غزة: صمود يطيح بمخططات الاحتلال:
عاشت غزة محنة طويلة منذ عام وثلاثة أشهر، حيث تعرضت لأكبر المجازر التي خلفت آلاف الشهداء والمصابين، وقوبلت هذه المحنة بصمود أسطوري من أهل غزة والمقاومة الباسلة التي حولت آلامها إلى طاقة مقاومة لم تهزم، بعد عام ونيف من القتال العنيف منذ أكتوبر 2023، تعلمنا من غزة أن النصر لا يُقاس بعدد الضحايا وحجم الدمار، بل بصمود وهمة المقاومين الذين لم يساوموا على ثوابتهم، فحطموا آمال العدو وبددوا أهدافه من الحرب، فلم يجد مفرًا سوى الرضوخ لطاولة التفاوض.
اتفاق وقف النار: نصر سياسي وميداني:
بعد أكثر من عامٍ من القتال، ورغم محاولات الاحتلال الكثيرة لفرض واقع جديد من خلال خطة تهجير وتجويع ممنهجة، جاء اتفاق وقف النار ليكون انتصارًا كبيرًا للمقاومة الفلسطينية، الاتفاق الذي يبدأ تنفيذه يوم الأحد 19 يناير الجاري يتضمن بحسب ما أعلنه وزير خارجية قطر في مرحلته الأولى النص على وقف إطلاق النار الشامل وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المكتظة بالسكان، وإطلاق سراح 33 أسيرًا وأسيرة إسرائيلا، مقابل 2000 أسير فلسطيني، بينهم 250 محكومًا بالمؤبد، وهو انتصار سياسي كبير، ونجاح ميداني عظيم للمقاومة في استرداد الأرض، يمثل فشلًا ذريعًا للاحتلال، الذي استهدف في بداية الحرب القضاء على المقاومة، لكنه انتهى باعتراف حليفه بلينكن بأن هزيمة المقاومة عسكريًا باتت مستحيلة، لتقف المقاومة اليوم صامدة، تجدد أملها، وتحفظ عزتها، وتعيد ترتيب صفوفها.
الأمل محرك المقاومة رغم الألم:
رغم قصف الاحتلال ودماره، ظل الأمل المحرك الأساسي للمقاومة، ولم يتمكن الاحتلال من زرع اليأس في نفوس المقاومين، رغم الإبادة الهمجية والتدمير الوحشي والتكالب الدولي، بل على العكس، استطاعت المقاومة أن تخلق من البلاء دافعًا لمزيد من القوة والتصميم على الاستمرار في المقاومة، إن هذا النصر يفتح صفحة جديدة من التفاوض حول قضية الأسرى في سجون الاحتلال، ومستقبل غزة وكل فلسطين بشكل عام، قد أثبتت غزة للعالم أن الحرية ليست مجانية، وأن ثمنها غالٍ، لكن هذا الثمن لم يحطم أملها، ولن يوقف مسيرتها نحو الاستقلال والتحرر.
نصر غزة غير متنازع عليه
إن النصر الاستراتيجي لغزة في المواجهة الأخيرة يُعد على الحقيقة نصرًا غير متنازع عليه بين طرفي الصراع، وإن أبلغ رد على من زعم أنه ليس نصرًا هو صمت رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي اعتاد استغلال كل حدث للاحتفاء بإنجازات مزعومة طول الحرب، إلا أنه التزم الصمت طيلة ثلاثة أيام منذ إعلان وقف إطلاق النار، في خطوة غير معهودة منه ولم يخرج كعادته في تزييف الإنجازات وتسويقها للجمهور الصهيوني، ومن الشواهد أيضا أن شهد الكيان الصهيوني انقسامات عميقة على مستوى الداخل الإسرائيلي، كما وصف العديد من الخبراء الأمنيين والسياسيين الصهاينة ما جرى، بأنه إخفاق استراتيجي لنتنياهو شخصيًا، ومما يعضد ذلك أيضا رد فعل جو بايدن الذي صرح في حديث له مؤخرا “طلبت من رئيس الوزراء نتنياهو وقف إطلاق النار، لأنه عندما تبدأ القنابل بالسقوط على المستشفيات، فإن هذا يتجاوز الحدود ويجب أن يتوقف” ، وهو تصريح متراجع في نهاية الحرب، ولو كان ما حدث نصرًا لافتخر به، واعتبره إنجازًا يختم به رئاسته، مما يرسخ حقيقة أن غزة خرجت منتصرة في هذا الصراع، باعتراف غير مباشر من الطرف الآخر، فهو إذن ليس نصرًا يقول به أهل غزة وعامة الأمة وحدهم، بل إن العدو نفسه لم يجرؤ على ادعاء انتصاره.
دروس استراتيجية من نصر غزة:
إن اتفاق وقف النار الذي نجحت المقاومة بصمودها في الوصول له يحمل في طياته دروس نصر استراتيجي، اعترفت به قيادات أمنية صهيونية كما جاء على لسان رئيس مجلس الأمن القومي سابقًا اللواء «غيورا آيلاند»، والذي صرح قائلًا: “خلاصة الحرب على غزة، إخفاق هائل وفظيع لـ “إسرائيل” لا يمكن استيعابه، فحماس تتعافى ولم نقوض حكمها في القطاع“.
نعم، لقد فشل الاحتلال فشلًا ذريعًا في القضاء على حركة حماس، بل إنه شهد تراجعًا ملحوظًا في استراتيجيته العسكرية التي اعتمدت على الحصار والتجويع والتهجير، هذه الاستراتيجية التي كان يهدف من خلالها إلى إضعاف عزيمة المقاومة وتدمير البنية الاجتماعية في غزة، والتي باءت بالفشل الذريع، وفي المقابل كانت هذه المحنة بمثابة محفز إضافي لزيادة قوة المقاومة، في مواجهة مع أقوى “كيان” في المنطقة، والذي يعتقد أنه لا يقهر، مدعومًا بأكبر دول العالم، لكن الحقيقة التي كشفها الطوفان هي أن هذا الكيان، رغم كل قوته العسكرية، قد خضع أمام بسالة المقاومة الفلسطينية، كما كشف الطوفان عورات الاحتلال دوليًّا، وأصبح عدوًّا مكروهًا منبوذًا بين شعوب العالم.
إن نصر غزة هو درس للأمة كلها في كيفية مواجهة الاحتلال والظلم، وينبغي أن يكون نموذجًا حيًّا للأمة كلها، وخاصة لتلك الشعوب التي لا تزال ترزح تحت وطأة الظلم والاستبداد، فلا تزال كثير من بلادنا تعيش تحت نير الأنظمة القمعية.
ولعل واحدًا من أهم دروس هذا النصر هو صمود المجتمع الغزاوي المقاوم بكل أطيافه، والذي كان بمثابة الأساس الذي احتضن رجال المقاومة، فثبَّتهم صبر الرجال والنساء في غزة على الفقد والموت، حتى القطاع الصحي الذي تحمل العبء الثقيل لعلاج الجرحى في ظروف قاسية، لم يتوانَ عن أداء واجبه، وكذلك الصحفيون والإعلاميون كانوا في الخطوط الأمامية، ينقلون الحقيقة رغم المخاطر، لقد تحولت غزة إلى كتيبة كبرى لا يتوقف نضالها، بل يتحول كل فرد فيها إلى جندي في معركة مع العدو يقف على ثغر من الثغور، فكان الجميع في هذه الحرب جنودًا ومرابطين في ساحة النضال.
إن المقاومة في غزة بصمودها أكدت أن النصر مع الصبر، وقد صاحب ذلك الصمود في غزة مجيء رجال آخرين في سوريا، بات الصهاينة يخشونهم، وغدًا قد يتسع الخرق على الراقع، فإن منطقتنا مفتوحة على كل الاحتمالات، ولعل ما تحقق في غزة يكون بداية لمسار طويل من المقاومة، وقد يكون بداية التغيير الجذري في المعادلة الإقليمية لصالح الأمة، حيث يفتح الآفاق أمام نهوض جديد، يكسر القيود ويعيد التوازن لقوة الحق في مواجهة قوى الاحتلال والظلم.