العقل اليهوديملفـات

آليات المشروع الصهيوني والعقل الاستيطاني

 

منذ انطلاق طلائع الغزو والاحتلال والإبادة الأوروبية  (الاكتشافات الجغرافية)  والصعود الأوروبي الإمبريالي في العالم، شهدت البشرية ظاهرة كيانات الاستيطان العسكري الكولونيالي الاقتلاعي الإحلالي. وكان ذلك أحد المعالم الرئيسة للصعود الأوروبي القائم على رؤية معرفية إمبريالية تنزع القداسة عن الإنسان والطبيعة؛ وترى العالم بعين اختزالية تلغي الخصوصيات والثقافات والتنوعات الاجتماعية والحضارية؛ وتبلغ ذروتها في مفاهيم وممارسات الترشيد العلماني المتوحش في علاقته بالإنسان والطبيعة.

لم يكن  العالم مجهولا ليأتي الرجل الأبيض، ابتداء من القرن السادس عشر، لـ”استكشافه” واحتلاله ونهبه واستيطانه وإبادة مجتمعاته، بل أثبتت الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية أن التواصل بين شعوب العالم ومجتمعاته كان قائما منذ آلاف السنين بدون مزاعم احتلال وممارسات الإبادة والنفي وقامت العلاقات بين الشعوب غالبا على الموادعة والمنافع المتبادلة والتثاقف والتجارة.

لكن الصعود الأوروبي اتخذ من دعاوى “الاكتشافات الجغرافية” والحرب العادلة مزاعم لدعم شرعية الغزو والاحتلال تكئة ومبررا لاحتلال قارات العالم والسيطرة عليها وإبادة سكانها ونزح ثرواتها إلى مراكز المتروبوليتان الأوروبي وإقامة الكيانات الاستيطانية الأوروبية فيما وراء البحار، وتقاسمت الدول الإمبريالية القارات والأقاليم والأصقاع لتجنب الصراع فيما بينها. في هذه المرحلة الإمبريالية الميركانتيلية، تكونت لدى الأوروبيين ثروات هائلة نتجت عنها الرأسمالية بمنظوماتها وسماتها وأزماتها المزمنة؛ وبناء على ذلك قامت المنظومات السياسية والتشريعية والدستورية التي تكفلت باستدامة المشروع الإمبريالي الرأسمالي وهي منظومات لا تبتعد في جوهرها كثيرا عن الفاشية.

قامت مشروعات استيطانية كبرى كثيرة في القرون الماضية، كان أبرزها في الأميركتين وأستراليا وأفريقيا (الجزائر، جنوب أفريقيا، روديسيا) وجيوب استيطانية أخرى في الصين والهند تمت تصفيتها لاحقا. ارتبط نجاح المشروعات الاستيطانية بالقضاء على مجتمعات السكان الأصليين بالإبادة والحصار والمسخ الثقافي كما وقع في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا ودول أميركا اللاتينية. أما المشروعات التي لم تتمكن من القضاء على السكان الأصليين كما في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا، فقد تفككت وتم تصفيتها بعد نضال طويل وتضحيات هائلة بلغت ملايين الشهداء قدمتها الشعوب الأصلية وحركات التحرر الوطني بها.

فشل المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي بفلسطين في القضاء على شعب فلسطين وامتداداته العربية والإسلامية، وهو المشروع الاستيطاني الوحيد القائم لكنه يتجه تاريخيا نحو مآلاته الحتمية من اضمحلال وتراجع وانحطاط استراتيجي في سياق الهيمنة الغربية؛ وتعرض كثير من مرتكزاته للاهتزاز أو التآكل.

تسلط هذه المقاربة الضوء على العقل الاستيطاني كحالة مشتركة في جميع المشروعات الاستيطانية خاصة في تصورها عن أصحاب الأرض الأصليين وتعاملها معهم وأثره في مرتكزات ومسارات ومآلات هذه المشروعات. وقد تصدى لدراسة هذه المشروعات الاستيطانية عدد وافر من المفكرين والمؤرخين والباحثين، فكشفوا الكثير من أساطيرها وديباجاتها وسماتها وسياقاتها وأنماط تفكيرها. نذكر منهم عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد ولورينزو فيراتشيني وإيلان بابيه وشلومو ساند وكوثر قُديري وديفيد فيلدهاوس وأنتوني سميث وباروخ كيمبرلنغ وألبرت ميمي وبيني موريس وأنيتا شابيرا وغيرهم.

هناك عدد من الآليات والسمات المشتركة بين مختلف المشروعات الاستيطانية الأوروبية حول العالم، ما بقي منها وما تفكك.

 

  1. مشروعات إمبريالية

هذه المشروعات تنشئ أوضاعا إمبريالية كولونيالية ونظاما (استعماريا) استيطانيا قائم على علاقات مؤسسية وشخصية. يمكن تعريف الأوضاع الكولونيالية بالجمع بين عنصرين: إقامة المستوطنات وإنزال المستوطنين بها؛ ونزوع دول لاستعمار بلاد أخرى والسيطرة عليها.

وتتم إقامة المستعمرات كإعادة إنتاج ناجحة للمجتمع الأوروبي في سياق كولونيالي استيطاني، وباعتبار ذلك فرضاً ناجحاً للسيطرة السياسية والاقتصادية على إقليم مُستعمَر.

ويمكن تعريف المجتمع الاستيطاني انطلاقا من وصف الدولة الاستيطانية الذي يركز على اقتلاع السكان الأصليين بعد تضمين أو صهر متعدد الثقافات. لكن الخبرة التاريخية لتطور المشروع الصهيوني في فلسطين تتطابق مع كلا التعريفين.

 

  1. استيطان واقتلاع وتوسع متواصل

ترى كتابات إسرائيلية مبكرة الصهيونية كصورة من التوسع الأوروبي عبر البحار في إقليم من “التخوم”. أما الدراسات المتأخرة فقد لاحظت أن المرحلة الراهنة من المشروع الصهيوني تشهد طاقة استيطانية بالغة في الضفة الغربية وهي مؤشر رئيس على الحراك السياسي والتوجهات الأيديولوجية الصاعدة، خاصة تلك التي ترى حاليا الفرصة سانحة للحسم ضد شعب فلسطين في الضفة الغربية بالاستيلاء على أرضه وتهجيره إلى الأردن، بل وتصفية سلطة رام الله رغم أدائها دورا هاما في تأمين الاحتلال.

 

  1. الفصل العنصري

تشترك الكيانات والمشروعات الاستيطانية في تنظيم المجتمعات الاستيطانية على أساس الفصل العنصري؛ والمجتمع الإسرائيلي قد تم تنظيمه بشكل متواز مع الخطوط العامة لنظام الفصل العنصري (أبارتهايد) كما في جنوب أفريقيا، وأن نظام الفصل العنصري لم يكن فريداً من نوعه أو مقتصراً على الكيان الاستيطاني في جنوب أفريقيا، بل هو مظهر مشترك لكافة تجارب الاستيطان الاستعماري.

وتوالت التطورات في العقدين الأخيرين، بما فيها بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، والمنظومة القانونية (حكم عسكري للفلسطينيين بالضفة الغربية يتوازى مع حكم القانون الإسرائيلي للمستوطنين بها)، وشبكات طرق التفافية حول المدن والبلدات الفلسطينية لتأمين حركة المستوطنين، و”قانون أساس” القومية اليهودية لتؤكد سياسة وممارسة نظام الفصل العنصري قدماً. وهذا ما أكدته تقارير المنظمات المعنية بحقوق الإنسان: بتسيلم (الإسرائيلية)، وأمنيستي إنترناشيونال (البريطانية)، وهيومان رايتس ووتش (الأميركية).

معظم الأفكار أو التصورات التي يقترحها الاستيطان الصهيوني فيما يتعلق بمستقبل الفلسطينيين -من حكم ذاتي أو شبه دولة منزوعة السيادة تفتقد التماسك الجغرافي والقدرة على الحياة أو جدار الفصل العنصري- ترمي إلى عزل التجمعات السكانية الفلسطينية في إطار ما كان ولا يزال يعرف في الولايات المتحدة بـ”معازل الهنود الحمر” وفي جنوب أفريقيا بـ “البانتوستان”، وهي جزر منعزلة من السكان الأصليين أشبه بمعسكرات الاعتقال، تكرس فكرة الفصل العنصري.

 

  1. نزع الإنسانية عن السكان الأصليين

في نص لافت للكاتب الإسرائيلي ألبرت ميمي مؤلف كتاب “المُستعمِر والمُستعمَر”، الصادر في 1957، حول كيفية طمس المسْتعمِرين لإنسانية المستعمَرين، يقول ميمي: “إنسانية المُستعمَر، التي يرفضها المُستعمِر، تصبح مطموسة. فمن العبث، كما يُصر المُستعمِر، أن تحاول التنبؤ بأفعال المُستعمَرين (‘إذ لا يمكن التنبؤ بشيء عنهم!’ ومعهم لا يمكن التأكد من شيء أو معرفة شيء!). ويخيل لدى المُستعمِر أن هناك نوازع غريبة ودوافع مقلقة تسيطر على المُستعمَر. ولا بد أن الأخير هو بالفعل غريب أو شاذ جداً، خاصة إذا ما استمر غامضاً جداً بعد سنوات من العيش مع المُسْتعمِر.” فالمستعمِر غالباً ما يرفض تقدير أو الاعتراف بإنسانية الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية؛ وبالتالي يعتبر المستعمِرون هذه الشعوب حالة شاذة، ولا يمكن التنبؤ بسلوكها. ويبقى العنف والعنف البالغ والإبادة هو اللغة التي قد تفهمها!

وقد اضطردت شواهد ذلك على مدى 75 عاما من عمر الكيان الصهيوني، خاصة بعد السابع من أكتوبر الماضي. ونذكر كأمثلة تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش حول “اختراع الدول العربية للشعب الفلسطيني”؛ وتخييره الفلسطيني في الضفة الغربية “بين التهجير أو القتل أو الاستعباد”؛ وتصريحات وزير التراث عميحاي إلياهو حول محو غزة من الوجود بالسلاح النووي وتصريحه أن على إسرائيل “إيجاد طرق مؤلمة أكثر من الموت” بالنسبة للفلسطينيين لحسم المعركة وهزيمتهم وكسر معنوياتهم، كما فعلت الولايات المتحدة مع اليابان.

وقد أوردت محكمة العدل الدولية عددا من تصريحات قادة إسرائيل الحاليين في حيثياتها حكمها الأولي الصادر في 26 يناير 2024:

(تصريح رئيس الدولة الاسرائيلية بأن «كل الشعب الفلسطيني مسؤول. ليس صحيحا ان المدنيين لم يكونوا على علم بما حدث. نحن في حالة حرب، وسنحارب حتى نكسر عظامهم»)؛ وتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي القائل :«لن يكون هناك كهرباء أو طعام أو وقود. لقد أمرت بتجاوز كل المحظورات. نحن نحارب حيوانات بشرية. لن تعود غزة لما كانت عليه. سنقضي على كل شيء»، وتصريح وزير الطاقة حينذاك والخارجية الآن بالقول : «على كل المدنيين في غزة المغادرة. لن يحصلوا على قطرة ماء او بطارية واحدة حتى يغادروا العالم.. »)

شواهد عديدة من هذه التصريحات المحرّضة على الإبادة وما ترتب عليها من ممارسات واستهدافات أدت إلى كارثة إنسانية هائلة ودمار في غزة غير مسبوق في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

 

  1. العنف المؤسَس والمستدام والإبادة

يلاحظ عبد الوهاب المسيري (ر) أن من المؤشرات على دخول المشروعات الاستيطانية في طور النهاية والتفكك هو ارتكابها قدرا هائلا من العنف والتدمير وإلحاق الأذى بالسكان الأصليين على نطاق واسع؛ وقد وصل ذلك بالفعل حد الإبادة الجماعية والتدمير اجتماعيا واقتصاديا وصحيا ومؤسساتيا. ويترافق هذا السلوك الاستيطاني مع حالة من الارتباك الشديد والسعي خلف أهداف متعارضة بل متناقضة تفاقم أزمة الكيان الاستيطاني وتشققاته الداخلية وسقوط الشرعية عنه وتصاعد الدعوات عالميا إلى “مقاطعته وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه”.

يقدر خبراء إن كمية القنابل والمتفجرات التي ألقيت على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي تعادل قوتها التدميرية عدة قنابل ذرية كالتي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي. وهذا يحيلنا إلى عقيدة القوة والعنف والردع الاستيطانية: “ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة!” يقول رونين بيرغمان في كتابه «انهض واقتل أولا: التاريخ السري لإسرائيل» إن مبدأ القتل الجماعي والإبادة لا ينفصل عن العقيدة الراسخة في عقل الدولة الإسرائيلية منذ قيامها وحتى الآن.

وقد جمعت مسؤولة إسرائيلية بين العنف والإنكار والإبادة في تصريح ترفض فيه قيام دولة فلسطينية، قائلة: “وهل لابد أن يوجد الفلسطينيون أصلاً؟!” ولذلك تبذل كيانات الاستيطان جهدا هائلا لتحقيق احتكار العنف ومراكمة أدواته واستدامته وحرمان حركات المقاومة والتحرر الوطني من التنظيم والتدريب والتسلح بالقمع المستمر والاجتياحات والاغتيالات والعقوبات الجماعية، كما يفعل الكيان الصهيوني في مدن وبلدات ومخيمات اللاجئين بالضفة الغربية. تقول وثائق بيرغمان إن مخابرات إسرائيل نفّذت عمليات اغتيال ضد عرب صنفتهم أعداءً لها، وبلغ عدد العمليات التي نفذتها منذ إنشائها وخلال 70 عاماً، 2700 عملية على الأقل. ويوضح أنه لم ينشر في كتابه كل ما يعرفه عن إسرائيل بهذا المجال.

في هذا السياق، يبرز عدد من الملامح المشتركة بين مشروعات الاستيطان الأوروبي في المعطيات السياسية المؤثرة على التاريخ وفي الخطاب العام؛ ويظهر موضوعان مركزيان لدى كل محاولة تأريخ وتطورها:

– الاعتراف النهائي الكامل بسلب واقتلاع السكان الأصليين؛

– الشرعية المجروحة لمؤسسات دولة الاستيطان حتى يتم الوصول لتسوية مع المسلوبين المقتلعين.

وتتسم هاتان المسألتان بصعوبة واضحة من حيث القدرة على مواجهة تاريخ حافل بالعنف البالغ والإنكار، وإخفاق تام في عمليات المصالحة.

في سياق نزوع الأيديولوجية الاستيطانية نحو إنكار التاريخ الدموي الحقيقي للاستيطان وعدم الاعتراف بكوارث تصل حد الإبادة، والتي أوقعها المشروع الاستيطاني بالشعوب الأصلية، والإصرار على الاحتفاظ بالرواية الاستيطانية التقليدية، يقارن لورينزو فيراتشيني بين إسرائيل وأستراليا. فكلا الدولتين قد شهدتا رفضاً عاماً ملحوظاً إزاء القبول بنتائج دراسات المؤرخين الجدد (التصحيحيين) في إسرائيل وأستراليا، خاصة إذا تعلقت بتقييم العنف المؤسس للمشروع الاستيطاني. ويلاحظ أنه نادراً ما يتغير أي جزء من الرواية الرسمية لتاريخ الكيان الاستيطاني بدون معركة.

يلاحظ أن مستوى العنف الذي مارسه الإسرائيليون ضد الفلسطينيين مؤشر على اتساع خطة الاستيطان الصهيوني باتجاه طرد العرب من بلادهم، بل وتعتبر مجزرة دير ياسين -وعشرات غيرها- دليلا على وجود مخطط كبير للمشروع الاستيطاني باتجاه اقتلاع العرب من فلسطين. وقد خصص المؤرخ الإسرائيل المُنشق، إيلان بابيه، أعمالا عديدة حول الطرد والاقتلاع والإبادة الصهيونية ضد شعب فلسطين من خلال وثائق الدولة الصهيونية، منها كتابه الأشهر “التطهير العرقي لفلسطين”.

ويرى باحثون في مصير مشروع الاستيطان الفرنسي الذي تفكك وانهار في النهاية، واضطرار المستوطنين الفرنسيين إلى الخروج من الجزائر والعودة إلى فرنسا، نذيرا ومصيرا محتملا لمستقبل مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

 

  1. عداء وإنكار التاريخ

الحقيقة أن نفي السكان الأصليين وإنكار التاريخ مستقر في العقل الإمبريالي، وخاصة البريطاني، منذ زمن طويل. فقد كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون تشرشل، أكثر تطرفا عندما كان في الثلاثينيات وزيرا للمستعمرات يرعى المشروع الصهيوني في فلسطين، ويحوّله من مشروع “وطن قومي يهودي” إلى “دولة يهودية”، منكرا وجود وحقوق شعب فلسطين التي ساقها ضباط بالجيش البريطاني في فلسطين، قائلا: “إن وجود الكلب في البيت لا يعطيه حقا في البيت”.

بل إن وثائق الانتداب البريطاني لفلسطين لا تشير إلى شعب فلسطين إلا بتعبير “المحمديين”؛ وبالتالي لا علاقة لهم بالأرض! واستمر الإنكار بعد قيام الكيان الصهيوني عقودا عديدة حتى زمن رئيسة وزراء الكيان الصهيوني، غولدا مائير، صاحبة الصورة الشهيرة بالمنظار المقرّب مصحوبة بعبارة: أين هم الفلسطينيون؟! ولها مقولة مشهورة عن اللاجئين الفلسطينيين: الكبار يموتون والصغار ينسون!

وقد تطور هذا الإنكار بعد اتفاق أوسلو بثلاثة عقود إلى دعوة للتهجير والإبادة على النحو الذي تشير إليه تصريحات سموتريتش وزعمه أن الشعب الفلسطيني “اختراع من الدول العربية”، وتخييره الفلسطيني في الضفة الغربية بين التهجير أو القتل أو الاستعباد لليهود؛ وتصريحات عميحاي إلياهو حول محو غزة من الوجود بالسلاح النووي. لكن التطور الأبرز في هذا السياق كان إقرار قانون القومية اليهودية كقانون أساس (دستوري) ينفي حق تقرير المصير على أرض فلسطين لغير اليهود ويلغي الصفة الرسمية عن اللغة العربية ويكرّس يهودية الدولة.

في العقود الأخيرة لوحظ خطاب اعتذاري غربي يرفض المقارنة بين الاستيطان الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي تم تفكيكه بمنتصف تسعينيات القرن الماضي. يزعم هذا الخطاب الاعتذاري أنه على عكس جنوب أفريقيا، يتمتع العرب في إسرائيل بحقوق سياسية كاملة، كما أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يبدو أقل قابلية للحل (بهدف استبعاد الحل الجنوب أفريقي)؛ وأن الأرض أكثر وفرة في جنوب أقريقيا، وليس بها أرض مقدسة. وكان البيض في جنوب أفريقيا يخشون مصادرة ممتلكاتهم، أما الإسرائيليون فيخشون الإبادة (لأنهم مارسوها بتفوق)، وليس في الأرض المقدسة زعيم “متسامح” مثل مانديلا. باختصار يزعم هذا الخطاب أن: إسرائيل ليست جنوب أفريقيا ولا مجال لتفكيك الأولى كما فككت الثانية!

الحقيقة أن الفلسطينيين في إسرائيل لا يتمتعون بحقوق سياسية كاملة، وقد كان بعض السود في جنوب أفريقيا يتمتعون ببعض الامتيازات خلال عهد الفصل العنصري. كذلك، كان البيض بجنوب أفريقيا يخشون الإبادة بمقدار ما يخشى يهود إسرائيل المصادرة. بيد أن الهدف الحقيقي من المقارنة الموضوعية بين إسرائيل وجنوب أفريقيا هو إبراز التطورات المتناظرة في سياق ظروف واضحة الاختلاف. وقد تجاهل هذا الخطاب الاعتذاري أن الأرض المقدسة لا تفتقر إلى مانديلا فحسب، بل تفتقر أيضا إلى فردريك دي كليرك، آخر رئيس لجنوب أفريقيا من الأقلية البيضاء وهو من قام بتفكيك نظام الفصل العنصري.

 

  1. أساطير وديباجات الاستيطان

مهدت الصهيونية لإقامة الكيان الصهيوني (بعنوان وطن قومي يهودي) وشرعنة وجوده واستدامته بعدد من الأساطير والديباجات بعضها يتقاطع مع ديباجات الإمبريالية ومبرراتها. تبدأ هذه الديباجات بعبء الرجل الأبيض ودوره في تمدن العالم وتحديثه واستعماره ونقله إلى حضارة أوروبا وأنوارها. وقد شاعت طويلا في الغرب ولا زالت فكرة أن إسرائيل هي “أوروبا ما وراء البحار”.

ثم تأتي فرية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” وما تنطوي عليه من إنكار لوجود أهل البلاد الأصليين ونية إبادتهم؛ والمفارقة أن ديفيد بن غوريون كان يقول مثلا نعم إن “الإله يهوه” اختار أن يكون إلها لبني إسرائيل أو اليهود لكننا نحن أيضا اخترناه.. أي في المحصلة كان يهوه إلهًا بلا شعب لشعب بلا إله! المفارقة الأخرى أن بن غوريون ذاته كان يعتقد أن الفلاحين الفلسطينيين هم أحفاد أو ذرية اليهود الذين استوطنوا فلسطين قبل أكثر من ألفي عام، كما ذكر كيث وايتلام في كتابه الشهير “اختلاق إسرائيل القديمة: إخراس التاريخ الفلسطيني”. لكن لم يتردد بن غوريون والنخبة الصهيونية لحظة في تعهد مشروع الاستيطان والاقتلاع والإحلال والإبادة عبر العنف وعشرات المجازر التي غطت أرجاء فلسطين، مما يؤكد الطبيعة الكولونيالية الأوروبية للمشروع الاستيطاني!

وتمضي الديباجات إلى فكرة “الاصطفاء” وأن اليهود هم شعب الله المختار مما يعطيهم حصانة وتفوقا ومبررا لمشروعهم في الاستيطان والاقتلاع والإحلال والإبادة. وهناك أيضا أن فلسطين هي الأرض المقدسة أو أرض الميعاد التي وعد الرب بإعطائها لنسل إبراهيم (ع)، لكنها تمتد في سياق المشروع الصهيوني كذلك لتشمل كل الإقليم من الفرات شرقا إلى النيل غربا.

ووفق سيناريوهات نبوءات الكتاب المقدس عند الأصولية المسيحية الأنكلوسكسونية، المنشغلة بدخول اليهود في المسيحية، فإن قيام إسرائيل وعودة اليهود إلى “الأرض المقدسة” يقرّب أو يبشر بالمجيء الثاني ليسوع المسيح وأحداث نهاية العالم و”معركة أرمغدون” الحاسمة بين قوى الخير والشر، يعقبها ألف عام من الحياة السعيدة (العقيدة الألفية)، ودخول اليهود في المسيحية وقبولهم يسوع مسيحًا ومخلصًا؛ وهذا جوهر الصهيونية المسيحية في العالم الأنكلوسكسوني.

والحقيقة أن الصهيونية ليست جزءا من العقيدة اليهودية، بل هي التجلي الإمبريالي للعلمانية الشاملة. فالصهيونية تنزع القداسة عن كل شيء، وتلغي أي تاريخ لفلسطين وشعبها خارج سياق التاريخ اليهودي، كما تختزل خصوصيات وثقافات الجماعات اليهودية في العالم لاختلاق قومية يهودية. والحقيقة الأخرى أنه ليس هناك أمة أو قومية يهودية، بل هناك جماعات يهودية متعددة تنتمي بشكل أصيل وحقيقي إلى مجتمعاتها التي عاشت فيها مئات أو آلاف السنين. وافتراض الانفصال أو التمايز بينها وبين مجتمعاتها، انتظارا للهجرة أو العودة إلى أرض الميعاد، أسطورة كبرى يدحضها مخزون تاريخي وثقافي يؤكد انتماء هذه الجماعات لمجتمعاتها وأوطانها وثقافاتها. بل كان التمايز قائماً فعلاً بين المستوطنين اليهود القادمين من بلاد مختلفة.

قد يظن البعض أن الديباجات والأساطير المؤسِسة للمشروع الصهيوني تخص المشروع الصهيوني في فلسطين دون غيره من مشروعات وكيانات الاستيطان الأوروبي نظرا لتوظيف اليهودية والتوراة والتلمود في فكرة الاستيطان الصهيوني. لكن الحقيقة أن تلك المشروعات الاستيطانية قد سبقت الصهاينة في استعارة ديباجات الاستيطان من نصوص التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها ومُثُلِها وجغرافيتها.

فالمهاجرون البيض البروتستانت الذين استمدوا رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية والأخلاقية من نصوص التوراة، بيوريتانيون وحجاج ومعمدانيون وإيفانجيليون وغيرهم، وكانوا غير مرغوب بهم في مواطنهم الأوروبية، قد تماهوا تماما مع الروح العبرية لقصص وأحداث التوراة، واعتبروا أنهم قد خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية) إلى أرض الميعاد. فامتلأ خطابهم بتعبيرات أرض الميعاد وميثاق الرب وشعب الله المختار والاستكشاف وارتياد التخوم والغزو وإبادة السكان الأصليين. وصاحب ذلك اعتقاد بفرادة تاريخية لتجربة الاستيطان وأنها جزء من أجندة الرب وأن أميركا بتعبير الكتاب المقدس “مدينة على جبل” وفنار أو “منارة الأمم”! وفي جنوب أفريقيا مثلا، تم صياغة جزء كبير من القومية الأفريكانية (قومية الأقلية البيضاء الهولندية البريطانية) حول فكرة العهد أو الميثاق الخاص بين الرب وبين جماعات الاستيطان المبكر.

في سياق الديباجات المؤسسة، شهدت سنوات الحرب العالمية الثانية وقُبيلها المحرقة النازية (الهولوكوست) ومعسكرات الاعتقال وأفران الغاز، وقد شملت يهودًا وغجرًا ومعارضين للنازية، وعمليات إبادة وتطهير عرقي مارستها ألمانيا النازية في أوروبا. التقط الحلفاء، أميركا وبريطانيا بخاصة، الحدث ضمن حربهم الدعائية ضد ألمانيا (مع تجاهل محرقة حليفهم جوزيف ستالين ضد اليهود السوفيات في سخالين، بأقصى شرق الاتحاد السوفياتي)، بزعم الدفاع عن وجود وحقوق يهود أوروبا، فتمّ تكريس المشروع الصهيوني (وطن قومي يهودي) على أرض فلسطين حلاً لمنع تكرار المحرقة التي احتكر الصهاينة مظلوميتها وتعويضاتها واستغلالها ودور الضحية فيها تبريرا لاحتلال واقتلاع وإبادة شعب فلسطين، وتحت شعار Never Again “لن يحدث مطلقا مرة أخرى”.

 

  1. الدور الوظيفي للكيان الاستيطاني

من أهم وظائف المشروع الاستيطاني الصهيوني الإمبريالي الإحلالي في قلب العالم العربي والإسلامي استدامة التجزئة الناجمة عن تقسيم وتفتيت المنطقة وفق اتفاقية سايكس-بيكو البريطانية الفرنسية، وإجهاض محاولات الوحدة والنهوض، وعرقلة التنمية الاجتماعية الاقتصادية، واستدامة وضع المنطفة وشعوبها في حالة خضوع وتبعية وإفقار، وحرمانها من الاستقلال والوحدة والاستقرار اللازم لتحقيق العدل الاجتماعي وتمكين الأمة وتحقيق ولايتها على نفسها، وإبقاء شعوبها محرومة من الحريات والشورى وحق الاختيار وتقرير المصير، وتأبيد الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري والرأسمالية الطفيلية وسيطرة النخب الأمنية والعسكرية والدولة البوليسية علي الدولة والسياسة والاقتصاد والإعلام والمؤسسات والتشريع والقضاء. وقد وصف المفكر العربي الراحل جمال حمدان (ر) دور الجيوش في الدولة الوطنية العربية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الكيان الصهيوني بأنه السيطرة والقمع في الداخل والتفاوض والتواطؤ مع الخارج!

استراتيجيا، يمثل المشروع الصهيوني الحل الإمبريالي الأنكلوسكسوني النهائي للسيطرة على المشرق وفصل آسيا العربية عن مصر وشمال أفريقيا، ومنع تكرار تجربة محمد علي باشا في بسط سيطرة مصر على المشرق العربي، وذلك بحصرها بين خط عرض 22 الفاصل بين مصر والسودان وخط طابا-رفح الفاصل حاليا بين مصر والكيان الصهيوني، ومنع أي محاولة مصرية لقيادة المنطقة العربية، كما تَكرّس فعليًا منذ اتفاقية كامب ديفيد (1978) ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979). ومن ثمّ إبقاء مصر في حالة تبعية، مهددة مائيا ومختنقة اقتصاديا ومنكفئة جيوسياسيا لصالح تمدد إسرائيل وتوابعها، وتصعيد قيادات تؤبّد هذا الوضع المأساوي وتحول دون عودة مصر لتموضعها الجيوسياسي التاريخي ومجالها الحيوي من الحجاز شرقا وتخوم الأناضول شمالا إلى منابع النيل جنوبا.

 

هناك بعد آخر في هذه الديباجات والمبررات قليلا ما أشير إليه في الماضي، لكنه احتل بقوة دائرة الاهتمام الصهيوني والغربي مؤخرا، خاصة بعد عملية “طوفان الأقصى”. فقد تواترت في أميركا والغرب مقولة “إن إسرائيل لو لم تكن موجودة لتحتم إيجادها”، وأن عدم وجودها يقتضي نشر عشرات السفن الحربية وحاملات الطائرات في المنطقة العربية؛ مما يشير إلى دور إسرائيل المركزي في استدامة المشروع الإمبريالي والهيمنة الغربية ضمن مثلث مترابط بنيويًا وتؤدي كل مرحلة منه إلى الأخرى:

  • الخطر (قوة إسرائيلية متفوقة تتجاوز قوة دول المنطقة مجتمعة كما تعلن وتهدف أميركا دائما في سياق تبرير المساعدات العسكرية الباهظة وغير المبررة لإسرائيل)؛
  • التهديد (قيام هذه القوة المتفوقة بتهديد دول المنطقة عدوانًا وتوسعًا واحتلالا وتقويضا)؛
  • الابتزاز (لجوء دول المنطقة المهددة من الكيان الصهيوني إلى قوى الهيمنة الإمبريالية، بريطانيا سابقًا والولايات المتحدة حاليًا، لحمايتها من تهديد إسرائيل بما يرسّخ ويعظّم السيطرة الإمبريالية).

في ضوء ذلك، تحتل المؤسسات العسكرية والأمنية ومصانع وترسانات السلاح وأدوات الردع والعنف والإبادة أولوية عليا في الكيان الصهيوني وغيره من الكيانات الاستيطانية. ويستحوذ الجنرالات العسكريون والقادة الأمنيون السابقون والخبراء الجيوسياسيون قدرا هائلا من السيطرة والنفوذ في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويحتلون مواقع واسعة في مختلف مستويات ودوائر الحكم في دولة الاستيطان الصهيونية.

ويؤكد ذلك ما يشيع في دوائر الإعلام والفكر الصهيوني القول بأن الكيان الصهيوني يختلف عن كل الدول الطبيعية التي تمتلك جيوشا أما “إسرائيل فهي جيش يمتلك دولة”! يعني باختصار هي تشكيل متعدد المستويات والاختصاصات لعصابات السطو المسلح، وهكذا بدأت.

وهذا يفسر الصدمة العميقة التي أصابت الكيان الصهيوني ومؤسساته ونخبه ومجتمعه (ثم جنون رد فعله الكارثي) إزاء الإخفاقات العسكرية والأمنية والسياسية التي أسفرت عنها عملية “طوفان الأقصى” التي اجتاحت قواعد الجيش والاستخبارات الصهيونية، ودمرت “فرقة غزة” الموكلة بالدفاع عن جبهة الكيان الجنوبية، واقتحمت مستوطنات وبلدات غلاف غزة، واقتادت عشرات الأسرى من ضباطه وجنوده ومستوطنيه بعد أن قتلت المئات منهم، متخطية أسواره الحديدية والإلكترونية وكافة قدرات التجسس والرصد والتحوط الفائقة، مما يشير إلى انحطاط استراتيجي وسقوط قدرة الردع.

المفارقة أن تنظيم هذا المجتمع الاستيطاني وعسكرته على هذا النحو ليس أمرا مستجدا تاريخيا. فقد كان للأمير أسامة بن منقذ، أحد قادة العرب ومثقفيهم زمن الحملات الصليبية، مشاهدات واسعة لأحوال الفرنجة ولمكانة فرسان الصليبيين في رأس الهرم السياسي والعسكري والاجتماعي، وقد سجّل ابن منقذ أن لذوي الشأن والمكانة من هؤلاء الفرسان وحدهم الحق في إبرام الأحكام وإنزال العقوبات: “والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى القتل والقتال ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا الفرسان، فهم أصحاب الرأي وهم أصحاب القضاء والرأي”! وما أشبه الليلة بالبارحة.

 

على سبيل الخاتمة

يمر المشروع الصهيوني في فلسطين بمعظم مراحل قيام وتطور وسقوط مشروعات الاستيطان الأوروبية منذ الحملات الصليبية في القرون الوسطى وحتى التاريخ المعاصر، وتحديدا تلك المشروعات التي فشلت في القضاء على الشعوب الأصلية حضاريا وثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، كما وقع -بكل أسف- للشعوب الأصلية في الأميركتين وأستراليا ونيوزيلندا وهاواي وجزر الكاريبي وبولينيزيا وجزر في المحيطين الهادي والهندي.

فشل المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي بفلسطين في القضاء على شعب فلسطين وانتماءاته العربية وامتداداته الإسلامية، وهو المشروع الاستيطاني الوحيد القائم حاليًا لكنه يتجه تاريخيا نحو مآلاته الحتمية من اضمحلال وتراجع وانحطاط استراتيجي في سياق خدمة الهيمنة الغربية؛ وتعرضت أسسه ومرتكزاته للاهتزاز والتآكل بل والانهيار.

درست هذه المقالة سمات وآليات العقل الاستيطاني كحالة مشتركة لدى جميع المشروعات الاستيطانية، والتي تتشابه  خاصة في تصورها عن أصحاب الأرض الأصليين وطرائق التعامل معهم وأثره في مرتكزات ومسارات ومآلات هذه المشروعات.

لو كان هذا الكيان الصهيوني قائما على أدنى درجة من العقلانية والحكمة لاكتفى بالحدود التي كان عليها يوم الرابع من يونيو 1967 والتي كانت أكثر حدود آمنة وقابلة للاستدامة في تاريخه الدموي. لكن هذا الكيان قد افتقد العقلانية منذ بدايته وحمل في باطنه بذور سقوطه وعوامل انهياره، وأخطرها أنه بحكم التاريخ والجغرافيا، متورط في صراع مصيري وجودي صفري مع الإسلام المتجذر والممتد عبر العالم وحيًا وتوحيدًا وحضارة وقيمًا وهديًا.

بل إن مجرد قيام هذا المشروع الاستيطاني بذاته كأحد نتائج نهاية العالمية الإسلامية الأولى وسقوط التجسيد السياسي لوحدة دار الإسلام، سلطنة وخلافة، هو جزء من تقدير الله سبحانه وتعالى لاستنهاض أمة التوحيد وتحريرها من الاستضعاف والطغيان والإصر والأغلال والتجزئة نحو آفاق تعيد لها أصالتها وقوتها ووحدتها وعالميتها ورؤيتها الكونية وتميزها ودورها المحتم في ظهور “الهدى ودين الحق على الدين كله ولو كره الكافرون”. بل إن تفكيك هذا الكيان وتحرير الأرض شرط تاريخي قطعي لتحقق هذا الظهور وقيام العالمية الإسلامية الثانية، إن شاء الله.

انتقل مركز ثقل المشروع الصهيوني وقيادته من المؤسسة الصهيونية العلمانية أوروبية المنشأ والقوام والمزاج والمرجعية إلى تيار ديني استيطاني تلمودي لا يتسق مع المرجعية الإمبريالية الاستيطانية الغربية؛ بل سيؤدي هذا الانتقال الجوهري إلى عزل الكيان الصهيوني ليس فقط عن مجتمعات الغرب الإمبريالية التقليدية بل عن المجتمعات اليهودية المزدهرة ضمن إطار وقيم وفضاء الحداثة الغربية في أوروبا والولايات المتحدة؛ بل وأحدث هذا الانتقال شروخًا بالغة وانقسامات عميقة داخل المجتمع الاستيطاني ذاته، بما يهدد بحرب أهلية حسب ما يحذر عتاة الصهاينة من جنرالات عسكريين وقادة مؤسسات أمنية سابقين.

كشفت أحداث 7 أكتوبر 2023 وتداعياتها تفاقم تكلفة المشروع الصهيوني الباهظة على منشئيه ورعاته؛ إذ باتت تكلفته تفوق الفائدة منه في ميزان حسابات “العقلانية” الإمبريالية والترشيد العلماني. ورغم اندفاع الغرب الجنوني نحو إنقاذ الكيان الصهيوني عقب عملية “طوفان الأقصى”، إلا أن توازن القوى وتوزيع الكتل العالمية وطبيعة المنافسة والتحديات المستجدة في الساحة العالمية قد أدت مجتمعة إلى تغير العالم كثيرا. فنظام الهيمنة الغربية على العالم والذي أنتج هذا الكيان الصهيوني لم يعد قائما أو مستقرا كما في سيرته الأولى، ولذا لم يعد لهذا الكيان الاستيطاني نفس الوزن والأهمية والأولوية.

}وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:21).

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى