بحوثمشاريع

الخطاب الدعوي .. صاحب يس نموذجاً

 

مقدمة:

هذا الدين هو دين الله ومنهجه الذي ارتضاه للبشرية جمعاء، الإسلام دين للبشر يتفاعل معهم ومع طبيعتهم القائمة على النقص والضعف والشهوانية وبالظروف المادية المحدودة المحيطة بهم، وهو بهذا لا يعمل بطريقة سحرية وغامضة رغم أنه منهج رباني، ولكنه منهج رباني وضع للبشر المحدودين الطاقات، والمتقلبين بين ارتفاع الهمة ودنوها . والله سبحانه وتعالى شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة لحكمة يعلمها وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ” وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما ولا تمحى ولا تعطل 1″ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها “.. وشاء أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري وفى حدود الطاقة البشرية “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” وشاء أن يبلغ الإنسان من هذا كله بقدر مايبذل من الجهد وما ينفق من الطاقة ومايصبر على الابتلاء في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم وفى دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله. ومايلفت الانتباه أن البشرية ابتدأت بمرتبة هي من أعلى مراتب الهداية فالبداية كانت بنبي الله آدم عليه السلام. فمنذ الخلق الأول كان المقصد هو تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى. فأرسل الله الأنبياء والرسل  في أزمنة مختلفة لهداية طبقات الإنسانية المختلفة.

دعوة الخالق

الله تبارك وتعالى ماترك تفاصيل عمل الدعوة والخطاب الدعوي وصفات الداعى ومقصد الدعوة لبشر بل ذكرها سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ففي سورة طه رب العزة يخاطب موسى عليه السلام بأمر دعوة فرعون أطغى أهل الأرض في ذلك الزمان. (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ). وفى آيات آخرى من نفس السورة: ( واصطنعتك لنفسي *اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري * اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ). حتى مشاعر الخوف لدى الداعي تحدث فيها الله تبارك وتعالى وبين كيف نتصرف فيها( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى)

ويقول الله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) يونس . ويقول تعالى: (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) البقرة

دعوة صاحب يس

جميع قصص القرآن لبيان دعوة الأنبياء والمرسلين للأقوام ومن استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب ومصير كلا منهما ، مرورا بقصة صاحب يس التي توضح حقيقة الإيمان وقيمة اليقين وكيف تكون الاستجابة لداعي الحق وفعل الله بأوليائه وتصور الصراع بين الحق والباطل والإيمان والكفر. ثمان آيات فقط من سورة يس “والتي جاءت عدد أياتها ثلاثا وثمانين آية ” كانت واضحة لبيان أهمية الدعوة وصفات الداعي ومقصدها والخطاب الدعوي فيها. فالداعى هنا لم يذكر القرآن اسمه ولا لونه ولا طوله ولا عمره ولا بلده .. كل ذلك طواه القرآن لأنه لا فائدة ترجى من البحث في أسماء الأشخاص وتحديد الزمان وتعيين المكان. (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) . الله تبارك وتعالى لم يذكر من هم أصحاب القرية ولا ماهى القرية التي دعا فيها المرسلون أصحابها. عدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئا في دلالة القصة وإيحائها، ومن ثم أغفل التحديد، ومضى إلى صميم العبرة ولبابها.

 

ثمان آيات فقط من سورة يس “والتي جاءت عدد أياتها ثلاثا وثمانين آية ” كانت واضحة لبيان أهمية الدعوة وصفات الداعي ومقصدها والخطاب الدعوي فيها.

فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون – عليهما السلام – إلى فرعون وملئه. فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدموا ثلاثتهم بدعوتهم من جديد فقالوا: ( إنا إليكم مرسلون) . هنا اعتراض أهل القرية عليهم بالاعتراضات المكررة في تاريخ الرسل والرسالات قالوا: (ما أنتم إلا بشر مثلنا .. وما أنزل الرحمن من شيء .. إن أنتم إلا تكذبون) . فقد كانوا يتوقعون دائما أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير، أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير؟ كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها؟ شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلئ بها الأسواق والبيوت؟. وهذه هي سذاجة التصور والتفكير، فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة ولأصحاب الرسالة، وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية. فالرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي. النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر، فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجا من الحياة يملكون هم أن يقلدوه. ومن ثم كانت حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – معروضة لأنظار أمته، وسجل القرآن المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها، بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون، ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية. ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان.

الأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة ولأصحاب الرسالة، فالرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية

قالوا: (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين) . أن الله يعلم، وهذا يكفي وأن وظيفة الرسل البلاغ، وقد أدوه والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم من تصرف، وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار، إنما علينا أن نبلغكم ماأرسلنا به وهذه هي مهمتنا وهذا هو واجبنا فإذا أطعتمونا كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة أمركم وعدم استجابتكم لنا. ولكن المكذبين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير، ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر. ولم يكتف أهل القرية بتكذيب الرسل وإنما أعلنوا تطيرهم بهم ( قالوا إنا تطيرنا بكم..) أي تشاؤمهم بهم مع تهديدهم وهذه عادة الجهال إن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا كما حكى الله عن قوم فرعون: (وإن تصيبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) . ثم هددوا الرسل بالرجم حتى القتل.

وبنفس طريقة عدم ذكر أصحاب القرية ولا من هي لم يذكر اسم صاحب يس، سيقت القصة ببساطة في الأسلوب وسلاسة في العرض تصل إلى القلوب والعقول من أيسر وأقصر طريق لتحقيق هدفها فلا يبقى بعد ذلك إلا التأسي وعلو الهمة حتى لو فعلوا بك مافعلوه بالرجل والذى ارتبط اسمه بالسورة “صاحب يس” الذى نصح قومه فقتلوه فأدخله الله الجنة ولم يمهل المجرمين بل أخذهم بصيحة الهلاك والدمار.

إيقاع السورة ودلالتها

سورة يس من السور ذات الفواصل السريعة والإيقاع السريع التي يجعلك تتابعها بشكل لاهث حتى نهايتها فهى من الصور ما إن تقرؤها حتى تنتهى منها مرة واحدة دون أن تشعر بالوقت وكأن الإيقاع السريع مقصوده أن يخدم ويعبر ويمهد لحالة صاحب يس وهو يسعى فكان أول وصفه في الأيات أنه رجل يسعى رغم مجيئه من أقصى المدينة. فلو كنت في حالة سكون والفواصل طويلة والإيقاع “الزمن” بطيئا ماكنت تدخل في حالة هذا الرجل الذى يسعى ويدخلك في أجواء قصته مباشرة وتتفاعل معها بنفس زمن حركته بل وتقوم على أدائها. هذا الإيقاع السريع هو الذى جعله يحدد مقصده ويختار خطابه بعناية ودقة مستوفيا كل كلام الدعوة وهدفها بل ونتيجتها حتى الممات في بضع ثوان هو زمن الأيات الثمانية.

قصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص، فتتلاحق إيقاعاتها، وتدق على الحس دقات متوالية، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها، وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار.

الحالة العامة لدعوته

يقول صاحب الظلال[2] عن صاحب يس: إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة واستقامة الإدراك. فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتا ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور. ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون، “وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى” ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين. وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها.. إذا السعي والحركة ، هذا الذي يجلس في بيته لايعنيه أحد هذا ليس مؤمنا (من لم يتفقد شئون المسلمين فليس منهم)”

“وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى”

، المؤمن حركي عملي نشيط ، يزور، يتفقد، يعود مريضا، يدعو إلي الله ينصح، يقول، يتعلم يطلب العلم ،هي صفات المؤمنين. قال: يا قوم اتبعوا المرسلين.. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة، وهو لا يطلب أجرا، ولا يبتغي مغنما، إنه لصادق. وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفا من الله؟ ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة؟ والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسبا، ولا يطلب منهم أجرا؟ وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم، فهم يدعون إلى إله واحد، ويدعون إلى نهج واضح ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض؛ فهم مهتدون إلى نهج سليم، وإلى طريق مستقيم.

الفطرة في دعوته

بعد أن دعا قومه إلى الإيمان واتباع المرسلين تلطف معهم في الدعوة وتحريضهم على الاستجابة فأبرز كلامه معهم في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم ليقبلوا منه لأنه يدرك جيدا أنه ليس بالاقناع ولكن بالقبول قبول الناس لدعوة الحق ، فوضع قوله (ومالى لاأعبد الذي فطرني) مكان قوله: ومالكم لاتعبدون الذي فطركم، يدل على ذلك قوله (وإليه ترجعون) ولولا أنه قصد ذلك لقال الذي فطرني وإليه أرجع ثم ساق كلامه ذلك المساق تلطفا منه بهم في الدعوة وهو يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه، ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) إنه تساؤل الفطرة الشاعرة بالخالق، المشدودة إلى مصدر وجودها الوحيد.. وما لي لا أعبد الذي فطرني؟ وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر على النفس أول ما يخطر؟ إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها، تتجه إليه أول ما تتجه، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها، ولا تلتوي إلا بمؤثر آخر ليس من طبيعتها، والتوجه إلى الخالق هو الأولى، وهو الأول وهو المتجه الذي لا يحتاج إلى عنصر خارج عن طبيعة النفس وانجذابها الفطري. والرجل المؤمن يحس هذا في قرارة نفسه، فيعبر عنه هذا التعبير الواضح البسيط، بلا تكلف ولا لف ولا تعقيد. وهو يحس بفطرته الصادقة الصافية كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية، كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل. فيقول: (وإليه ترجعون ).. ويتساءل لم لا أعبد الذي فطرني، والذي إليه المرجع والمصير؟ ويتحدث عن رجعتهم هم إليه، فهو خالقهم كذلك، ومن حقه أن يعبدوه. ثم يستعرض المنهج الآخر المخالف للمنهج الفطري المستقيم فيراه ضلالا بينا: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) . وهل أضل ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه، وينحرف إلى عبادة غير الخالق بدون ضرورة ولا دافع؟ وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلاله. (إني إذا لفي ضلال مبين) أي إن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله لاتملك من الأمر شيئا فإن الله تعالى لو أرادني بسوء فلا كاشف له إلا هو فها أتخذها آلهة أعبدها من دون الله وهذا حالها من الضعف والعجز؟ إني إذن إذا فعلت ذلك لفي ضلال مبين.

إصرار الداعي

والآن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الأخير في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين، لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل تكذيب: (إني آمنت بربكم فاسمعون) أي فاسمعوا قولي وأطيعوني فيما أمرتكم ونصحتكم به. وهكذا ألقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة، وأشهدهم عليها، وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها، أو أنه لا يبالي بهم ماذا يقولون.

داعيا حيا وميتا

ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه، وإن كان لا يذكر شيئا من هذا صراحة، وقيل لما سمع قومه قوله أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال لهم (إني آمنت بربكم فاسمعون) أي اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي: إني آمنت بربكم واتبعتكم. ولم يكن له أحد يمنع عنه القتل. وقال قتادة: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فلم يزالوا به يرجمونه وهو يقول ذلك حتى مات رجما بحجارتهم. إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها، وعلى القوم وما هم فيه، ويرفعه لنرى هذا الرجل الذي جهر بكلمة الحق، متبعا صوت الفطرة، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل، نراه في العالم الآخر، ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة، تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد ( قيل ادخل الجنة. قال يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)  ونرى الرجل المؤمن، وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة، يذكر قومه طيب القلب رضي النفس، يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضا والكرامة، ليعرفوا الحق معرفة اليقين. قال ابن عباس رضى الله عنهما: نصح قومه في حياته بقوله: (قال ياقوم اتبعوا المرسلين) ونصح قومه بعد مماته بقوله ( قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) فقد كان حريصا على هداية قومه. ونتعلم من ذلك على أن وجوب كتم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والشر والبغي والسعي لتخليصهم عما هم فيه كما فعل وتمنى ذلك الرجل المؤمن الخير لقتلته والباغين عليه . وهكذا حال أصحاب الرسالات في الدنيا والآخرة، تعيش رسالتهم معهم. الله يخلق رجالا يعشقون الحق والحقيقة ويضحون من أجلها ويعانون في سبيلها. (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء. وما كنا منزلين. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) .. هذا كان جزاء الإيمان، فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره. فهو ضعيف. ولا يطيل هنا في وصف مصرع القوم تهوينا لشأنهم وتصغيرا لقدرهم فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم.

 

الله يخلق رجالا يعشقون الحق والحقيقة ويضحون من أجلها ويعانون في سبيلها.

ويسدل الستار على مشهدهم البائس المهين الذليل.(يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون.. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون). والحسرة انفعال نفسي على حال مؤسفة لا يملك الإنسان شيئا حيالها، سوى أن يتحسر وتألم نفسه. والله سبحانه وتعالى لا يتحسر على العباد ولكنه يقرر أن حالة هؤلاء العباد مما يستحق حسرة المتحسرين. فهي حال بائسة مؤسفة تنتهي بأصحابها إلى شر وخيم وبلاء عظيم. يا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة النجاة فيعرضون عنها وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم لا يتدبرونها ولا ينتفعون بها، ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة ويسيئون الأدب مع الله (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) .

الفوائد المستفادة من قصة أصحاب القرية وصاحب يس للدعوة والدعاة

1-    تقوية الداعي بإرسال دعاة آخرين معه

الله تبارك وتعالى أرسل في أول الأمر رسولين إلى أصحاب القرية فلما كذبوهما أرسل رسولا ثالثا تقوية للرسولين. فعلم بذلك أن القيام بالدعوة من قبل أكثر من واحد مجتمعين تقوية لهم ولموقفهم إزاء المدعوين. فرسول الله موسى عليه السلام سأل ربه أن يقويه ويعينه بأخيه هارون بأن يرسله معه إلى فرعون فاستجاب الله دعاءه ولم ينكر عليه طلبه ولا تعليل طلبه بل أقر تعليل طلبه . ( وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك) ومعنى ردءا أي معينا. وفي آية أخرى ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري).

2-    التكذيب لدفع الدعوة والدعاة

لقد دفع أصحاب القرية دعوة الرسل إليهم بتكذيبهم فيما يدعون إليه فقد كذبوا الرسولين فأرسل الله إليهم رسولا آخر تعزيزا للرسولين فكذبوا الجميع. إن تكذيب الرسل أسلوب قديم أخذت به الأمم المعاندة لدفع دعوة رسلهم ونطق القرآن الكريم في آيات كثيرة منها ( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقول إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى..) فعلى الدعاة ألا يعجبوا من هذا التكذيب ولا يحملهم هذا التكذيب على الغضب على المدعوين لأن الدعاة ليسوا أحسن حالا من رسل الله ولا أكثر إخلاصا منهم ولا أكثر تأييدا من الله . فهم مع هذا كله اتهمتهم أقوامهم بالكذب وواجهوهم بالتكذيب. وأخيرا فإن معرفة هذه الحقيقة لازمة لكل مسلم حتى لايتأثر بتكذيب المكذبين للدعاة ودعوتهم بحيث يصدقهم في هذا التكذيب أو يحمله تكذيبهم على الشك في صدق الدعاة والدعوة فعلى الدعاة تحذير الناس من ذلك .

3-    تهديد الدعاة بالقتل أسلوب قديم للطغاة

من هذا التهديد تهديد أصحاب القرية لرسلهم فعلى الدعاة أن لايتعجبوا من تهديد الظلمة والطغاة لهم بالقتل أو بالحبس أو بالتعذيب الجسدي أو بمصادرة الأموال فكل هذا من أساليب الطغاة في القديم والحديث فعلى الدعاة أن يأخدوا الحذر المشروع من أعداء الدعوة لاسيما الحكام الطغاة .

4-    الإيمان يدفع صاحبه إلى الدعوة إلى الله

إيمان صاحب يس هو من دفعه لدعوة الناس للحق فعلى الداعى أن يعمق معانى الإيمان فيمن يدعونهم ولا يكتفوا أن يكونوا صالحين في أنفسهم بل أن يسعوا إلى جعلهم مصلحين لغيرهم بتعميق معاني الإيمان في نفوسهم.

5-    التلطف في تبليغ الدعوة

ذكرنا كيف كان تلطف صاحب يس في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم فعلى الدعاة الأخذ بهذا الأسلوب النافع أسلوب التلطف في قيامهم بتبليغ الدعوة إلي الناس.

مايدخل في مفهوم التلطف

  • لين القول

وهذا ما أمر الله به موسى وأخاه هارون عندما أرسلهما إلى فرعون (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) والقول اللين مثل قوله تعالى الذى أمر به موسى أن يقوله لفرعون ( فقل هل لك على أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) بدأ مخاطبته بالاستفهام الذى معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا ؟ وأردفه بالكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول ويستنزله بالمداراه عن تكبره.

  •   مخاطبة الداعي للمدعوين بما يذكرهم برابطته معهم

فيخاطب الداعي مدعويه بما يثير فيهم الرغبة في الإصغاء إليه ويلين قلوبهم ويفتحها لسماع قول الداعي. قال تعالى عن إبراهيم في مخاطبته لأبيه وهو يدعوه إلي الإيمان ونبذ عبادة غير الله:( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ). إبراهيم عليه السلام حين أراد أن ينصح أباه ويدعوه إلي الإيمان بالله وعبادته وحده تلطف معه بالقول مع المجادلة معه برفق ولين وأدب فلم يصف أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك كما أن إبراهيم عليه السلام كان يخاطبه بكلمة ( يا أبت ) وظل يكرر هذه الكلمة في كل عبارة يوجهها إليه زيادة في التلطف مع أبيه وزياده في لين القول معه. وكذلك كان رسل الله يخاطبون أقوامهم بعبارة (يا قومي) وإبراز علاقته بهم بأنه أخوهم . قال تعالى عن هود عليه السلام ( وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ) ففي مخاطبة هود لهم بكلمة (يقوم) نوع من التلطف واللين بالقول لأن هذا النداء أدعى إلى استجابتهم وإلى تحسيسهم بأن الذي يخاطبهم هو واحد منهم في النسب وأنه لذلك يريد الخير لهم. وصاحب يس تلطف في دعوته بقوله: (قال ياقوم اتبعوا المرسلين) بأنه واحد منهم وأن هذه الدعوه لنا جميعا.

  • مقابلة القول القبيح بالقول الحسن

وهذا ماكان يقابل به رسل الله الكرام سفاهات أقوامهم من ذلك قوله تعالى في عاد ورسولهم هود: ( وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون). واضح من هذه الآيات كيف أجاب هود على سفاهات قومه وتجاوزهم عليه بالقول البذئ والاتهام الباطل. أجابهم عليه السلام بغاية الأدب والقول الحسن مع إظهار إشفاقه عليهم وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بان خصومهم أضل الناس وأسفههم . فعلى الداعي أن يلتزم بهذا الأسلوب في الرد فلا تحمله تصرفاتهم معه أو افتراءاتهم الكاذبة عليه على الغضب والنطق بما لا يليق بالدعاة فيكون كلامه معهم من باب الانتصار لنفسه والغضب لها. وليس من باب الانتصار للدعوة أو للغضب لها. وهذا شيء ثقيل على نفس الداعى ولكنه لابد منه ولا سبيل غيره وإن مما يسهل عليه ذلك، تجرده لله بالإخلاص الكامل له واحتساب مايلقاه من أذى عند الله. إن مهمة الداعي في دعوته بين الناس وترغيبهم فيها مهمة الطبيب لاتستفزه صيحات المرضى وكرههم رؤية الطبيب بل ولا يمنعه شتمهم له وطعنهم فيه من الاستمرارعلى معالجتهم لأنه يعلم أن هذه الأفعال منهم هي بعض أعراض أمراضهم، والطبيب إنما يريد معالجتهم لا الانتقام منهم.

  • التواضع في التبليغ

إن من طبيعة الناس التي جبلوا عليها أنهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويستصغرهم ويتكبر عليهم وإن كان مايقوله حقا وصدقا. إنهم ينفرون من المتكبر الفظ الغليظ ويغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه. فلا يصل إليها من قوله شيء مؤثر فيهم بل قد يكون ذلك سببا إلى صدهم وكرههم الحق منه ومن غيره. (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).

6- معرفة الداعي يقينا أنه يدعو إلى الله وليس إلى نفسه

من طبائع الناس أنهم لا يحبون من يكثر الحديث عن نفسه أو يكثر الثناء عليها او يكثر من قول أنا ، أنا ، فعلى الداعي أن يحذر وأن يكلم الناس جميعا كمبلغ لهم معانى دعوته ويوجه الناس إلى معرفتهم بالله وعبوديته لا أن يكلمهم كمبلغ لهم فضله وعلمه (يوجه الناس إلى الله وليس إلى نفسه) فلا شيئا لنفسه يدل على تعاليه واحتقاره لغيره  إن على الداعي أن يعرف يقينا أن كل ماعنده هو محض فضل الله عليه فليتحدث إلى الناس وهو بهذا اليقين يتحدث إلىهم بفضل الله لا بفضل نفسه فإذا عرف الناس منه ذلك فتحوا له قلوبهم أوعلى الأقل لم يغلقوها دون كلامه فيقع من معانيه الطيبة النافعة مايشاء الله تعالى وقوعه.

7- حرص الداعي على هداية قومه والناس جميعا

حرص صاحب يس على هداية قومه هو الذى جعله يأتي مسرعا من أقصى المدينة لدعوتهم وحرصه عليهم حتى بعد مقتله فالحرص يتأتى للداعي من معرفته لربه وإرادة الخير والنفع والسعى لإيصال ذلك للناس وليعلم الداعي بأن في حرصه على هداية الناس ثوابا كبيرا وهو أول من يزيد إيمانه بسبب دعوته للآخرين. فيجب معرفة الداعي بفضل عمل الدعوة من الأيات والأحاديث الدالة على ذلك ، كما جاء في الحديث الشريف ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا ومافيها).

8- الدعاة لا يأخذون أجرا على دعوتهم

من شأن رسل الله جميعا أنهم لا يأخذون أجرا على تبليغهم الناس رسالة ربهم ويخبرون أقوامهم بذلك. فنوح عليه السلام قال لقومه ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله) وقال تعالى عن نبيا محمد صل الله عليه وسلم (( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد) والحكمة في إعلان ذلك الابتعاد عما قد يتشبث به أهل الباطل في إثارة الشبهات في وجه الرسل ودعوتهم من أنهم طلاب مال وينتفعون من دعوتهم بالمال فقط. كما أن رسل الله أجرهم على الله الذى أرسلهم. وهذا ماقاله صاحب يس لأصحاب القرية: (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) فعلى الداعى أن يبتعد عن الفائدة المادية أو المعنوية من دعوته. إلا من يتم تعيينهم في وظائف دعوية من قبل بعض الوزارات كوزارة الأوقاف فلهذا شأن أخر. ولكن على الداعي أن يقدر هذه الأمور فيترك من المباحات كل مايراه معوقا للدعوة ولاستجابة الناس إليها.

9- المعاصي سبب المصائب والنكبات

على الدعاة أن يبينوا للناس هذه السنة الإلهية في المصائب والنكبات التي تصيب الناس وعلاقتها بالذنوب والمعاصي. فعندما قال أصحاب القرية لرسلهم (قالوا إنا تطيرنا بكم) أي مايصيبنا من بلاء بشؤمكم وبسبب دعوتكم ووجودكم فيما بيننا، ولكن الرسل ردوا عليهم: ( قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) أي إن سبب شؤمكم معكم وهو كفركم ومعاصيكم. فالمعاصي وترك الأوامر وارتكاب النواهي سبب أكيد من أسباب حلول المصائب والنكبات. قال الله تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).

10-  الهلاك عاقبة الرافضين دعوة الحق

الله أهلك أصحاب القرية لكفرهم وعنادهم ورفضهم دعوة الحق وقتلهم الرجل المؤمن لدعوته لهم . فعلى الدعاة ان يبينوا أن الإعراض عن شريعة الله عاقبته هلاك المعرضين فهى سنة الله لا تتغير ولا تتبدل وإن كنا لا نعلم متى يحل الهلاك بهم وما نوع هلاكهم . قال الله تعالى: ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق )

الحكمة في القصص القرآني

1-    أن نفقه ماجاء في هذه القصص من أخبار وحقائق ومعان وأنماط من المدافعات بين أهل الحق والباطل وأن نعتبر به[3]. لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب)

2-    بيان لسنن الله في خلقه من الأمم والجماعات والأفراد

وهي سنن جرت على الماضين وتجرى على اللاحقين ليعتبرها المؤمنون ولهذا فإن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم والأشخاص وإنما يذكر منها مواضع العبرة والألفاظ والتذكر. كما قال الله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) هود

ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب ولا تستقصى.

3-    بيان لمناهج الأنبياء في الدعوة إلى الله والتزامهم بها وصبرهم عليها والتأسي بهم فيها.

4-    في قصص القرآن نماذج للمؤمنين الصابرين الثابتين على الحق وبيان سلوكهم مع الذين ناصبوهم العداء لإيمانهم بالله. قال الله تعالى: ( ومانقموا منهم إلا أن يومنوا بالله العزيز الحميد).

5-    بيان لغرائز الإنسان وما جبل الله عليه من صفات ومن أنواع هذه الغرائز وأثر ذلك في سلوكه وأفعاله وفي علاقاته مع الآخرين.

6-    بيان لأحوال الإنسان وطغيانه بسبب المال والسلطان. إلى غير ذلك من مضامين هذه القصص التي أخذت قسما كبيرا من كتاب الله العزيز.

7-    في قصص القرآن حقائق علمية تتعلق بهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وأرض ونجوم وسماء لم تعرف إلا في عصرنا الحديث وفي معرفتها زيادة في العلم وتقوية لمعاني الإيمان التي جاء بها الإسلام.

8-    في قصص القرآن فوائد للدعوة والدعاة من هذه الفوائد:
  •  تعريفهم بمناهج الدعاة من الأنبياء وأتباعهم في الدعوة إلي الله وبيان ما أصابهم من أذى في سبيل الله ليعلم أن ما أصاب الدعاة السابقين يصيب أيضا الدعاة اللاحقين. وبهذا جرت سنة الله في الأولين كما تجري في اللاحقين.
  •  في قصص القرآن بيان لما جبلت عليه النفس البشرية من غرائز وميول ورغبات وهذه أمور مهمة جدا يستفيد منها الدعاة في أساليب دعوتهم وكيفية معالجتهم لأحوال الناس الذين يدعونهم ولأحوال أتباعهم من المؤيدين. ولا يجوز للدعاة إغفال هذه الأمور المتعلقة بالنفس البشرية لأنهم في دعوتهم يتعاملون مع بشر فيحتاج الداعي لفقه واسع وعميق وصحيح في النفس البشرية وطبيعتها وما جبلت عليها. ومما يزيد من أهمية هذه الفائدة أن النفس البشرية وماجبلت عليه وطبيعتها وأصول غرائزها وصفاتها لا تتغير، فهي هي الآن كما كانت من زمن آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن أول الأمثلة قصة ابني آدم . كيف أن الحسد حمل أحد الأخوين على قتل أخيه رغم أنه لم يكن هناك من البشر إلا مايعد على أصابع اليد الواحدة. ولا تزال هذه الصفة ( صفة الحسد) مغروسة في نفوس بنى آدم حتى الآن.
  •  اختلاف الناس في الاستجابة للحق ومما ينبغي للداعي معرفته جيدا حتى لا يضجر من عدم استجابة الناس لدعوته أن الناس بطبيعتهم يختلفون في مدى استعدادهم للاستجابة لصوت الحق وفي سرعة هذه الاستجابة.

9- إظهار الإيمان حيث يظهر الإحسان

ويحسن من المؤمن إظهار إيمانه حيث يحسن الإظهار كما لو كان في هذا الإظهار مصلحة الدعوة إلي الله أو طان فيه تشجيع للآخرين على الإيمان بالدعوة. ومن الإظهار المستحب للإيمان إظهار مؤمن آل فرعون إيمانه بعد أن كان يكتم إيمانه. لأن الكتمان كان هو المستحب ولكن لما علم بتآمر القوم ( فرعون والملأ معه على قتل موسى) أظهر هذا الرجل المؤمن إيمانه الذي كان يكتمه ليدافع عن موسى بالحجة والبرهان ويبين لهم سوء ماعزموا عليه إذ لامبرر لقتله إلا أن يقول ربي الله. ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) جدال هذا الرجل المؤمن مع فرعون وملئه دفاعا عن موسى كشف عن شخصيته المؤمنة وأظهر إيمانه بموسى ودعوته. وكان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه ولم يظهره إلا في هذا اليوم حين قال فرعون: ( ذروني أقتل موسى) فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل . وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله

10- استغلال الصلة بالسلطان لمصلحة الدعوة والدعاة

للداعي أن يستغل صلته بذي السلطة لمصلحة الدعوة والدعاه كما استغل مؤمن آل فرعون صلته بفرعون إذ كان ابن عم له. فانطلق يتكلم بكل صراحة أمام فرعون وملئه مبينا لهم أحقية دعوة موسى، وأنه لا ينبغي لهم أن يعاقبوه أو يمنعوه من الدعوة متنزلا معهم في الحوار وفي الجدال على نحو يظهر نصحه لهم وأنه لا ينبغي لهم معاداته لأنه ليس من مصلحتهم هذه المعاداة. وقد استمع القوم لكلامه ونصحه وتوبيخه لهم على عنادهم وكفرهم وإن جاء ذلك التوبيخ بأسلوب ناعم رقيق. وهكذا ينبغي للداعي أن يستغل علاقته بذي الصلة سواء كانت علاقة قرابة أو صداقة فيستفد منها لمصلحة الدعوة والدعاة. لأن هذه الصلة بين الداعي وذي السلطة تسمح لذي السلطة أن يسمع للداعي ويصغي لما يقول وقد يستجيب له في بعض مايقول ويريده منه بشأن الدعوة والكف عن معاداة الدعوة وإلحاق الأذى بالدعاة. وعلى الداعي وهو يستغل صلته بالسلطان أن يتلطف بالجدال معه، كما فعل مؤمن آل فرعون مع فرعون وملئه فقد أخذهم بالجدال والحوار على طريقة التقسيم فقال لهم: لا يخلو موسى من أن يكون كاذبا أو صادقا (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) أي يعود عليه كذبه وضرر هذا الكذب (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ). ولم يكن ذلك من هذا الرجل المؤمن لشك منه في رسالة موسى وصدقه ولكن تلطفا في استجلاب كف أذاهم عن موسى وإظهارا للنصح لهم فخاطبهم بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه وإنما قال لهم: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ولم يقل كل الذي يعدكم لأن كلمة البعض قد تستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام. وفي الحالتين أي سواء كان صادقا أو كان كاذبا كما يدعون فينبغي أن لا يتعرضوا له أي لموسى عليه السلام بسوء بل ينبغي تركه وقومه يدعوهم ويتبعونه إن شاؤوا. وهذا ينبغي للداعي أن يتلطف في الكلام مع من له صلة به من ذوي السلطة والسلطان ولكن مع وضوح القول وبيان الحق الذي تدعو إليه. فالتلطف بهذه الطريقة لا يعنى المداهنة ولا النفاق. وبنفس الطريقة يحذر مؤمن آل فرعون قومه وينصحهم ( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) وتذكيرهم بالملك والسلطان أسلوب من الوعظ المفيد لما يثيره فيهم من شهوة الحرص عليهما والتعلق بما يبقيهما وهو الإيمان بالله ورسوله ، وتحذيرهم مما يزيلهما وهو تكذيبهم برسوله ( فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) يتكلم الرجل المؤمن بصيغة الجمع (فمن ينصرنا) و (إن جاءنا) جاعلا نفسه معهم لأنه منهم في القرابة وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به أو يحذرهم منه هو مشارك لهم فيه فكأنه يقول لهم : إن جنودكم وعساكركم لا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أراد إنزال العذاب بنا بسبب كفركم وعنادكم.

خاتمة:

وعد الله لا يتخلف والنصر حاصل حتى وإن طرد دعاة الحق أو قتلوا أو عذبوا وهذا النصر لايقتصر على صورة واحدة ، فمن الأنبياء من آذاه قومه فنصره الله عليهم فأهلكهم وأقام الدين في حياته كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومنهم من ولاه الله الملك وهو نصر عظيم كداود وسليمان عليهما السلام ومنهم من آذاه قومه ولم يؤمنوا به سوى قليل منهم فنجاه الله ومن معه وأهلك عدوه كنوح وهود وصالح ولوط ومنهم من قتله قومه أو حاولوا قتله فانتقم الله له بعد حين كيحيى وعيسى ومنهم من يئس من قومه فتركهم فعاقبه الله ثم عفا عنه ولما عاد إليهم نصره الله وظهر الدين وهو يونس عليه السلام ، ومن الدعاة من قتله قومه فآمن به بعض قومه فقتلوا وحرقوا وهؤلاء هم أصحاب الأخدود الذين ثبتوا على معاني العقيدة وفهموا حقيقة الانتصار ويتضح منها كيف انتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله وانتصرت دعوته عندما تحقق ماكان يتوقعه وقدم نفسه من أجلها فآمن الناس وقالوا : آمنا بالله رب الغلام، وكذلك الأمر للمرسلين الثلاثة ولصاحب يس فقد نصروا من الله على الرغم من مصرعهم ويتمثل النصر في الحقائق التالية:

  •  أن هؤلاء الرسل قد بلغوا رسالة الله ولم يستسلموا لتهديد أهل القرية وهذه هي مهمتهم “وما علينا إلا البلاغ المبين” ومن أدى ماعليه فقد انتصر وفاز.
    •  إيمان رجل من أهل القرية بهم وتأييده لهم علانية يعد نصرا وانتصارا له ولهم.

 

  •  انتصاره على نفسه بأن يكون الداعية محبا لهداية الناس لا يحمل الحقد ولا الضغينة حريصا على هداية قومه (ياليت قومى يعلمون). فكن أنت صاحب يس ، فهو رجل يحمل هم وفكر دعوة الناس للحق. وكأنها قصة الإيمان والدعوة إلى الله على مر العصور فلا يمنع أن تكون أنت صاحبها الآن، وممن يشارك في أحداثها وإلا فالزمان والمكان والأشخاص ليسوا غرضا ولا هدفا من وراء ذكر القصة وإنما الغرض والهدف هو إقامة واجب العبودية في كل عصر، إظهار دعوته، همه الحقيقى، فعله، احتياجه الشخصي لها حتى ولو لم يؤمن به أحد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هذا الدين : سيد قطب

[1] كيف ندعو الناس محمد قطب

[2] تفسير في ظلال القرآن : سيد قطب

[3] المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة د. عبد الكريم زيدان

[4] قصة صاحب يس د. سعيد عبد العظيم

زر الذهاب إلى الأعلى