استعراضملفـاتوباء كورونا

هل يعاد تعريف السياسة في زمن الكورونا

 

مع كثرة التعريفات التي ارتبطت بمفهوم السياسة في سياقه الحديث، فإنها على اختلاف ألفاظها مرتبطة من حيث جوهرها بالنظر إلى الطبيعة البشرية ومحاولة الوقوف على كنهها، والواقع الإنساني نفسه يثير إشكاليات متعددة من حيث تفسير مساراته إلى القدر الذي يصعب معه الوقوف على وصف جامع له بحيث يستطيع الناظر جعله في سياق تفسيري جامع.

وهذا التباين والتغاير في الرؤى حول الطبيعة البشرية من حيث تفسيرها والبحث عن ماهيتها يجعل مفهوم السياسة متأثراً إلى حد كبير بهذا التباين إلى القدر الذي نرى فيها تعريفات متعددة لهذا المفهوم، مما جعل الكثيرين من مفكري السياسة -وخاصة الغربيين منهم- إلى توصيفه بالغموض تارة وعدم الدقة تارة أخرى؛ ومرجع ذلك ارتباط هذا المفهوم بقواعد وقوانين اللعبة السياسية وخاصة في إطار الخبرة التاريخية الأوربية التي ارتبط واقترن بها هذا المفهوم وانعكس كلياً على حاضنته العلمية.

وقد رأى بعض الباحثين أن ماهية السياسة في العصر الحديث تكمن أساساً في كونها فن الممكن، وتعظيم الاستفادة من كل موقف حسب مقتضياته، فهي حركة تنظيمات عفوية تستخدم كل ما هو متاح وممكن من الأدوات والنظريات والوسائل، وتبدل قيمها وغاياتها ومفاهيمها حسب ما تفرضه المواقف ومقتضيات اللعبة السياسية، وهو ما يعني فقدان وغياب البعد القيمي الذي تراعى فيه حياة الإنسان وجوداً ومعاشاً، ويبقى المستحكم في البشرية خطاب القوة والمصلحة والربح لفئة قليلة من الناس حتى وإن أفضى إلا هلاكهم وذهاب مصالحهم الدنيوية المعتبرة.

إنه وبالرغم من مراجعات الغربيين لمفهوم السياسة في السياق المعرفي والعلمي في ظل أطروحات ما بعد السلوكية وما بعد الحداثة بما جعلهم يعيدون الاعتبار إلى الدائرة القيمية، إلا أن الظاهر أن أطروحات الفكر الليبرالي في مرحلته التقليدية من غلبة مفاهيم الصراع والقوة والمصلحة ما زالت هي المستأثرة في المشهد السياسي على مستوى بيئته الداخلية أو الخارجية أو الدولية، وكأنك تلمس صنيع بعض الساسة ومتقلدي السلطة والحكم في العالم كأن بين يديه كتاب ميكيافيلي (الأمير) وقاعدته سيئة السمعة (الغاية تبرر الوسيلة).

إن المثال الكاشف عن هذه الرؤية كما لا يخفى على المتابعين هو طبيعة التعاطي الغربي مع وباء الكورونا، ولعل النموذج الأمريكي والنموذج البرازيلي يعدان أكثر النماذج وضوحاً في التعاطي البراغماتي المتطرف، إذ جعلا في أعلى أجندتهما البعد الاقتصادي على حساب البعد الإنساني، مما ترك أثره على تماسك النظام السياسي الداخلي ذاته وقدرته على إدارة شؤون البلاد ومدى نجاحه في تجاوز الأزمة.

فعلى سبيل المثال حين اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قرار عودة الحياة إلى الاقتصاد الأمريكي تدريجياً بضغط من أصحاب رؤوس الأموال وارتفاع معدلات البطالة في البلاد، لم تكن استجابة حكام الولايات الغربية والشرقية لقراراته على وفق ما يريد، بل جعلوا في أولوياتهم استمرار النظام الصحي بأداء مهامه وتراجع عدد الإصابات، والأمر ذاته جاء في تصريح رئيسة الكونكرس الأمريكي نانسي بيلوسي إذ أكدت أن إصرار الرئيس ترامب المستمر على المضي قدماً في الانفتاح الاقتصادي من دون اختبارات وجمع بيانات واحترام الحقائق يؤدي إلى مخاطر بمزيد من الموت والكوارث الاقتصادية، بل ويعني أيضاً –وهو معنى خطير في الفكر السياسي المعاصر- إضافة معنى جديد لمفهوم الاستبداد الذي يحرص ترامب على تعميمه ونشره بين وكلائه وذيوله في العالم.

هذا النموذج وأمثاله يعيد إلى طاولة البحث والنقاش أهمية إعادة النظر في تعريف السياسة، وهو إن كان محل بحث في مراحل زمنية سابقة،  فإن الحاجة إليه في زمن كورونا تعد أكثر مساساً من مثيلاتها السابقة؛ والفكر السياسي الإسلامي يقدم نفسه بقوة في هذا السياق؛ لأنه يقف عند ميزان منتظم في النظر إلى الطبيعة البشرية من حيث جوهرها، بما ينعكس على تفسير ظواهرها الاجتماعية كلها، ومنها الظاهرة السياسية، فإن التناسق بين مفهوم الفطرة الإنسانية التي تعني صلاحية الإنسان واستعداده للهدى وللحق، وبين مفهوم السياسة في الفكر الإسلامي الذي يعني القيام على الأمر بما يصلحه يترك أثره البالغ في إصلاح المسار الإنساني باتجاه جعله متسقاً مع نفسه ومع بيئته ومع الكون كله في إطار منهج الاستقامة.

وهذا المعنى العميق للمفهوم يحتاج منا نحن المسلمين اليوم أن نجعله في بؤرة اهتماماتنا المعرفية والتطبيقية، وقد اطلع العالم بشقية الغربي والشرقي على كثير من معالم الصواب في البنية الإسلامية ليس فقط في الإطار الصحي الذي تمتاز به شريعتها ونظامها، بل حتى في النظام الروحي المعنوي الشعائري، وهو ما يحتم علينا أن نكون دعاة ومبلغين لهذا الدين إلى الناس كافة ونكون شهداء عليهم بعد التحقق به في ذواتنا ونفوسنا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى