها، وانتهاء بطريقة إدارة كارثة الانقلاب وما أعقبها من فعاليات احتجاجية وسياسات، الأمر الذي أدى إلى خسارة كبيرة للقوى الثورية وللوطن ككل، لذلك تتجلى حتمية قراءة هذه الفرص الضائعة، ووضع الخطوط الحمراء وتركيز الضوء عليها لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه التجربة، حتى لا تكون الخسارة على مستوى التجربة والخبرة والممارسة الحالية والمستقبلية، كما كانت على مستوى التطبيق والواقع في تلك الفترة.

ولحسن الحظ أن الفرص متجددة دوماً فهناك الفرص التي نسميها إن صح التعبير بالـ”فرص التي تأتي”، ناهيك عن الفرص التي تستطيع القوى المعارضة/ المقاومة/ الثورية صناعتها بنفسها؛ فالمناخ مواتٍ لصناعة الفرص دائماً، والفرص التي تأتي تتطلب الجاهزية بتحصيل عوامل هذه الجاهزية، مع العلم أن “الفرص التي تأتي” نسبتها قليلة للغاية مقابل “الفرص التي تُصنع”، فالمعارضة القوية تصنع الفرص بنفسها ولا تنتظر أن تأتي إليها على طبق من ذهب.

والثورة المصرية وثورات الربيع العربي عموماً تُعد من باب الفرص التي تأتي، ولكنها أتت فلم تجد الجاهزية المطلوبة وبالتالي لم تحقق الأهداف المرجوة. والبعض ينتظر أن تأتي مرة أخرى دون صناعة لها أو جهد مضني بالليل والنهار كما أتت أول مرة، وهو الأمر الذي يصعب تكراره على المدى القريب.

المبحث الأول

الفرص الضائعة.. من انطلاق الثورة إلى عهد مرسي

 

انطلقت ثورة 25 يناير وفُتحت مع هذه الانطلاقة أبواب الفرص على مصراعيها، ولكن التعامل العشوائي وعدم التخطيط الجيد وعدم استثمار الحالة الثورية والزخم الجماهيري، كل ذلك وغيره أدى إلى ضياع عشرات الفرص التي كانت من شأنها أن تمنع تمكُّن الانقلاب من رقاب الثوار، وأن تحول دون الانقضاض على الثورة وضربها تلك الضربة القوية المتمثلة في انقلاب 3 يوليو. وفيما يلي نتعرض لبعض الفرص الضائعة سعياً إلى فتح أبواب الحديث والنقاش حول هذا الباب الذي تأخر طرقه كثيراً وتأخر تقديم أطروحات جدية للبناء عليها سواء من زاوية المراجعات أو زاوية التطوير والتحديث.

أولاً: فرصة إسقاط كامل النظام

يصعب إحصاء كم الفرص الضائعة خلال هذه الفترة، لكن يمكن ذكر نماذج لها للتدليل على أهمية سؤال الفرصة الضائعة، تلك الفرص التي بدأت تتوافر مع الثورة ولكن خطوات تضييعها بدأت كذلك بعد أيام قليلة من انطلاق الثورة، حتى قبل تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، عندما دخلت الأحزاب وقوى الثورة في مفاوضات مع نائب مبارك (عمر سليمان)([1])، ثم رئيس الوزراء حينها الفريق أحمد شفيق([2])، وذلك قبل سقوط النظام، مما فتح الباب للنظام لأن يكون جزءاً من الحل، وبدأ تحول السعي الثوري من المطالبة بإسقاط النظام إلى المطالبة بإسقاط رأس النظام فقط مع حل مجلسي الشعب والشورى وتعديل الدستور ومحاكمة الفاسدين وهكذا، وأصبح الطرف القائم على تلقي هذه المطالب هو المجلس العسكري، الجزء الأقوى في النظام، وبالتالي قد فرض نفسه كلاعب أساسي لا غنى عنه.

وعند إعلان سليمان تنحي حسني مبارك، قابلت الأغلبية العظمى من القوى الثورية هذا الإعلان بالفرح والاحتفال ومغادرة الميادين، والاتجاه إلى المسار الإصلاحي رغم بقاء الكتلة الأقوى من نظام حسني مبارك والمتمثلة في المجلس العسكري في الحكم، ولم تستجب هذه القوى الثورية والسياسية لصوت قلة نادرة ممن نادوا بالبقاء بالميادين إلى حين إسقاط نظام مبارك كاملاً لأن ما حدث في الحقيقة هو انقلاب عسكري ناعم على الثورة.

وبالتالي فاتت فرصة استمرار الزخم الثوري الأقوى والموحّد والذي لم يتكرر البتة بهذه الصورة بعد ذلك، واعترفت القوى الثورية بذلك في معظمها بشرعية المجلس العسكري، والذي بدوره ثبّت شرعيته أكثر بطرحه التعديلات الدستورية وما أحدثه الاستفتاء عليها يوم 19 مارس من الانقسام الأكبر الأول بين قوى الثورة ما بين “نعم” و”لا”، ودخلت على الخط مسألة الإسلام والعلمانية ومادة الشريعة الإسلامية بالدستور (المادة الثانية)، وخاض  فريق من الإسلاميين هذه المعركة على أنها معركة دينية أمام العلمانيين للحشد لقول “نعم”([3])، وأعلن علمانيون وأقباط الحرب على التيارات الإسلامية بتشويهها والطعن فيها وفي الكثير من الشعائر الإسلامية نفسها([4])، ووقف المجلس العسكري خلف الستار يشاهد الخطوات الأولى لانقلاب 3 يوليو تسير على ما يرام، واستخدم الإعلام لتأجيج الخلاف والفرقة ولبث الذعر والقصص المختلقة التي نُشرت حينها من أن السلفيين يقطعون آذان الأقباط([5]) ويلقون ماء النار على وجه النساء في الطرقات([6])… إلخ

ثانياً: تهميش الشباب الثائر والوثوق بالعسكر

من أكبر الفرص الضائعة أيضاً الإعراض عن شباب الثورة واعتبارهم مخربين وعملاء للغرب والانحياز بدلاً من ذلك إلى المجلس العسكري والتأكيد على أنه حمى الثورة([7]) وأنه لا تنبغي العمل على تنحيته كما يقول الثوار لأن في تنحيه خراب البلاد، وكانت كل فعالية تقريباً يقوم بها الشباب لاستكمال الثورة تواجه بالإعراض من القوى السياسية الكبيرة وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين وحزب النور، ولم يتوقف الأمر عند الإعراض فحسب بل امتد إلى التخوين أيضاً والاتهام بتلقي التمويل الخارجي وتعاطي الترامادول([8])، وهي الفرصة التي ضاعت بدلاً من استخدام هذا الزخم كورقة ضغط على المجلس العسكري لتحقيق مطالب الثورة، نعم كانت هناك منظمات مشبوهة ولكن وجود قوى الثورة الفاعل في الشارع كان سيمكنها من التحكم بدفة الأمور.

ومن النماذج على هذا الإعراض ما وقع للمعتصمين في ميدان التحرير من انتهاكات على يد قوات الجيش في التاسع من أبريل 2011م، في أول تدخل ظاهر من قوات الجيش ضد المتظاهرين في ميدان التحرير، وذلك بعد أقل من ثلاثة أشهر على قيام الثورة، حينها انضم عدد لا بأس به من شباب الضباط إلى المتظاهرين متهمين المجلس العسكري وقيادته المشير محمد حسين طنطاوي بأنهم جزء لا يتجزأ من نظام مبارك وكشفوا حقيقته للناس، وأعلنوا دخولهم في اعتصام مفتوح، الأمر الذي جعل قوات الجيش تعتدي على المعتصمين وتقتل واحداً وتصيب العشرات وتلقي القبض على الضباط وعدد من المتظاهرين معهم، وقد لاقى هذا تجاهلاً تاماً من أكبر حزبين سياسيين حينها الحرية والعدالة وحزب النور، وظهرت الاتهامات أن هؤلاء الضباط مندسون ويريدون الوقيعة بين الجيش والشعب.

واعتصمت قوى ثورية أيضًا بعد جمعة 8 يوليو 2011 جمعة مصر أولاً، ورغم نجاح الجمعة في البداية، بمشاركة غالب الأطياف السياسية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن اعتصاماً قد تقرر لكن تيارات كثيرة على رأسها الإخوان المسلمون وحزب النور، رفضوا المشاركة بالاعتصام، ذلك الاعتصام الذي كان ينادي بمحاكمة مبارك ونظامه وتطهير الداخلية و”إسقاط حكم العسكر”، وغُطي عليه بمليونية 29 يوليو 2011، وأطلق عليها “جمعة قندهار”، حيث رفع الإسلاميون، الذين خرجوا في هذا اليوم، شعارات تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما كان بعيدًا عن المطالب الأساسية وليس له أي داعٍ، إلا صرف الثورة عن وجهتها الصحيحة.

وتجلى تهميش الثوار أكثر في أحداث محمد محمود الأولى نوفمبر 2011 والتي اكتسبت زخماً كبيراً وكانت الفرصة مواتية لإحياء الثورة مرة أخرى والوحدة من جديد، ولكن الإخوان والنور ومن أيدهم كانت أعينهم على الاستحقاقات الانتخابية التي كان من الواضح حينها للثوار أنها لن تكون إلا صورية دون سلطة حقيقية في ظل وجود المجلس العسكري وإمساكه بمفاصل الدولة.

ثالثاً: حرس الثورة

بعد انتصار الثورة الإيرانية والإطاحة بنظام الشاة تشكّل عبر مرسوم من قائد الثورة آية الله الخميني “الحرس الثوري”، ووُضع تحت إمرة الخميني مباشرة، وكان الهدف الرئيسي من إنشاء هذه القوة جمع القوات العسكرية المختلفة التي نشأت بعد الثورة في بنية واحدة موالية لحماية الثورة وإقامة التوازن مع الجيش التقليدي الذي لم يشارك في الثورة وظل بعض ضباطه أوفياء لحكم الشاه([9]).

ورغم أن وضع الثورة الإيرانية غير مماثل للحالة المصرية إلا أن الفكرة قد غابت عن القوى الثورية والمعارضة المصرية، ولم تُفعّل إجراءات إنشاء قوة أمنية موازية مخلصة للثورة ومبادئها، ولم تُحيّد الشرطة التقليدية، مما أتاح الفرصة للانقلاب أن يلتهم الثورة بسهولة في وقت لاحق، بل وائتُمنت قوات الحرس الجهوري على قصر الرئاسة وحياة الرئيس المنتخب، تلك القوات التي كان يرأسها اللواء أركان حرب محمد أحمد زكي، والذي كان بعد ذلك في طليعة الانقلابيين وألقى القبض على مرسي، والذي قد رقاه بدوره قبل الانقلاب بأشهر قليلة إلى رتبة “فريق”([10]).

رابعاً: المحاكم الثورية

أما المحاكم الثورية فإن غياب تشكيلها من الفرص الضائعة أيضًا، وهذه المرة لن نبتعد ونتحدث عن تجربة دولة أخرى، لأن المحاكم الثورية قد تشكلت بعد “ثورة 23 يوليو”، وبالتالي فهو أمر ليس جديداً على مصر، وكان يمكن التمسك بذلك والاستشهاد بهذه الواقعة أمام من يعارضون الفكرة، فقد أعلن اللواء محمد نجيب في مؤتمر شعبي في 15 سبتمبر عام 1953 قرار مجلس قيادة الثورة بتشكيل “محكمة الثورة”، وبالفعل تشكلت وحاكمت ضباطاً ووزراء وصحفيين وموظفين متهمين بالفساد في عهد الملك فاروق، وحُكم على بعضهم بالإعدام والبعض الآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة أو السجن لـمُدد متفاوتة وبعضهم حصل على براءة([11]). ولكن قوى ثورة 25 يناير اختاروا المضي قدماً في محاكمة نظام مبارك أمام القضاء العادي، الذي يسيطر عليه قضاة ذو أغلبية فاسدة تشكل جزءاً لا يتجزأ من الدولة العميقة، قضاء يعتمد قانوناً مدنياً غير ملائم للثورات ومليء بالثغرات؛ مما أعطى البراءة لاحقاً لجميع الفاسدين وأركان نظام مبارك، وعلى رأسهم حسني مبارك نفسه.

خامساً: جهاز المعلومات

من الفرص الضائعة والتي كان من نتيجتها حدوث تخبط للثورة والثوار عدم تكوين جهاز للمعلومات، مما جعل الثورة تسير على غير هدى، وصارت تتعامل مع قوى الانقلاب على الثورة دون معرفة أياديها الخفية وعناصرها الفاعلة وأساليبها المختلفة لإجهاض الثورة، وبالتالي لم تتوقع كارثة انقلاب 3 يوليو 2013م. وما بني عليها من أحداث أليمة.

لقد ضاعت فرص كثيرة كان يمكن استثمارها في الأجواء الثورية، منها على سبيل المثال: إنشاء مؤسسات إعلامية مهنية ومؤثرة، وتدشين مؤسسات حقوقية لديها فريق من المحامين والناشطين، وتكوين كتلة سياسية موحدة أو على الأقل جامعة لعدد كبير من قوى الثورة بدل العمل المنفرد وعشرات الأحزاب والائتلافات والحركات التي نتج عنها عمل عشوائي، وتأسيس مؤسسات دعوية تعمل بنشاط في أجواء الحرية وتنشر الوعي الديني الصحيح… وغير ذلك من الفرص.

 

سادساً: فرصة التشريع

الأجندة التشريعية للقوى الثورية والمعارضة، لم تكن في أولوياتها مشاريع القوانين في القضايا الكبرى؛ كإصلاح القضاء، وإعادة هيكلة وإصلاح لجهاز الشرطة مما يخضعه للمسائلة المدنية والشفافية، إضافة إلى قانون العزل السياسي الذي يمنع من أفسدوا الحياة السياسية خلال حقبة مبارك من العمل العام لمدة زمنية معينة، وغير ذلك من القوانين التي تحرس الثورة وتضمن تحقق مبادئها، لقد ضاعت فرصة التشريع سواء في مجلس الشعب 2011 أو خلال فترة مرسي، وانشغل النواب والرئيس بدلاً من ذلك بقضايا أقل أهمية.

 

المبحث الثاني

عام الفرص الضائعة من عهد مرسي إلى ما بعد الانقلاب

لم يكن عهد الرئيس السابق محمد مرسي إلا امتداداً لعصر الفرص الضائعة؛ فقد أضيعت فرص كثيرة، ومن تلك الفرص:

  • التعاون مع الرئيس المنتخب:

لقد ضيعت بعض القوى الثورية فرصة تاريخية بعدم تعاونها مع الرئيس المنتخب، وعملت بدلاً من ذلك على انتقاده في كل كبيرة وصغيرة بدلاً من الانتباه إلى خصمهم وخصمه وخصم الثورة جميعها المتربص بها، فاتجهت قوى ثورية متعددة إلى خطاب النقد السلبي والهدام، دون مساعدته والعمل بدلاً من ذلك على تقوية حكمه وتوهين قدرات معسكر الانقلاب دفعاً للخطر الأكبر والمفسدة الأعظم، وتحالف ثوار ومناضلو الأمس مع فلول نظام مبارك مكونين ما عُرف بـ”جبهة الإنقاذ” التي قامت بدور كبير في التمهيد للانقلاب العسكري وكانت سبباً مباشراً له.

2- الحسم والقوة العادلة

أضاع الرئيس محمد مرسي فرصة التعامل الصارم مع مستحقيه ممن يسعون بوضوح إلى تقويض حكمه ويظهر من حالهم تابعيتهم لقوى الانقلاب، فتعامل بيد مرتعشة مع من يسعون إلى إسقاطه، وواجه محاولات إسقاطه بالمعاملة الحسنة، حتى قويت شوكة أعدائه ولم يرتدعوا.

3- تهميش القوة الشعبية

بالطبع كان الرئيس مرسي يعمل وحده وكانت أجهزة القضاء والداخلية والجيش والإعلام تواجهه ولا تتعاون معه، ولكن كانت لديه عوامل قوة أبرزها الشعب الذي انتخبه، والذي كانت لديه الفرصة أن يصارحه بما يحدث بوضوح وأن يضع الخيار بين يديه ويطلب منه حماية صوته وإرادته، وهذه فرصة ضائعة أخرى لتصحيح الأوضاع لم يقتنصها، بل استمر بدلاً من ذلك في الثناء على الجيش والشرطة دون وقفة صارمة لضبط العلاقات المدنية العسكرية، خاصة في أعقاب حوادث ظهر فيها نفوذ عسكري وتعدي للصلاحيات، كما تبين في تصريحات السيسي الممهدة للانقلاب قبل حدوثه بثلاثة أشهر تقريباً واستمرت حتى قبيل الانقلاب بأيام، دون رد من الرئاسة([12]).

ثانياً: فرص ضائعة بعد الانقلاب

وقد أدى تراكم هذه الفرص الضائعة وغيرها إلى الانقلاب الدموي في 3 يوليو 2013، وما تبع ذلك من كوارث في طول البلاد وعرضها على جميع المستويات، واستمرت القوى الثورية والسياسية المعارضة في إضاعة الفرصة حتى بعد الانقلاب بعدم الاستفادة من الزخم الجماهيري، وعدم توجيهه الوجهة الصحيحة، بل كانت تنطلق الجموع الغفيرة المحتجة والتي لا تُرى نهايتها ثم تتفرق دون فعل أي شيء ودون تحركات مدروسة؛ فقط ترجع بمئات الضحايا والمعتقلين.

المبحث الثالث

في إدارة الفرصة.. فرص تأتي وفرص تُصنع

نتحدث هنا عن إدارة الفرصة، ولكن نشير أيضاً سريعاً إلى إدارة الأزمة والكارثة وهي فرع عن الحديث عن إدارة الفرصة؛ وهي الوجه الآخر لها؛ فالقوى السياسية كما تعرض لها فرص فتعرض لها أيضاً أزمات، وإدارة الأزمة بالرغم من كونه مصطلحاً ينتسب إلى مجال العلاقات الدولية إلا أنه استخدم أيضاً في علم الإدارة، والقوى السياسية والثورية بحاجة إلى هذا النوع من الإدارة التي تمكنها من إدارة أزماتها بدون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة. وإدارة الأزمة هي “نشاط هادف يقوم على البحث، والحصول على المعلومات اللازمة، التي تمكن الإدارة من التنبؤ بأماكن واتجاهات الأزمة المتوقعة، وتهيئة المناخ المناسب للتعامل معها، عن طريق اتخاذ التدابير للتحكم في الأزمة المتوقعة والقضاء عليها أو تغيير مسارها لصالحها”([13]).

أما إدارة الفرصة وهي المقصودة من هذه الورقة، فنركز الحديث فيما يلي على نوعين من الفرص الممكنة والفلسفة العامة لإدارة كل منهما والتعامل معهما للخروج بأكبر استفادة ممكنة. ونقسم الفرص الممكنة إلى قسمين هما:

المطلب الأول: فرص تأتي

الفرص التي تأتي نضرب لها مثالاً بثورة 25 يناير؛ فهي فرصة جاءت على طبق من ذهب إلى الشعب المصري، ولكن لم تكن المعارضة بالجاهزية المطلوبة وعلى قدر المسؤولية لتحقيق الاستفادة منها واقتناصها باعتبارها فرصة لا تأتي على المدى القريب إلا مرة واحدة في أغلب الأحيان.

فالعمل على تحقيق الجاهزية شرط أساسي لاقتناص الفرص التي تأتي دون تدخل مباشر من المعارضة، وهذه الفرص لا تنحصر في الثورة فقط، بل من الممكن أن تكون في صورة انهيار للنظام بشكل أو بآخر، اقتصادي أو سياسي، أو في صورة ضربة في مقتل للنظام يوجهها نظام ما نتيجة لتعارض مصالح أو اختلاف وجهات نظر أو معارك لا تظهر للعيان، وهكذا من الأمور التي لا دخل للقوى الثورية فيها؛ فإذا لم تكن هذه القوى الثورية على أهبة الاستعداد لاقتناص هذه الفرص فستمر عليها مرور الكرام وكأنها لم تحدث.

والجاهزية المقصودة تكون في جوانب عديدة منها([14]): القيادة والإعلام والعمل الحقوقي وتصور الفترة الانتقالية وإعداد الكوادر([15]) والتمويل والقوة الدينية والقوة المعلوماتية والعناية بجوانب الخطاب المختلفة، ومن أهمها: الخطاب الإعلامي والدعوي والسياسي، بأن يكون لكل منها استراتيجية وخطة أداء احترافية ومهنية، مع النأي عن العمل العشوائي وأسلوب الهواة([16]).  كذلك يشكل الانتباه إلى معاش الناس واحتياجات الجماهير وخطاب العدالة الاجتماعية عاملاً مهماً في إطار السعي إلى تحصيل الجاهزية فذلك يحشد الجماهير حول المعارضة لشعورها بتمثيل مطالبها التمثيل الصادق والجيد.

حديث الجاهزية عموماً حديث طويل ومتشعب، والأمر المشاهَد والمؤكد أن القوى الثورية أو المعارضة لا تمضي قدماً فيه بالقدر المطلوب بإزاء واقع جلل كالذي نحياه، مع أن المناخ الذي يسوده انسداد الأفق السياسي يعد الوقت الأفضل لعمليات التجهيز وإعداد الذات والموارد البشرية وترتيب البيت من داخله من جديد. إن عدم الجاهزية يعني ضعف القابلية لانتهاز الفرص، مما ينذر بتكرار سيناريوهات الانقلاب واستفحال الاستبداد مرات قادمة.

المطلب الثاني: فرص تُصنع

النوع الثاني من الفرص الممكنة هو الفرص التي تصنعها القوى الثورية والمعارضة بصناعة ما يؤدي إليها من خطوات أو عوامل، مثل:

1- فرصة تشتيت النظام المستبد على سبيل المثال، تُصنع بخطوات من قبيل كشف الخلافات البينية في الدولة العميقة ونشر معلومات تخلخل هذه العلاقات أو تسريبات موثقة وغير ذلك.

2- فرصة فضح النظام، بالترويج لانتهاكاته وفساده ترويجاً منظماً بكل وسيلة ممكنة بدءاً من الوسائل البدائية بالكتابة على حوائط الشوارع وتوزيع المنشورات على الزوايا وفي الحارات، ومروراً بوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بعمل حملات كبيرة وواسعة ومنظمة ومستمرة، ووصولاً إلى شعوب وبرلمانات العالم المختلفة.

3- فرصة القوة السياسية وفرض القوى الثورية لنفسها كلاعب أساسي في الساحة السياسية، عن طريق تحصيل عوامل القوة المختلفة وعقد التحالفات الممكنة.

4- الثورة نفسها هي فرصة تصنع عن طريق التمهيد لها بتوعية الجماهير وتحريكهم وتثويرهم، والفعاليات الاحتجاجية المختلفة وأفكارها الابتكارية… إلخ

المهم هو تحديد الفرصة المرادة صناعتها ورصد الخطوات التفصيلية قدر الإمكان لإيجادها، ثم العمل على إنجاز هذه الخطوات خطوة خطوة وهذه الوسائل وسيلة وسيلة، ومن أهم الوسائل نشر الوعي المفقود والاهتمام بمساحاته.

والواقع أن انتظار فرصة الثورة هو توجه سلبي؛ فالثورات الناجحة تُصنع ولا تأتي من تلقاء نفسها، تصنع بصناعة أسبابها المؤدية إليها، والفرق بين انتظار الثورة وصناعتها كالفرق بين من يعيش حياته على أمل أن يجد كنزاً من الذهب ليصير غنياً وبين من يعمل ويكد ويفكر لكي يحصل على المال الوفير، فنسبة نجاح الثاني أعلى بالطبع.

وقد أعطى الانقلابيون درساً بليغاً للقوى الثورية في كيفية صناعة الفرصة بنجاح، فقد استطاعوا ومنذ اليوم الأول للثورة المصرية أن يحددوا الفرصة التي يريدون صناعتها، وهي إجهاض ثورة 25 يناير وعدم خروج السلطة عن الإمبراطورية الاقتصادية والسياسية للعسكر، ومن ثَم واصلوا العمل بالليل والنهار وفق خطة مدروسة وخطوات واحدة تلو الأخرى، ففرصة الانقلاب العسكري كانت غير مواتية في البداية، أو بتعبير آخر لم يكن الانقلاب من نوع “الفرص التي تأتي”، ولكنهم عملوا على صناعتها صناعةً، وذلك بعزل قائدهم الأعلى ورئيس الجمهورية ورأس النظام محمد حسني مبارك، ثم تفرقة الصف الثوري باستخدام آلتهم الإعلامية والعمل الاستخباراتي المنظم، وسمحوا بديمقراطية شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع، وتحلوا بضبط النفس أمام إهانتهم في المظاهرات والاحتجاجات في سبيل اتساعها وعدم خوف المتظاهرين من التظاهر مما يشل البلد أكثر ويضايق الجماهير من الثائرين ومطالبهم، ثم خطة سلبية بعدم تعاون أجهزة الدولة مع الرئيس المنتخب وصناعة أزمات الكهرباء والغاز والوقود وغير ذلك، ثم ترتيب التظاهرات والانقضاض بالضربة القاضية لإجهاض الثورة واعتقال الرئيس المنتخب وتعطيل الدستور.

 

 

الخلاصة

الحديث عن الفرص الضائعة والممكنة مهم للمعارضة/ المقاومة، فهو يفسح المجال لخطاب التصحيح ووضع الاستراتيجيات الناجحة وكفاءة العمل والفاعلية، ونستطيع أن نطلق على الفترة الزمنية الممتدة من ثورة 25 يناير 2011 إلى انقلاب 3 يوليو 2013 مسمى “عصر الفرص الضائعة” بجدارة، فقد اتسمت هذه المرحلة بالتخبط والعشوائية على جميع المستويات تقريباً، الأمر الذي أدى إلى خسارة كبيرة للقوى الثورية وللوطن ككل، والتي كان أبرزها فرصة استكمال الثورة وعدم ترك العمل الثوري قبل تطهير البلاد من نظام مبارك بأكمله، كذلك فرصة اكتساب شباب الثورة والاهتمام بهم ودعمهم بدلاً من الوثوق بالمجلس العسكري، ولم يكن عهد الرئيس السابق محمد مرسي إلا امتداداً لعصر الفرص الضائعة التي أدى تراكمها إلى الانقلاب الدموي في 3 يوليو 2013، وما تبع ذلك من كوارث في طول البلاد وعرضها على جميع المستويات، واستمرت القوى الثورية والسياسية المعارضة في إضاعة الفرصة حتى بعد الانقلاب.

ولكن كما توجد فرص ضائعة فهناك أيضاً فرص ممكنة، وهي فرص تأتي دون تدخل مباشر من القوى الثورية أو المعارضة، كثورة 25 يناير التي جاءت على طبق من ذهب إلى الشعب المصري، ولاقتناص الفرص التي تأتي لابد من العمل على تحقيق الجاهزية في الجوانب الختلفة كالقيادة والإعلام والعمل السياسي والحقوقي وتصور الفترة الانتقالية وإعداد الكوادر والتمويل… إلخ.

والنوع الثاني من الفرص الممكنة هي الفرص التي تصنعها القوى الثورية والمعارضة بصناعة ما يؤدي إليها من خطوات أو عوامل، فتحديد الفرصة المرادة صناعتها يأتي أولاً ثم رصد الخطوات التفصيلية قدر الإمكان لإيجادها، ثم العمل على إنجاز هذه الخطوات خطوة خطوة.


([1]) تفاصيل الحوار الوطني بين عمر سليمان والأحزاب وشباب المعتصمين، جريدة اليوم السابع، 10-2-2011م، رابط إلكتروني.

([2]) شفيق يلتقي قياديين من الجمعية الوطنية للتغيير، جريدة المصري اليوم، 5-2-2011م، رابط إلكتروني.

([3]) ينظر على سبيل المثال: يوتيوب: غزوة الصناديق في الاستفتاء، الشيخ محمد حسين يعقوب، 21-3-2011، رابط إلكتروني.

([4]) أزمة بسبب صورة على حساب نجيب ساويرس في تويتر، موقع مكسرات، 24-6-2011م، رابط إلكتروني.

([5]) جريدة الأهرام، علماء الإسلام: قطع أذن قبطي قنا بلطجة وليس إقامة حد، 24-3-2011، رابط إلكتروني.

([6]) الدعوة السلفية تنفي تنظيم مظاهرات وإلقاء مياه نار على المتبرجات، جريدة اليوم السابع، 28-3-2018م، رابط إلكتروني.

([7]) يوتيوب: عصام العريان الجيش حمى الثورة ونوافق على زيادة معاش أفراده، 24-2-2013م، رابط إلكتروني.

([8]) يوتيوب: نائب سلفي يتهم المتظاهرين بأخذ ترامادول، 6-2-2012م، رابط إلكتروني.

([9]) (تعرف على الحرس الثوري الإيراني)، الجزيرة نت، 14-10-2017م.

([10]) من هو قائد الحرس الجمهوري الذي رقاه السيسي لرتبة فريق، العربية نت، 18-1-2017م، رابط إلكتروني.

([11]) يُنظر: عبد الرحمن الرافعي، (ثورة 23 يوليو)، ص113-124، ط.دار المعارف، ط.2، القاهرة.

([12])  ينظر كمثال: كلمة تاريخية للفريق عبدالفتاح السيسى فى ختام أوبريت جامعة المستقبل، يوتيوب، 29-4-2013م، السيسي يعلن تدخل الجيش لو خرجت مظاهرات 30 يونيو عن السيطرة، بي بي سي، 23-6-2013م، القوات المسلحة جاهزة لحماية الوطن، الأهرام العربي، 12-6-2013م،

([13]) د. محمد علي شيبان، “إدارة الأزمة”، موسوعة تعلم معنا مهارات النجاح، sst5.com

([14]) ينظر للمزيد للكاتب: العمل السياسي بين عوامل القوة والضعف، مركز رؤيا للبحوث والدراسات، 4-4-2018م، رابط إلكتروني.

([15]) بناء الكوادر يقع في قلب الجاهزية المطلوبة لانتهاز الفرص؛ فبدون كوادر قوية لن تكون القوى الثورية قادرة على إدارة المشهد سواء في مرحلة المعارضة/ المقاومة، أو حالما آلت إليها مقاليد الأمور؛ فالكوادر الإدارية والتنظيمية والأمنية والإعلامية والسياسية والحقوقية وغير ذلك هي عصب التغيير الذي إذا غاب فلا وجود للتغيير نفسه، هذه الكوادر التي تضمن الاستثمار الأفضل في أي فرصة تأتي، وكلما كانت الكوادر قوية واحترافية ومتميزة في مجالها كانت مؤشرات الفاعلية أعلى.

([16]) للاستزادة: تنظر مواد (مركز رؤيا للبحوث والدراسات) التالية: عماد ناصف “الخطاب الإعلامي بين العشوائية والتخطيط“، أسامة حجاج “الخطاب الدعوي.. صاحب يس نموذجاً“، معتز زاهر “ملامح الخطاب السياسي المعارض والمقاوم.. المشهد المصري نموذجاً“.

زر الذهاب إلى الأعلى