سوريا الجديدة: تحديات وأولويات
هناك دائما ثلاثة مستويات من التحديات والأولويات من حيث مدياتها الزمنية: قصيرة المدى ومتوسطة المدى وبعيدة المدى. وهي توازي أو تناظر مستويات تحليل ثلاثة: العملياتي والتكتيكي والتاريخي (الحضاري).
بعد انهيار نظام آل الأسد، وانكشاف التدهور العميق الذي آلت إليه البلاد تحت حكمهم، دولة ومؤسسات وجيشًا واقتصادًا وخدمات وإدارة عامة، والحياة المدنية بشكل عام، وهذا يجعل إجمالا من إعادة بناء الدولة، تصورا ودستورا ومؤسسات وعقدا اجتماعيا، أولى الأولويات التي ينبغي الشروع فيها.
تمر سوريا والقيادة السورية الجديدة بأوضاع وتحديات عديدة غير مسبوقة، بعد انهيار نظام آل الأسد، وانكشاف التدهور العميق الذي آلت إليه البلاد تحت حكمهم، دولة ومؤسسات وجيشًا واقتصادًا وخدمات وإدارة عامة، والحياة المدنية بشكل عام. وهذا يجعل إجمالا من إعادة بناء الدولة، تصورا ودستورا ومؤسسات وعقدا اجتماعيا، أولى الأولويات التي ينبغي الشروع فيها.
وهنا ينبغي الاجتهاد بقدر الوسع في ترتيب هذه الأولويات، بحسب راهنيتها وإلحاحها وتأثيرها في بعضها البعض.
الوضع الانتقالي
إنجاز ترتيبات الوضع الانتقالي على النحو الذي بدأ بالفعل: إدارة سياسية، إدارة عسكرية، حكومة انتقالية، وصولا إلى لم شعث الدولة وتفعيل وزاراتها وهيئاتها ومؤسساتها، وإعادة الحياة، بعد موات طويل، إلى شرايينها وآلياتها ووسائلها. وبالتالي قيام وضع انتقالي ينال الاعتراف الإقليمي والدولي، ولو جزئيا، ويمثل البلاد في كافة المنظمات الدولية والتجمعات الإقليمية.
وهذا الأمر له أولوية عاجلة في ضوء امتداد العدوانية الإسرائيلية إلى الأراضي السورية مستغلة حالة الفراغ السياسي والأمني والاضطراب الداخلي الناجم عن انهيار النظام والجيش والأجهزة السيادية. وأصبح من الضرورة العاجلة إعادة الحضور الرسمي السوري في كافة ساحات الدبلوماسية الدولية للبدء بالتصدي لتمدد الاحتلال في الأراضي السورية. وقد تأخر رد الإدارة السياسية الجديدة على تعديات الاحتلال أياما، ربما بسبب افتقاد الأدوات والتشكيلات السياسية والدبلوماسية اللازمة.
ينبغي فتح باب التشاور مع أوسع دائرة من مكونات الاجتماع السوري وقواه السياسية لأجل بلورة تصور أولي حول الدستور والنظام السياسي والإدارة العامة وبرامج الإصلاح الشامل، وكذلك جدول الانتخابات العامة لاختيار جمعية تأسيسية يناط بها وضع الدستور أو تعديله وهيكل النظام العام وكافة المسائل الأخرى ذات الصلة.
الفصائل المسلحة
حسناً فعلت قيادة الإدارة السياسية الجديدة بالإعلان عن نيتها حل جميع الفصائل المسلحة وفق مبدأ: لا سلاح خارج تشكيلات الدولة. لكن بسبب طبيعة تكوين هذه الفصائل وخبراتها العسكرية المتنوعة والمختلفة عن الجيوش الكلاسيكية، مما يؤهلها بقدرات التصدي للمهام العاجلة، وسرعة حركة وفاعلية عالية، يستحسن إدراجها في تشكيلات خاصة فدائية ذات عقيدة عسكرية متميزة، وفي وزارة خاصة بها ضمن ملاك الدولة. وقد تتولى بعض مهام التعبئة والتجنيد قبل دخول تشكيلات القوات المسلحة التقليدية، وكذلك أعمال إدارة الكوارث والإنقاذ والابتكار. وينبغي أن يكون ذلك في تناغم وتنسيق تام مع مؤسسة الجيش والقوات المسلحة التقليدية. بل إن وجود هذا الازدواج والتوازي في البنية الدفاعية للبلاد يحول دون وقوع الانقلابات العسكرية بسبب التوازن القائم.
ينبغي فتح باب التشاور مع أوسع دائرة من مكونات الاجتماع السوري وقواه السياسية لأجل بلورة تصور أولي حول الدستور والنظام السياسي والإدارة العامة وبرامج الإصلاح الشامل، وكذلك جدول الانتخابات العامة لاختيار جمعية تأسيسية يناط بها وضع الدستور
كذلك، ينبغي البدء فورا في تسجيل وتوثيق خبرات وتجارب هذه الفصائل الفريدة وغير التقليدية وتحويلها إلى مناهج وبرامج تدريب وأكاديميات، إن لم يكن قد تم بالفعل، وأن تشمل مجالات البر والبحر والطيران المسيّر. لقد أثبتت تجربة هذه الفصائل ونجاحها في تعبئة جيل من شباب الثورة السورية وقيادته نحو الانتصار وإسقاط النظام البائد أهمية ما يسمى في العلاقات الدولية “الفواعل من غير الدول”.
ففي سياق تحولات إقليمية من طوفان الأقصى إلى سقوط نظام بشار الأسد، ثبتت قدرة هؤلاء “الفواعل من غير الدول” مثل: فصائل الثورة السورية، “حماس” والجهاد الإسلامي في فلسطين، حزب الله في لبنان، أنصار الله (الحوثيون) في اليمن، وفصائل الحشد الشعبي في العراق، على التصدي لأدوار تعجز عنها أو لا تؤديها الجيوش الرسمية، وفرضت معادلات في سياق المقاومة، وطورّت قدرات وفعاليات من خلال المتاح لها من موارد وسيطرة جزئية على إقليمها، ولو كان ذلك تحت الحصار المشدد.
يرتبط ذلك بتراجع الدول (الوطنية) العربية وإفلاسها وتغوّلها على شعوب الأمة، أو غيابها فعليا. يُنبِئ هذا التحول المهم بأن تفكيك الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين سيترافق غالبا مع اضمحلال الدول (الوطنية) عربيا، بعد قرن من الهزائم والقمع والفساد وإذلال الأمة.
نقول ذلك بحسبان أن التغول الإسرائيلي الجديد على الأراضي والسيادة السورية يتطلب معالجة مزدوجة: تعبئة مجاهدي الفصائل السورية، على سبيل المناورة أو المواجهة، وتأهيل وعودة الجيش السوري إلى مواقعه التي احتلها العدو ، كما تقتضي اتفاقية وقف إطلاق النار (1974).
التحديات الأمنية
هذه إحدى التحديات الكبرى التي تواجه مسيرة سوريا الجديدة. في فترة ضعف النظام التي امتدت أكثر من عشر سنوات، شهد النظام والدولة والمؤسسات الأمنية والعسكرية تدهورا شديدا في المناعة الأمنية. ويمكن القول أن هناك الآن شبكات من جواسيس أميركا ودول الغرب وإسرائيل.
ينبغي تسخير موارد كافية لرصد هذه الشبكات وتحييدها واستقطاب أفراد منها في الاتجاه المضاد. وينبغي البدء بغربلة أجهزة النظام الأمنية أولا وتطهيرها والاستفادة من أرشيفها وقواعد بياناتها دون الوقوع في حماقات طرق عملها
شهدنا قبل بضعة أيام نحو 350 غارة جوية إسرائيلية وقصفا صاروخيا كثيفا، في ساعات، طالت بزعم العدو 80 بالمئة من مخازن سلاح القوات المسلحة السورية وقواعدها الجوية والبحرية وتشكيلات ترسانتها العسكرية، وكأنها تقرأ كتابا مفتوحا.
يذكر أنه عندما انهار تنظيم داعش، أرسلت دول التحالف الدولي الغربية طائراتها لنقل مئات من الجواسيس والمخبرين الذي أرسلتهم لاختراق التنظيم، وقاموا بدور شامل في مسيرة تعثره وضلاله وانهياره.
تقريبا، إن معظم الغارات الإسرائيلية، التي استهدفت ميليشيات إيران ومواقع الحرس الثوري في سوريا ومخازن السلاح وقوافل نقله، قد سبقها بلاغات من جواسيس أو متعاونين مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وتداول ناشطون أن أجهزة أمن النظام كانت تفعل ذلك أيضا عبر قنواتها المفتوحة مع استخبارات الاحتلال.
يضاف أيضا الآن شبكات المتعاونين مع دول عربية معادية للثورة السورية وبادرت بالتطبيع مع النظام البائد بعد التطبيع مع إسرائيل، ويرجح أنها فتحت قنوات اتصال بين النظام وإسرائيل.
ينبغي تسخير موارد كافية لرصد هذه الشبكات وتحييدها واستقطاب أفراد منها في الاتجاه المضاد. وينبغي البدء بغربلة أجهزة النظام الأمنية أولا وتطهيرها والاستفادة من أرشيفها وقواعد بياناتها دون الوقوع في حماقات طرق عملها. ويستحسن الاستعانة بخبرات وكفاءات مدنية لها خلفيات معرفية عابرة للتخصصات ودراية بالاجتماع والسياسة والتاريخ. كان مؤهلات أحد مدراء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في إدارة بوش الأب، دكتوراه في التاريخ الروسي واللغة الروسية. وكان موشيه موفاز، ممثل إسرائيل الذي فاوض النظام البائد قبل عقود، أستاذا بالجامعة العبرية متخصصا في التاريخ والسياسة السورية. بل كان معظم ضباط الاستخبارات البريطانية بالمشرق من طلاب الدراسات الشرقية والمستشرقين.
التحدي الاستراتيجي
هذا أخطر التحديات على الإطلاق. جاء انهيار النظام وانتصار الثورة السورية في مرحلة استراتيجية بالغة السيولة والهشاشة وانعدام المناعة وانفلات العدوانية الصهيونية ضد فلسطين (غزة وضفة)، ثم لبنان منذ شهور، والآن أخذت طريقها إلى سوريا الجديدة: احتلالا لمزيد من الأراضي السورية ومرتفعات وقمم جبل الشيخ، وإخلاء البلدات والقرى من أهلها بالقصف والاحتلال، وتدمير معظم التسلح السوري التقليدي وحتى مراكز البحث والتطوير وكل ما له فائدة للدولة.
حسناً فعلت قيادة الإدارة السياسية الجديدة بالإعلان عن نيتها حل جميع الفصائل المسلحة وفق مبدأ: لا سلاح خارج تشكيلات الدولة.. يستحسن إدراجها في تشكيلات خاصة فدائية ذات عقيدة عسكرية متميزة، وفي وزارة خاصة بها ضمن ملاك الدولة.
يفاقم هذا التحدي دعم أميركي شامل لعدوانية إسرائيلية شاملة، وبلسان مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، جيك سوليفان: “لقد استشعرت إسرائيل تهديدا من سورية، فتصرفت بناء على ذلك”. وبعدها طالب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، القيادة السورية الجديدة بالتعايش والعلاقات الطيبة مع جميع جيران سورية. وجميع الجيران معناها الكيان الصهيوني المحتل!
باختصار، ستكون الولايات المتحدة والغرب الجماعي وإسرائيل، ألد أعداء الوضع السوري الجديد والدولة السورية القادمة. فلن يقبلوا منها بأقل من الاستسلام الكامل والتطبيع مع إسرائيل، وتهنئة إسرائيل باحتلال وضم الأرض السورية والعربية الأخرى.
سيكون الموقف الأميركي والغربي من سوريا الجديدة نسخة أسوأ كثيرا من الموقف الأميركي والغربي تجاه ثورة الإنقاذ في السودان، وانتهت إلى انفصال الجنوب وتقطيع أوصال البلاد بحركات التمرد، والعقوبات السياسية والاقتصادية والمالية الأبدية وإفلاس البلاد وانهيار الاقتصاد وسقوط نظام البشير بيد ضباطه وقواته، ودخول البلاد طور الانحلال النهائي.
هذا يعكس رؤية الغرب الإمبريالي للعالم الإسلامي، خاصة بعد الاستقلال عن القوى الاستعمارية. فالسودان لا ينبغي أن يكون عربيا أو مسلما، والعراق لا ينبغي أن يكون موحدا، عربا وكردا وتركمانا أو سنة وشيعة.. إلخ. وكذلك فلسطين لا حق لشعبها فيها وليست بلاد العروبة أو الإسلام بل مشروع استيطاني صهيوني توسعي.
والآن سوريا. يتحدث بعض الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين بأن سوريا “مركز ثقل” الحضارة الغربية!! وأنها إذا تركت للعرب والمسلمين فستغزو جيوشهم أوروبا قريبا. ويستدلون على أقوالهم بما يُدرَّس بكلية الحرب الأميركية، ويقرعون طبول الحرب ويشعلون نارها. بالنتيجة، أمثال هؤلاء يرون وجود العروبة والإسلام في معظم الأقطار العربية ليس شرعيا أو أصيلا، باستثناء ربما مكة والمدينة في بلاد الحجاز. أما روسيا، فقد قال لنا وزير خارجيتها سيرغي لافروف، منذ عشر سنين، أن أهل السنة لن يحكموا سوريا أبدا.
ماذا نتوقع إذاً؟ بدون خضوع واستسلام تام للهيمنة الأميركية في كل أمور البلاد صغيرها وكبيرها حتى إدارة المطارات (مطار بيروت الآن تحت الرقابة الأميركية الكاملة ويُمنع علنا سفر ضحايا تفجير أجهزة البيجرز واللاسلكي من اللبنانيين للعلاج بالخارج تحت طائلة تهديد شركات الطيران حتى الخطوط اللبنانية بالتصنيف ككيانات إرهابية وعقوبات ومقاطعة).
أتوقع أن يستمر تصنيف سوريا “دولة راعية للإرهاب” وقيادتها “إرهابية” ولا تُنسى خطيئتها الأصلية، من “جبهة نصرة” و”قاعدة” وعناوين أخرى، من الآن وحتى ينهار النظام الدولي الراهن والهيمنة الغربية! وستستمر عقوبات قيصر وما قبل قيصر المالية والاقتصادية وحظر السفر، والحرب على عملة سوريا وصادراتها ووارداتها، وضوءا أخضر مفتوحا لعدوانية إسرائيلية متواصلة، كلها أدوات للإخضاع والابتزاز.
إن أحد أسباب العدوانية الإسرائيلية، حتى يومنا هذا، ليس تهديد سوريا لإسرائيل قطعا، بل هو ضيق الخيارات الاستراتيجية الإسرائيلية في الإقليم، والمرتبطة بطبيعة الكيانات الاستيطانية التوسعية وإنكارها وجود الآخرين، وترتيب سوريا في الأجندة التوسعية الصهيونية بعد فلسطين ولبنان وقبل العراق وإيران والأردن ومصر.
التغول الإسرائيلي الجديد على الأراضي والسيادة السورية يتطلب معالجة مزدوجة: تعبئة مجاهدي الفصائل السورية، على سبيل المناورة أو المواجهة، وتأهيل وعودة الجيش السوري إلى مواقعه التي احتلها العدو، كما تقتضي اتفاقية وقف إطلاق النار (1974).
كذلك، سيقوم الغرب برعاية المشكلات الطائفية والإثنية والقومية في سوريا، ومظلومايتها المزعومة: أكرادا وعلويين ومسيحيين وآشوريين..إلخ. ويرعى قيام ميليشيات ومقاتلين من أجل الحرية الدينية والحقوق القومية والليبرالية من هذه الأقليات، وسيدعمها بالسلاح والاستخبارات ومزيد من العقوبات. تذكروا أن الرئيس رجب طيب أردوغان ذكر أن آلاف من شاحنات السلاح الأميركية وصلت للكيان الكردي بسورية الذي يقوده حزب العمال الكردستاني (الإرهابي).
وقد زودت ألمانيا أكراد سوريا والعراق بأسلحة بأكثر من مليار يورو منذ سنين، خلال حكم أنغيلا ميركل. وتمثل دول غرب وشمال أوروبا ساحات أساسية لحزب العمال الكردستاني: تمويلا وإعلاما وتنظيما وتجنيدا. بالمناسبة، بعد وصول حزب العدالة والتنمية التركي للسلطة، التقى وزير خارجية تركيا (ربما علي بابا جان) مع وزير خارجية دولة أوروبية كانت ترأس الاتحاد الأوروبي ذلك العام (ربما بلجيكا)، وسأل الوزير التركي نظيره الأوروبي: لماذا هذا التعاطف لديكم مع حزب العمال الكردستاني؟ فأجابه: Because Turkey is too big for one country! أي تركيا كبيرة جدا على أن تكون دولة واحدة.
أجندة المسألة الشرقية التي بدأت في القرن 16 لا زالت قيد الحياة والفعل والتنفيذ، اليوم وغدا.
لقد تأكد مؤخرا أن عدوانية الكيان الصهيوني هي حروب توسعية بالأصالة وبالوكالة عن الغرب كله، وليس لأن بنيامين نتنياهو يخشى المحاكمة بتهم الفساد وعقوبة السجن، بل هو يعتقد أنه ملك اليهود ومسيحهم المخلّص. ووجد الفرصة في هذه الحروب لتنفيذ خطط أعدت سابقا لغزة والضفة ولبنان وسورية، ومنها إعادة احتلال جنوب لبنان، وإقامة منطقة عازلة، والالتفاف على سوريا لإقامة دويلة درزية ترتبط بدروز إسرائيل وتكون عميلة لإسرائيل، والتمدد جنوب سوريا حتى قاعدة التنف، ثم الوصول لشمال شرق سوريا لتكريس وجود الكيان الكردي الحليف، وترتيب أوضاع أمنية وجيوسياسية دائمة، تفتت سوريا وتهدد تركيا والعراق وإيران ولبنان والأردن (باعتباره الوطن البديل لأهل الضفة الغربية المحتلة)، وربما مصر والسعودية لاحقا. أمس السبت، كانت هناك ثلاث مقالات في الصحافة الإسرائيلية تدعو إلى الشروع في مثل هكذا خطط.
ما العمل إذاً إزاء هذه المخاطر الاستراتيجية ؟
أولا، إجراءات وقائية: لإحباط مخططات التربص والاصطياد في مياه الانقسامات الداخلية، ينبغي منع الصراعات الثأرية ونشر السلام والأمان والتعايش بين جميع الطوائف والأقليات والمذاهب والإثنيات، ومنع أي حماقات أو دعوات كراهية، واحتواء الإشكالات والتوترات قبل استفحالها، وتوسيع نطاق قنوات التفاهم والتصالح والوساطة وحل الصراعات غير الرسمية بين مكونات الاجتماع السوري. تستمر الدعوة أمرا بمعروف ونهيا عن منكر بالحسنى القصوى، بلا شرطة دينية أو أخلاقية، وتأكيد حرية الفكر والمعتقد والنقاش ضمن إطار أخلاقي محترم وفق تقاليد سورية.
ثانيا، تكوين شبكات اتصال وتعاون مع السوريين والعرب والمسلمين وأحرار الغرب والعالم لتخفيف وطأة العقوبات عن الشعب السوري والضغط على صناع القرار هناك بشأن ذلك. ودعوة شخصيات فكرية وإعلامية وسياسية واقتصادية، يُحسن الظن بها، لزيارة البلاد والاستثمار فيها. ومفتاح تهيئة أجواء الاستثمار: إصلاح الإدارة العامة وتطهير الدولة من الفساد المستشري وإدماج الشرفاء أصحاب الكفاءات.
ثالثا، إقامة علاقات تكامل وتبادل تجارية واقتصادية إقليمية للالتفاف حول الحصار المالي والمصرفي والتجاري والاقتصادي وإقامة اعتماد استراتيجي متبادل مع القوى الإقليمية (بقدر الإمكان وبحسب السياقات الزمنية المتاحة، وليس دفعة واحدة):
– تركيا ولها مصلحة صلبة في إجهاض تهديد مشروع الانفصال الكردي وتحاذر من التمدد الإسرائيلي إلى حدودها تكريسا لوجود هذا الكيان الانفصالي وتحصينه.
– العراق مختنق بالهيمنة الأميركية والإيرانية ويحتاج عمقا استراتيجيا واقتصاديا، بل يتوقع قريبا حربا إسرائيلية جوية، على نمط الحرب الجوية على لبنان، وقد يجد جيش الاحتلال الإسرائيلي على حدوده.
– إيران تعاني حصارا ماليا واقتصاديا واحتواء استراتيجيا وعقوبات قصوى، وتستهدف إسرائيل ترسانتها الدفاعية ومنشآتها النووية وصناعاتها العسكرية والنفطية كأولوية. يروج نتنياهو أنه ليس هناك صراع فلسطيني إسرائيلي يقتضي حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية بل المشكلة هي التهديد الإيراني لإسرائيل ودعمها للإرهاب وزعزعتها الاستقرار الإقليمي.
– لبنان كان دائما الرئة التي تتنفس منها سوريا بمواجهة الخنق والحصار وهو متكامل اقتصاديا وجيوسياسيا وأمنيا مع سورية
– الأردن أقل استعدادا للتكامل مع سوريا لكنه يحتاج إلى فتح الأسواق والحدود معها لأجل اقتصاده ورخائه، وقد يتيح رئة أخرى لتنفس سورية.
رابعا، توسيع فضاء التفاعل السوري مع دول العالم وتحالفاتها ومنظماتها الإقليمية وتكتلاتها الاقتصادية والتجارية.
الهدف هنا هو الوصول إلى توازن قوى إيجابي يكفل لسورية استقلال القرار وحرية الإرادة، إزاء الهيمنة الاستعمارية والعدوانية الصهيونية ومختلف أشكال العقوبات والحصار. ومن ثم تحرير أرضها وإنجاز تنمية بناءة والنهوض بقضايا الأمة.
لقد كانت سورية، منذ استقلالها ساحة للتنافس الإقليمي (السعودي المصري العراقي الأردني)، والصراع الدولي (الفرنسي البريطاني الأميركي السوفياتي)، على النفوذ فيها والهيمنة على قرارها. ربما نتذكر كتاب الأستاذ بالجامعة الأميركية ببيروت، زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، (بيروت: دار النهار، 1977). وشهدت سوريا أول انقلاب عسكري في المشرق العربي، بقيادة حسني الزعيم، وبتدبير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1949. ثم توالت الانقلابات العسكرية فيها وفي دول المشرق الأخرى.
ملاحظات ختامية
– العقلانية هي أهم سمات الدول القومية الحديثة، بصرف النظر عن الصواب والخطأ. فلا مجال للنزوات في إدارة الدول ورعاية مصالح الأمم. لا صداقة ولا عداء بلا سبب عقلاني وحسابات دقيقة.
– لقد حكم العلويون سوريا تحت عباءة حزب البعث ستين عاما بدون أغلبية شعبية حقيقية أو مشروع وطني حقيقي غير الاستبداد والقمع والفساد والتمييز الطائفي، ابتداء بصلاح جديد ثم انقلب عليه حافظ الأسد، ثم ورثه بشار الأسد. طوال هذا الزمن الطويل، استعان هؤلاء بخبرات قيادات الدولة ومعظمهم من أهل السنة، والبيروقراطية السنية والتكنوقراط السني، واستحوذ هذا النظام السياسي على كل هذه الطاقات والخبرات والكفاءات، وكان هذا أحد عوامل استمرارهم. لذلك ينبغي تعظيم الاستفادة من كل طاقات وكفاءات الشعب وفي سياق مشروع تحرر ونهوض حقيقي.
– في سياق الصراع الراهن ينبغي تعظيم القاعدة المعرفية والفكرية وإحياء الاجتهاد والبحث والتطوير ودعوة المخلصين لإقامة مراكز الدراسات وخزانات التفكير والقدح الذهني، وتنسيق العمل بينها ليصبح موردا هاما يضاف إلى قدرات الدولة والأمة. وينبغي الحذر من الاختراقات الخارجية في صورة منح أبحاث وتمويل مؤسسات الدراسات التي تقوم بدور الاستخبارات الأجنبية دراسة وتشريحا واختراقا.