قراءة الحدثمراجعات

الربيع العربي في موجته الثانية.. خبرات متراكمة وحراك لا يهدأ

قراءة في مدخلاته ومخرجاته

 

اندلعت أولى شرارة ثورات الربيع العربي أواخر عام 2010م مع غضبة بوعزيزي التي لم تُلهب النار في جسده فحسب، وإنما في الوطن العربي برمته، فانطلقت الجماهير منتفضة من تونس إلى مصر، وصولًا إلى ليبيا ثم اليمن فسوريا وغيرها. برهنت الشعوب العربية خصوصًا بعد اندلاع الشرارة الثانية للربيع المتمثلة بثورات السودان والجزائر ولبنان والعراق أنها عنيدة في جوهرها، وأن الحرية كامنة في معدنها، وأنها لن تهدأ حتى تزيح الطغاة الذين جثموا على صدرها، وتحكم نفسها بنفسها، رغم كل ما سخّره أقطاب الثورة المضادة للفتك بالشعوب الثائرة[1].

 

 

فاتحة شارحة:

كلمات جمعت بين الفصل والوصل في مسار الربيع العربي على مدار سنواتٍ ثمان من تاريخ نسختيه الأولى والثانية بما شهده من مد وجزر، بين آمال عقدت عليها الجماهير مستقبلها في ظل حياة إنسانية كريمة تراعي قيمه ومعاشه، فهبت لتحقيقها في واقع الناس، وآلام عمقت جراحاتها أدركت بها بأنها ما تزال تعاني من دخائل ودخائن تستحكم بها جعلتها في يد السفهاء الرويبضات الذين يتحكمون في أمرها، ولكن لم تكن لهذه الجراحات أن تأتي على تلكم الروح الثورية الأبية والعصية على الفساد والاستبداد بالتجريف، فانطلقت صادحة في الآفاق أن الأجيال الجديدة لن تكون أسيرة في قيد الثورات المضادة ولا لاهفة وراء الأموال التي تشترى بها الرقاب وتخفر بها الذمم، ولهذا قالها في كلمات المقدمة: ” أنها عنيدة في جوهرها، وأن الحرية كامنة في معدنها، وأنها لن تهدأ حتى تزيح الطغاة الذين جثموا على صدرها، وتحكم نفسها بنفسها“.

من هنا تأتي هذه القراءة بوقفاتها وعناوينها الفارقة عند ظاهرة الربيع العربي في موجتها الثانية تستجلي مسوغات قيامها، وعوامل انبعاثها، وتجليات مسارها، وقسمات سالكيها، وأنواع أهدافها، واختلاف عوائقها، وحقيقة تحدياتها، ثم ما يمكن أن تصل إليه من  نتائجها ومآلاتها، وقد تضمنت القراءة نظراً تعددت فيه المنافذ والنوافذ من حيث منهجيتها؛ حيث استعان بالأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في أنساقها المختلفة للوصول إلى جوانب من الإحسان تلفت نظر القارئ إليها، بحيث يتحقق له شيء من الوعي وحسن النظر في مسارات الأجيال الجديدة بعيداً عن كل العوائق والحواجز والموانع التي تعيق تحقيق آمالها في مستقبل زاهر بحياة كريمة قوامها العدل والحرية والقيم والتكافل .. في غيرها.

الظلم مؤذن بخراب العمران:

هكذا عنون ابن خلدون أحد فصول مقدمته الشهيرة والذي استهله قائلًا: “اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها…إلخ”[2].

فهو يتحدث بالدرجة الأولى عن الفساد وأكل أموال الناس بالباطل وما يؤدي إليه من خراب البلاد على كافة المستويات، وهو الأمر الذي يصدقه واقع البلاد العربية وما تعانيه من تخلف وتأخر بسبب الفساد والظلم بمعناه الواسع على كافة الأصعدة والمجالات، مجال التعليم والصحة والبنية التحتية والاقتصاد والسياسة والحقوق والحريات والفن والإعلام والاجتماع والرياضة وغيرها. ومن أخطر أنواع الظلم التي يكون مآلها خراب العمران، التضييق على الناس في معاشها وحرمانهم من حقوقهم المتعلقة بالحقوق الأساسية، التي تحفظهم من الفقر والجوع والمرض والجهل. على عكس مراعاة معاش الناس حتى مع وجود فساد، فهو يمنع الناس عن الثورة غالبًا ويجعلهم يصبرون لما يرونه من حصولهم على حاجاتهم الأساسية وتمتعهم بمعيشة مقبولة (دول الخليج نموذجًا).

وبنفس المضمون عبر ابن تيمية بمقولته: “ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يُروَى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”[3].

استقر في أعراف الساسة والعامة أن العدل أساس الملك، وأن الظلم علامة خراب العمران، وهذه القاعدة مضطردة النهايات، لا فرق فيها بين دولة مسلمة أو دولة كافرة، فمن جعل العدل أساس ملكه قويت شوكته، وعظمت دولته، وإن كان كافراً ودولته كافرة، وأن من جعل أساس دولته الظلم، لم تبقَ دولته، وإن كان مسلماً، ذلك أن بناء الحضارات والدول خاضع للسنن الكونية التي أودعها الله تعالى في كونه كله[4].

وقد طرح رشيد رضا طرحًا مهمًا بهذا الصدد، وهو ما يتعلق بتقدم أوروبا رغم وجود أنواع من الانحلال والظلم، فقال إن أسباب هلاك الأمم بالظلم والفساد والانغماس في حمأة الرذائل والفسق قد بلغ من أمم أوروبا مبلغًا عظيما، فما بالها تزداد قوة وعزة وعظمة. حتى صارت الأمم المغلوبة على أمرها، ولا سيما المستذَلَّة لها، تعتقد أن تقليدها في مدنيتها المادية وحرية الفسق المطلقة من كل قيد هو الذي يجعلها عزيزة سعيدة مثلها؟

ومما قال في إجابته إن أطباء الاجتماع مجمعون على أن الإسراف في الفسق والترف مفسد للأمم، وأن الظلم والبغي بغير الحق، والغلو في المطامع والعلو في الأرض، والتنازع على المناصب، كل ذلك من أسباب الهلاك والدمار، ولكن لدى هذه الدول كثير من القوى المعنوية والمادية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه الأدواء الاجتماعية، كالأدوية وطرق الوقاية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه الأمراض الجسدية، والرياضة الشاقة التي يتقى بها إضعاف الترف للأبدان. ثم ذكر الشيخ رشيد رضا أن أعظم هذه القوى الواقية للأمم، هو النظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى في نفس الظلم، وفي إخفائه عمن يضر الظالمين علمهم به ولو من أقوامهم، وإتقان الوسائل والأسباب في إلباس ظلمهم لباس العدل، وجعل باطلهم عين الحق، وإبراز إفسادهم في صورة الإصلاح، وإيجاد أنصار لهم عليه من المظلومين، بل إقناع الكثيرين منهم، بأن سيادتهم عليهم خير لهم من سيادتهم لأنفسهم[5].

وقد سُئل الشيخ محمد عبده: ما بال باطل هؤلاء الإفرنج في شئونهم السياسية والدينية ثابتًا ناميًا لا يدمغه الحق؟ فأجاب: إنه ثابت بالتبع للنظام الذي هو أقوى، أي فهو يزول إذا قذف عليه بحق مؤيد بنظام مثله أو خير منه، فهذا ما ينبغي أن يعمل له المستعبدون لهم في الشرق، مع مباراتهم في العلوم والفنون دون الترف والفسق[6].

فأغلب الدول العربية في الوقت الراهن تواجه أنظمة سياسية فاشلة ومدمرة، بسبب فساد القائمين عليها وظلمهم للشعوب في معاشها، وبسبب أنها عاجزة عن إقامة نظام قوي يحقق العدل الذي هو قوام بقاء وازدهار أي أمة، مما أدى إلى خراب العمران ولأن يصبح السواد الأعظم من الشعوب العربية يعيش في فقر ومرض وجهل وتأخر مستمر، ومما جعل الثورات متجددة ومشتعلة، مستمدة وقودها من ازدياد الظلم والفساد وحرمان الشعوب من أبسط حقوقها العادلة للعيش بكرامة وإنسانية.

 

 

لماذا تثور شعوب العالم العربي؟

إن أي شعب من الشعوب يرجو الاستقرار والهدوء، فلماذا تثور الشعوب العربية؟

إنه السؤال الذي لا تسأله النخب الحاكمة والمستفيدون من الفساد المستشري، رغم أهميته في تفاديهم أنفسهم للثورات وحفاظهم على كرسي الحكم.

بنظرة سريعة على مؤشرات وإحصائيات مختلفة تناولت درجة تقدم أو تأخر الدول العربية على في المجالات المختلفة، نجد أن هناك انخفاضًا مستمرًا في المعدلات، وفيما يلي نستعرض بعض المؤشرات الدالة في هذا السياق، ألا وهو مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، وهي منظمة دولية غير حكومية وغير ربحية تأسست في برلين بألمانيا عام 1993، وتحمل على عاتقها مقاومة الفساد ورصده حول العالم، والقضاء على الجرائم المترتبة على وجود الفساد.

 

 

“دول عربية في ذيل قائمة الفساد لعام 2018، حكومات تلك الدول لم تتخذ خطوات جدية في محاربة هذه الآفة”. نتائج خلص إليها تقرير منظمة الشفافية السنوي، فعربيًا، كانت الصومال الأكثر فسادًا إذ احتلت المرتبة الأخيرة (180)، وسبقتها سوريا واليمن حيث تشاركت الدولتان في المركز (178)، أما مصر، فتحل في المركز (105) وتواجه قضايا فساد خطيرة. وأضاف التقرير أن منظمات المجتمع المدني مستهدفة من قبل الحكومة المصرية من خلال منع أعضائها من السفر، بالإضافة إلى اعتقال النشطاء بشكل مستمر.

وبحسب تقرير منظمة الشفافية، فإن الفساد السياسي يعد التحدي الرئيس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأن العديد من الحكومات العربية تتأثر سياساتها وتتحدد ميزانياتها ومصارف أموالها بنفوذ شخصيات تعمل على مصالحها الشخصية على حساب المواطنين. ويضيف التقرير أنه بدون إرادة سياسية تعمل على مكافحة الفساد في القطاع العام، فإن بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا تجهض حقوق شعوبها.

وتظهر الصورة ترتيب الدول العربية في هذا المؤشر لعام 2018[7].

وقالت ديليا فيريرا روبيو، رئيسة منظمة الشفافية الدولية في التقرير: “توصلت أبحاثنا إلى وجود علاقة واضحة بين إرساء ديمقراطية سليمة والنجاح في مكافحة الفساد في القطاع العام. يمكن للفساد أن يستشري بشكل واسع حين تستند الديمقراطيات إلى أسس هشة، وحين يستحوذ السياسيون الشعبويون والمناهضون للديمقراطية على هذه المؤسسات ويستغلونها لمصلحتهم، وهو ما رأيناه في عدة بلدان”.

وذكر التقرير تحت عنوان “الفساد يقوّض الديمقراطية”: أن القضاء على الفساد أمر ضروري لإرساء ديمقراطية سليمة ولم تحصل أي ديمقراطية كاملة على درجة تقل عن 50 نقطة في مؤشر مدركات الفساد، وبالمثل لا نجد سوى قلة قليلة من الدول التي تتسم بطابع استبدادي ضمن الدول التي حققت درجة أعلى من 50 نقطة.[8]

    

 

أما على مستوى الصحة فهناك تصنيف الصحة العالمية الذي أورد نتائجه موقع بيزنس إنسايدر نقلًا عن دورية “غلوبال بيرسبيكتيف” المعنية بأبحاث ودراسات الرعاية الصحية، وقد حدد التصنيف العالمي الجديد لعام 2019 أفضل الدول التي يتمتع رعاياها بالصحة في مقابل دول لا يحظى مواطنوها برعاية صحية جيدة.

ويعد مؤشر “إنديغو ويلنس” للرفاه -الذي جمع البيانات الخاصة بهذا التصنيف- واحداً من أكثر المؤشرات شمولاً، إذ يغطي 191 دولة حول العالم. وقد احتلت مصر المرتبة الــ18 من بين الدول العشرين الأسوأ أداء في مجال الصحة. وعزا المؤشر احتلال مصر لهذا المركز المتأخر إلى قلة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية وارتفاع خطر الإصابة بداء السكري، ومعدلات البدانة

وجاء العراق في المرتبة التاسعة في سوء الأداء الصحي، وأرجع المؤشر ذلك إلى عوامل مثل الخمول وانخفاض متوسط العمر المتوقع، ونقص إنفاق الدولة على الصحة، وتراجع معدلات السعادة، وارتفاع مستويات البدانة [9].

أما التعليم الذي هو أحد أهم عوامل تطور الدول، وبالتالي تحرص كل دولة على تطوير منظومة التعليم لديها للوصول إلى أعلى جودة تعليمية وبحثية. نجد أن مؤشر “دافسو” لجودة التعليم الذي يصدر ترتيباً عالمياً للدول، حسب تطور جودة التعليم لديها، في العام 2019 أظهر المؤشر خروج 6 دول عربية من التقييم، وتراجع دول عربية أخرى إلى ذيل التقييم[10].

فقد حلت مصر في المرتبة 139 على العالم والأخيرة عربياً، رغم كونها الدولة التي اشتهر مدرسوها في الوطن العربي كله تقريبًا لوجودهم بكافة أنحائه على مدار العقود السابقة.

أما عن مؤشرات الفقر، وبحسب تقرير البنك الدولي الصادر في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2018، في مصر، يصل عدد السكان القابعين تحت خط الفقر المحلي إلى 26.1 مليون، بنسبة مئوية تصل إلى 27.8[11].

 

فهذه أمثلة قليلة لما تعانيه الشعوب العربية، وللإجابة على تساؤل لماذا تثور وتحتج، فهي تثور من أجل الفساد الذي يخيم على دولها، ومن أجل الفقر والمرض والجهل الذين لم ينجُ أحد من شبحهم كلهم أو على الأقل أحدهم، إذا استثنينا بالطبع النخبة الحاكمة وأصحاب المصالح معها والمستفيدون منها على حساب عامة الشعب.

 

 

فصل: في أن الشعوب لا تموت.. بل تقاوم:

نجحت الثورات العربية في موجتها الأولى بالإطاحة بأربعة رموز استبدادية، فبعدَ الثورة التونسية وإرغام بن علي على الهرب، نجحت ثورة 25 يناير المصرية في إسقاط الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ثم ثورة 17 فبراير الليبية بقتل معمر القذافي، فالثورة اليمنية التي أجبرت علي عبد الله صالح على التنحي، تميزت هذه الثورات بظهور هتاف عربيّ ظهر لأول مرة في تونس وأصبح شهيرًا في كل الدول العربية وهو: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وإثر نجاح الثورتين التونسية والمصرية بإسقاط رمزين من رموز الاستبداد بدأت الاحتجاجات السلميَّة المُطالبة بإنهاء الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية بل وأحياناً إسقاط الأنظمة بالانتشار سريعاً في أنحاء الوطن العربي الأخرى.

ثم نجحت الثورة المضادة في مصر بقيادة عبدالفتاح السيسي في إسقاط أول رئيس مدني منتخب، وهو الرئيس الراحل محمد مرسي، وسادت موجة من الإحباط في ربوع الشعوب العربية المتطلعة للتغيير، ولكن سرعان ما عادت الحياة إلى الحراك الجماهيري مرة أخرى، وذلك في الربيع العربية في موجته الثانية.

جزائرياً.. بدأت احتجاجات الجزائر المعروفة بالحراك الشعبي في 22 فبراير/ شباط2019 في كامل التراب الجزائري للمطالبة في بادئ الأمر بعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة، وبعد الأسبوع الثالث من الاحتجاجات المتواصلة؛ أعلنَ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في الحادي عشر من آذار/مارس 2019 تأجيل الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في 18 من أبريل/نيسان 2019 كما تعهّدَ بعدمِ الترشح في السباق الرئاسي. في ذات السياق؛ دعا بوتفليقة إلى تشكيل حكومة من التكنوقراط لإدارة شؤون البلاد كما طالبَ بإجراء حوار شامل قبل الانتخابات. لقيت ثلّة القرارات هذه تفاعلًا حذرًا من قِبل الشعب الجزائري وتصاعدت دعوات لمواصلة الاحتجاجات وتنظيم تظاهرات كبرى من أجلِ مطالبة النظام ككل بالرحيل كما تطالب بانتقال ديمقراطي حقيقي للسلطة وإطلاق سراح الموقوفين، وصحافة حرة، وقضاء مستقل. كما طالبوا بمحاسبة كل رموز نظام بوتفليقة ومكافحة الفساد.، ولا زالت الفعاليات الجزائرية في مدها الشعبي.

سودانياً.. ثار الشعب السوداني ضد ديكتاتورية عمر البشير التي استمرت زهاء ثلاثين عامًا من حكم ”الحديد والنار” فالاحتجاجات السودانية 2018-2019 هي سلسلة من الاحتجاجات التي اندلعت يوم 19 ديسمبر/كانون الأول من عام 2018 في بعض المدن السودانيّة بسببِ ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدهور حال البلاد على كلّ المستويات، وفي 11 أبريل / نيسان 2019، أعلن الجيش خلع الرئيس عمر البشير عن السلطة وبدء مرحلة انتقالية لمدة عامين تنتهي بإقامة انتخابات لنقل السلطة، وذلك بعد اعتصام حاشد أمام القيادة العامة للجيش.

أردنياً.. تظاهر المعلمون في سبتمبر 2019م طلبًا لرفع الرواتب ولتحسين ظروفهم المعيشية، وتعاطفت معهم قطاعات شعبية واسعة، فيما يشابه المشهد السياسي في عام 2018 عندما تصدرت النقابات المهنية جماهير غاضبة من القرارات الاقتصادية للحكومة، والتي أغلقت شوارع حيوية في العاصمة عمان هذه المرة وأصرت على موقفها من منع اعتصام المعلمين أمام مقر الحكومة، مما بد تخوفاً من إعادة صناعة مشهد الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بالحكومة السابقة، وخوفاً من انتقال عدوى الاحتجاجات لقطاعات أخرى.

عراقياً.. خرج العراقيون إلى الشوارع في مختلف المحافظات وبأعداد كبيرة للتعبير عن رفضهم للفساد الذي أفقر الأغلبية على الرغم من الثروة النفطية ”نازل آخذ حقي“، وغياب ثقتهم في الحكومة والأحزاب السياسية التي تتصدر المشهد منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 وإقصاء نظام صدام حسين، وفي مواجهة آلة قمعية مستنفرة على الدوام، تجمع آلاف المواطنين في مختلف المدن العراقية طلبًا للتغيير السياسي ولمواجهة الفساد ولإعادة النظر في بعض الإجراءات الاقتصادية التي يتحمل كاهلها الفقراء ومحدودو الدخل.

لبنانياً.. انتفض لبنان في ثورة كاسحة عمت كل ربوع البلاد وتلاشت فيها الفوارق الطائفية والمذهبية والمناطقية ، حيث خرج الآلاف إلى الساحات العامة في المدن الكبيرة من بيروت العاصمة امتدادا الى طرابلس وصيدا وصور وبنت جبيل وجميع المدن الصغيرة من الشمال إلى الجنوب للتظاهر ضد فساد استشرى، وضرائب تواصل ارتفاعها لكي تثقل كاهل الفقراء ومحدودي الدخل الذين انهارت مستويات الخدمات العامة المقدمة لهم والضرائب المرتفعة، وضد طبقة سياسية عاجزة يتصدرها ملوك المحاصصة الطائفية التي تقوم على نهب وسلب مقدرات الشعب وتوطين الإفساد في المصالح العامة والخاصة، والطبقة السياسية الحاكمة تتلاعب بورقة الطائفية، وترفض أن تساءل أو تحاسب من قبل الناس مثلما ترفض أن تتداول السلطة سلميًا بعيدًا عنها ولا تتورع في سبيل ذلك عن استدعاء القوى الإقليمية والدولية لضمان بقائها وبخاصة بعض المتحالفين مع الولايات المتحدة[12].

أما مصرياً.. فقبل ٢٠ سبتمبر الماضي كان لا يجرؤ أحد على التظاهر ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إذ كانت الأجواء كما يرى متابعون مليئة باليأس والإحباط في ظل مناخ سياسي بدا غير صحي، خاصة بعد المواجهات الأمنية لمحاولات التظاهر بكل حسم وبعد وصول عدد المعتقلين السياسيين إلى 60 ألف معتقل في بعض التقديرات، ثم قانون التظاهر المثير للجدل، وتعديل الدستور ليضمن السيسي البقاء في الحكم لفترة طويلة، وزاد على ذلك وفاة الرئيس السابق محمد مرسي وما أثير حولها من أقاويل بمقتله بطريقة غير مباشرة، وبذلك خلت الساحة للسيسي تماماً وسيطر – كما كان يبدو- على جميع أجهزة الدولة جيش وشرطة ومجلس نيابي وقضاء وإعلام… إلخ

لكن لا تأتي الرياح دائمًا بما تشتهيه السفن، فقد كان ظهور المقاول والفنان محمد علي (والذين معه في رواية) نقطة تحول هائلة ومفاجئة في المشهد المصري، فقد نجح (علي) بأسلوبه الشعبي البسيط والقضايا التي ركز عليها، والتي تخص قوت الناس وكرامتهم وفساد السيسي وحاشيته، في إيقاظ شرائح واسعة من الشعب المصري من غير المؤدلجين والبعيدين عن الأحزاب والحركات السياسية، وأفلح عن طريق مقاطعه المصورة التي يبثها على مواقع التواصل الاجتماعي في إلقاء الجرأة في قلوب تلك الشرائح من جديد وفي إعطاء قُبلة الحياة للحراك الشعبي من جديد.

وكان من نتيجة خطابه انطلاق تظاهرات بشكل غير مسبوق أو متوقع يوم ٢٠ سبتمبر وما تلاه، وذلك في محافظات مصرية متعددة، بوسط القاهرة في ميدان التحرير وبمحافظات مرسى مطروح ودمياط والغربية والدقهلية وقنا والسويس، مظاهرات نددت بحكم السيسي ونادت برحيله، وشهدت إحراق وتمزيق لافتات تحتوي على صوره. ثم قوبلت محاولات التظاهر بعد ذلك بكل حسم من أجهزة الشرطة مما أجبر الثوار على الإحجام عن الاحتجاج.. لكن ما حدث ذو دلالة ظاهرة على أن مصر هي الأخرى على صفيح ساخن[13].

ومن هذا العرض للحراك الثوري العربي خلال عام 2019م، تتجلى حقيقة أن الشعوب العربية تشهد موجة ثانية من المقاومة والثورة التي لا تهدأ، وتأبى الاستمرار في الحياة تحت تلك الأنظمة الشائخة التي لم تفلح في تحقيق الحياة الكريمة لشعوبها.

 

تراكم الخبرات..التأثير المتبادل للشعوب في ثوراتها:

الثورة في تونس ومصر حُسمت وأُسقط “رموز” الاستبداد فيهما سريعًا – رغم النكبة التي لحقت بالثورة المصرية لاحقًا وعودة العسكر لتصدّر المشهد من جديد – لأن الثورة اعتمدت في طبيعتها على عنصر المفاجأة، فلم تتمكن منظومة الاستبداد ومن ورائها قوى الدولة العميقة من الاستعداد لها ومقاومتها، بينما في ليبيا اتخذت الثورة طابعًا عسكريًا نتيجة لجوء معمر القذافي إلى الحل العسكري في مقاومة الثورة ومحاولة وأدها، لكن مع تأكد المجتمع الدولي بأن الكِفة تميل لصالح الشعب الليبي، انطلاقًا من مخرجات ثورتي تونس ومصر، وقفت دول الغرب بصف الثورة الليبية رغم محاصرة قوات القذافي بنغازي واعتزامها اقتحام المدينة، ليس لسواد عيون الثوار أبدًا، بل سعيًا وراء مصالحها، سيما وأنها تضع نصب أعينها ثراء ليبيا وغناها من الموارد الطبيعية.

كما مثّل اندلاع الثورة اليمنية بداية لاصطفاف قوى النظام العربي القديم، وشهدنا لأول مرة تدخل الإمارات والسعودية في واقع ثورات الربيع العربي، فتعقّدت ثورتها بفعل هذا التدخل لتصل إلى ما آلت إليه اليوم. في حين مثّل اندلاع الثورة السورية ومقاومة نظام الأسد الوحشية لها، بداية استعداد قوى الدولة العميقة لمقاومة كل ثورات الربيع العربي.

اختبر أحرار العرب بعد الموجة الأولى للربيع العربي مخططات قوى الدولة العميقة التي تحالفت معها حكومات إقليمية بات شغلها الشاغل إفشال الثورات، فتلقّى محور الثورات الشعبية ضربة موجعة من أقطاب الثورات المضادة، تحديدًا بعد الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي، ومنذ تلك اللحظة توالت الانكسارات في أغلب دول الربيع العربي، وألقت مجريات الأحداث في شوارع القاهرة بثقلها على سائر شوارع العواصم العربية الثائرة، فتراجعت الثورة السورية، وكذلك انقلاب الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح وجماعة الحوثي على الحكومة اليمنية الشرعية، ثم مساعي خليفة حفتر الانقلابية في ليبيا، وهجومه المتكرر على حكومة الوفاق الشرعية في طرابلس للإطاحة بها، أملًا في أن يصبح قذافي جديداً. هذه الانكسارات حرقت كل أوراق قوى الثورات المضادة، فضلًا عن تعريتها لوجوه رجالها وأدواتها من إعلاميين ومثقفين ورجال دين وفنانين وغيرهم، الذين ظلّوا طيلة موجة الربيع الأولى مختبئين وراء أقنعة تُظهر الدعم للثورات الشعبية على استحياء، وتضمر العداء لها في داخلها.

إن موجة الربيع الثانية حملت الكثير من الدروس والعبر، وأكسبت الشعوب خبرات جيدة في التعامل مع الأنظمة الحاكمة، استُمِدَّت من الموجة الأولى لربيع الشعوب، فثوار اليوم يعملون جاهدين على تلافي أخطاء الموجة الأولى، والتي سبَّبت انتكاسات لبعض الثورات، وأعادت الأنظمة السابقة بوجوه جديدة أكثر توحّشًا وإجرامًا من الوجوه السابقة. لذلك نجد أن الثائرين في السودان والجزائر، مصرّون على هدم كل أركان الدولة العميقة، واقتلاع حصونها، لأنهم يعون جيدًا أن بقاءها يعني تكرار سيناريو مصر السيسي في بلدانهم، وبالتالي العودة إلى مرحلة أخطر من المرحلة التي يريدون التخلص منها. وهذا الوعي الجماهيري لمسناه بشكل واضح وجليّ منذ اليوم الأول لتنحّي بوتفليقة، وسقوط البشير.

شكّلَ هذا الوعي صدمة كبيرة للأنظمة العربية الحاكمة، وأجبرها على إبداء مرونة أكبر في التعامل مع مطالب الجماهير الثائرة، رغم محاولات اللعب على عامل الوقت والمماطلة والتسويف، الذي أثبت فشله الذريع.

لا يمكن لأحد أن يُنكر بأن الحراك الثوري كان عكس كل التوقعات، ففي الوقت الذي ظن الكثير فيه أن عزائم الشعوب العربية قد خارت، وأن محور الثورات استسلم، وأن الشعوب عادت إلى سباتها، ولن تفكِّر مرةً أخرى في الثورة، خصوصًا بعدما رأته من بطش وفتك لم يسبق له مثيل، فإذا بثورات السودان والجزائر والعراق ولبنان تعيد زخم الربيع إلى الواجهة من جديد، وبعزيمة أكبر مما سبق، وهو الأمر الذي أدى إلى بعثرة أوراق أقطاب الثورة المضادة من جديد.

وليست الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي ببعيدة عن باقي الأنظمة العربية المستبدة، فدوافع وأسباب الثورات السابقة والحالية موجودة، تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والانتهاكات الحقوقية؛ كالقتل الوحشي للمعارضين، والاعتقال التعسفي لنشطاء حقوق الإنسان، والتعذيب في السجون، وامتهان كرامة الناس، وسرقة حرياتهم، وانتهاك معاشهم وأبسط حقوقهم الأساسية، كلها حطب ينتظر فقط الشرارة والوقت المناسب[14].

إن الموجة الثانية من الربيع العربي أفادت من دروس الموجة الأولى، وأبرز الدروس المستفادة كان الحذر من محور الثورة المضادة داخلياً وخارجياً، والإصرار على القضاء على أركان الدولة العميقة وليس فقط رأس النظام الفاسد، والحرص على عدم تفتيت الكتلة الثورية وهذا ما سنتناوله في السطور القادمة.

 

 

الحضور القوي للبعد الإنساني:

لطالما حكمت الأنظمة المستبدة وفق مبدأ “فرّق.. تسُد”، فزرعت الشقاق والفرقة بين الطوائف المختلفة، وحوّلت الخلافات العقدية والعرقية والطائفية، وغير ذلك من الاختلافات الطبيعية، والتي من المفترض ألا تؤثر على العيش المشترك داخل الوطن الواحد، حولتها إلى سبب للتناحر والكراهية، وذلك من أجل إلهاء الشعوب بقضايا جانبية تلفت الناس عن أسباب شقائهم الأساسية، وهي الفساد والاستبداد وحرمان الجماهير من حقوقها الأساسية في القوت والتعليم والصحة والعيش الكريم، لتحرف بتلك الاختلافات وجهتهم الأساسية إلى مهاجمة بعضهم البعض، بدلًا من العمل على مقاومة الأنظمة الجائرة والعمل على إسقاطها وإحلال أنظمة إنسانية عادلة مكانها.

وقد كان الربيع العربي في موجته الأولى التي انطلقت في تونس أواخر عام 2010، فريسة في أغلبه لهذه الخطة التفريقية، ففي مصر على سبيل المثال عملت القوى المضادة على التحريش بين المواطنين، ما بين مسلم ومسيحي، وعلماني وإسلامي، وفي ليبيا واليمن وسوريا حدث نفس التفريق لكن بمسميات مختلفة.

ولكن يبدو أن الربيع العربي في موجته الثانية قد استوعب هذا الدرس جيدًا، ففي لبنان لم تعد محاولات التفريق بين طوائف الثائرين مجدية، والأمر نفسه يلاحظ في العراق حيث تعلو هناك الشعارات المناهضة لاستغلال ورقة الشيعة والسُّنة لإجهاض الحراك الشعبي، وظهر الوعي وانتشر بأن هذه ورقة أمريكية في الأساس أتت مع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م واستمرت بعده في وكلائه، وكانت مصلحة كل حكومة مستبدة أن تبقي هذه الورقة للاستفادة منها في شق أي حركات وطنية إصلاحية تضم جميع المواطنين. وفي الجزائر والسودان أيضًا علت لافتات الوحدة فوق أي لافتات أخرى وكان السيناريو المصري حاضرًا بقوة في مقام التحذير من الوقوع في فخ الاستقطاب والتناحر السياسي والذي يكون مآله دائمًا عودة وتحكّم الثورة المضادة من جديد.

فالخلافات المذهبية والعقدية والطائفية، محل نقاشها ليس الميادين التي يطالب فيها الشعب بمطالبه الأساسية، بل محل نقاشها المناظرات العلمية والكتب المصنفة  والرواقات التعليمية. وفساد الحكومات وانتهاكها للحقوق وتضييعها للأمانة، لا يطال طائفة من الشعب دون أخرى، بل يطال جميع من يعيشون في الوطن، ففي مصر على سبيل المثال، اجتمع في معتقلات السيسي: الإسلامي والليبرالي والاشتراكي، والمسلم والمسيحي والملحد، والشيخ والشاب والمرأة، والمتعلم وغير المتعلم، والفقير والغني، الجميع يجمعهم أنهم طالبوا بحق من حقوقهم الأساسية.

غياب القيادة الثورية:

يقرر قطاع واسع من المختصين أنه ما من ثورة في العالم قامت واستمرت وحققت أهدافها بصورة عفوية، أو بغياب قيادة لها، بغض النظر عن عددها وطبيعتها، حتى لو كانت مجموعة تحالفات أو جبهة أو حزباً، وأحياناً فرداً أيضاً؛ لأن بالعفوية التي يمكن أن تنطبق أو تنفجر فيها بعض الثورات غالباً ما قد تتعرّض لمخاطر جسيمة من التيه أو الانحراف أو الفشل، إضافة إلى أن وجود عدد من البرامج والخطوط المتوازية، والخلفيات الأيديولوجية المتناقضة تقود إلى أشكال مختلفة من التأزمات التي كثيراً ما تبرز في مراحل الركود أو الانحسار أو الهزائم، بينما يمكن لمراحل المدّ القوي وأمواجه الشديدة أن تخفي عوامل الأزمة ولو لمدّة، وقد يتحقق الانتصار المؤقت بإنجاز الهدف الرئيس: إسقاط النظام مثلاً، لكن سرعان ما ستبرز تلك الثغرة في المرحلة التالية[15].

لقد برهنت مآلات ثورات الربيع الأول في موجته الأولى ضرورة القيادة الثورية، وعلى لزوم تحديد الشعارات والمواقف ووجهات الحركة والعمل. فبعد النضالات البطولية التى خاضتها الطبقات الشعبية وطلائع شبابها الثورية لم تحقق كثيراً من الأهداف التي قامت من أجلها، سواء بصدد معاش الناس أو الحريات أو العدالة الاجتماعية، ناهيك عن إعادة تشكيل الاقتصاد القومي بما يخدم جماهير الشعب، لقد أطيح بالمستبدين الأفراد وبقيت الأعمدة الفقرية لنظم حكمهم تحت أقنعة مختلفة.

فرغم وفرة النماذج المتميزة التي أطلقتها الثورات في ساحاتها المختلفة، إلا أن هذه الثورات لم تفرز في أغلبها قائداً من رحم معاناتها، وقد ظهرت شخصيات في المعارضة تمتلك سيرة ذاتية ووطنية محترمة إلا أنها لا تمتلك خبرة قيادية وإدارية كافية. إما لأن النخب والنماذج الجيدة يفتقدون ما يسمى “كاريزما القيادة” أو مواصفات الزعامة الوطنية الشاملة، أو لعدم قدرة الأحزاب أو الحركات أو الفصائل المختلفة على الائتلاف، ولإعجاب كل ذي رأي برأيه وعدم وجود آلية لضبط الاختلاف، واختفاء ثقافة ضبط النفس وقبول الرأي الآخر في سبيل الوحدة والأهداف الأكبر.

ولعل عفوية الثورات هي أحد أسرار غياب قيادة للثورة، حيث لم يكن هناك أي تنسيق جاد بين المتظاهرين الذين كانوا يخرجون بعد صلاة الجمعة من المساجد التي بدأ المتظاهرون يجدون فيها مناسبة التجمع، ثم بدؤوا يستخدمون وسائل الاتصال التقنية للتوافق على اسم لكل جمعة، وبعد ذلك بدأت التنسيقيات والحركات والائتلافات في الظهور، محاولة إيجاد أشكال ناظمة للحراك السلمي، وسرعان ما انتشرت التنسيقيات المتنافسة والمختلفة التي تعبّر عن تعرّجات مختلفة لخلفيات متعددة أيديولوجية وشخصية وغيرهما. وبات صعباً توحيد التنسيقيات والائتلافات والحركات، وكثير منها عاش صراعاً بينياً، وتعددت الأحزاب أو الفصائل، ثم ظهرت التناحرات والاستقطابات، التي وصلت إلى التقاتل بالسلاح في بعض الثورات.

من وجهة نظر بعض المراقبين يعد غياب الزعامات الوطنية وغياب القائد العام “الذي قد يجيء مستبداً” في صالح الثورة التي وجدت في القيادة الجماعية تعويضاً عن هذا الغياب، ولكن التجربة جاءت بنتائج سيئة، بل  يصفها متابعون بأنها “كارثية”[16].

ففي معظم الثورات عبر التاريخ، تقع أعيننا على شخصية محورية تملك الكاريزما و/أو تيار فكري أو سياسي يملك القاعدة الجماهيرية العريضة. فقد نظــّر للثورة الفرنسية مفكرون كبار أمثال روسو وفولتير وكانت، بينما قاد لينين والحزب الشيوعي الثورة البلشفية في روسيا، وتقدم الخميني والمجلس الثوري (الحزب الثوري الإسلامي لاحقاً) صفوف الثورة الإيرانية. فهذا التيار الغالب يعد في الثورات ضابط الإيقاع وضامن السياق، إذ يؤمّن الأعداد الكبيرة للمشاركة، والتأثير الفعلي في الثورة، وحفظ الخط الرئيس للثورة من المعارك الجانبية والانحرافات السلوكية والاختراقات المضادة، إضافاً إلى كونه الوسيلة الرئيسة واليد الضاربة لتحقيق أهداف الثورة النهائية بعد الإطاحة بالنظام.

لذلك، لا يمكن أن تستغني أي ثورة عن قيادة فكرية، تنظـّر لها، وتصوغ لها أهدافها، وترسم لها طريقها، وتضع لها الخطط الاستيراتيجية، وتضع بين يديها تفصيلاتها التكتيكية، وتقيّم مسيرها وأحداثها، وتتدخل لتقويم أي انحراف عن المسيرة أو بعد عن الأهداف. هي قيادة فكرية دارسة للتاريخ، مستوعبة لدروس الماضي، مدركة لتفاصيل الواقع، ملمة بتعقيدات المشهد، مبصرة لتشابكات الشارع، وبناء على كل ذلك تستطيع أن تضع بصمتها في إسقاط النظرية على الواقع بأنجع ما يكون من وسائل لتحقيق الأهداف المرجوة.

هكذا، لا تنجح الثورات وتحقق أهدافها وحسب، بل تختزل المسافة الزمنية المطلوبة للوصول إلى تلك الغاية، مما يعني تضحيات أقل وأضراراً أخف وعملية أسرع وأجدى في إعادة صياغة المجتمع والدولة وفق تصورات ورؤية الثورة وما أرادته من تغيير، وإلا كان البديل إما فشل الثورة أو استطالة أمدها مع كل ما يحمل ذلك من تضحيات ومعاناة وخسائر.[17]

وبالتالي فإن العمل على إيجاد نخبة جديدة لهو أمر مطلوب، والتنسيق فيما بين المؤهلين للقيادة مطلب ملح، فهذه النخبة وتشكلها واجتماعها الدوري وتلاقيها على أهداف مشتركة، هي العجين التي تتشكل منها لاحقاً قيادة الثورات التي توجه الحراك وتمنع اختراقه والقضاء عليه بسبب العفوية والفوضوية.

معاش الناس .. مركز عملية التغيير:

يوضّح التاريخ بمختلف دروسه وتجاربه من وجهة نظر البعض، أنّ حراك الشعوب في المجمل راجع بالأساس إلى المشكلات المعيشية المباشرة التي تعانيها، لأنّها عموماً (الشعوب) لا تميل إلى النشاط السياسي بمعناه المعاصر، ولا تتدخل في ما يتعلق بالسلطة، وهي عادة تردّ فقط على تعدي السلطة حدودها المباشرة بصورة تمس معاش الناس، وبالتالي فهي تميل إلى التكيّف بعيدًا عن الاحتكاك بالسلطة. ولذلك فإنّ التمعّن في حراك الشعوب التي قامت بثورات ودراسة الظروف الاجتماعية والسياسية التي فرضت تلك الثورات، جعل البعض يقرر أنّ الأساس ليس سياسيًا ولا يتعلق بالحرية بالدرجة الأولى، بقدر ما يتعلق بأنّ هذه الشعوب بلغت لحظة من الضيق الاجتماعي والمعيشي.

الخلط يجري في رؤية عفوية الناس من منظور النخب، التي تفهم معنى الحرية بالمعنى السياسي المعاصر فقط، وتوجه حراك الشعوب إلى مجرد تغيير النظام السياسي فقط وهي لا تستطيع العيش أصلًا، وهذه هي مشكلة قطاع من النخب التي تعمم مصالحها الضيقة على أنها هي مصالح المجتمع، وذلك راجع إلى كونها في الغالب نخبًا لم تعانِ معاناة الناس ولم تجرب ضيق العيش.

وبالتالي لا يمكن والحال كذلك الوصول إلى لعب دور حقيقي في الثورة دون طرح مطالب الناس الاجتماعية وجعلها في أول سلم الأولويات، ولكي لا يُستغل الانشغال عن مطالب الناس ومعاشهم من قِبل قوى الثورة المضادة لإجهاض الثورات والإتيان بنظام قمعي مستبد من جديد. فالاهتمام فقط بتغيير شكل النظام لن يؤدي إلى استقرار، ما دامت مطالب الشعوب الحقيقية بتغيير واقعها الاقتصادي والاجتماعي لم تُحقق.[18]

فمفهوم العيش مفهوم أساسي يرتبط بحياة الناس وضروراتهم الأساسية وحاجاتهم المعيشية، والذي يشكل اهتماماً كبيراً حينما ينحاز عموم الناس لعملية التغيير في احتجاجات واسعة؛ ليؤكدوا أن ذلك هو الشرط الضروري الذي يستنفر الظهير الشعبي. ورغم أن البعض قد يقلل من أهمية ذلك، إلا أن هذا الحث الاحتجاجي يشير إلى أن ذلك المطلب المعاشي هو مطلب جوهري، ويؤكد بعد ذلك على تمكين مفهوم الكرامة الإنسانية والحرية الأساسية والمعاني التي تتعلق بالعدالة الاجتماعية، ومن دون هذا الأساس المعاشي لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نحقق قاعدة راسخة لذلك المربع المهم بكل كمالاته وامتداداته.

وربما حاز الشعار بتركيبته تلك حينما يقدم نقداً غير مباشر للباحثين في علم السياسة والعلماء، حينما يجعلون هذا الأمر شأناً ثانويًا أو ينظرون إليه نظرة هامشية، ولعل هؤلاء حينما يركزون على مفاهيم سياسية تعلموها من مثل السلطة والانتخابات وعمل البرلمانات والدستور والأحزاب.. كل تلك المفردات ربما كانت محط الاهتمام من جانب بعض أهل الثورة، وهؤلاء الذين اهتموا بالسياسة بمعناها الضيق ولعل عالم السياسة “آصف بيات” حينما كتب عن سياسات الشارع لم يكن يقصد إلا ذلك الاحتجاج؛ مشفوعاً بمطالب معاشية واجتماعية قبل تلك المطالب السياسية المعتادة[19].

وعلى جانب آخر وبعد ثورات الربيع العربي، عاد مؤخرًا قطاع من باحثي العلوم السياسية إلى البحث في شؤون الثورة وتعرضوا لعوامل قيامها وتناولوا بالدرس أسبابها وحللوا نتائجها، ويُعد هذا من المتغيرات الجديرة بالملاحظة في حقل العلوم السياسية والذي فرضه الحراك الجماهيري.

 

 

مراجعة للحراك الشعبي خلال العام الحالي في السودان والجزائر والعراق ولبنان ومصر، والانتقال السلمي للسلطة في تونس:

            لقد شهد العام الحالي (2019م) وقبله بقليل حراكاً شعبياً في دول عربية مختلفة، بل وتجاوزها إلى غيرها، كما هو الحال في إيران وإن كان تأثيره على المشهد هامشياً لسطوة  الدولة وقوتها وقدرتها على إدارة الأزمة، انطلق هذا الحراك في وقت كان هناك اعتقاد بأن ما يسمى بالثورة المضادة قد حققت انتصارها على أي تغيير شعبي ضد حكومات الاستبداد والفساد، وأنه لا يلوح في الأفق أي موجة للتغيير، إلا أن انطلاق هذا الحراك ابتداء من الجزائر ثم السودان وما تلاه في لبنان والعراق أكد على أن الأجيال الجديدة عازمة على التغيير، وأن التغيير قادم.

قادم لأنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تستمر الأوضاع في العالم العربي بهذه الوتيرة من استحكام الاستبداد والفساد وانسداد الأفق في وجه الشباب المطالب بمعاشه وكرامته وحريته، فإن ثمة -كما هو معلوم للخاصة والعامة- فساداً سياسياً واقتصادياً على إثرهما استنزفت مقدرات الشعوب لصالح نخب سياسية عرفت باستئثارها للسلطة واستحكامها بها كما هو الشأن في الجزائر والسودان، وأخرى عرفت بانتماءاتها وولاءاتها الحزبية والطائفية الضيقة على حساب الولاء الوطني كما هو الشأن في لبنان والعراق، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذين البلدين يشتركان بصورة ظاهرة في داء الفساد المستشري في بنيتهما السياسية والمجتمعية[20]، وليس خافياً أن استمرار هذا الحال في هذه الدول أدى إلى اتساع رقعة الفقر والعوز والبطالة، وغياب العدالة، وتغول للقلة على حساب الكثرة، فكانت النتيجة المنتظرة خروج أجيال جديدة تبحث عن فرص متكافئة وعدالة ومشاركة في دولها باحثة عن حياة كريمة، ولكن وجدت أمامها احتكاراً للسلطة والنفوذ والمال من قبل طبقات محدودة دون غيرها فضلاً عن انسداد الأفق السياسي في تغيير الأوضاع باتجاه المشاركة الفاعلة من الأكثرية[21]؛ بسبب الاستبداد المستحكم في البلاد، والحالة المصرية تعد مثالاً حياً ما زال مشهده مستمراً وبالألوان على تغييب شعب بأكمله عن الفعل الحضاري والتنموي لهذه البلاد لصالح حكم عسكري شخصاني انقلب على الشرعية.

لقد انطلق هذا الحراك ليبعث رسالة أمل إلى الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها مضمونها أن التغيير قادم وأن مع العسر يسراً، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، ولكن ثمنه الصبر والثبات على المطالب، وما الإصرار الجزائري في التمسك بتغيير المنظومة السياسية في البلاد إلا حالة من الحفز لغيرها بالثبات على المطالب، ومثله في تونس التي حرص فيها الشعب على الاستمساك بثورته والحيلولة دون الانقلاب عليها، بل وتمسك بالمسار السياسي الذي ظهرت فيه الشرعية التي أوصلت رئيسها الجديد إلى السلطة واختارته بعيداً عن النخب والطبقات السياسية المألوفة.

البعد الدولي والإقليمي:

لم يكن الموقف الإقليمي والدولي من الحراكات الشعبية في المنطقة العربية واضح المعالم منذ اللحظة الأولى، باستثناء موقف إيران التي اتخذت مواقف داعمة للسلطات الحاكمة وخاصة في لبنان والعراق؛ لأن مصالحها تقتضي ديمومة هذه السلطات في حكم البلاد، وهي تعي بشكل واضح أن هذه السلطات خادمة لها في ظل استئثار القوى التابعة لها على الحكم وهذا يسري بطبيعة الحال على لبنان مع سيطرة حزب الله على المشهد السياسي وإن كان في ظاهره متنوعاً من حيث انتماؤه الحزبي والإثني والطائفي، وأما في العراق فالمشهد أوضح من أن يوصف، فالقوى الشيعية المدعومة من إيران هي المستأثرة به.

ولذلك تحاول إيران -في العراق على وجه الخصوص- جاهدة في وسط هذا الدفق الجماهيري الغاضب والمطالب بالتغيير  ليس في إطار الترقيع داخل المنظومة السياسية، بل بتغيير جذري وشامل للمنظومة ذاتها، تحاول التأثير في النمط السياسي من خلال التوصل إلى تفاهمات سياسية؛ لإعادة إنتاج نفسها مرة أخرى، وليس غريباً مجئ سليماني هذه اللحظة ليعيد صياغة الشكل السياسي للحكومة المقبلة، سواء بالترغيب أو الترهيب، ولا يخفى على المتابع وغيره أن إيران تشعر بخسارة استثمار عمره ستة عشر عاماً، ولذلك هي تحاول إدارة التغيير والسيطرة على مخرجاته الآن من خلال أدواتها السياسية في الداخل العراقي[22]، ويتضح كذلك وإن بدرجة أقل الدور الذي يقوم به حزب الله في لبنان في إفشال الاحتجاجات المطالبة بتغيير النظام السياسي فيها.

إن رؤية إيران وفق ما تراه من خرائط مصالحها ورؤيتها للإقليم وتمرير النفس الطائفي وإسناده والنظر إلى ما يدور في الشوارع العربية ليس سوى الشغب الذي تحركه أمريكا وإسرائيل، وتتناسى كل ما يتعلق بمعادلات توازناتها الطائفية التي قد تتحكم في تصنيفها للثورات وتخلط عن عمد بين ملف المطالب المشروعة للشعوب والحقوق المشروعة في المقاومة ومواجهة الكيان الصهيوني[23]، إنها صورة متناقضة في المواقف تشي بإسفار أنها دائرة مع المصالح القومية الإيرانية -المتسترة بالغطاء الطائفي- حيث دارت.

وما عدا هذا الموقف الواضح المعالم الذي اتخذته إيران، فإن بقية المواقف في بعديها الإقليمي والدولي يكاد يكون كما وصفه البعض من المراقبين متواطئاً، وهذا التواطؤ ليس حباً في حكومات مستبدة متسلطة أو حكومات فاسدة تتستر بأغطية ديمقراطية مزيفة، وإنما تحركها مصالحها وخوفها على نفوذها الدولي في هذه المناطق الساخنة، وليس أدل على ذلك من الموقف الأمريكي، فإن الممارسات العنفية التي اتبعتها السلطات الحاكمة وخاصة في العراق بشكل كبير، وبشكل أقل في لبنان، وقبلها القتل المتعمد في ساحات الحراك السوداني، كل هذا لم يجعل الولايات المتحدة تتحرك إلا في نطاق ضيق من الدبلوماسية الفارغة التي لا أثر لها في الواقع ودون أن تلامس مطالب الجماهير المطالبة بالتغيير وتحسين الأوضاع والشعور بالكرامة الإنسانية.

ويكفي للدلالة هنا أن الموقف الأمريكي في الشأن العراقي مثلاً لم يظهر بإبداء الموقف إلا في اليوم السابع وبعد سقوط أكثر من 150 قتيلاً وأكثر من خمسة آلاف جريح، وهي حصيلة تضاعفت بعد ذلك بكثير، وحتى حين تغيرت اللهجة الأمريكية إزاء التصاعد في مواجهة الحراك بعنف لم تكن اللغة متجاوزة للإطار الدبلوماسي، ولا يختلف هذا الموقف من أمريكا عن قسيمه حول الأحداث في لبنان، حيث اقتصر على التصريحات بدعم الاحتجاجات والدعوة إلى ضبط النفس والحذر  من الدور الذي يلعبه حزب الله في لبنان ويرى كثيرون إلى أن الموقف الأمريكي لا يعبر عن وجهة واضحة للولايات المتحدة تجاه الأزمة في لبنان.

وإذا انتقلنا إلى الموقف الأوربي، فإنه لم يختلف كثيراً عن الموقف الأوربي، بل كان أكثر ضعفاً؛ بحكم النفوذ الأوربي المحدود والضعيف في العراق، ويستثنى الموقف الفرنسي في الشأن اللبناني -بحكم إرثها الاستعماري- الذي جعل فرنسا تتحرك في أوائل الحراك الشعبي حيث دعت إلى اجتماع دولي في باريس للنظر في أحداث لبنان دون أن يسفر عن شيء، وطالبت بحكومة تكنوقراط تضع المطالب الشعبية في أولوياتها[24].

وأما الأمم المتحدة، فلا زالت تبدي قلقها الدائم في كل أزمة من الأزمات الإنسانية في البلدان التي تعاني من سطوة الاستبداد والفساد، فعبرت عبر أمينها العام أنطونيو غوتيريش عن قلقها إزاء موجات التظاهر التي تشهدها مناطق متفرقة من أنحاء العالم، ودعت إلى الإصغاء لصوت الشعوب والاستجابة لمطالبهم، بل وتعي تماماً أن هناك استخداماً للعنف ضد المحتجين العزل، وآخر المواقف الرسمية اتهام ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت للحكومة العراقية باستخدام القوة المفرطة ضد متظاهرين سلميين، واعترافها بسقوط أكثر من 400 قتيل وما يزيد عن 19 ألف مصاب، وكان منها الأيام الدامية في الناصرية ومجزرة ساحة الخلاني في بغداد، ومن باب الإنصاف يعكس موقف ممثلة الأمم المتحدة هينيس بلاسخارت اهتماماً كبيراً بالأحداث الجارية في العراق، حيث أشارت في تقريرها الرسمي الذي قدمته في مجلس الأمن يوم الثالث من ديسمبر الجاري إلى أن العراق يقف على مفترق طرق محذرة في إحاطة بالشأن العراقي من حدوث كارثة داعية الساسة إلى تقديم الحلول الحقيقية في البلاد[25]، ومع هذا الاهتمام تبقى هذه المواقف في دائرة التصريحات وإرسال المبعوثين إلى مناطق الأزمات، ما يجعلها فاقدة بالفعل صفتها التي تقيدت بها في عنوانها؛ لما تشهده من سيطرة القوى العظمى على كثير من قراراتها التي تتناغم وتتوافق مع مصالحها.

وإن كان هناك من تسجيل لغياب المواقف الحقيقية والمؤثرة من الموجة الثانية للربيع العربي، فإنه الموقف العربي الرسمي الذي حتى وإن شهد حضوراً سياسياً، فإنه لا يتجاوز الأماني والآمال، فهذا الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط يعرب عن أمله في أن تتمكن القيادات السياسية في العراق من الإسراع من حالة الاضطراب الحالية وما يصاحبها من عنف، معرباً عن حزنه وأسفه لاستمرار سقوط الضحايا، ويتفهم اعتبارات الدولة في ضرورة السيطرة على الوضع الأمني والحيلولة دون الوقوع في الفوضى، وأبدى قلقه المتزايد إزاء استمرار العنف دون أفق واضح لوقفه[26]، ليكون مشاركاً في هذا القلق مع الأمين العام للأمم المتحدة !!!!!، ومثله موقفه من الحراك الشعبي في لبنان الذي صرح فيه باهتمامه الكبير بالتطورات المتلاحقة في لبنان، وأعرب عن تطلعه لتمسك كافة اللبنانيين بالوحدة الوطنية والحفاظ على السلم الأهلي .. [27].

وتبقى الإشارة اللافتة للنظر في انعكاسات الأحداث الجارية في لبنان والعراق في السياق الدولي والإقليمي متعلقة بالمشروعات المتدافعة في المنطقة، فالتدافع المستعر ما بين المشروعات الأمريكية والصهيونية والإيرانية فيها لا يخفى أثره السيء على شعوبها وبلدانها، وما الشأن العراقي عنا ببعيد، فمنذ الاحتلال عام 2003م والعراق ساحة لأمثال هذا التدافع انتهى بهيمنة إيرانية على المشهد العراقي بكل مفاصله ومكوناته، ما يعني فشل المشروع الأمريكي في هذا البلد، ومثله فشله في أفغانستان التي أضحت عقدة نفسية فيما يبدو لدى الساسة الأمريكيين، ولئن كان هناك شيء يصب -برأينا- في مصلحة شعوب هذه المنطقة التي عانت ولا تزال تعاني الويلات من هذه التدافعات هو انكشاف المشروع الإيراني وأجندته التوسعية وإن كان بوكلاء مستميتين في ولائهم لها ظاهراً وباطناً.

الثورة المضادة والترصد للانقضاض:

ليس غريباً على المتابع أن يقف على بعض المواقف التي تُواجَه بها بعض الحراكات الثورية والانتفاضات الشعبية الراهنة من قبل قوى أخرى تزاحمها على حراكها الشعبي؛ برفع شعارات جامعة لكل سَوءات الاتهام من العمالة للخارج واستهداف البلاد بالفوضى والخراب، وعدم الاستغراب من هذه المواقف مرجعه الإلف الذي اعتادت عليه الثورات الشعبية في التاريخ الإنساني، إذ غالبها يواجه بما سمي بالثورات المضادة، وهي في حقيقتها ليست ثورات وإنما هي انقلابات وارتدادات عن إرادة الشعوب في تحقيق حريتها وكرامتها ومطالبها، وليست ثورة يناير المصرية عنا ببعيد، إذ هي شاهدة بقوة على هذا الأمر، ولا زالت غارقة في بحر الانقلاب وسوءته، ولذلك من الأهمية بمكان على الشعوب في حراكاتها وانتفاضاتها أن تتحصن من هذه الانقلابات أن تأتي عليها بالنقض والإبطال أو ركوب الموجات، وستأتي الإشارة إلى العقبات التي تواجهها المراحل الانتقالية، وهو ما يستدعي التحصن في مرحلة الثورة وما يعقبها من مراحل انتقالية، وإنما يتحقق ذلك بحسن إدارة الانتقال على وفق ما أشير إليه أعلاه.

إن من النفثات الشيطانية التي اعتادها قادة الانقلابات على الثورات الشعبية بث شعارات بألفاظ موهمة بحيث تأخذ الشعوب إلى حالة من الخدر والغفوة لا تعي معها خطورة هذه المفاهيم ونفثاتها الخادعة، ومن أخطر المناطق التي تتعلق بالثورات وما بعدها زمنياً منطقة المفاهيم التي يصيبها الالتباس عند عموم الناس بل والمنخرطين في الحياة السياسية والعمليات المرتبطة بها، ولذلك من الأهمية بمكان تجريد هذه الأفعال من شعاراتها الوهمية وألفاظها الخادعة، ومنها وصف الثورية التي يدعيها المنقلبون، وعودة إلى الحالة المصرية في مشهد الانقلاب الذي ادعى القائمون به ثورية حراكهم وما اقترن به من تحشيد وتجييش، فهذه الحالة -كما يصفها البعض- التي قامت مع انقلاب التكليف لا يمكن اعتبارها نتاجاً ثورياً، سواء أكان هذا النتاج دولة أم سلطة، فلا لها مؤسسات، ولا هي تمتلك تصوراً لماهية الثورة ولا هي تعبر عنه، ولا كانت قادرة، بحكم تكوينها الملتبس[28].

إن أخطر ما تواجهه الثورات والانتفاضات الشعبية المطالبة بحقوقها وكرامتها هي الدولة العميقة[29] وانقلاباتها على الشرعية، وبحسب بعض الباحثين فإن استراتيجية الدولة العميقة تقوم من خلال أداتها الثورة المضادة بحسب وصفها باحتضان الثورة، ومحاولة الاحتواء لها والتوقف عن نقدها، بل والدفع للتغلغل في صفوفها، وحمل شعاراتها وأهدافها ليتم استعمال نفس الشعارات والأسلوب في الالتفاف على الثورة وإجهاضها من جديد، وإنما تحقق أهدافها بما تنطوي عليها من قدرات تفوق قدرات الثورات الأصيلة، وهذه القدرات تكمن في مؤسسات تنساق مع الدولة العميقة بحكم تغلغل أربابها في داخلها، وأهمها: الجيش والأمن، والقضاء، ورجال الأعمال، والإعلام، والظهير الديني (علماء السوء)[30].

وبحسب معطيات الواقع الذي تشهده أمثال هذه الحراكات فإن هناك ثلاث دوائر تتشابك في آنها أو بعده زمنياً، أولاها الثورة الحقيقية الشعبية وقواها غير المنظمة بوصفها تتحرك لتغيير وضع سياسي انسدت آفاق إصلاحه وتغييره، وثورة التوقعات التي تضغط لتحقيق وعود الثورة الكبرى بأسرع وقت ممكن، وتزيد منسوب التذمر والشكوى بسبب قضايا متعلقة بمعاش الناس، وما يسمى بالثورة المضادة التي تجلت في استخدام أدوات الثورة، مثل التعبئة والتحشيد وتوقعات الشارع وخيباته السريعة ضد الثورة ذاتها، كما استخدمت مؤسسات النظام القديم[31].

ولا شك أن أهم المفاصل في الحراكات الشعبية إذا قصدت تحقيق أهدافها وغاياتها في التغيير يكمن في ثباتها ومطاولتها في هذا الحراك، وأكثر الوسائل أهمية في تحقيق هذا الثبات يتمثل في معركة الوعي الذي قد تنتابه موجات من الغياب والغفلة في بعض مراحله، وهذا يستدعي حسن إدارة للحراك، وهو ما لا يتحقق ما لم يكن الحراك ذاته دائراً في إطار الوفاق ووحدة الكلمة وحسن الأداء بجعله منظماً فتكون له نخبه السياسية المعبرة عنه وعن مطالبه التي ينبغي أن تكون مراعية لحقوقه المدنية والمعيشية والسياسية، ولعل الحراك السوداني يعبر عن هذه الصورة بشكل ظاهر، إذ كانت النخب الشبابية التي قادت الحراك مؤثرة في الموقف بمواجهة السلطة العسكرية بكثير من الثبات على مطالبها بالتغيير وضرورة جعل الكلمة الفصل للشعب وليس للعسكر.

إن أهم ما يلفت النظر في إطار الحديث عن الثورات المضادة هو فشلها في انقلابها على الثورات العربية وإخماد الروح الثورية في الشخصية العربية، بالرغم من كونها مستمرة في الاستمساك بمقاليد الحكم في بعض بلدان الربيع العربي، كما هو الشأن في الحالة المصرية، ولكن مع كل هذا لم تستطع الدولة العميقة ولا الانقلابات المضادة للثورات كسر شوكة الشارع في مواجهة جدار الخوف الذي عول عليه المتحكمون بالسلطة، فالشعوب المنتفضة واجهت كل أنواع التخويف والإرهاب الذي تمارسه السلطات الحاكمة بحيث استوى عندها الموت والحياة، لقد كان الفاعل الرئيس في الحراكات الشعبية غضب الشعوب، وسلمية حراكهم، وشعاراتهم الفارقة، وتجاوزهم للبنى الحزبية والطائفية، وهي قضايا تراهن عليها الأنظمة الفاسدة للانقضاض على الحراكات من خلالها، وهو ما يذكي ضرورة الاستمرار في معركة الوعي جنباً إلى جنب مع معركة الشارع السلمية.

التغيير القادم له ساقان: الاهتمام بمعاش الناس القيم التي يقوم عليها الحراك، ولا غنى لأحدهما عن الآخر:

إن المتأمل في أحداث موجة الربيع العربي الثانية في الجزائر والسودان ولبنان والعراق ومصر يقف على حقائق لا تخطئها العين، وأهمها انشغال العامة بالشأن السياسي العام، وانبعاث نفس شبابي في قيادة الحراكات الشعبية وهو ما يدعم ضرورة الاهتمام بتنشئة نخبة سياسية جديدة يتشكل عقلها السياسي بما يتوافق مع طموحات الجماهير المنتفضة، وبالرغم من غلبة المطالب المعيشية في شعارات هذه الحركات، وهي مطالب تمس حقوق المواطن بما يجعلنا نقر بتعريف للسياسة يتجاوز السياقات التقليدية، لتعرف السياسة وفق هذا الاعتبار: بأنها معاش الناس وتدبيره، إلا أنه لا ينبغي أن يقف التغيير ومطالبه عند حدوده الدنيا مما له تعلق بقضايا المعاش مع كونها ضرورية لا تستقيم الحياة إلا بها، إلا أن هناك ساقاً أخرى تكون صنواً لأختها (المطالب المعيشية)، فلا غنى لأحدهما عن الآخر،  وهذه الساق كامنة في القيم التي يلزم أن يقوم عليها الحراك، وأهمها:

-النظرة إلى الدين:

فإن من إفرازات الموجة الثانية للربيع العربي، وخاصة في نموذجها العراقي واللبناني ترسيخ مفاهيم التحرر من العقل الطائفي وأدواته التسلطية التي جعلت النفوذ الخارجي متحكماً في القرار السياسي وصنعه لصالح أجنداته الإقليمية والدولية بعيداً عن مصالح الشعوب ذاتها، وهي بحق ظاهرة صحية تعبر عن وعي جماهيري شعبي بضرورة الانفكاك من حالة الاستتباع بغير وعي للمرجعيات الدينية المنساقة مع دول خارجية -أمريكا وإيران- على حساب مصالح شعوبها.

ولكن من جهة أخرى لا ينبغي أن تكون هذه الظاهرة سبباً في جعل الدين خارج دائرة التأثير المجتمعي؛ اتكاءً على انحرافات تلبس بها من يحسبون عليها، وهنا يلزم فك الارتباط بين الدين الإسلامي الذي يتسم بالعصمة من حيث مصادره وأصوله وبين التدين به الذي هو قراءة بشرية في ضوئه ما يجعله دائراً بين الخطأ والصواب، وللدين تاريخياً دوره الرائد في تحريك الشعوب في وجه الاستبداد والتسلط.

وحتى يعاد الاعتبار للدين بوصفه فاعلاً أساسياً في حياة الشعوب، كان يلزم فهمه في سياق مقصود واضعه، وإن أبرز معالمه وضعُه ليكون مرشداً للحياة البشرية بجميع مظاهرها، فالله أنزله ليرشد الواقع الإنساني إلى الإيمان وعمران الحياة، وليسترشد به الواقع فيما يواجهه من مشكلات الحياة، لأن الدين في حقيقته شبكة من المقاصد الكلية لحفظ أصوله وحفظ النفس والنسل والعقل والمال، وهي مقاصد بلا شك تبتغيها الجموع الغاضبة والمنتفضة على الفساد والاستبداد، لقد أنزل الدين من أجل بناء إنسانية راشدة في ضوء الإيمان والعمل الصالح، وليحدث حضارة في كل أرجاء الحياة، إنه دين من أجل الواقع[32].

-الجامعة الوطنية:

يبرز الحديث عن الجامعة الوطنية بشدة في البلدان التي يغلب عليها التعددية الإثنية أو الطائفية أو الدينية، وهو ما تتسع له دول الربيع العربي في موجته الثانية وبخاصة العراق ولبنان، ولكي تستطيع الحراكات الشعبية تجاوز سياسات المحاصصة التي أفضت بالبلاد إلى الفساد وتسلط المنظومة السياسية واستنزاف مقدرات الشعوب المادية على حساب مصالحها العامة، كان لا بد من أن يكون المشروع الوطني هو همها الأساسي وهدفها الأسمى، وهو ما يستلزم تعاقداً سياسياً جديداً، واللافت للنظر في الاعتصامات والاحتجاجات الشعبية أن هناك احتفاء متجدداً بالمشاعر الوطنية وانبثاقاً لروح المواطنة المغيبة منذ سنين لحساب الانتماءات والولايات الحزبية والطائفية.

وحتى لا تكون الأماني هي السلعة التي ينتظرها الناس بعيداً عن مجالات التحقق الواقعي، كان لا بد من بيان المقصود بحقيقة هذا المشروع الوطني، وللمستشار البشري قراءة عميقة في هذا المجال حيث يرى أن المشروع الوطني هو الخطوط العامة لما يتراضى على إنجازه أهل جيل أو أهل مرحلة تاريخية معينة، وهو مجمل الأهداف التي تبدو في مرحلة تاريخية أنها تشكل أهم ما يتعين تحقيقه، هو إجمالي ما يتراءى لأهل تلك المرحلة من مشاكل لجماعتهم ومن وجوه لحلها، وهذا المفهوم بهذا المعنى المستفاد يتضمن إطاراً عاماً وقدراً من التعدد والتنوع داخل ذلك الإطار، وهو يقبل كل تعدد وتنوع ما داما ليسا متضادين. ومن ثم وجب النظر إلى هذا المشروع الوطني بوصفه صيغة حافظة تقبل الاختلاف في داخلها، صيغة مجملة مع التأكيد على أن الإجمال هنا هو ما يقبل التعدد والتنوع والتعديل في داخله، وعلى هذا الأساس فإن المقصود بالمشروع الوطني هو التيار السياسي الأساسي الجامع لقوى الجماعة، المعبر عن القاسم المشترك للجماعات المختلفة وطوائفها ومكوناتها السياسية والاجتماعية[33].

-التحصين من التدخلات الخارجية وتحكماتها:

والخارج غالباً ما يكون دوره في لعبة الاختلاف بين المكونات المختلفة في البلد الواحد، فيمدها بحبل من عنده؛ ليذكي وتيرة التصارع فيما بينها ولتدور في إطاره، فتكون ضحية الاستتباع الذي يأتي على اللحمة الوطنية بالنقض والإبطال، وليتخذ الدور الخارجي مسارات متعددة في إفشال أي مشروع وطني جامع، وهذا ظاهر في سوريا وليبيا واليمن التي تعد شواهد على تمزق هذه اللحمة وذهابها أيدي سبأ، ولا يمكن إفشال أي مشروع خارجي في التحكم بمصائر البلدان ما لم تتمكن شعوبها من بناء مشروعها الوطني الجامع الذي يضمن تحقق الحصانة من هذه التدخلات وتحكماتها.

مراجعة تعثر موجة الربيع العربي خاصة في مصر واليمن وسوريا وليبيا، دروس للتغيير القادم:

والحديث عن موجة الربيع العربي الثانية يقتضي الوقوف عند أختها وقسيمتها موجة الربيع العربي الأولى التي بقيت وستبقى فيما يبدو محلاً للاعتبار الذي يلزم ديمومة التفكير والنظر في عوامل وأسباب ما آلت إليه وانتهت به سواء على مستوى الإخفاق الذي غلب على كثير من نماذجها، أو على مستوى حماية الثورة من الانقلاب عليها نسبياً كما هو الشأن في الحالة التونسية بالرغم من كونها لم تستقر على وتد على مدار سنيها الثمان، لكن على الأقل استطاعت من خلال وعي نخبها السياسية أن تتجاوز حالة الانقضاض الذي شهدته أخواتها الأخريات.

وعوداً إلى المراجعة الاعتبارية للموجة الأولى، فمع تفاقم أزمة الثقة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة، وتفشي الفساد المالي والسياسي وعجز الحكومات عن الاستجابة لمتطلبات الحياة الأساسية وتوفير فرص العمل والعيش الكريم، تبنت شعوب دول عدة -تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن- عام 2011م اللجوء إلى خيار الاحتاج السلمي لتغيير الأوضاع بشكل عام والإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، وقد نجح التونسيون في التغيير السلمي للنظام الحاكم، وكذلك مصر التي شهدت تغييرين اثنين في السلطة انتهيا بعودة البلاد إلى نظام حكم عسكري تسلطي، في حين تحولت سوريا وليبيا واليمن إلى دول تعيش صراعات داخلية وحروباً أهلية مستمرة منذ عام 2011م[34].

وحتى نستطيع الخروج بدروس وعبر من هذه المراجعة يستفيد منها التغيير القادم في دول الربيع العربي الثانية يلزم إدراك عوامل ما آلت إليه دول الربيع العربي الأولى من استحكام لنظام عسكري مستبد (الحالة المصرية) أو حروب داخلية طاحنة (الحالة السورية واليمنية والليبية)، ولا يخفى أن هذه العوامل تدور مع سياقين: داخلي وخارجي، وإذا كان الخارجي قد لعب دوره الأساسي في التدخلات ببعديه الإقليمي والدولي في سوريا وليبيا واليمن، فإن للعامل الداخلي الأثر الأبرز في فسح المجال لهذه التدخلات الخارجية، وهذا البعد التقريري في تشخيص الحالة يتوافق مع قواعد السنن التي تشهد لها نصوص الوحي، قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، ويشهد لها التاريخ الذي يقول عنه العلامة الدكتور حامد ربيع: إنه معمل الباحث السياسي، ذلك أن سنن التاريخ في ظواهرها السياسية والاجتماعية تقرر أن التدخلات الخارجية لا يمكن أن تحقق أهدافها ما لم يمكن لها من الداخل، فالخارج لا يمكن أن يتمكن من الداخل إلا بقدر ما يمكن الداخل له، وهو درس عظيم يلزم اعتباره والنظر إليه في سياقات الربيع العربي الثانية، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

إدارة المرحلة الانتقالية[35]:

من الإشكاليات والأزمات التي يمكن أن تظهر في الساحة السياسية عقب الحراكات الثورية والانتفاضات الشعبية عدم التفكير في كيفية إدارة المرحلة الانتقالية بعد سقوط رأس النظام وأحداث التغير في السلطة، وعلى هذا الأساس يلزم فهم متطلبات هذه المرحلة بحيث تقف النخب السياسية الممثلة لهذا الحراك على مقومات إدارة هذه المرحلة.

والمرحلة الانتقالية هي وضع مؤقت يأتي بعد وضع غير مرغوب فيه طالت مدته الزمنية ويرجى تغييره في سياق استشراف عمليات تغيير وتحول، وأهم متطلبات هذه المرحلة التعامل الدقيق والعميق والرصين مع الحالة  الانتقالية، بحيث يتم الاستمساك بالثوابت الكلية والأصول المرعية في بناء تعاقد سياسي ومجتمعي جديد، ويصنع بدائل للحركة ضمن عملية إنضاج سياسي حقيقي لهذه الحالة وليست عملية تسيير أعمال وتمرير أوقات وتبرير حال الانتكاس والتباطؤ؛ ذلك أن في المراحلة الانتقالية قد تسرق الثورات وتركب ويلتف حولها وتنتكس.

فلا بد أن تكون المراحل الانتقالية مراحل مخططة ومدبرة تقوم على الوصل بين الاستراتيجي والمرحلي، ولا يخفى أن التطورات التي حدثت في الثورات العربية بموجتيها الأولى والثانية تشير بوضوح إلى أن الشعوب العربية صارت رقماً صعباً في الظاهرة السياسية، الأمر الذي طرح بقوة ضرورة أن يعاد تعريف السياسة بوصفها (علم إرادة وإدارة الشعوب) بما يتواكب مع ما يحدث في الآونة الراهنة وحال الثورات الكائنة.

وفي سياق الأهداف المتعلقة بالمرحلة الانتقالية، فهناك ثلاثة أهداف كلية، وليس من الضرورة أن يتم إنجاز هذه الأهداف بشكل كامل، ولكن على أقل تقدير تكون السياسات المتبعة في الطريق الصحيح وفقاً لقواعد التعاقد السياسي الجديد، وموجة الربيع العربي الثانية ظهرت فيها أهداف مركزية يلزم مراعاتها ودوام المطالبة بها، وهي مطالب وسعت جميع الدول التي شهدت ولا تزال هذه الموجة بالرغم من الخصوصية التي تتمتع بها كل دولة منها، ولكن طبيعة هذه الحراكات وشعاراتها جعلت المطالب متقاربة، وهي ثلاثة: تغيير النظم التسلطية الفاسدة[36]، وتأسيس أنظمة بديلة عنها، وعيش كريم في ظل كرامة إنسانية وحرية أساسية وعدالة اجتماعية.

إن أهم التحديات التي تواجهها الشعوب الطامحة للتغيير  زمن الثورات والمراحل الانتقالية يكمن في الآتي[37]:

– تحدي المرجعية: في الغالب تثار قضية المرجعية خلال المراحل الانتقالية ويثور معها جدل الهوية، ولذا من الأهمية لمواجهة هذا التحدي أن يكون هناك نوع من التوافق فيما بين مكونات البلد المعني، والمتصور أن المرجعية لها صورتان: الأولى المظلة الفكرية والمعرفية والثقافية التي تتعلق بالمجتمع، أو ما يمكن تسميته بقواعد النظام العام الكبرى، وهذا يتناسب مع الدول التي تتسم بوحدة المكونات وليس فيها تعدد على مستوى الإثنية أو الدينية. والثانية مرجعية الوطن والعيش الواحد ومرجعية المواطنة، وهذا النوع من المرجعيات يتناسب مع تعدد المكونات في البلد الواحد.

-تحدي الشرعية: فيظهر في المراحلة الانتقالية ما يسمى بتنازع الشرعيات (الدستورية، القانونية، الثورية، الشعبية ..)، وإزاءه لا بد من تثبيت نوع من الشرعية تستند عليها النخب السياسية.

-تحدي المواطنة: وهو تحدي يغلب على الدول التي تظهر فيها إشكالية التعدد والتنوع داخل الوطن الواحد، وهو ما يستدعي تغليب المواطنة على غيرها من الانتماءات الضيقة.

-تحدي المشاركة: تسود المراحل الانتقالية أنماط استثنائية تزيح ما هو اعتيادي من قسيماتها، فتصبح هناك حاجة للمشاركة العامة، وتأخذ هذه المشاركة مظاهر متعددة سواء على مستوى اختيار النخب السياسية في الانتخابات التنفيذية أو التشريعية، وعلى مستوى تحريك الشارع في المناشط المدنية المختلفة.

-تحدي الفاعلية: وهو حال تفاعل التحديات الأربع جميعها بما ينتج معادلات مختلفة، ومن شروط الفاعلية تأسيس قاعدة التوافق الوطني والسياسي.

ويضاف إليها تحدٍ آخر هو تحدي النخب والقيادات الجديدة وخطابها الثوري الجديد؛ وهو تحدٍ يأخذ بالاعتبار ضرورة أن يكون الحراك مفرزاً لمجموعة من الشباب الواعد الذي ترقبه الجماهير المنتفضة على الفساد والاستبداد؛ ليقودها في المراحل القادمة سواء الانتقالية أو ما يعقبها، وهذا يستدعي بلا شك نظراً ثاقباً في تبني النخب الجديدة وإعدادها وتنشئتها من خلال استراتيجية جيلية تعدها النخب المعنية.

عوائق التغيير القادم:

إذا كان التغيير القادم حتمياً في دول الموجة الثانية من الربيع العربي، فإن أمامه عوائق كبيرة تلزم مواجهتها إذا أراد أن يحقق أهدافه ومراميه، وهي عوائق تأخذ بالاعتبار مسارين:

الأول داخلي:  وتبرز في ساحته ثلاثة عوائق، وهي:

-تحقيق الإجماع الوطني وسياسات التوافق وقدرة المجتمع على إدارة التعدد والاختلاف، فليس من الخطأ وجود تنوعات ولكن الخطأ أن تتحول تلك التنوعات إلى تنازعات يستغلها صاحب السلطة ليستمر في سلطانه وتحقيق مآربه وأهدافه.

-الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي الحاد (صناعة الفرقة).

-القوى المضادة للثورة والمصالح والنظام الجديد، فالمرحلة الانتقالية هي مرحلة تدافع كثيف بين قوى الثورة والقوى المضادة لها والدولة العميقة؛ ذلك أن الأنظمة العربية الحاكمة عمرت طويلاً، وأسست لثقافة مصلحية متناقضة استقطبت بها من يضمن بقائها ويبقي قواها فاعلة، ومجال تحرك هذا الغول العميق الذي تجذر في مختلف البنى المجتمعية سيكون كبيراً بحكم التغلغل والتجذر في كثير من مفاصل هذه الدولة، وسيعمد حرس الحكم القديم على المطاولة في مواجهة الحراك الثوري وما يعقبه من مراحل انتقالية لإضعافها، وهو ما يعني ضرورة المضي في استراتيجية خطاب جامع للأطياف كلها بحيث يتجاوز خطاب الفرقة والاستقطاب.

الثاني خارجي: وفاعلية هذا المسار تتوقف على المسار الداخلي ومجرياته، بحيث تراهن فيه قوى خارجية لاستغلال حالة عدم الاستقرار التي تكثر في أزمنة الحراكات الثورية، فتوظف من قبلها حالة الفوضى التي قد تعم هذه البلدان جراء الانشغال بهذه الحراكات، فتعمد إلى تعميق حالة الضعف الذي تستغله في سياق تثبيت أقدامها في البلد لصالح سياسات الهيمنة، كما هو شأن القوى الكبرى، كما أن القوى الإقليمية لا تكون غائبة عن المشهد على وفق ما جرى في الموجة الأولى من الربيع العربي، إذ حرصت هذه القوى على إفشال الحراكات الثورية والانقلاب عليها؛ لتحقيق مصالحها أولاً ودفعاً لما تخشاه من امتداد هذه الحراكات إلى شعوبها، والمجال الذي يمكن من خلاله تضمن الشعوب الأبية حماية ثوراتها وانتفاضاتها يكمن في التماسك الداخلي وتحقيق الاجماع الوطني وتغليب سياسة التعايش في الوطن الواحد وتأسيس تيار سياسي عام يتوافق فيه الجميع على احترام الخصوصيات والثقافات ويضمن الاستمرار في مسار وطني واحد.

خاتمة فارقة:

إن حاجة الأمة في مرحلتها الحاضرة والقادمة أن تعي حقيقة وجودها وأن تدرك قيمتها في التاريخ وكيف أنها صالت وجالت حتى حققت سلامها الذي تريد، فكانت فاعلة وغيرها مفعول به وفيه، وإن من أسباب هوانها في مرحلتها الآنية هو ذلكم التحول من دائرة الفعل الذي جعلها تحقق ذاتها إلى دائرة المفعول الذي جعلها موضوعاً يكتب فيه الأغيار ممن جثم على صدرها سنين متطاولة يأخذها يميناً وشمالاً بعيداً عن حقيقتها ودورها الحضاري من داخلها أو خارجها، ولعل مما أسهم في ركونها إلى هوانها غفلتها عن تاريخها، وما أجمل تلكم الكلمات بمعانيها  التي بثها الدكتور حامد ربيع وهو يؤصل لمفهوم الأمن القومي العربي كيف أن سياسة الأمة في تاريخها اتسمت بخصائص وسمات وعناصر من القوة حرصت عليها الأمة على مدار تاريخها الغابر، وقد لخصها في ثلاث: الأول: القيادة الواعية التي تخطط للمستقبل، والثاني: التماسك البنائي في المجتمع، وقد أسهم الدين والولاء للأمة والاستجابة العقائدية ومفهوم الجهاد في تضافر هذا المبدأ، والثالث: النذير والتدبير وضوح الرؤية عند السياسي، بحيث يعي جميع احتمالات المستقبل في سياق استراتيجي تكتيكي حركي.

إنها سمات ذهبية لهذه الأمة في تاريخها، لو قامت عليها اليوم؛ لعاد إليها وجودها وحضورها وفعلها، وإن لهذه الأجيال المنتفضة مقاربة في تلكم المعاني جعلتها تتجاوز حدودها الجغرافية لتحمل همَّ أمثالها في بقاع عربية قريبة أو بعيدة، وإن من النضج أن تحدث الجماهير صلة بين جغرافيا الحراك الثوري في مواطنه المختلفة، فمرة تهتف ضد السيسي ومرة لفلسطين وأخرى للسودان والجزائر .. وهكذا تحقق الوعي.

ولكن الذي يلزم للحفاظ على هذه الروح المنتفضة استمرارية حراكها وثباتها عليه مع وضوح في الرؤية وأهداف محددة وقيادة جامعة وقرارٍ فصلٍ تأخذه بقوة تنأى به عن ملهيات تفرقها وتشتت شملها وتذهب ريحها، وسيستمر أرباب الانقلاب على الثورات بكل ما أوتوا من قوة للانقضاض عليها لوأدها في مهدها والحيلولة دون تناميها ونضوجها، وهنا تأتي معركة الوعي وإن اقترن بالشقاء الذي لا يستريح معه العقل ولا ينام؛ لتكون هي الفيصل في مسار هذا الحراك ومآلاته، ولئن استطاع الملأ سادة ووكلاء في إجهاضه، فإنه يكفي هذه الجماهير رمزية أنها كسرت حاجز الخوف وعبرت بقوة عما يجيش في صدورها، فلا عودة البتة إلى حال السبات في ظل الفساد والاستبداد.

[1]  عمر الهاشمي، ربيع العرب الثاني، 30-7-2019، بتصرف يسير، موقع: الموقع.

[2]  عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ص353، ط دار الفكر، 2001م، بيروت.

[3]  أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوي، (28/62)، ط مجمع الملك فهد، 2004م، المدينة المنورة.

[4]  د. مسعود صبري، متى يكون الظلم مؤذنًا بخراب العمران، 7-11-2017م. إسلام أون لاين.

[5] ينظر تفسير المنار، ج8، ص405 وما بعدها، طبعة المنار، ط1، القاهرة.

[6]  المصدر السابق.

[7]  المصدر: موقع الحرة، الفساد في العالم.. ترتيب الدول العربية، 4-2-2018م.

[8]  مصدر التقرير: موقع منظمة الشفافية الدولية، النسخة العربية:

transparency.org/files/content/pages/CPI_2018_Executive_summary_web_AR.pdf

[9]  موقع الجزيرة نت، مصر والعراق ضمن قائمة أسوأ 20 دولة في الصحة، 21-3-2019م.

[10]  موقع عربي 21، هذا تصنيف الدول العربية بمؤشر جودة التعليم، 11-9-2019م.

[11]  الحرة، الفقر في العالم العربي أرقام صادمة، 16-12-2018م.

[12]  ينظر: أحمد عبد الباسط، براكين ثورات الشعوب العربية، رأي اليوم، 22-10-2019م.

[13]  معتز زاهر، المشهد المصري بين خريف آفل وربيع آت.. قراءة في حراك 20 سبتمبر، 27-9-2019م، مركز رؤيا للبحوث والدراسات.

[14]  ينظر: عمر الهاشمي، مصدر سابق، بتصرف يسير.

[15] مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من إشكالات الثورة غياب القيادة، 24-10-2018م.

[16] ينظر: رياض نعسان، الثورة السورية وغياب القيادة، 7-8-2015م، موقع عربي 21.

[17]  يراجع: سعيد الحاج، الثورة والنخبة والشارع مَن يقود من، نون بوست، 28-2-2014م.

[18] ينظر: سلامة كيلة، ثورات الشعوب العربية نتاج اجتماعي بالأساس، صحيفة العرب، 2-5-2015م.

[19]  أ.د سيف الدين عبدالفتاح، السياسة معاش الناس النقد الذاتي 13، موقع عربي 21، 15-5-2018م.

[20] يحتل العراق المرتبة 169 من أصل 180 اقتصاداً في مؤشر الفساد، إذ أشار تقرير رسمي لمنظمة الشفافية الدولية إلى أن العراق يحتل مرتبة متأخرة في مؤشر مدركات الفساد عام 2018م، وهو مؤشر على تراجع مستوى الشفافية والمصداقية في مختلف القطاعات الاقتصادية، وحصل العراق على 18 نقطة من أصل 100 في التقرير العالمي الذي يرصد 180 اقتصاداً حول العالم؛ إذ يعني الحصول على 100 نقطة أن الدولة خالية من الفساد، بينما تشير نسب ارتفاع الفساد في الدولة التي تقل عن 50 نقطة، وتتعدد مظاهر الفساد في العراق وتكثر، نذكر منها ثلاثة أمثلة كاشفة:

-فساد عقود المقاولات والمشتريات: ومن خلال تقارير هيئة النزاهة العراقية فإن هناك خسائر تقدر ب 250 مليار دولار، وهذا النوع من الفساد استشرى في كثير من مؤسسات الدولة بما فيها رئاسة الوزراء، ومن أمثلتها صفقة شراء السلاح من صربيا عام 2007م بقيمة 833 مليون دولار، وقد تبين أن القيمة الأصلية للسلاح هي 236 مليون دولار فقط.

-فساد الوظائف الوهمية: واشتهرت الأزمة التي حدثت في عهد العبادي، حيث جرى الكشف عن وجود 50 ألف جندي وهمي (فضائي)، وقد أدى الفساد الحكومي لاستنزاف الموارد الحكومية بسبب التعيينات في الوظائف العامة بنسبة تزيد عن 80% من حجم الموازنة، وقد بلغت قيمة الرواتب وما في حكممها نحو 50 مليار دولار في موازنة عام 2019م لتشكل نسبة 61.1% من مجموع الإنفاق التشغيلي الجاري، علماً أن التقديرات المتاحة عن حجم الفساد في القوات المسلحة فيما يخص موضوع الفضائيين أو الجنود الوهميين فقط يصل إلى 250 ألف منتسب أمني حسب تصريح نائب رئيس الجمهورية السابق إياد علاوي، ويكلف هؤلاء الخزينة العامة ما يقرب من 2500 مليار دولار سنوياً.

-بيع وشراء المناصب العليا في الدولة: وهو المظهر الأخطر في ظاهرة الفساد، ويشمل استحواذ أفراد وأحزاب وكيانات ومنظمات وما شابه على المناصب التنفيذية في الدولة ووظائف عليا أو متوسطة، تكون مسيطرة على اتخاذ قرارات سياسية أو اقتصادية أو استثمارية أو تجارية أو مالية واستغلالها لمصالح ذاتية وفئوية، وأخطر ما في هذا المظهر من مظاهر الفساد أنه من العسير كشفه، لكن ما يعلن من خلال السياسيين أنفسهم يؤكد تحول عمليات المناصب إلى أمر مألوف وشائع، وظاهرة مشعان الجبوري في تصريحاته ومقابلاته العلنية في القنوات يعرفها الجميع، ويتراوح سعر المنصب الوزاري في الحكومة العراقية بين 10 ملايين إلى 25 مليون دولار، وبشكل أقل بالنسبة لبقية المناصب العليا.

انظر: محمد فرحات، الفساد في العراق .. حقائق وأرقام صادمة، العين الإخبارية، تاريخ النشر: 7/10/2019م. همام الشماع، العراق وظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 13/1/2019م.

وبالنسبة للبنان، فقد أعلنت الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية (لا فساد)، الفرع الوطني لمنظمة الشفافية الدولية، حصول لبنان على درجة 28 من 100 للعام السادس على التوالي، بحسب مؤشر مدركات الفساد لعام 2018م، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، ويقبع لبنان في المرتبة 138 من أصل 180 عالمياً يقيسها المؤشر.  وبالنسبة لمظاهر الفساد في لبنان فوفق دراسة أعدتها الشركة الدولية للمعلومات تبين أن الكهرباء وقطاع التوظيف العام والاعتداء على الأملاك البحرية وإيجارات الأبنية الحكومية هي مركز رئيسي للهدر والسرقة، ورغم أن هذه القطاعات هي الأعمدة الظاهرة في بنيان الفساد، غير أن ثمة مظاهر أخرى تتمثل بصفقات وسمسرات في قطاعي الاتصالات والكهرباء خصوصاً، ما يجعل الوزارات المسؤولة عنها وزارات دسمة، وهذه السمسرات يعرفها الجميع ولا يملك أحد إثباتاً عليها نظراً لتشابكها وتوزعها بين قوى السلطة. ووفق تقرير للبنك الدولي، فإن كلفة المحاصصة السياسية تترواح ما بين 4 و 5 مليارات دولار .. والقائمة تطول في بيان هذه المظاهر، كلها تعد مسوغات ومبررات حقيقية لخروج الشارع اللبناني مطالباً بإسقاط المنظومة الحاكمة بجميع مكوناتها.

انظر: لا فساد: لبنان يحتل المرتبة 138/180 بحسب مؤشر مدركات الفساد لعام 2018م، موقع النشرة، تاريخ النشر: 29/1/2019م. الفساد في لبنان .. مغارة علي بابا، موقع القبس، تاريخ النشر: 17/أكتوبر/2019م.

[21] محمد عايش، الموجة الثانية من الربيع العربي، القدس العربي، تاريخ النشر: 4/نوفمبر/2019م.

[22] من مقابلة مع الدكتور باسل حسين أجرتها صحيفة الانديبندنت مع عدة محللين سياسيين، تحت عنوان: إيران تطرح خريطة سياسية في العراق لمعادلة الكفة مع أميركا، أجرى المقابلة أحمد حسين، 2/ديسمبر/2019م.

[23] د.سيف الدين عبدالفتاح، موجة ثانية من الثورات في العراق ولبنان.. أحداث كاشفة، موقع: عربي 21، تاريخ النشر: 27/نوفمبر/2019م.

[24] د.يحيى الكبيسي، العراق: حركة الاحتجاج والتواطؤ الدولي، موقع: عربي 21، تاريخ النشر: 15/نوفمبر/2019م.

[25] هينيس بلاسخارت في مجلس الأمن: العراق يقف على مفترق طرق، موقع الأمم المتحدة، تاريخ النشر: 3/ديسمبر/2019م.

[26] أبو الغيط: من الضروري تكثيف الحوار في العراق لوقف العنف ونزيف الدم، موقع جامعة الدول العربية، تاريخ النشر: 11/11/2019م.

[27] الأمين العام للجامعة العربية يدعو اللبنانيين إلى التمسك بالوحدة الوطنية والحفاظ على السلم الأهلي، المرجع السابق، تاريخ النشر: 29/10/2019م.

[28] محمد القدوسي، كتاب الثورة: الثورة المضادة وحاملو صحيفة المتلمس، المعهد المصري للدراسات، 2018م، ص3.

[29] يعرف بعض الباحثين الدولة العميقة بأنها: “مركب من المصالح والتصورات والإدراكات التي تتحرك على بنية عميقة من أجهزة الدولة وخاصة الأمنية منها، وشبكة من النخب الثقافية والإعلامية، وطبقة من رجال الأعمال، وتحالف اجتماعي عميق من طبقات اجتماعية أو شرائح منها وخاصة بيروقراطية الدولة وأجهزة الحكم المحلي، ويمتد هذا المركب إلى قطاع المجتمع المدني، وهذا المركب له امتداداته الإقليمية والدولية”.  ويقاربها من حيث الوظيفة والتأثير مفاهيم: حكومة الظل، الدولة المزدوجة، الدولة الموازية، دولة داخل دولة، الحرس القديم، مراكز القوى. انظر: علي الجرباوي، الدولة العميقة: محاولة لضبط المفهوم، مجلة سياسات عربية، العدد 34، 2018م، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص13.

[30] عباس شريفة، الثورة والدولة العميقة: فلسفة الصراع واستراتيجية المواجهة، إسطنبول، رؤية للثقافة والإعلام، 2018م، ص20.

[31] عزمي بشارة، ثورة مصر: من الثورة إلى الانقلاب، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2016م، ص17.

[32] د.سيف الدين عبدالفتاح، الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2016م، ص21.

[33] طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، القاهرة، دار الشروق، ط1، 2011م، ص31.

[34] أحدثها بيروت .. خمس محطات مرت بها الموجة الثانية للربيع العربي، موقع الجزيرة نت، تاريخ النشر: 25/10/2019م.

[35] ينظر: د.سيف الدين عبدالفتاح، المرحلة الانتقالية: قراءة في المشهد المصري، القاهرة، دار البشير، ط1، 1435هـ/2014م.

[36] توصيف الأنظمة السياسية الحاكمة في بلدان الربيع العربي الثاني (الجزائر، السودان، العراق، لبنان) بأنها تسلطية فاسدة هو باعتبار حقيقتها وواقعها وإن كانت تتزين بالديمقراطية والانتخابات في جميعها، أو تداول السلطة في حالتي العراق ولبنان، وهي صورة مجافية للحقيقة؛ لأن التداول جارٍ في إطار منظومة مغلقة داخلها أحزاب وقوى سياسية تعاقدت فيما بينها على إدارة البلاد وفق سياسة المحاصصة الطائفية، وأما الحالة الجزائرية والسودانية فظاهر فيهما التسلط السياسي بعد الاستحكام المتطاول زمنياً في السلطة السياسية، والسياسات الفاسدة التي أضرت بالشعوب على مختلف الأصعدة.

[37] د.سيف الدين عبدالفتاح، المرحلة الانتقالية، مرجع سابق، ص27-35.

زر الذهاب إلى الأعلى