خارطة الأزمة اليمنية: جذورها وبواعثها
تشهد الأزمة اليمنيَّةُ, انعطافاتٍ, يمكن وصفُها بكونها تعرُّجات, لتطورات الأحداث فيها, تُنبيء بأنَّ اليمن تقف”على مفترقِ طرقٍ”, تتشعَّبُ مآلاتها, واحتمالات تقلُّباتِها؛ بما يجعل توقُّعَ ما سيكونُ من سيناريوهات حلِّها- على المدى القريب أمراً لا يمكن وصفه باليُسر, ولعلَّ من بينِ أبرز أسباب تعقيدِ المشكلة اليمنية, وصعوبة توقُّع حلِها, يعودُ إلى أمورٍ, تعدُّ الأهمَ:
الأول: غياب توصيف دقيق لما عليه المجتمع اليمنيُّ, وبالتالي الجهل بتفاصيل نسيجه الاجتماعيّ, وتلوُّنه, في وقتٍ اعتقدَ كثيرٌ من المعنيين بدراسته-ولا سيما قبل أزمته-أنَّ شعبَ اليمنِ قليلُ التنوُّعِ, محدودُ الاختلاف؛ وهو أمرٌ فارقَ الدقَّةَ, وبالتالي أغفل حجم المشكلةِ, التي تعصف باليمن, وتهدِّدُ نسيجه الاجتماعيّ, أو تكاد.
الثاني: إغفال تداخل الفاعلين في الأزمة اليمنية, والمعنيين بإشعالها, والمتسببين بتعقيدها؛ فهي مشكلةٌ مركَّبةَ, برَّرتها عواملُ: محليةٌ, وأخرى إقليميةٌ, وثالثة دوليةٌ؛ ولكلٍّ منها مقاصدها, وغاياتها, التي عقَّدت إشكالية دراسة الأزمة اليمنية, وأسهمت في تأخير حلِّها, بانتظار حدوث توافق للفواعل على المستويات الثلاثة, بالاتفاق على حلِّها, والتخفيف من آثارهم في إشعالها, وإدامتها.
الثالثُ: فقر اليمن وضعف دخله القوميّ, جعلَ اليمنَ مسرحاً لأطماع الفواعل العالمية, والإقليمية فيه, ولا سيما الفواعل العالمية, التي جعلت اليمن دائراً في أفلاكها, مسخّراً لتنفيذ استراتيجيتها في استتباع اليمنِ, وكثير من دول المنطقة, وأعني بها الولايات المتحدة الأمريكية, فكان من آثارها: المشاركةُ الفعلية في رفد صراعاتها الفرعية, ومنها ما شهدته أفغانستان, تحت غطاء الجهاد, وبدفعِ ومباركةِ وتمويلِ السعودية, بحجج تسوغُ للإسلاميين جهادَ الشيوعيين, وعدِّهم مشركين, وتحت غطاء نصرة المسلمين الأفغان-في حينها-ولهم كذلك في غلبة الروم مبرِّرٌ شرعيٌّ؛ أمَّا العلمانيون فتسوِّغه لهم المصلحةُ القومية, والتحالفاتُ مع الدولة الأقوى في العالم؛ وهو أمرٌ جعل استهداف الإسلاميين, فيما بعد أمراً له مبرراته, لما لديهم من خبرة قتالية, تهدِّدُ حلفاء الأمريكان من العلمانيين, من القوى اليمنية, وسواها, فيكون ما كان من تصرُّف الولايات المتحدة الأمريكية مع القاعدة, وقد كان رجلاتها موصوفين لديها”بالمجاهدين” تحت خيمةِ الصراع الاستراتيجي الشرقي/الغربي؛ والاستعانة بالأطراف, في الصراعات المسلحة, ولا سيما حروب الاستنزاف.
وكذلك قدْ دَفَعَ فقرُ اليمن, وضَعفُ إمكانياته, إلى فتح باب اليمن على مصراعيه للقوى الإقليمية, في التوغُّل في المجتمع اليمني, تحت غطاء المساعدات الإنسانية, التي تستصحب معها عادةً غاياتٍ لا يغيبُ عنها الغزو الفكريّ, ومحاولات التغيير الثقافي, ولا يكون التنصير, برعاية الكنيسة المعمدانية ومؤسساتها الطبية, ولا التشيُّع, برعاية السافرة الإيرانية, ومحاولاتها نشر المؤلفات المذهبية وما يروج لولاية الفقيه, وما رافقه من التبرعات, وفتح المراكز الصحية, عن ذلك ببعيد.
وعليه؛ فغيابِ توصيفٍ دقيقٍ لمستقبل اليمن؛ يأتي بسبب القراءَةِ السطحيَّةِ للأحداثِ-دون ربطها بجذورها- فتكون قاصرةً عن بلوغ المآلات الراجح تحقُّقُهَا.
ولا بدَّ من معالجة الموضوع من محاورَ, تكشِفُ دواعي الصراع, وتأثيرات القوى, وعلاقاتها, ومرجعياتها؛ وما ستؤول إليه الأحداث.
وهنا يثور سؤالٌ كبيرٌ, مفادهُ: ما المتغيرات المؤثرة في تفاقم الأزمة اليمنية, وفي تعقيد مشهدها, وتعطيل حلِّها؟
ممَّا يعقِّدُ إشكاليَّةَ توقُّعِ مسارات الأحداثِ, ومآلاتِها, ونتائجَها, وآثارها, جملةُ متغيِّرات مؤثِّرات, تطبعُ الصراعَ اليمنيَّ, وتحدِّدُ طبيعَتةَ؛ وتسهِمُ في تحديدِ بعضِ معالِمِ ما ستؤول إليه اليمنُ وصراعاتُهَا, وتنافسُ فواعلها والمؤثرين فيها؛ وأبرز المؤثراتِ أمور متغيرات, أبرزها:
المتغيِّرُ الأوَّلُ: أزمةُ الاندماج والمواطنة في ظلِّ الوحدةِ اليمنيَّة:
ويتحدَّدُ-هذا المتغيِّرُ- بامتداد جذورِ الصراع اليمنيّ, إلى ما يتَّصلُ “بالوحدةِ اليمنيَّةِ”, وبالترتيبِ لها, وبإعلانها, وبما أعقبها من اختلافات, أشعلت ما اصطُلِحَ عليه”حربُ الانفصال”, ويُعزَى سبَبُهَا “المباشرُ”, إلى ما بدا “هيمنةً للشمال على الجنوب, في إدارة البلادِ, وتفرُّداً بالسلطةِ “للرئيس صالح”, ومردُّهَا الأساسُ “تفكيكُ مجلس الرئاسةِ اليمنيّ السداسيِّ, الذي أتُفِقَ على أن يقودَ دولةَ اليمنِ الموحَّدةِ, على هامِشِ محاولاتِ بعضِ أعضائِه, لتهميش وإزاحةِ”علي سالم البيض”وحزبَه الاشتراكيّ, بأعذارَ وحُجَجٍ, تقمَّصَ بعضُهَا لباسَ العقيدة, بحجَّةِ إبعادِ الاشتراكيين, وثمنه الرضا بإبعادِ الإسلاميين لأنفسهم مقابل ذلك؛ لكنَّها عبَّرت: عن رؤيةٍ حزبيَّةٍ دينيَّةٍ غيرِ موفَّقةٍ, أسهمت في: استعداء ممثِّل الجنوب, بإزاحته من مجلس الرئاسة السداسيّ, بحلِّه وبمناداة “صالح” رئيساً لليمن بالأغلبية؛ فأثمرَ هذا المتغيِّرُ “الدعوةَ إلى فكِّ ارتباط الجنوبِ, وإشعال حرب الانفصال ساعَتَهَا؛ والعاملُ المؤثر الحقيقيّ”نكث اتفاق الشراكة في إدارة اليمن الموحَّد”, لغياب الرؤية السياسية, وإساءة التقدير, وسذاجة التصرُّف, من قوًى كثيرةٍ, منها العلمانية, ممثَّلةً بالمؤتمر الشعبيّ العام, ومنها الإسلاميةُ, ممثَّلةً بالتجمُّع اليمنيّ للإصلاح.
ولا غرابةَ أن تشهدَ الساحةُ اليمنيَّةُ اليومَ, دعواتٍ انفصاليَّةً جنوبَها, بما يتجاوزُ حصرَ أسباب الدعوات “بالنزعةِ الانفصاليَّةِ” المجرَّدةِ عن أسبابِها الموضوعيَّةِ, التي طواها النسيانُ, بتغييب الموضوعيَّةِ والإنصافِ, في إطار-الشعور الجماهيريّ الوحدويّ العفويِّ العاطفيِّ- واعدِّ البعضِ الوحدةَ غنيةً, أكثر من كونها إنجازاً للشركاء؛ وثمَّةَ أثرٌ للنظرةِ القاصرةِ عن: تحديد, فتحليل أسبابِ الدعوات الانفصاليَّةِ, وحصرها بدوافعَ “معياريَّة”, توصَفُ بها-جُزافاً-قياداتُ الحركات الانفصاليةِ؛ فثمَّةَ قصورٌ في معالجات تركةٍ ثقيلةٍ خلَّفها تاريخُ اليمن المعاصر, وَرِثَهَا عن عهدِ وحدته؛ كان الأجدر بالقياداتِ تفكيكُها, وتحليلها, ثمَّ تركيبُهَا على قيمٍ وطنيَّةٍ, تحفظُ حقوقَ المواطنينَ, على أساس المواطنةِ المتساوية, وتساوي الشمال والجنوب؛ بما يُنشيءَ الولاء لليمن من كافة أبنائه, والتكافؤَ, والاندماجَ؛ فتُحفَظُ بذلكَ كلِّهِ وحدتُهُ؛ والأمرُ يفسِّرُ هشاشةَ مقاومة المجتمع اليمنيّ, ومنهم سكان الجنوب, للحوثيين.
وتتجسَّدُ في غيابِ معالمِ التنمية السياسية, التي تتطلَّبُها إدارة مجتمع ما بعد الوحدة في العام 1990, وحرب الانفصال في العام 1994, ولَّدَتْ أزمةً, شهدَتْها العمليةُ السياسيةُ اليمنيَّةُ, تلخَّصت في نقاطٍ, أبرزها:
- تهميش وإقصاء بعض الأحزاب والتيارات, تحتَ إطار التحالفات, وهو أمرٌ غيَّبَ المشاركةَ الحقيقيةَ, القادرةَ على تعميقِ الشعور بالمواطنة, من جهة, وبدعم النظام السياسي, بديمومة فاعليَّتِه, وبالتالي نجاحه في إدارة شؤون اليمن, من جهةٍ أخرى؛ فقد هُمِّشت الأحزابُ جُلُّهَا, عَدا: المؤتمرَ الشعبيَّ العام, والتجمعَ اليمني للإصلاح؛ والذَينِ تشارَكَا وائتلَفَا في أكثرَ من دورةٍ انتخابية, شكَّلا عقبها وزاراتٍ مشتركةٍ, أضعفت حافزِ المشاركة السياسية, لدى الأحزاب الأخرى, ومن أبرزها الحزبُ الاشتراكيُّ, لتواضُعِ ما يمكن أن تحقِّقه من تأثير, في العملية السياسية, التي باتت تتَّجهُ صوبَ الاحتكارِ والتمهيد للتوارُث.
- ولعلَّ الأنكأ من النقطة السابقة, ما كان من مصادرة بعض مقارِّ “الحزب الاشتراكيِّ” الشمالية, عقاباً على مشاركة جزء من قياداته في الدعوة للانفصل, ومن ثمَّة المشاركة في حرب الانفصال؛ عمَّق الهوَّةَ, وبين الشمال والجنوب, وجعل الوحدةَ في نظر البعض “غزواً شمالياً للجنوب”, فكانت إدارة دفة الحكم, من مظاهر الحكم المتفرِّد, أكثر من كونه حكماً يستمدُّ قوَّته من شرعيَّتِه؛ بعد فقده دعم جزء لا يستهانُ به من سكان “الجنوب”.
- غياب المشاركة الحقيقية بين أكبر تيارَين: المؤتمر الشعبي العام, والتجمع اليمني للإصلاح؛ وما شهدتهُ الانتخاباتُ من عمليات تزويرٍ- دارَتْ ترتيباتُهَأ في سفارة دولةٍ ترفَعُ شعارَ حمايَةِ العروبةِ- وطالمَا عُنيت بالوضع اليمنيِّ, وتقلُّباتِه السياسية, عَقِبَ تنامي المنافسة بين الحزبين, اتَّجهت بالعملية السياسية صوبَ تفرُّد المؤتمر الشعبي العام بإدارتها, بشخصِ الرئيس صالح؛ خشيةَ استحواذ “الإصلاح” على السلطة.
- وشهد المؤتمرُ الشعبيُّ العام-وهو تيارٌ يضمُّ شخصيات ومشايخ وجماعات ومسؤولين منتمينَ إليه, بناظمٍ براغماتي, ولم يُبْنَ على أيديولوجيَّةٍ جامعةً- شهدَ الدعوةِ لتوريث قيادة المؤتمر الشعبي العام, وبالنتيجة قيادةِ اليمن, لأحمد علي صالح, أضعفا تماسُكَ المؤتمر, ليكشف ضعفَهُ إزاء الحوثيين, وقد تحالفا في الصراع الحاليّ, زيادةً على ما كان من مظاهر محاولات ترشيد القرار في المؤتمر, ممن خالفوا قيادة صالح, ورفضوا نهجَه وتحالفاتِه في الصراع.
المتغيِّرُ الثالثُ: أزمة الربيع العربيّ وإشكاليَّةِ نسخته اليمنيّة:
جاء الصراعُ اليمنيُّ نتيجةَ ظروفِ وملابساتِ”الثورة اليمنية”, التي قادتْها “الاعتصاماتُ ضدَّ حكومة صالح, التي شهدتها صنعاءُ, وعددٌ من المحافظات اليمنية؛ ويمكنُ تسجيل أمرين إزاءَهَا:
- أنَّ أحداثَ الاعتصامات, أفرزَها استنساخُ ما يُعرَفُ-اصطلاحاً-بالربيع العربيّ؛ عن نسخته التونسية, والمصريَّةِ, دون الأخذ بالاعتبار, الأسباب والظروف, التي أفرزت التجربتين؛ ما يبرِّرُ هشاشةَ التغيير-ساعتها-ما ولَّدَ بالنتيجة ظروفاً مواتيةً لعودة “صالح”, ليكون عاملاً مؤثِّراً في تأجيج الصراع, الذي لم تزل ترزح اليمنُ تحتَ وطأته؛ ولم يستلهِمْ المعتصمونَ من التجربتين السابقتين العِبَرَ, ممَّا يعبُرُ بهم وباليمن إلى شاطئ الأمان, واللاعودةِ “لصالح”ونظامه وحكمه.
- أنَّ الاعتصامات التي أطاحت بحكومة صالح, لم تكن مبنيَّةً على حساباتٍ سليمةٍ, تضبطُ مآلات الأمور, ولم تأتِ الاعتصامات بعفويَّتها, الضامنة لعصمتها والمكرِّسة لقوَّتها, باحتواء ما ستؤول إليه أوضاع ما بعد التغيير؛ ولا سيَّما أنَّ أقوى الفصائل المعتصمة, التابعة لحزب الإصلاح, قد قبلت بوضعِ يدها بيد من يخالفها: عقديَّاً, وسياسيَّاً, وثقافيَّاً, أعني الحوثيين تحديداً, وقد كانا على طرفي نقيض, من حيثُ محاولةُ كلٍّ منهما: نشرَ منهجه, ودعوته في المجتمع اليمنيّ, والاستعانة بمؤسساتٍ تعليمية, وتربوية, ومراكز دينية, ومؤسسات خيرية؛ تجعلهما في إطار تنافسٍ, يحتاجُ إلى مشاريعَ استراتيجيَّةٍ, وبرامج تنميةٍ مستدامة, ميدانها المجتمع اليمني بكلِّ مكوِّناته ومناطقه؛ فتعرَّض المجتمعُ اليمنيُّ-بالنتيجة-ونسيجُهُ, إلى التخلخل والتمزيق, بتكالب قوًى: أفقدتْ التجمعَ اليمني للإصلاحِ مؤسساتِهِ التربوية العلميَّةِ, التي أثَّرت أيما تأثيرٍ في بناء الثقافة الدينية اليمنية, وفي تقويم ما ورثته من معالمها الزيديَّة وثقافة حكم الأئمة قبل الثورة؛ فقد سلّمَ “الإصلاحُ” لإرادةِ إلغاء مؤسسة المعاهدِ العلميةِ, برغبةٍ أمريكية, تبنَّاها الرئيس صالح-بما لديه من قدرات تهويلية- ونفَّذَهَا بتأثيره في قياداتٍ إصلاحيةٍ مقرَّبةٍ منه, بالتحذير من تنفيذ التهديد الأمريكيّ, لهم ولتلك المؤسسة, باستهداف مؤسسة المعاهد العلمية, وجامعةِ الإيمان معاً.
وذلك أمرٌ قدْ سمحَ للترويج للمنهج الحوثي وتمدُّدِهِ, الذي أسهم في إحياء انتماءات المذاهب الزيدية الشيعية, على حسابِ المذهبِ الشافعيّ؛ الأمر الذي ينذرُ بتنامي التمايز المذهبي, إلى مستوى التشنُّج الطائفيّ؛ وما يترتَّبُ عليه: بتفاقم الصراعِ, وبتهديد نسيج المجتمع اليمنيِّ, وتقويضِ وحدته وانتكاث عموامل اندماجه؛ وبالتالي الاستعداد لتقسيمه.
المتغيِّرُ الرابعُ: الانقلابُ على سلطة ما بعد الثورة, وعوامله:
لم يأت ما يوصف “بالانقلابِ على الشرعيةِ”, من فراغٍ, بل كان لهذا الأمر ممهِّداتُه, ومحفِّزاتُه, وعواملُه, التي يمكن اختصار أبرزها في الآتي:
- التباطؤ في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني اليمنيّ, الذي يُعوَّلُ عليه في عملية بناء دستور ما بعد الثورة اليمنية, والذي تحجَّجَ ببطء تطبيقِهِ: الحوثيونَ وصالحُ, لتبرير ما قاموا به, من عمليةٍ وصفت بكونها انقلاباً, على ما أفرزه الحوار الوطني من مخرجات, وعلى الإجماع الوطنيِّ عليه, وما أسَّسَ له من سلطةٍ, وصفت بكونها”شرعيةً”؛ وهو أمرٌ لم يكن بعيداً عن بعض الحقائق, التي سَجَّلت تباطؤاً في الدعم الخليجيِّ, لإتمام عمليات التغيير في الظام السياسي اليمنيّ.
- قصور ذلك الدور الخليجيّ, رافقه التركيز في الضغط على شخص “صالح”, لتوقيعه على إقالتِه, وقد كانَ في رحلةٍ علاجيةٍ, ممَّا أصابه من آثار تفجير المسجد الرئاسيِّ بصنعاء, والبتالي أشعره بتحايُلِ دول الخليج, على إخراجه من السلطةِ, ثمَّ لم يلبث أن أصاب دورَ دول الخليج المعنية بالأزمة اليمنية الفتورُ, الذي أثار مطامِعَ “صالح”, في العودة لمحاولة الاستحواذ على السلطةِ, وألبسها لباس المشروعية, في ظلِّ ما شهده الربيع العربي وثوراته, من عمليات نكوص, وتآمر حارجيٍّ عليها؛ فقد قرأ “صالحُ” مآلات الربيع العربي, وما أصابه من النماذج العربية له, بما عرف “بالانقلاب على الشرعية في مصر”, ولِمَا بدا من الأسد بسوريَّا من مقاومته ثورتها؛ وما شاعَ من مجابهة القوى الإسلامية, التي أسهمت بفاعلية في ثورات الربيع العربيّ.
- والأمر المهم كذلك: أنَّ لعبةَ التغيير, وسهولة أدواته, التي جاء بها الربيع العربي, واليمني منه, قد فتح البابَ للتغيير, بمجرَّد خروج بضعة عشرات من المعتصمين للشوارع, دون إغلاق باب الانقلاب على الثورة خلفَها؛ فلم يكن ثمة ما يضمن تجييش “صالح” وأعوانه لبضعة عشرات من الآلاف مناصريه في الشوارع؛ وإعلان العصيان على حكومة الحوار الوطني؛ مثل ما حصل في الانقلاب في مصر, تحت عذر خروج آلاف من الناس الرافضين لنتائج الانتخابات, التي جاءت بمرسي رئيساً شرعياً للبلاد؛ فاتَّخذت قوى الانقلاب شرعيتها المصطنعة من “شعار التخويل”؛ بما شكَّل نوعاً من الديمقراطية ابتدعه انقلابيو مصر وقتها؛ فصار الاستبداد والانقلابُ –على ما قد بدا – مناصراً للديمقرطية المباشرة, وقد اندثرت.
المتغيّرُ الخامس: انتماءات المؤسسة العسكرية اليمنية, ودورها في الأزمة:
يمكن تلمُّس أربعة أبعاد, لفاعلية المؤسسة العسكرية اليمنية:
- المسار الوطني الجمهوري: وفيه رُبطت عقيدةُ الجيش القتالية, بين الانتماء الوطني, والإنجاز الجمهوري الثوري؛ لتشكِّل سدَّاً منيعاً دون النكوص إلى حكم الأئمة.
- تأييد القيادة العسكرية, وتكريس وحدة القيادة وشخصنتها: وفيه ظهرت هيمنة علي عبد الله صالح, عبر المؤسسة العسكرية, من خلال تفرُّده بالقيادة العليا له, وبمساندة المقربين منه؛ ولاسيما أعضاء المؤتمر الشعبي العام؛ ممن كان ولاؤه للقيادة أبرز من ولائه لوطنه.
- دور الفرقة الخامسة في حماية المعتصمين, وضعفها في صدِّ الانقلاب على الثورة, وضعفها في صد الحوثيين: فقد كانت الفرقة الأولى بقيادة اللواء علي محسن الأحمر, هي القوة الضامنة لسلامة المعتصمين ضد صالح, وبالتالي الضامن لنجاح استمرار الاعتصام, وضمان نجاحها؛ إلاَّ أنَّ الفرقة الأولى قد عجزت عن حمايةِ الثورة, وفترة ما بعد إقرار تفعيل مبادئ الحوار الوطني؛ وأخفقت في إخماد نار الثورة المضادة؛ مثلما أخفقت في التصدِّي للحوثيين, بسبب ما كان من ضعف مخرجات الحوار الوطني, التي اعادت تشكيل وحدات الجيش, وأعادت انتشاره, ووزعت مهامه, بنقل واجبات الفرق والألوية, بحجج كرَّست إمكانية إقصاء الفرقة الأولى المدرعة, وتحجيم قدراتها عن صدِّ الحوثيين؛ وهو أمر يُحسَبُ مجدَّداً على قصور الرؤية الاستراتيجية للمنسوبين إلى التجمع اليمني للإصلاح, ممن هم عسكريون, وتسليمهم لعمليات تشتيت الجيش وإضغافه, تحت ذريعة تفويت الفرصة على “صالح” لإعادة نفوذه عسكرياً.
- أثر المؤسسة العسكرية في تجميد فاعليتها الوطنية, ونكثها في ولائها للجمهورية, بتسليم هيبتها للحوثيين: وكان يوم سلَّمت مقرات الفرق والألوية سلاحها وآلياتها للحوثيين, وباعت ولاءها للجمهورية وللوطن, لمصلحة صالح, الذي كان يتشدَّق بتكريسه الثورة, وحمايته الجمهورية, وبتحقيقه الوحدةَ؛ فنكص إلى أن تحالفَ ضدَّ ثورته, مع من ثارت عليهم-تلك الثورة- من الإمامية, وورثتهم”الحوثيين”.
المتغيّرُ السادس: دور الحوثيين/إيران في تعقيد المشكلة اليمنية, وتفاقم الصراع وتشعُّبِه:
بغضِّ النظر عن “تفاصيل” نشأة جماعة “أنصار الله الحوثي”, وعن تطوُّرها, فأهم ما يمكن تسجيلُهُ بشأنها, في ظلِّ الصراع اليمنيّ, ما يأتي:
- لمْ تبتعد الحوثيَّةُ عن فصائلَ شيعيَّة, ترتبطُ بولائها العقديِّ, بولايةِ الفقيه, وبإقرار حاكميَّته؛ فمثلما كان حزبُ الله قد نشأ, على أعقاب دعوةٍ شيعيَّةٍ, تبنَّاها فضل الله, فقد نشأت الحوثيةُ على دعوة بدر الدين الحوثيّ, وقد عقدتْ ولاءَهَا للفقيه في إيران, وقد تلقَّى في “قمَّ” تعليمه الشرعيَّ, وحصلَ على إجازته منها, بكون الوليِّ الفقيه مجدِّداً للدعوة الشيعيَّة, وباعثاً لنهضتها.
- إنَّ نشأةَ الحوثيين, ترتبطُ بما كان من تطلُّع بعضِ الفرق الزيدية المتشدِّدة, لإعادَةِ الإماميَّةِ, وهو ما تفتقرُ إليه فصائل شيعيَّة مسلَّحة, كحزب الله, أو فصائل الحشد الشيعيّ في العراق؛ بمعنى أنَّ الحوثيَّةَ, لم تكن وليدةَ المدِّ الشيعيّ, بتأثير تصدير الثورة الإيرانية, بقدر ما كانت حركةً مذهبيَّةً زيديَّةً, تنامى فيها التفافها على مذهبها, فولَّدت جماعةً طائفيةً؛ غايتها إعادة ما كان من سلطان الزيدية, عهد الأئمةِ-السابق للثورة الإسلامية الإيرانيةِ-الذي أنهاه العهد الجمهوريّ في اليمن.
- إنَّ الحوثيَّةَ خاضَتْ ستَّ حروبٍ, ضدَّ الحكومةِ اليمينيَّةِ, بدءاً من العام 1994م, والتي أسهمتْ في حينِه في إحداث انقسامٍ, بين الجنوب والشمال, حولَ آليّات معالجة الأزمة ضدَّهم؛ خلَّفت آثاراً اجتماعيَّةً واضحةً, بنتْ حواجز نفسيَّةً أمام إعادة الاندماج بالمجتمع اليمني تحت حكومة الوحدة.
- ما تقدَّمَ دفع الحوثيين, إلى الإعداد للمواجهات, وقد تكرَّرتْ, فاندفعت نحو البحث عن دعمٍ خارجيٍّ, وقد حقَّقتهُ إيران, وهو أمرٌ عقَّدَ المشكلةَ اليمنيَّةَ من جهة, وأعطى لإيرانَ فرصةَ القصاص من موقف اليمن, إلى جانب العراق في حربه ضدَّ إيران في ثمانينيات القرن الماضي, بلوائين زيادةً على دعم العراق في تلك الحرب.
- وكان لتنامي الأطماع الإيرانية, في السيطرة على المنطقة, ونشر تشيُّعها, الداعم لتصدير ثورتها, وبالتالي ما توفِّره هذه العوامل, من دعم تطلُّعاتها “الاستراتيجية” في المنطقة, التي تجعل اليمنَ ورقة “مقايضة”, ومصدر مساومة لإيران, في مقابل ما يجري في الشام والعراق؛ أمام القوى العالمية, والممانعين لانتشار نفوذها من دول المنطقة, كالسعودية.
- تمكَّنَ الحوثيُّون من الحدِّ من المدِّ السلفيِّ, في مناطق نفوذهم, ما أجَّجَ الصراعَ الطائفيّ؛ وأثَّر في تجميع بعض فرق الزيديَّة المتشددة حولَهم, وميلاً من الفرق غير المتشدِّدة؛ ما أعطى لصراعاتهم سمةَ الدفاع عن المذهب, وبرَّر لها التحوُّلَ الطائفيَّ وصراعَها المسلَّح.
المتغيِّرُ السابع: العمليات العسكرية للتحالف العربي:
ويمكن تسجيل أهم النقاط, التي كانَ من شأنها تعقيدُ المشهدِ اليمنيِّ.
- تأخير حلِّ مشكلات اليمن, في إطار مبادرة الخليج, التي على أساسها تمَّ خلع الرئيس صالح؛ وقد ظنَّ الخليجيّون-في إطار تواضُعِ خبراتِهم في التعامل مع مشكلاتٍ خارجَ حدودهم بشكلٍ مباشرٍ- أنَّ المشكلةَ اليمنيَّةَ, كانت نهايتها بخلع الرئيس صالح, دون النظر إلى المشهدِ بصورةٍ كليَّةٍ, وبإهمال الأطراف, التي يمكن أن تنبعثَ قواها من جديد, ولا سيما التي كانت قد اشتبكت على حدود السعودية بقوَّاتها, أعني الحوثيين, وما يمكن أن يكونَ منهم, ومن تحالفاتهم إزاء ما أجراه الخليج وخطَّطَ له.
- أنَّهُ جاءَ تعويضاً عن قصور متابعةِ الجهود التي بذلتْ في إطار رعاية الخليجيين لقاءات الفرقاء اليمنيين وعقد حوارهم, وما أنتج عنها من “مخرجات الحوار الوطنيّ”؛ وما لم يكن التحسُّبُ له, من تنامي الدور المقابل لدور الخليجيين, وأعني به الدور الإيرانيّ, ولا سيما في سعيه لضبط توازنات القوى, في الساحة اليمنية, والسورية؛ بما يُسجَّلُ على فاعليَّةِ التحالف العربي, وبُناتِهِ من الخلل بين: ما يرصدُ له من تمويل ضخمٍ, إزاء تواضُعِ ما يخصَّصُ له من دراسات استراتيجية, تدير دفَّة الأمور فيها.
- الإحجام عن الدخول إلى الأراضي اليمينة, من القوات السعودية, وقوات التحالف البريَّةِ, وقتَ إضعافِ الانقلابيين, خشيةَ الوقوع في مستنقع اليمن, وقد عرفه التأريخُ مثلما عرفته الجغرافيا, منذ عهد الإسكندر المقدونيّ, والمحاولات الفاشلة لمن أعقبه في احتلال اليمن؛ ذلك الإحجام الذي فوَّتَ فرصةَ الانقضاض على الانقلابيين, وإعادة الحكومة الشرعية, برعاية التحالف ودعمه؛ وهو أمرٌ حالَ دونَ تحقيق غايات التحالف العربي, بإبعاد شبح الخطر الحوثي, باتِّباع الهجوم بدلَ الدفاع, والإخفاق في تحقيقه.
- الإحجام عن إعادة بناء البنية التحتية للمناطق المحرَّرة في اليمن, وجعلها أنموذجَاً يشحذُ هممَ اليمنيين في الداخل, لمقاومة التغلغل الحوثي في اليمن؛ ما أبعدَ ايَّ سمةٍ حضاريَّةٍ للدور الخليجيّ في اليمن, لينحصر دورها في المجال الاستراتيجيّ, والعمليات العسكرية؛ التي كانَ أبرزُ أهدافها حماية الحدود السعودية, ومنع قصف المدن الحدودية, من قِبَل القوات الحوثية.