ملفـاتوباء كورونا

بيان للناس حول كورونا

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده.

وبعد:

فقد استفاق العالم مُؤخَّرًا على وباءٍ عامٍّ يسببه كائن مجهري دقيق، ما لبث بعد أن ظهر في بقعةٍ محدودةٍ من الصين أَنْ صار وباءً، ما ترك دولةً إلا دخلها، وبات العالَم عاجزًا عن علاجه أو مواجهته!

وهذه وقفاتٌ مع هذا البلاء، وتأملاتٌ في حال الناس مع هذا الوباء:

أولًا: يؤمن كلُّ مسلمٍ أن كل ما يجري في كون الله تعالى إنما يقع بعلمه وأمره وقضائه وقدره، ومن وراء ذلك الحكمة البالغة، ولله على عباده الحُجَّة الدامغة، وليس فيما يقضيه الله شرٌّ من كل وجهٍ، وأنَّ ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الآجال مكتوبة، والأرزاق مقسومة، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، رُفِعَتِ الأقلام، وجفَّت الصحف.

قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22].

وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].

وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58].

فما قَضَاه الله تعالى كائنٌ لا محالة، والجاهل مَنْ لام حالَه، والهلعُ والجزعُ والخوفُ الشديدُ ليس من أخلاق المؤمنين بالقضاء، المطمئنين إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].

ثانيًا: إنَّ البلاء والوباء قد يكون عقوبةً عامةً، وقد يكون عقوبةً لقومٍ، ورحمةً لقومٍ.

وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

وقال ﷺ: «لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا»([1]).

وأنَّه حين يبغي البشرُ بعضهم على بعضٍ، فيستبيحون الدمَ والعِرْضَ، ويتعاونون على الإثم والعدوان، فينتهكون المقدَّسات، ولا يراعون الحرمات، ولا يخافون من ربِّ الأرض والسماوات، ويبلغون حدَّ الإجرام، فعند ذلك يأتـي الانتقام!

قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55].

أمَّا أهل الإيمان إذا حلَّ بهم البلاء، فإنهم يذكرون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَرَحْمَةٌ، وَرِجْسٌ عَلَى الْكَافِرِ»([2]).

وفي الحديث: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»([3]).

ثالثًا: إنَّ البلاء العام إذا نزل بالأنام، فقد تأكَّد تجديدُ التوبة، والإقلاعُ عن الذنوب الظاهرة والباطنة، والتضرُّع إلى الله تعالى في الأوقات الفاضلة، والفزع إلى الاستغفار، وطلب العفو والعافية.

قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43].

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام: 42].

وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76].

«وأنَّ الهَلَكة كل الهَلَكة أن تعمل عمل السوء في زمن البلاء»([4]).

كما قال النُّعمان بن بشيرٍ ◙.

رابعًا: هناك حِكمٌ وأحكامٌ قدريةٌ من وراء هذا الوباء يحسُنُ بالمؤمن أن يكون على ذِكْرٍ منها، ومن ذلك:

  • أنَّ الله تعالى أقام بهذا الكائن المجهريِّ الدقيق برهانَ قدرتِهِ على عباده في عصرٍ افتتن فيه أكثر الخَلق بقُوَّتهم، وتَمادَوا في طغيانهم وبَغْيهم، وظنوا أنهم قادرون على الحياة الدنيا، فسلَّط الله هذا الذي لا يُرَى، وإنما تُعْرف آثاره الفتَّاكة، فيذلُّ رقاب الجبابرة، ولا تدفعه عن أنفسها الأباطرة! فهذا برهانُ عظمةِ اللهِ وقدرتِهِ، ونفاذ حُكمِهِ في عباده، وأنه لا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّب لحُكمِهِ، سبحانه وجلَّ وعلا.
  • وأنَّ في شهود هذه الابتلاءات تمحيصًا لأهل الإيمان، وتحقيقًا للتوكُّل على الواحد الدَّيَّان، ومعرفة أنَّ أفعاله تعالى حكمةٌ كلها، عدلٌ كلها، رحمةٌ كلها.
  • ومن ذلك: اليقين بأنَّ المرض لا يؤثر في الأبدان بنفسه، وإنما بأمرِ الله، وقد يتعرض الإنسان لأسبابٍ عاديةٍ، فلا يمرض، وقد يتحفظ منه بجهده فيمرض، وقَدْ قال ﷺ: «لَا عَدْوَى… وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»([5]).

وقال لمَنْ ظنَّ العدوى: «فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟»([6]).

وقال ﷺ: «لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»([7]).

خامسًا: على العبد المؤمن أن يتَّخذ الأسباب المشروعة والمقدورة ليتجنَّب الإصابة بالمرض، وليس له أن يتوكَّل على الأسباب؛ فإنَّ ذلك شركٌ، وليس له أن يقدحَ فيها، أو يتركها بالكليَّة؛ فإنَّ ذلك معصيةٌ.

وقد أمَر النبيُّ ﷺ بالعزل، والحَجر الصحي، وأمَر بتَرْك مخالطة المجذوم؛ وجوبًا أو استحبابًا، وهكذا كل مَنْ قد يضرُّ بالإنسان مخالطته من المرضى.

وعلى المريض- أيضًا- أن يمتنعَ عمَّا فيه إلحاقُ الأذى بأحدٍ من الخَلق إِذْ «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ»([8])، فالاحتياطُ للنفس ليس بأولى من الاحتياط للغير، وقد تعوَّذ النبي ﷺ من أن يقترِف على نفسه سوءًا، أو يجره إِلى مسلم([9]).

ومن الأسباب الشَّرعيَّة: التحصُّن بالأذكار النبويَّة طرفـي النهار، وعند النوم، وعند الخروج والدخول، واستعمال التعوُّذات النبوية؛ كقوله ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ»([10])، وكتعوُّذه من جَهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء([11])، وغيرها من  التعوُّذات النبوية.

وسائر الإجراءات التحفظيَّة بالابتعاد عن أماكن الازدحام؛ كالأسواق وغيرها.

وفي تعدُّد الجُمَع والجماعات، وتقليلُ أعدادِ المُصلِّين في المساجد مَنْدوحةٌ عن تعطيل الجُمَع والجماعات في البلد الواحد، والمساجدُ خيرُ البقاع، وأحبُّها إلى الله تعالى، وهي مُتنزَّلُ الرحمات، وموطنُ البركات، وعُمَّارها أهلُ الإيمان بالله من البشر والملائكة، والجمعةُ والجماعاتُ من شعائرِ الإسلامِ الظاهرة الواجبة المتواترة، والإجراءاتُ الاحترازيةُ من العدوى لا تبلغ أن تُعطِّل هذه الشعائرَ، وعَبْر تاريخ الأمة الطويل لم يقع أن تَدَاعى الحُكَّامُ والعلماءُ إلى تعطيل المساجد عن الجُمَع والجَمَاعات لأجل الوباء!

ومَنْ كان مريضًا، أو ظهرت عليه علامات الإصابة، فيَحْرم عليه الذَّهاب إلى المساجد، ومَن كان ضعيفًا أو خائفًا، فله عذرٌ في التخلُّف عن الجمعة والجماعة، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسْعها.

والجُمعةُ تنعقد بالثلاثة فما فوقهم من المُصلِّين عند بعض أهل العلم، والجماعةُ تنعقد باثنين فما فوقهما من المُصلِّين، فليُحَافظ على الجُمع والجماعات حيث ينادَى بها، فليتَّخذ المسلمون أسبابهم الشرعية، وليتوكَّلوا على ربِّ البريَّة.

قال تعالى: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107].

وقال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين

 

 

 

([1]) أخرجه ابن ماجه (4019)، والحاكم (8623).

([2]) أخرجه أحمد (20767)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (466).

([3]) أخرجه مسلم (2999).

([4]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (35869)، والدينوري في المجالسة وجواهر العلم (2243)، من قول النعمان بن بشير ¶.

([5]) أخرجه البخاري (5707).

([6]) أخرجه البخاري (5717)، ومسلم (2220).

([7]) أخرجه البخاري (5770)، ومسلم (2221).

([8]) أخرجه أحمد (2865)، وابن ماجه (2340).

([9]) أخرجه أحمد (81)، والترمذي (3529).

([10]) أخرجه أحمد (13004) وأبو داود (1554)، والنسائي في الكبرى (7876).

([11]) أخرجه البخاري (6347)، ومسلم (2707).

زر الذهاب إلى الأعلى