اختطاف الإسلامملفـات

اختطاف الإسلام (تطبيق الشريعة الإسلامية نموذجًا)

المقدمة:

تنامى الحديث -في الفترة الأخيرة- عن الإسلام وكأنه مجموعة لا يمكن حصرها من “الإسلامات” التي لا يوجد لها تعريف واضح ومحدد، أو على الأقل فإن له تعريف “صحيح”، و”حقيقي” لم يتمكن من اكتشافه والتعرف عليه سوى الجهة (أو الفرد أو الجماعة أو الحركة أو الدولة…) التي تقدم نفسها وكأنها هي الوحيدة التي أوحي إليها بالمعنى الدقيق للإسلام وما يتضمنه من قيم ومقاصد وأحكام!

وتكمن خطورة هذا “التسييل” لمفهوم الإسلام  في أنه ييسر عملية استلابه لحساب القوى المعادية له، بل وجعلها هي المتحكمة في تحديد ما يعد من الإسلام وما لا يعد منه، ومن ثم تُدخل فيه ما ليس منه، وتخرج منه ما قد يعتبر من أسسه وثوابته، أو على أقل تقدير فإنه يسهل عليها عملية تشويه الإسلام وتشويش معناه في أذهان الناس، ولاسيما المسلمين المعاصرين أنفسهم، في وقت هم أحوج ما يكونوا فيه إلى الوعي الصحيح به والعمل الرشيد بقيمه ومبادئه لمواجهة هجمات كاسحة لا تستهدف فقط إحكام الهيمنة عليهم، بل وعلى الإنسانية بأسرها، والتي لا يزال الإسلام هو الأمل في انتشالها من المصير البائس الذي تجرها إليه القوى المتحكمة في هذا العالم.

من أجل ذلك كان من الضروري الوقوف على حقيقة هذا الاختطاف للإسلام، ودراسة أهداف هذا الاختطاف واستراتيجياته وأساليبه، والقوى الفاعلة فيه، وبيان كيفية التصدي لها، ومقاومتها، ورسم الطريق للحفاظ على “صلابة” الإسلام ووضوحه في أذهان الناس، لحمايتهم من التيه والضلال، لا للدفاع عن الإسلام نفسه، فإن له ربًا يحميه!

ولعل من أهم النماذج التي تفترض هذه الدراسة أنه يمكن من خلالها الإحاطة بعملية اختطاف الإسلام وأساليبها، هو نموذج قضية “تطبيق الشريعة الإسلامية” باعتبارها من أكثر القضايا الكاشفة التي كانت –ولا تزال- تبين بجلاء كيف جرى استلاب مفهوم شريعة الإسلام، تمهيدًا لإقصائها من السيادة الثقافية والتشريعية التي تبوأتها -منفردة- في العالم الإسلامي على مدى ما يقرب من ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، وإحلال مرجعية غربية بديلة عنها في إطار عملية “التحديث” أو “التغريب” الشامل الذي فرضته قوى الإمبريالية منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي وحتى وقتنا الراهن.

وتسعى الدراسة إلى اختبار هذه الفرضية من خلال تتبع هذا الاختطاف للشريعة الإسلامية، مفهومًا ومرجعية، وبيان القوى والجهات الفاعلة التي قامت به أو أسهمت فيه، وسياساته واستراتيجياته وأهدافه، وأدواته وآلياته، وعلاقاته ومؤسساته، وردود الفعل تجاهه، ودراسة استراتيجيات مواجهته ووسائلها ونماذجها، عسى أن يتضح عمليًا كيف يجري اختطاف الإسلام، مجسدًا في هذه الحالة في شريعته، وكيف يمكننا أن نواجه هذا الاختطاف.

ولذلك فإن هذه الدراسة ستعتمد على عددٍ من المناهج التي يفرضها موضوعها والأهداف التي تتغياها، فستستخدم أحيانًا المنهج التاريخي لبيان خطوات اختطاف الشريعة الإسلامية وإحلال القانون الوضعي محلها، معنى ومبنى، ومنهج تحليل النصوص والمواقف (تحليلًا كيفيًا) لبيان السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي، ومجمل الظروف التي وضعت فيها تلك النصوص، وجرى فيها تبني تلك المواقف، فضلاً عن المنهج الاستقرائي للخروج بتفسيرات واضحة لهذه المواقف الجزئية بعد تحليلها وتصنيفها للتوصل إلى قواعد عامة يمكن توظيفها في تفسير ظاهرة اختطاف الإسلام والإسهام في مواجهتها.  

وبخصوص محددات الدراسة ومداها الزمني فقد جرت الإشارة سابقًا إلى أنها ستتناول عملية اختطاف الشريعة الإسلامية في العصر الحديث، وإن كانت ستعود أحيانًا إلى جذور هذا الاختطاف في الماضي، فقط بالقدر الذي يؤثر في الحاضر، إذ إن هذه الدراسة ليست “تاريخية” تقف عند الماضي وتدور حوله، بل هي دراسة “معاصرة” تستهدف الإسهام في حل إشكالية -ومُشكِلة- مؤرقة في وقتنا الراهن، وتحرص على عدم الانجرار إلى الماضي دون داع، ومن ثم فإن مداها الزمني الأساسي سينحصر في الفترة من بدايات القرن التاسع عشر حتى وقتنا الحاضر.

 تمهيد: المفاهيم الرئيسة للدراسة:

من المهم في بداية الدراسة تعريف مفاهيمها الأساسية التي تمثل محورها ومحلها، وهي تتمثل في مفهومين؛ “اختطاف الإسلام”، و”تطبيق الشريعة”.

1) مفهوم “اختطاف الإسلام”:

الاختطاف لغة اسم مشتق من المصدر “خطف” ويعني: مر سريعًا، وخطف الشيء خطفا، جذبه وأخذه بسرعة واستلبه واختلسه، ويقال خطف البرق البصر ذهب به وخطف السمع استرقه([1])،وقد عرف الإمام القرطبي الخطف -عند تفسيره لقوله تعالى:” يكاد البرق يخطف أبصارهم”- بأنه: “الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافًا لسرعته”([2]).

وبالنسبة للمعنى الاصطلاحي للاختطاف أو الخطف، فتتنوع تعريفاته وتتباين، ولكنها جميعها لا تتصادم مع معناه اللغوي؛ فالفقه الإسلامي ذكر الاختطاف ضمن مباحث جريمة السرقة باعتباره اختلاسًا، إذ كان الاختلاس والاختطاف عندهم بمعنى واحد وكلاهما يعني أخذ الشيء علانية على وجه السرعة، خلاف الانتهاب الذي كان يعني أخذ الشيء علانيةً وعلى وجه المغالبة والقهر([3])، بينما يُعرَّف الاختطاف في القوانين المعاصرة باعتباره نوع مستقل من الجرائم الجنائية أو السياسية بحسب نوعية الجناة والمجني عليهم ووفقًا لدوافع الجريمة، ومن ثم فلا يوجد تعريف موحد له([4]).

والحقيقة فإن اختطاف المصطلحات والمفاهيم لا يختلف كثيرًا عن اختطاف الأشخاص والأشياء، مع اختلاف بسيط، يتمثل في أن الاختطاف الأول هو اختطاف ذهني وفكري أساسًا، عكس الاختطاف الثاني فهو اختطاف مادي بالأساس، وكلاهما يجمعهما معنى الاستلاب والأخذ بسرعة، غير أن خطف المصطلحات يعتمد في الغالب على الخديعة، لا على القوة المادية، وإن كانت هذه الأخيرة تحميه -عادة- وتكون شريكًا أصليًا في ارتكابه!

أما مصطلح الإسلام لغة، فهو: الطاعة والانقياد، ويطلق في الشرع على الانقياد إلى الأعمال الظاهرة، وقيل هو: “الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع”([5])، وقيل: إنه “هو الخضوع والانقياد للأحكام، بمعنى قبولها والإذعان بها”([6]) واصطلاحًا، للإسلام معنيان، معنى واسع، ويقصد به: “مجموعة الأحكام والعقائد التي شرعها الله لعباده، ليتعبدوا بها في الدنيا، ثم يحاسبهم عليها في الآخرة”([7])، ومعنى ضيق، وهو المعنى الذي يقصد به عادة عند ذكر هذا اللفظ، وهو: “دين الله الذي أوصى بتعاليمه في أصوله وشرائعه إلى النبي محمد r، وكلفه بتبليغه إلى الناس كافة”([8]).

وبناءً على ما تقدم فإن مفهوم اختطاف الإسلام مركبًا يعني استلابه، ونقله من معناه الأصلي إلى معنى آخر يستهدفه المختطف تحقيقًا لمصلحة ما، سواء له أم لمن ينوب عنه، وذلك عن طريق الخداع أو بأية وسيله تحقق غرضه، ولو عبر استخدام القوة أو التهديد باستخدامها.

وهذا البحث سيدرس تحديدًا اختطاف “تطبيق الشريعة الإسلامية” كنموذج لاختطاف الإسلام ككل، وهذا المفهوم بدوره يتكون من مفردتين: الأولى: (تطبيق)، ويقصد به: تعميم، وإنفاذ، وتنزيل، وتنفيذ، وتحقيق([9])، والثانية: “الشريعة الإسلامية”، ويُقصد بها: “الأحكام التي شرعها الله – تعالى – لعباده، ونزل بها الوحي على رسوله محمد r، لتستقيم بها أحوالهم في الدنيا والآخرة”([10]).

ومن ثم فإن مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية -مركبًا- يعني: “تنزيل (أو تعميم أو تنفيذ أو إنفاذ) ما سنَّه الله -تعالى- من أحكام سواء في القرآن الكريم، أو أبلغها رسوله “محمد” r، على حياة الإنسان وعلاقاته المختلفة بربه وبالناس وبالكون”([11]).

غير أن هذا المعنى على وضوحه، ثار حوله سجال كبير في العصر الحديث، وتفترض هذه الدراسة أنه جرى اختطافه هو الآخر، ومن ثم ستحاول بيان كيفية حدوث ذلك، وتحديد الخاطفين له، وردود الأفعال على هذا الاختطاف، وما يمكن فعله حتى يسترد معناه الصحيح الذي يتوافق مع مدلول ألفاظه، وتاريخه السابق على الاختطاف.

أولاً: الأسباب والبواعث لتبني هذا الوجه من الاختطاف:

 تعد قضية “تطبيق الشريعة الإسلامية” من أكثر القضايا التي وظفت لاختطاف الإسلام ككل، لصالح أعداء الأمة الإسلامية، حيث ساعد توظيف هذه القضية المختطفة على تيسير التغلغل الاستدماري (المسمى -تدليسًا- بالاستعمار) المستهدف الهيمنة على مقدرات الأمة الإسلامية ونهب ثرواتها، كما أسهم في التمكين للاستبداد السياسي، عالميًا ومحليًا، فضلا عن إسهامه في نشوب صراعات لا حصر لها بين أطياف الأمة المختلفة، وأودى إلى تعميق تخلفها بدلاً من مساعدتها في النهوض من جديد، وأعان على هذا السقوط انخداع الكثيرين، سواءً على المستوى النظري أم المستوى التطبيقي، بالمعاني المحرفة المقدمة إليهم لمفهوم تطبيق الشريعة، ومن ثم وقوعهم في هاوية الجهل بالشريعة، وقلب أولويات تنزيلها على الواقع المعيش، على الرغم من أن الشريعة هي إحدى عنصري الإسلام الأساسيين [وهما العقيدة والشريعة]، بل هي الإسلام نفسه إذا ما استخدمناها بمعناها الواسع الذي يشمل (العقيدة والأخلاق والمعاملات).

ومن هنا ترجع أهمية دراسة اختطاف “تطبيق الشريعة” عسى أن تسهم في فضح الفاعلين في هذا الاختطاف، وكشف أساليبهم المخادعة واستراتيجياتهم الماكرة التي حولت هذه القضية من قضية توحيد وبناء ونهوض، إلى قضية تمزيق وهدم وسقوط، مما أسهم في إفشال كل سعي جاد ومخلص إلى استرداد الأمة لعافيتها الحضارية.

ثانيًا: القوى والجهات الفاعلة:

نعيش منذ بدايات القرن التاسع عشر على أقل تقدير في عصر الاستعمار والقابلية للاستعمار (بحسب مالك بن نبي)([12])، و”عصر الاستعمار ومقاومته” (بتعبير طارق البشري)([13])، فهذا هو الحدث الأبرز في القرون الثلاثة الأخيرة، الاستدمار الأوروبي للشعوب والأراضي العربية والإسلامية، بل لبقية دول العالم غير الأوروبي بصفة عامة، بما في ذلك القارة الكبرى (أمريكا) التي أباد الأوربيون سكانها الأصليين (الهنود الحمر) وأعلنوا أنهم مكتشفوها ومن ثم فرضوا عليها هيمنتهم وصادروها لحسابهم وأطلقوا على أنفسهم جميعًا (أوروبا وأمريكا الشمالية تحديدًا) مسمى “الغرب”، وأطلقوا على بقية دول العالم -ومن ضمنه العالم الإسلامي- مسمى الشرق([14])، ومن هنا ظهرت “المسألة الشرقية” على حد تعبيرهم، فكان العالم الإسلامي بالنسبة لهم مجرد مسألة تحتاج إلى جواب، فحواها: “كيف سنهيمن على هذا العالم الذي يحكمه رجل مريض (الدولة العثمانية)، وكيف سنقسم فيما بيننا تلك الغنيمة الموروثة؟!

وحين نتحدث عن القوى والجهات الفاعلة في عملية اختطاف “نموذج تطبيق الشريعة الإسلامية” تحديدًا، فإنه ينبغي ألا نغفل عن هذا الأمر –الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي- الذي يعتبر المتغير الرئيس في العصر الحديث، والذي دارت حوله كل المتغيرات التابعة، وهو أمر يستدعي أخذه في الاعتبار عند معالجة غالبية قضايانا المتعلقة بالفكر والثقافة، بما في ذلك قضية اختطاف الإسلام، واستلاب مرجعيته الثقافية والتشريعية المتمثلة في الشريعة الإسلامية. فإننا إذا ما وجهنا النظر إلى قضية تطبيق الشريعة الإسلامية سنجد أن اختطافها بدأ مع قدوم الاستدمار الغربي، وتحقق واستمر في ظله ووفق مخططاته وتوجيهاته، وعلى يد جنوده الماكرين، وبعض معارضيه –بغير وعي- على حد سواء!

ومن ثم فإن القوى والجهات الفاعلة في عملية اختطاف نموذج تطبيق الشريعة الإسلامية تتمثل في الدول الأوروبية الغازية للعالم الإسلامي، بالاحتلال العسكري المباشر، ثم بالاحتلال غير المباشر الذي رحل عن العالم الإسلامي ليبقى مهيمنا عليه لا العكس([15])، وهو ما يسمى (الاستعمار الجديد، أو الاستعمار غير المباشر)، وأما غيرها من القوى والجهات فهي مجرد أذرع أو أدوات تسهم في تنفيذ استراتيجية الغزاة ومخططاتهم، مثل الصهيونية، والعلمانية، والحكومات المستبدة، وحركات العنف التي تنسب نفسها إلى الإسلام زورًا أو جهلاً، وغيرها من الأدوات التي يُظَن فيها أنها قوى فاعلة، أو تظن هي في نفسها أنها كذلك، وبجد وإخلاص أحيانًا!

ثالثًا: الاستراتيجيات والأهداف:

أوضحنا فيما سبق الهدف الرئيس للقوى الفاعلة في عملية اختطاف نموذج تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو فرض الهيمنة على العالم الإسلامي والسيطرة الكاملة عليه واستتباعه، ومن ثم تحويله إلى سوق استهلاكي، يستورد السلع الأجنبية وعلى رأسها الأسلحة، ويصدر المواد الخام -بأبخس الأثمان- والعمالة منخفضة الأجر، فهذا هو الهدف الأساس من محاربة الشريعة الإسلامية والوقوف ضد أي محاولة لتطبيقها على نحو صحيح وفق أولويات محددة من شأنها أن تقاوم هذا الغزو وتنهض بالشعوب المسلمة، وهو أمر يتصادم بالضرورة مع سياسة الاستدمار الغربي الذي أدرك مبكرًا أنه لن يستطيع إحكام السيطرة الدائمة على ثروات بلد ما إلا بالهيمنة على المجالين السياسي والثقافي (ومن ضمنه القانون)، وهو أمر لن تمكنه منه الشريعة الإسلامية، بمفهومها الصحيح، بأي حال من الأحوال([16]).

والأهداف المتفرعة عن هذا الهدف تتمثل في:

  • عرقلة كل محاولة للتقدم والنهوض بالعالم الإسلامي في مواجهة التفوق الغربي.
  • إفقاد المجتمعات الإسلامية الثقة في أنفسها وفي مرجعياتها الثقافية بمفهومها الشامل، ومنها مرجعية الدين والشريعة.
  • احتلال العقل المسلم وتوجيهه بما يحقق مصالح الإمبريالية.

أما الاستراتيجيات التي اعتمدتها تلك القوى في اختطافها لنموذج تطبيق الشريعة الإسلامية، فيمكن إجمالها على النحو الآتي:

  • فرض “التحديث”([17]) على العالم الإسلامي عنوة، عن طريق فرض الهيمنة الاقتصادية والضغط من خلالها على حكام المسلمين، وإلا فالاحتلال العسكري لأراضي المسلمين، إذا لم يستجيبوا لفرض نموذجهم الذي يضمن لها التبعية والاستسلام لإرادات المستدمرين النفعية. ومفهوم التحديث أو العصرية Modernism لا يعني مجرد الانتماء للعصر ولكنه يعني فيما يخص الدين، وجهة نظر في الدين ترى ضرورة السعي إلى تطويع مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية ومفاهيمها وإخضاعه لتصوراتها ووجهة نظرها في شؤون الحياة([18]).
  • فرض نموذج الدولة القومية الحديثة، بفلسفتها وبنيتها ومؤسساتها وهياكلها..، وإحلالها –بوصفها كائنًا قانونيًا- محل الشريعة الإسلامية وبنيتها القانونية والاقتصادية والاجتماعية، على ما بينهما من تمايزات وتناقضات واضحة([19])، لضمان تبعية العالم الإسلامي كذلك وفض وحدته، ولكن دون السماح أبدًا بإقامة هذه الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية تحقق تداول السلطة وتنقلها إلى الشعوب؛ فلا نكاد نجد في تاريخ الاستدمار أي دعم يذكر لأي خيار شعبي ديمقراطي، بل كل الدعم للانقلابات العسكرية، والحكومات الاستبدادية، وحدها، وهو أمر متوقع لأن الشعوب إذا ما خيرت ومُكِّنت لاختارت أن تستعيد من جديد مرجعيتها الثقافية والتشريعية المتجسدة في الشريعة الإسلامية.
  • التشكيك في المرجعية الثقافية للشعوب المسلمة، والتي تتركز في الشريعة الإسلامية، تيسيرًا لانفراد الثقافة الغربية بالمسلم والتحكم فيه كيفما شاءت، ومن هنا جاء اتهام الشريعة بالجمود والرجعية، وتمرير أفكار من شأنها هدم البنيان التشريعي الإسلامي من أساسه، عبر بث الريبة في القرآن الكريم وما يتعلق بجمعه وبعلومه وبتفاسيره، والتشكيك في السنة وحجيتها، والحط من الفقه الإسلامي ومن قدرته على مواكبة العصر، والتحقير من التاريخ الإسلامي، وتشويه أبرز أعلامه ورموزه، بمن فيهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
  • علمنة التشريع السائد في العالم الإسلامي بفرض القانون الوضعي وعزله عن الشريعة الإسلامي، واستبدال نواب البرلمان وأعضاء السلطة التنفيذية بفقهاء الشريعة وعلماء الدين، وقد جرت هذه العلمنة إما بفرض تقنينات غربية بدلا من الشريعة الإسلامية بشكل واضح ومعلن، كما جرى في مصر سنة 1883م، أو عبر الخديعة والتمويه، مثلما حدث في البداية في دولة الهند، حين طبق الإنجليز القانون (الأنغلو- محمدي) بوصفه تشريعًا إسلاميًا بينما هو في حقيقته قانون إنجليزي، يفرض قسرًا على المسلمين ويخضعهم لتصوراته وفلسفته، حتى حل القانون الإنجليزي بالتدريج محل الفقه الجنائي الإسلامي في الفترة من (1790- 1861م)([20]).

وكذلك تعد من أبرز نماذج علمنة التشريع بطريقة مخادعة، تصدير معظم الدساتير العربية المعاصرة بالنص على مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع، بينما الواقع التشريعي يسير خلاف ذلك، حيث إنه توجد كثير من النصوص التشريعية مصادمة للشريعة الإسلامية، ومعظم هذه النصوص اكتفي بألا تكون مناقضة لأحكام شرعية قطعية الثبوت والدلالة بغض النظر عن مدى توافقها من عدمه مع روح الشريعة ومقاصدها وقيمها وأحكامها القطعية المستنبطة بطريق الاستقراء التام، فضلاً عن أن معظم هذه النصوص القانونية تكون مستعارة من مصادر أخرى غير الشريعة، ويجري ذلك كله بإقرار أحكام قضائية صادرة من محاكم عليا أعانت على إفراغ ذلك النص الدستوري من مضمونه عمليًا([21])!

  • محاربة المصطلحات والمفاهيم الإسلامية، وتشويهها، والتشويش على معانيها الحقيقية، إلى جانب ما يمكن تسميته بالغزو المفاهيمي الغربي، بما في ذلك مصطلح الدين نفسه، وحتى مصطلح الشريعة تم غزوه، وعوملت الشريعة الإسلامية معاملة القانون الوضعي، فضيق مفهوم الحكم الشرعي ليتناسب مع مفهوم القانون، بحيث لا يكاد يشتمل سوى على القواعد الملزمة وحدها منفصلة عن العقيدة والأخلاق، ومقتصرة على الواجبات والمحرمات، دون مراتب المندوب والمكروه والمباح… وهكذا!
  • مناهضة المؤسسات الدينية ومحاصرتها وأنظمتها وعلمائها، والتي كانت تعد في الوقت ذاته مؤسسات تعليمية وتربوية تمد المجتمع بالمدرسين والقضاة والفقهاء، وكانت مصنفات علمائها المرجع الأساس للتشريع والقضاء، حيث فُرض التعليم على النمط الأوروبي على حساب التعليم الديني الذي جرى فصله عن المجتمع، وقصره على الجوانب المتعلقة بالدين المنفصل عن الحياة، وفقًا لفهم الغرب للدين، كما سادت السخرية من علماء الشرع وفقهائه، وحرموا من مصادر دخولهم التي كانت تعتمد بشكل أساسي على التمويل المجتمعي عبر نظام الوقف الإسلامي وغيره، فكُسرت هيبتهم في أعين الناس، لحساب المتغربين من المثقفين والكتاب والصحفيين والممثلين، مما أثر بالسلب كذلك على وضع الشريعة الإسلامية وهيمنتها على المجتمع.
  • تجميد الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية، مثل الوقف والزكاة والحسبة، وغيرها من الأنظمة المرتبطة بالشريعة الإسلامية والمستندة إليها الداعمة لترسيخها في قلوب المسلمين وفي إدارة معاملاتهم وفق أحكامها ومقاصدها.
  • تغيير واقع المجتمعات الإسلامية بصفة عامة ليبتعد عن الشريعة الإسلامية، ويتبع في الوقت نفسه ما يريد الغرب استتباع العالم الإسلامي فيه، وأغلبها قشور ونقاط ضعف في الغرب، دون نقاط القوة الحقيقية والمتمثلة في القيم النهضوية، مثل: إتقان العمل والجدية فيه والانضباط والحرية الفردية والجماعية، والأنظمة والآليات التي قامت عليها النهضة الغربية الحديثة، مثل: الديمقراطية والمؤسساتية وغيرها، فلم تسمح سوى بتقليدها فيما يهدم الأسرة، وفي نقل شكليات ومسميات لمؤسسات الغرب دون حقيقتها وقيمها –مثل: الانتخابات والبرلمان والقضاء- وفق النظام الغربي، وغيرها من الهياكل الكأنيَّة (نسبة لكأن)!

رابعًا: الأدوات والآليات:

استخدمت الدول الاستدمارية العديد من الأدوات والآليات التي تستهدف استلاب الشريعة الإسلامية وإزاحتها عن مرجعية التشريع والقضاء والاقتصاد والثقافة وغيرها من المجالات، وكان من أبرز تلك الأدوات:

1) الاستشراق: بدأ الاستشراق في صورته الحديثة الخادمة للاستدمار بشكل منهجي في فرنسا بإنشاء كلية الدراسات الشرقية الحية في باريس سنة 1795م، ثم  مع قدوم نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر حيث اصطحب معه العديد من الباحثين في مجالات مختلفة (بلغ عددهم 160 باحثًا)([22]) بهدف مساعدته على فهم طبيعة المجتمع المصري وبيان سبل إحكام السيطرة عليه وشل مقاومته، ثم استمرت هذه السياسة فيما بعد حتى وقتنا الراهن، فلا تزال المراكز البحثية الغربية تعمل على دراسة أحوال المسلمين وتمد الحكومات الغربية بما يلزمها في مقاومة الإرهاب الإسلامي المزعوم!

وقد وجه الكثير من المستشرقين -ولايزالون- الكثير من المطاعن والاتهامات إلى الشريعة الإسلامية، من حيث المصادر والقيم والفقه…، وحاولوا إقامة الأدلة على عدم صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في عالمنا المعاصر، إلا قلة منهم استنارت بصيرتها واستكانت لضميرها متحدية لأهواء السلطات الاستدمارية، فاعترفت برقي الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

2) الحكومات المستبدة: تعتبر تلك الحكومات من أهم الأدوات التي يعتمد عليها الغرب في تشويه مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، وإعاقة تنزيل قيم الشريعة الإسلامية على واقع المسلمين بما ينتشلهم من تخلفهم، فحالت تلك الحكومات دون تحقيق أمال الشعوب في تطبيق الشريعة الإسلامية، بل وتحكمت في المؤسسات الدينية كافة، وجندت الخطاب الديني لتحقيق مآربها غير المشروعة، وأممت الدين لحسابها، وحولت العلماء إلى موظفين، فتحكمت في كثير منهم وحاصرت بقيتهم، فساد الجهل بالشريعة وأحكامها، وبأولويات تطبيقها، فإذا بها وكأنها عبارة عن حجاب (للرأس والعقل)، وعقوبات متوحشة عفا عليها الزمن، لا رحمة بالناس، ورافعة للشعوب، وعاصمة لها من الجهل والتخلف والزلل!

ولا يرجع ذلك بالضرورة للعمالة، بل قد يكون لعامل آخر مهم حال دون عودة الشريعة الإسلامية، يتمثل في أن الشريعة تعتبر مرجعية مستقلة عصية على التحكم الكامل كالقوانين الوضعية التي يستطيع الحاكم أن يغير فيها كيفما شاء، إما بالتزوير، أو بالتأثير، لاسيما إذا كان الحكم فرديًا استبداديًا، أو كان مواليًا للاستعمار الجديد([23]).

4) الاقتصاد: عملت القوى الاستدمارية على تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات استهلاكية لا تستهدف إلى إشباع شهواتها المادية، وتعتمد على مؤسسات ربوية تتبع الاقتصاد الرأسمالي الغربي، ومن هنا كان إلغاء الاقتصاد الإسلامي الحقيقي المستند إلى نصوص الشريعة ومقاصدها، وقامت عليه الحضارة الإسلامية نفسها طوال تاريخها، فجرى تعطيل الوقف ومحاصرته عمدًا، وحوصرت الزكاة وتراجعت، وتغيرت قيم الاقتصاد، حتى إن المنفعة واللذة باتت مطلوبة لذاتها لا لأجل مكافحة الفقر وتحقيق العدالة في التوزيع وتحقيق التكافل الاجتماعي، فأصبحت البلاد الإسلامية تابعة تبعية شبه مطلقة للنظام الرأسمالي، بل وإن التبعية الاقتصادية هي نفسها العامل الأكبر وراء إصرار الغرب على الاستتباع التشريعي للمسلمين، لا الدافع العقيدي كما يظن كثير من الناس.

5) التغلغل في كثير من الحركات السياسية الإسلامية وتوجيهها من الداخل حتى أصبحت عبئًا على الإسلام ووبالاً على المسلمين، بعد أن أسرفت في تسييس الإسلام، وقدمت صورة مشوهة للشريعة الإسلامية، تكاد تنحصر في أحكام تحض على العنف، وتقمع المرأة، وتقطع أيدي المظلومين، وتصم المجتمعات المسلمة بالجاهلية، كل ذلك باسم الإسلام وشريعته الغراء، فساعدت الغرب في خطته في تشويه الشريعة الإسلامية وقلب أولويات تطبيقها حتى عند المطالبين به، فقدمت تلك الحركات -في أدبياتها وتصريحات قادتها وكتاباتهم- الحدود الشرعية على القيم والمقاصد الإسلامية وما تحض عليه من التوحيد العاصم للإنسان من عبودية الهوى والشهوات والسلطات البشرية، وتزكية الأنفس، وعمران الأرض والأوطان، بل ورفعت شعار الدولة الإسلامية التي يميزها تطبيق الشريعة الإسلامية –ويقصدون بها الفقه الإسلامي لا الشريعة- دون أن تنتبه أن هذا التطبيق لن يتحقق على نحو سديد بمجرد تسويد الفقه الإسلامي الموروث كما هو دون العمل على تجديد الاجتهاد في فهم الشريعة وفي تنزيلها على الواقع المعاصر بما يطابق بين النص والواجب ويحقق مصالح العباد، فأظهرت الشريعة وكأنها تستهدف التعسير على الناس بدلا من التيسير عليهم، وتتغيا تمكين استبداد بقناع ديني من رقاب الناس لا تحريرهم وإقامة العدل فيهم ومساعدتهم على عمران أنفسهم وحيواتهم!

6) الإعلام، والسينما: يكاد يتحول الإعلام، ومعه السينما، في العالم الإسلامي إلى أداة رئيسة من أدوات التجهيل والتسطيح، بما في ذلك ما يطرحه حول الشريعة الإسلامية من كذب وتضليل، تشوش عليها وتهدر الثقة فيها وفي علمائها ودعاتها، على عكس ما تفعله مع المناوئين للشريعة، حيث تفتح لهم قنواتها للطعن في الإسلام وشريعته ودعاته، حتى بات الإعلام -والسينما- من أهم الأدوات المستخدمة في تشويه مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية.

7) التعليم: لم يقتصر أمر استخدام التعليم في اختطاف مفهوم الشريعة الإسلامية على تحويله إلى تعليم مدني منفصل عن التعليم الديني ومتصادمًا معه أحيانًا، بل إن الغرب ووكلائه عملوا على التحقير من التعليم الشرعي وتجميده، ومحاصرته وتجفيف منابع تمويله، حتى ازداد تخلفًا على تخلفه، وأنتج دعاة غلب على كثير منهم العجز عن دفع الافتراءات عن الشريعة الإسلامية وعن إنتاج خطاب واعي وجاذب نحو المفهوم الشامل لتطبيق الشريعة، يحتوي على مقاصدها وقيمها وأحكامها الكلية ونُظمها إلى جانب أحكامها الفرعية والجزئية، مما أسهم في سيادة مفاهيم مخطوفة لعملية تطبيق الشريعة.

خامسًا: العلاقات والمؤسسات:

كان من الطبيعي أن تتجسد استراتيجيات اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية في إحلال مؤسسات تعمل على تمكين هذا الاختطاف وترسيخه، محل المؤسسات التي كانت تمثل تجسيدًا للشريعة وتنزيلاً لأحكامها على أرض الواقع، وقد سبقت الإشارة إلى أن الدولة القومية الحديثة كانت إحدى أدوات الاستدمار في تحقيق الهيمنة على البلاد المستدمرة، وهذه الدولة تتشكل من سلطات عامة ثلاث تتولى الوظائف الأساسية في الدولة، وهي: التشريع، والتنفيذ، والقضاء، وتتبنى مبدأ “الفصل بين السلطات” ومبدأ “السلطة تحد السلطة” كي توقف أي تعارض أو تعسف أو تجاوز محتمل من أي من هذه السلطات على السلطة الأخرى، وفي النهاية فإن الدولة تمتلك كل هذه السلطات وتعد هي نفسها مرجعية لنفسها، وهو أمر مغاير لطبيعة توزيع السلطات في الخلافة الإسلامية وولاياتها، حيث كانت وظيفة التشريع تجد مرجعيتها الملزمة في الشريعة الإسلامية، بينما كان القضاء لا يتولى فقط الفصل في الخصومات، بل كانت له اختصاصات أخرى، بعضها يخص السلطة التشريعية حاليًا (مثل: توقيع العقوبات التعزيرية)، وبعضها يخص السلطة التنفيذية (مثل: وظيفة الاحتساب)،  بينما قد يتولى الخليفة نفسه منصب القضاء إذا كان أهلا له، فلم يكن هناك فصل عضوي حقيقي بين وظائف الخلافة الأساسية، غير أن ضمانات عدم تغول سلطة على أخرى كانت أقوى منها في نظام الخلافة عنها في نظام الدولة القومية، لاعتماده على مرجعية شريعة حاكمة عصية على التبديل أو الاحتواء، ولو كان من الخليفة نفسه، فضلا عن ترسيخها للوازع الديني الذي كان يوفر على سلطات الدولة الكثير في الالتزام الذاتي بأحكام الشريعة، على عكس القانون حاليًا الذي يستنفر كل إمكانات الدولة كي يلزم الناس بالقوانين فلا يلتزموا إلا جبرًا غالبًا، خشية توقيع العقوبات عليهم، مالم يجدوا مخرجًا، أو ركنًا يأووا إليه يحول بينهم وبين الحساب والعقاب.

والحاصل أن اختلاف بنية الدولة القومية ومؤسساتها عن بنية الشريعة الإسلامية ومؤسساتها، أدى إلى نوع من الاختطاف للشريعة الإسلامية، في جانب العلاقات والمؤسسات، ومن ذلك مثلاً:

1) إحلال البرلمانات محل علماء الشريعة الإسلامية، فقد كانت الشريعة الإسلامية بأيدي أمينة، هي أيدي الفقهاء المسلمين، الذين كان سلطانهم علمهم، وسلاحهم صلاحهم، فإذا بالمحدثين الجدد (من التحديث لا من علم الحديث) يستبدلون بالفقهاء مجالس نيابية تسن القوانين الوضعية الملزمة للقضاة والمواطنين، بعضها يخالف أحكام شرعية قطعية، والكثير منها يؤسس لتمكين مؤسسات الدولة من مفاصل المجتمع، لاسيما وأن هذه البرلمانات لم تقم في الواقع على أسس ديمقراطية حقيقية، بل استنادًا إلى انتخابات غير نزيهة غالبًا، تسفر عن اختيار نواب عن الحكام لا عن الشعوب، ومن ثم لم تكن أياديهم أمينة، لا على الشعوب ولا على الشريعة، وحتى إن حصل بعض من الشرفاء على عضوية تلك المجالس فقد كانوا أقلية تستجدي “ديكتاتورًا” لتطبيق الشريعة الإسلامية التي إن طبقت بحق ستزيحه عن الحكم لتسلطه واستبداده وفساده، ومن ثم كان طبيعيًا أن يرفض الحكام هذا المطلب، أو يوافق عليه بعض الجائرين منهم ظاهريًا -بشكل مؤقت- لاكتساب شرعية لدى الجماهير المتعطشة لإنفاذ شريعة دينهم، أو لتحويل الشريعة السمحة الغراء إلى “قفاز” يستخدمه الحاكم المستبد في ارتكاب جرائمه حتى لا تظهر “بصماته الواشية”([24]).

ومن ثم فقد كانت المحصلة هي فشل كل المحاولات البرلمانية لتعميم الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين منذ إقصائها عن التطبيق على أيدي قوى الاحتلال الإنجليزي، بل وعجزت تلك البرلمانات العربية في معظمها عن تسويد القانون الوضعي نفسه في غالب الأحيان، ورسخت تسويد السلطة التنفيذية بلا رقيب أو حسيب، فلم تعد السيادة في الدولة القومية العربية -في الحقيقة- لا للشريعة ولا للقانون، وإنما للحاكم وحده منفردًا، ومن ثم افتقدت المجتمعات العربية لتحقيق العدالة والمساواة وغيرها من قيم الشريعة الإسلامية وروحها!

2) استبدال المحاكم الوضعية بالمحاكم الشرعية: كان الشغل الشاغل للاستدمار الغربي هو السيطرة على القضاء، والفصل بينه وبين المرجعية الشرعية الإسلامية([25]). ولذلك فقد فرض النظام القضائي الغربي هيكليًا بعد أن فرض التشريعات الغربية من قبل -نصوصًا ومرجعية-، وذلك سواء بقرار مباشر منه -مثل فرض المحاكم القنصلية والمختلطة في مصر-، أو بأيدي الحكومات المستبدة التي زرعها في البلاد بعد سحب جنوده من أراضيها نظرًا لاقتناعه بوجود أسلحة جديدة بديلة تفرض هيمنته الكاملة من الخارج، ومن ثم لجأ إلى تنصيب حكام من الداخل يمكن التحكم فيهم وتوجيههم كذلك.

ولذلك فإن المحاكم الشرعية أُلغيت في كثير من البلاد الإسلامية بقرارات حكومات تنتمي إلى هذا البلاد، مثلما حدث في تركيا (بدءًا من الإلغاء الجزئي عام 1847م، ثم الإلغاء الكلي للمحاكم الشرعية في عام 1924م) وفي مصر (عام 1956م)، وذلك بعد سلسلة طويلة من الحصار المضروب عليها من قبل الدولة، حيث نُقلت تبعيتها إلى وزارة العدل عام 1880م، ثم تدنت مرتبتها من المحاكم الوحيدة في القطر المصري، إلى المرتبة الثالثة سنة 1883 (بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد فقط) خلف كل من المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، كما اقتصرت اختصاصاتها على الأحوال الشخصية والوقف والهبة فقط([26])!

وليت الأمر انتهى عند فصل القضاء عن مرجعيته الشرعية والفقهية، ولكن الحقيقة أنه تم فصله كذلك –بالتدريج- عن الاستقلالية تجاه السلطة، الممثلة في الحاكم وحكومته –السلطة التنفيذية- حيث نادرًا ما تمتع القضاء نفسه بالحرية والاستقلالية، مثله مثل “المواطنين” تمامًا، وفي هذا فصلُ آخر عن المرجعية الإسلامية التي لا تجعل هناك سلطانًا على القاضي سوى إيمانه وشريعة ربه وضميره، فإذا به في الدولة الحديثة المستوردة –شكليًا وهيكليًا- يخضع لسلطان فرعوني متألي، فكان هذا هدرًا آخر للمفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، ولاسيما قيمها العليا، التي تأتي على رأسها قيم ومبادئ العدل والشورى ومسؤولية الرعاة (الحكام) وسيادة الشريعة!

3) تأميم الدولة للمؤسسات والوظائف الدينية: من المعلوم أن الإسلام يرفض الكهنوت، ولا يعرف صكوك الغفران، حيث يستعيض عنها بإتاحة التواصل  للفرد مع المولى عز وجل دون حائل أو وساطة، وأنه على الرغم من المحاولات الكثيرة للهيمنة على الدين إلا أنه ظل عصيًا على الانصياع الكامل لكافة المحاولات التي جرت للسيطرة عليه وتوظيفه في خدمة الطغيان، إلا أن هذه المحاولات ظلت مستمرة، ونمت في عهود الاحتلال الأجنبي العسكري المباشر، والذي فرض تبعية المؤسسات الدينية للدولة الحديثة، وعطل كل ما من شأنه مد يد العون للإبقاء على استقلالية تلك المؤسسات، فحرمها على سبيل المثال من الأوقاف المخصصة لها وللقائمين عليها حتى تحولوا إلى مجرد موظفين ينتظرون رواتبهم من الدولة بعد أن كانوا يعتمدون –إلى جانب عوائد ممارستهم مهنهم الحرة- على مخصصات مالية موقوفة لهم من صفوة المجتمع المنفقين أموالهم في سبيل الله وفي نصرة دينه وشريعة ربهم، مما أثر بالسلب على التعليم الديني وعلى الاجتهاد الشرعي الذي كان لا قيد عليه سوى قواعد أصولية عامة ومجردة تستهدف ضمان الاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية بقدر الإمكان البشري، فأصبح محاطًا ببيئة استبدادية لا يأمن فيها المجتهدون على أنفسهم ولا على أرزاقهم، فقُيدت حريتهم، وسُلب منهم الأمان، وتحولت المؤسسات الدينية –أو كادت تتحول- إلى التوقيع عن الحاكم المستبد لا عن الله رب العالمين، وحُرمت الشريعة الإسلامية من مجتهدين يتصفون بالشجاعة والإخلاص تحميهم مؤسسات دينية مستقلة، بعد أن أممت الدولة الدين وباتت المتحكمة فيه وفي تأويله الصحيح([27])!

ومن أهم مظاهر هذا التحكم ما حدث في مصر –على سبيل المثال- من إنشاء دار الإفتاء وجعل تبعيتها للدولة، ممثلة في وزارة العدل، بدءًا من عام 1895م، بعد أن كان الإفتاء قبلها يتولاه علماء الأزهر اعتمادًا على مكانة الأزهر، الذي كان رجاله (مفتين) بثقة الناس فيهم دون حاجة لتعيين الدولة، كما أنهم كانوا يحتكرون مناصب التعليم والقضاء، قبل أن تزاحم الأزهر دور التعليم العلمانية الحديثة، من مدارس وجامعات على النسق الغربي، فضلًا عن محاصرة الأزهر نفسه بإصدار رئيس الجمهورية القانون رقم 3 لسنة 1961م بشأن تنظيم الأزهر والهيئات الذي أفقد الأزهر استقلاله تمامًا، وأدمجه في النظام التعليمي الرسمي ونقله “من وضعية المدرسة الفقهية إلى وضعية الجامعة العلمانية والمؤسسة الرسالية”([28]).

وقد حدث لنظام الوقف الإسلامي، ما حدث للأزهر الشريف وللمحاكم الشرعية، حيث تحول من نظام مستقل أسهم بقوة في تشييد الحضارة الإسلامية، إلى نظام تابع للدولة يخضع لإدارتها المركزية، وتقوم عليه “وزارة الأوقاف” كما سميت في غالبية دول العالم الإسلامي، كما هو معلوم.

وهذه بعض النماذج والتغيرات التي فرض معظمها الاحتلال الأجنبي على دول العالم الإسلامية، ثم على دول ما بعد الكولونيالية التي خلَّفَها من بعده، ليضمن أن تسير بمنهجه ووفق إرادته، وهي كلها تغييرات أسهمت في استمرارية اختطاف الإسلام، وتحريف مفهوم تطبيق شريعته، حيث بات المطلوب الآن هو تطبيق الشريعة عبر سن البرلمان لقوانين وضعية متفقة مع الشريعة، لا الشريعة نفسها مستمدة من مصادرها وفق أصول الفقه وبالاختيار من الفقه الآخذ عنه، على أن يطبقها القضاء العلماني المكبل من قبل الدولة، لا القضاء الشرعي المستقل كما كان في غالبية التاريخ الإسلامي وفق مبادئ الشريعة وقيمها، وبتحديد من خريجي مؤسسات تعليمية علمانية، أو دينية صودرت استقلاليتها ونقلت تبعيتها إلى بيروقراطية الدولة، بعد أن ألغيت الأوقاف التي تدعمها بل وألغيت بالكامل في كثير من الأحيان.

أليم يكن هذا اختطاف بالكامل لتطبيق الشريعة مفهومًا وهياكل ومؤسسات وبنية تعليمية وثقافية واقتصادية؟!

سادسًا: نماذج نجاح فاعلة – حالات وخبرات:

من المهم أن نشير أولاً إلى أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو أمر نسبي، وسلوك بشري، لا يمكن أن يصل إلى حد الكمال، فإن الكمال لله وحده عز وجل، ولكن المقصود هنا هو بيان بعض النماذج الفاعلة التي تمثل خبرات ناجحة في الإدراك الصحيح لمفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعتبر بمثابة خطوات ناجحة في سبيل التنزيل الأمثل للشريعة الإسلامية في العصر الحديث وفي واقعنا المعاصر، حتى وإن اقتصر الأمر أحيانًا على تقديم أفكار معمقة ينبغي الالتفات إليها لمقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية.

ومن تلك النماذج الفاعلة والخبرات الجيدة:

1) بناء مؤسسات استطاعت أن تقوم بدور كبير في استبقاء الفقه الإسلامي حاضرًا وفعالاً في وقت يراد فيه هدمه وإزاحته تمامًا عن الواقع المعيش، ولعل من أبرز تلك المؤسسات -التي جعلت أساسًا لمزاحمة المؤسسات التعليمية الإسلامية التي كانت تسود النظام التعليمي والتربوي في العالم الإسلامي، إلا أنها استطاعت أن تسهم عمليًا في تطوير الدراسات الفقهية، وتخرج علماءً أفذاذًا- مدرسة الحقوق الخديوية التي أنشئت في مصر أساسًا تحت اسم “مدرسة الإدارة والألسن” في أكتوبر (1868م) ثم ظهرت باسم “مدرسة الحقوق الخديوية” في الفترة من 1886م إلى 1925م، فهذه المدرسة ومن بعدها كلية الحقوق، ومن قبلها دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، كانت تدرس فيها علوم حديثة، وعلوم فقه الشريعة الإسلامية، ومورست فيها دراسات القانون المقارن بتعاون وبجدل خصب ومتنام. بغير أي صراعات هدامة.. فاستخلصت “مدرسة” الفقه الإسلامي خير الفقه الغربي من حيث التنظير والتقنين، ومن حيث خيارات ما يصلح للمعاملات مما وسعته الشريعة الإسلامية، وانجذب من مدرسة الفقه الحديث من انجذب تقديرًا للمستوى الفذ الذي ظهر به فقه المسلمين.. وجرى ذلك في هذا المجال المؤسسي، ويجري بغير صراعات تنفي وتهدم، كما نلحظ في المجال السياسي([29]).

2) إجراء العديد من الدراسات المقارنة المعمقة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي: حيث اتخذ بعض العلماء وأساتذة الفقه والقانون سبيلاً مهمًا في مقاومة استلاب الشريعة الإسلامية بحجة تفوق القانون الوضعي وصلاحيته وحده للاحتكام إليه والحكم به في المنظومة التشريعية المعاصر، فما كان من هؤلاء العلماء والأكاديميين والباحثين إلا أن أجروا الكثير من الدراسات المقارنة لإثبات تفوق الشريعة الإسلامية على القانون الوضعي، أو على الأقل صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فضلاً عن مقاومة “الاحتلال القانوني”، ومن هؤلاء، كل من: الشيخ مخلوف المنياوي، محمد قدري باشا، الشيخ أحمد أبو الفتح، الشيخ أحمد إبراهيم، الدكتور عبدالرزاق السنهوري، وغيرهم([30]).

3) جهود تقنين الفقه الإسلامي، سواء على أيدي بعض الأفراد من العلماء والباحثين، أو عبر بعض اللجان المشكلة من بعض البرلمانات: حيث جرت محاولات جادة لتقنين الفقه الإسلامي مواكبة لحركة التقنين التي سادت العالم الإسلامي عنوة –في البداية- ثم اختيارًا، بهدف إثبات أن الشريعة الإسلامية تقبل التقنين كذلك، ويمكن اللجوء إليها والاعتراف بمرجعيتها في هذا الشأن، ومن تلك الجهود، كانت مجلة “الأحكام العدلية” التي أصدرتها الدولة العثمانية في عام 1876م، وكانت أحكامها مستمدة من الفقه الحنفي بصفة عامة، ومبوبة على نسق التقنين الغربي، والتي كان من آثارها قيام حركة فقهية نشطة، فضلًا عن إصدار تلك التقنينات التي وضعها وزير الحقانية (العدل) المصري محمد قدري باشا في مجموعاته الفقهية “مرشد الحيران”، و”الأحوال الشخصية”، و”الإنصاف في أحكام الأوقاف”، والتي جاءت هي الأخرى مستمدة من المذهب الحنفي على غرار مجلة الأحكام العدلية([31])، ثم توالت تدفقت بعد ذلك حركة التقنين، لاسيما تلك التقنينات التي أصدرها الأزهر الشريف في فترة السبعينات من القرن العشرين مأخوذة عن الفقهاء الأربعة الكبار، أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، كل على حدة.  

4) تطبيقات بعض الدول الإسلامية للشريعة:

قد يُفهم من هذا العنوان الفرعي أن المقصود هنا تلك الدول التي ظلت تطبق الحدود الشرعية -بمعنى العقوبات المقدرة شرعًا- ولكن هذا الفهم في غير محلة، باعتبار أن هذه الدول استخدمت في الحقيقة المفهوم المخطوف لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يحصر الشريعة الإسلامية في عدد من العقوبات والجزاءات ومن ثم يبتعد عن المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، الذي يشمل كل أحكامها الكلية والجزئية، القيمية والعقابية، الأخلاقية والفقهية، ومن ثم نستبعد بالقطع تلك المحاولات باعتبارها تثبت المفهوم الاستلابي لتطبيق الشريعة ولا تنفيه.

أما النماذج المقصودة في هذا الشأن، والتي كان نجاحها جزئيًا للأسف، فمنها مثلا تجربة باكستان حين أنشأت مجلسين عتيدين في المجتمع الباكستاني يتولى أولهما –وهو مجلس الفكر الإسلامي- مسؤولية مراجعة القوانين القائمة من وجهة الشريعة الإسلامية لتحديد أوجه التناقض واقتراح الحلول، وثانيهما: معهد البحوث الإسلامي الذي يقوم بإجراء البحوث في المجالات الاقتصادية والمالية والقانونية من وجهة الشريعة الإسلامية، لتيسير تطبيق أحكامها، بالإضافة إلى إنشاء “المحكمة الشرعية الاتحادية” عام 1980م، للقيام بمهمة مراجعة القوانين القائمة لتنقيتها مما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، والحكم بعدم شرعية أي نص قانوني يخالف أحكام الشريعة، لتستكمل مهمة مجلس الفكر الإسلامي النظرية بإضافة الطابع العملي إليها([32])، وهي تجربة تستحق الاحتذاء بإشراكها القضاء في حماية الشريعة، إلى جانب مجلس للفكر ومعهد للبحوث يساعدان القضاء في القيام بهذه المهمة، ليتضافر الجهدين النظري والعملي في سبيل إنفاذ الشريعة الإسلامية وإقصاء القوانين المخالفة لقطعياتها.

ومن تلك النماذج كذلك  تجارب معاصرة ناجحة من منظور آخر، مثل: تجربة ماليزيا حين نهضت على المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يدخل من ضمنه مقصد عمران الأرض وامتلاك القوة الاقتصادية اللازمة لقيام الدولة على أسس إسلامية حديثة، وتتبني المفهوم الحضاري الأوسع لتطبيق الشريعة الإسلامية استنادًا لأفكار مالك بن نبي على ما يبدو، وتركيا حين اختارت التنمية وتحرير الإرادة الوطنية واستقلالية القرار التركي قدر الإمكان، ومصر حين اختارت أن يشكل البرلمان (مجلس الشعب)  لجانًا علمية مكونة من رجال فقه وقانون وقضاء مخضرمين، كلفها بإعداد مشروعات لستة قوانين موافقة للشريعة الإسلامية وخالية مما يخالف نصًا شرعيًا قطعي الثبوت والدلالة، فقامت بمهمتها على الوجه الأكمل خلال الفترة من (1978-1982) وأنجزت تلك المشروعات المتميزة بالفعل، ولكن التجربة لم تكلل بإصدار هذه المشروعات لأسباب سياسية للأسف الشديد، وهي كلها نجاحات تحتاج إلى الاستكمال والتراكم والبناء.

5) طرح أفكار نظرية وعملية فعالة في كيفية التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية في عالمنا المعاصر:

هناك العديد من الفقهاء والمفكرين الذين قدموا أفكارًا مهمة في مقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، ومنهم الفقيه عبد الرزاق السنهوري، الذي رفض التلفيق بين الشريعة والقانون، وطالب بضرورة احترام الشريعة الإسلامية والإقرار بتفوقها على النظم القانونية الأخرى، وقدم مثالا عمليًا على ما طالب هو به، وذلك في كتابه: “مصادر الحق في الشريعة الإسلامية”، وكذلك في القوانين المدنية التي وضعها استنادًا إلى الشريعة الإسلامية في بعض الدول العربية، كالعراق والأردن.

وهناك كذلك الفهم المتقدم لمشكلة تطبيق الشريعة بوضعها ضمن إطار ناظم يتمثل في النظر الكلي إلى مشكلات المسلمين باعتبارها مشكلة حضارة أفلت وينبغي العمل على استعادتها من جديد، حيث تولى هذا الأمر المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي يكاد يكون هو أول ما طرح فكرة المشروع الحضاري الإسلامي، ودعا إليه، وأصل له، وهي فكرة شاملة تصب جميعها في صالح تحقيق المعاني المعمقة لتطبيق الشريعة الإسلامية وترسم خريطة جيدة للتعامل معها في عالمنا المعاصر، وقد قامت عليها بعض المؤسسات محاولة البناء عليها، مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي..

وتأتي في هذا السياق أطروحات المستشار طارق البشري، الذي رسخ المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، ودافع عن كونها هي المرجعية والميزان الذي ظل سائدًا طوال التاريخ الإسلامي حتى جاء الاستدمار في العصر الحديث وأقصاها عنوة، وحاول تشويهها، ومن ثم طرح أفكارًا لاستردادها وعلى رأسها فكرته عن محاولة رد القوانين الوضعية إلى الشريعة الإسلامية باعتبار أن نصوص هذه القوانين يمكن التعامل معها على أساس أنها “أعراف” مثلما تعامل المسلمون مع أعراف البلاد التي فتحوها من قبل، حيث اعتدوا بها فيما لا يناقض حكمًا شرعيا قطعيًا، ثم إنه اقترح كذلك الكف عن التعويل على الدولة في هذا الشأن وعن مصادمتها بغية إجبارها على تطبيق الشريعة، منوهًا إلى أن الصحيح هو القيام بذلك عبر تخلل النظام القانوني القائم ورده إلى أصول الشريعة الإسلامية، وفق القواعد الأصولية والفقهية، وهي كلها أفكار تحمل طابع المنطق العملي الذي كان يدعو إليه مالك بن نبي المسلمين من قبل ويشكوا من افتقادهم إياه.

ولعل من الأفكار المهمة كذلك مطالبة الدكتور عبدالمجيد النجار بالتأطير العقدي والصياغة المقاصدية للأحكام الشرعية([33])، باعتبار أن ذلك يسهم في تحقيق المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية بالربط بين عناصرها الأساسية الثلاث، بل وقد يخدم القانون نفسه بربطه بالأخلاق والعقيدة التي تدفع المواطن إلى التطبيق الطوعي للتشريع، وكذلك مشروع الدكتور طه عبدالرحمن الأخلاقي الذي يبرز دور الأخلاق في الإسلام، وفي المنظومة التشريعية الإسلامية كذلك، وهو أمر تعرض له كذلك الدكتور أحمد الريسوني حين طالب باستعادة المفهوم الشامل للتشريع الإسلامي، الذي يتجاوز المعنى الضيق للتشريع الوضعي، ليشتمل على الجوانب العقدية والأخلاقية، والمقاصدية، فضلاً عن بقية التقسيمات الخمسة للحكم الشرعي إلى جانب الواجب والحرام وهي المندوب والمكروه والمباح([34]).

ومن ضمن هذه الأفكار كذلك ما طرحه المفكر خالد محمد خالد –وأشير إليه سابقًا في هذا البحث- من ضرورة إعادة الاعتبار لنصوص الشريعة الإسلامية المقاومة للاستبداد عند “تطبيق الشريعة الإسلامية”، وتقديم النصوص التي تحول دون انحراف نظام الحكم وجعله الشريعة الإسلامية مجرد قفاز يخفي به جرائمه ويسبغ عليها الشرعية.

وهذه كلها نماذج لأفكار تخترق حصار الغرب -والدولة الحديثة التابعة له- لمفهوم الشريعة الإسلامية وسبل تطبيقها في العصر الحديث، ويمكن أن نضيف إليها كذلك أطروحات كل من علال الفاسي وعلي شريعتي وفريد الأنصاري وغيرها من الأفكار التي تصب جميعها في تحرير الإسلام بصفة عامة من الاختطاف والاستلاب.

سابعًا: استراتيجيات المواجهة ووسائلها ونماذجها:

من المهم الإشارة إلى عدد من الحقائق والمبادئ الأساسية، التي ينبغي الالتفات إليها والإيمان بها، قبل أن نشير إلى خطوات ووسائل مواجهة اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن تلك الحقائق:

  • قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزء من معركة حضارية، تستهدف استرداد فعالية الحضارة الإسلامية وتحررها استقلالها وريادتها، لتقود العالم كله نحو النهوض وسيادة القيم الإنسانية واستعادة الرحمة فيما بين البشر.
  • اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية كان يستهدف فرض الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، ومن ثم فإن كل جهد واعي وراشد يبذل في اتجاه مقاومة هذه الهيمنة ينبغي أن يصنف ضمن جهود تطبيق الشريعة الإسلامية، حتى ولو لم يعلن أصحابه ذلك، بل وحتى وإن لم يلتفتوا إليه أساسًا، وهذا بالطبع (يفتح الذرائع) لالتئام الجهود نحو مقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، والإسهام في وقف التناحر حوله فيما بين القوى الوطنية التحررية المختلفة.
  • يرجع جانب كبير من استمرارية استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية إلى تغول الدولة الحديثة على المجتمع، ومصادرتها لحقوق المواطنين وحرياتهم، وفرض سيطرتها على المؤسسات الدينية جميعها، وعلى الخطاب الديني، ومن ثم فإن كل خطوة باتجاه وقف تغول الدولة هي خطوة كذلك في سبيل ترسيخ المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية.
  • من الضروري النظر للشريعة الإسلامية نظرة تكاملية غير تجزيئية إلا لاعتبارات الدراسة التخصصية وحدها؛ فالشريعة الإسلامية شبكة متكاملة تتكون من عناصر ثلاث متضافرة: عقيدة وأخلاق ومعاملات، وتدرس من منظور قيمي ومقاصدي، وهي إن تأسست في الأصل من الوحي (القرآني والسني)، إلا أنها فهمت وطبقت في العمل بحسب فقه الناس لها، حيث تطورت وتوسعت، حتى اختلط على كثير من الدارسين التفرقة بين النص الشرعي، والفقه المستنبط له، الآخذ عنه، والتطبيقات البشرية التاريخية له، فجعلوا من الشريعة الإسلامية ما ليس فيها، وأدخلوا فيها ما ليس منها، وغفلوا عن بعض ثوابتها لحساب متغيراتها، وأخروا بعض أسسها حرصًا على ثانوياتها وفروعها، حتى تشوش معناها، وانقلبت أولوياتها، واختلت النسب الصحيحة والحقيقية لتكاليفها وما يترتب عليها من ثواب وعقاب، مما يعد اختطاف كامل للشريعة الإسلامية، لم يكن بالضرورة مع سبق الإصرار والترصد، وقد آن الأوان لاعتماد الفهم المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يراعي أن الشريعة ليست قواعد للمعاملات فقط، أو عقوبات شرعية فقط، بل هي من قبل عقائد وأخلاق، كما أنها تستصحب وتستوجب نظمًا معينة، ومؤسسات محددة، وتاريخًا ممتدًا لمئات السنين، ومن ثم فإن غرس العقائد الإسلامية بمعناها الصحيح، ولاسيما عقيدة التوحيد، يدخل ضمن تطبيق الشريعة، وحماية مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة وإلقاء الضوء على ماضيها العريق، هو مقاومة لاستلاب تطبيق الشريعة، وإعادة الفعالية للمجتمعات الإسلامية واسترداد الأنظمة المقوية للمجتمع كالوقف الإسلامي مثلاً هو ترسيخ للمفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية.
  • مرت سنوات عديدة على إقصاء الشريعة الإسلامية عن السيادة التشريعية على الأنظمة القانونية والقضائية العربية، ولم يعد هناك مفر من تشجيع الاجتهاد الشرعي –الفردي والجماعي- وتجديد الفقه الإسلامي، بشرط التخصص، وفقه الواقع، والاستعانة في ذلك بأهل الخبرة في تخصصاتهم ذات الصلة للوصول إلى أحكام شرعية سديدة، تسهم في سد الفجوة الزمنية بين استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية وبين استرداد المفهوم الصحيح له من جديد، على أن تكون تلك الجهود غير مسيسة، حتى لا يعوق السياسيون والسلطويون مسيرتها ويتحكمون فيها فيغيرون وجهتها ويشخصنون اجتهاداتها، ومن ثم فيتعين أن يكون تمويلها عن طريق الوقف، أو عبر المجتمع الأهلي بصفة عامة.
  • التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية ليس من مسؤولية الدولة وحدها أساسًا، بل هو واجب وجوبًا عينيًا كل فرد مسلم في حدود ما هو مكلف به شرعًا، قبل أن يكون واجبًا كفائيًا على المجتمع، ومن ثم فإن على كل فرد أن يتحرك قدر وسعه لتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا سليمًا على نفسه وعلى من يعول، على أن يكون حريصًا على أن يكون هو نفسه نموذجًا عمليًا يقتدي به الآخرون في التعامل مع شريعة ربهم وبها، متجنبًا الدعوة اللفظية قدر الإمكان، أو على الأقل لا يعول عليها، لأن القدوة العملية هي الأكثر فاعلية وتأثيرًا على المحيطين.

كما أن العمل الجماعي لأجل غرس الفهم الصحيح لتطبيق الشريعة هو الآخر بالغ الأهمية، لاسيما فيما يتعلق بمجالات التشريع والقضاء والمحاماة، وفي مراكز البحوث والدراسات الشرعية والقانونية، وفي النقابات المهنية..، وهو أمر سيظل متاحًا إذا ما خلصت النوايا وتعمق الفكر.

  • التركيز على التطبيق الحرفي لأحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع مختطف هو اختطاف للشريعة بحد ذاته، وتسخير لها في خدمة فرعون، وتمكين للمتسلطين من الناس، فــ”المواطن العربي يملك نسخة من القاموس الأصلي، ويعرف أن تطبيق الشريعة، يحتاج أولا إلى مجتمع شرعي، وأن الناس الذين يعيشون تحت سلطة فرعونية، لا يملكون مثل هذا المجتمع، وليس بوسعهم أن يطبقوا فيها شريعة أخرى سوى شريعة فرعون. فالقانون الذي يحكم بقطع يد السارق في مجتمع أقطاعي، لا يستطيع أن يسري على جميع الأيدي السارقة، وليس بوسعه أن يحمي الناس ممن يسرقهم علنًا. والقانون الذي يحرم دفع الفوائد المصرفية في نظام إقطاعي، لا يحرم الربا، بل يحارب الادخار…” ([35])، ومن ثم ينبغي أن تبذل الجهود لبناء مجتمع يعي المفهوم الصحيح والعميق لتطبيق الشريعة ويدرك السبل الفعالة للوصول إلى تحقيق هذا الهدف، ويقاوم الطوفان الذي يقصيه هو عن روح الشريعة ومتطلباتها!

وانطلاقًا من هذه الحقائق ومما جرى ذكره من قبل من إشارات وملاحظات حول استلاب مفهوم تطبيق الشريعة ومقاومته، هناك العديد من الوسائل التي قد تخدم ترسيخ المفهوم التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية:

  • الاهتمام بالتعليم والتأسيس الشرعي لطلبة العلم منذ بداية التحاقهم بالمدارس وحتى الالتحاق بدراساتهم العليا، على أن يجرى الاعتماد في ذلك على التمويل الأهلي قدر الإمكان، ومراعاة أن تكون المناهج عصرية ومؤصلة شرعية، تهتم بتكوين العقلية العلمية المدركة للنموذج المعرفي الإسلامي، والمتحركة في إطاره، ومن الجيد أن تكون هناك كليات مخصصة للدراسات المقارنة المعمقة بين الشريعة والقانون، تخرج متخصصين في التأصيل الشرعي للقانون، مما قد يسهم في إيجاد حركة كبيرة نحو غرس المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية من الناحيتين النظرية والعملية، عبر رد ما يمكن رده من النصوص القانونية إلى الأصول الشرعية الإسلامية.
  • إنشاء مراكز الدراسات والبحوث المستقلة التي ترعى كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية بمفهومها الواسع الصحيح، مثل القيام بحصر الأحكام القطعية للشريعة، وتمييزها عن أحكامها الظنية، وكذلك رصد المخالفات الصريحة للشريعة والتبصير بالسبل الصحيحة لمواجهتها، فضلاً عن رعاية الدراسات المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون وتبني الباحثين النابهين الذين يحملون همَّ تطبيق الشريعة. ويلحق بذلك إنشاء مراكز للدراسات الاجتماعية، ترصد واقع المجتمعات المسلمة والظواهر الاجتماعية البارزة من منظور شرعي حضاري، فتكون بمثابة المبلغ بلاغًا مبينًا حول ما يخدم الشريعة لمراعاته والاهتمام به، وما يخالفها للنهي عنه وتجنبه.
  • محاولة إنشاء مؤسسات فقهية وإفتائية مستقلة بعيدة عن التحزب السياسي والمذهبي، مما سيكسبها مهابة واعتبارًا في نظر المسلمين، ويكسبها نفوذًا أدبيًا في أوساطهم، يمكن لها أن تستثمره في غرس المفاهيم الشرعية الصحيحة، ويتيح لها أن تتولى رسم خريطة طريق لاستعادة سيادة الشريعة الإسلامية بتدرج علمي واعٍ، يراعي فقه الأولويات وفقه الموازنات، وفقه الاستطاعة، ويرفع الحرج عن الناس.
  • استثمار الثورة التقنية ووسائل التواصل المختلفة في التثقيف الشرعي للمسلمين وتبصيرهم بأحكام دينهم، وبالقواعد الشرعية والفقهية، ولا مانع حينئذ من أن يكون بعضها متخصصًا وموجهًا إلى فئات بعينها، مثل القضاة مثلاً حيث يمكن تعريفهم بكيفية الوصول إلى الأحكام الشرعية عبر شرح ميسر لعلم أصول الفقه، وكذلك الأمر بالنسبة للمحامين والباحثين القانونيين، وهكذا([36]).
  • زيادة الاهتمام في الإعلام بقضية تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا عصريًا يراعي مقاصد الشريعة وقيمها، كما يراعي أحكامها الجزئية والفرعية، وليس معقولا أنه حتى الآن لم تنشأ ولو (قناة تليفزيونية) واحدة تتخصص في هذا الموضوع، لاسيما وأن هناك مادة ثرية لتلك القناة، يمكن استثمارها في إلقاء الضوء على هذه القضية من النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية، مع التعريف بأهم أعلام الشريعة والقانون، عبر إنتاج أفلام وثائقية وعلمية، وسيكون لها –حال التعامل معها بشكل مهني متقن- جماهيرية كبيرة، وخاصة وأنه لا يزال لهذه القضية جاذبية كبيرة عند المشاهدين، فضلاً عن كونها من الممكن أن تسهم بقوة في عملية التثقيف الشرعي التي أشرنا له في الحقيقة السابقة.
  • تقديم الدعم المعنوي والمادي إلى المراكز –أو المجالس أو حتى الأفراد- التي تدافع عن حقوق الإنسان وحرياته، وتسعى إلى مقاومة الاستبداد والتبعية والفساد، باعتبار أن الإصرار على تقديم ذلك الدعم يعبر عن الإدراك الصحيح لمتطلبات تطبيق الشريعة الإسلامية ولمستلزماته، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ناهيك عن أن التبعية والاستبداد والفساد وقهر الإنسان هو من أظهر محرمات الشريعة الإسلامية التي يتعين العمل بجد للتخلص منها.

وختامًا:

فإن هذه الدراسة قد سعت إلى تقديم أفكار بنائية لمقاومة اختطاف المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، واستهدفت أن تكون تلك الأفكار غير تصادمية لاسيما في ظل الوضع الحالي المناهض للإسلام ولشريعته ولتاريخه كله، كما حاولت مراعاة المنطق العملي قدر الإمكان داعية إلى الحد من تسييس قضية تطبيق الشريعة الإسلامية والنظر إليها بدلاً من ذلك من منظور حضاري شامل يجمع بين أطياف الأمة المختلفة، فهل ستجد مجيبًين يدركون أن الوعي والسعي أجدى وأثمر من لطم الخدود والبكاء على الأطلال والدخول في صراعات غير متكافئة تؤدي إلى هزائم متكررة، حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية؟!

والله المستعان.

* باحث مصري مهتم بدراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في الدساتير والقوانين المعاصرة، حاصل على الدكتوراة في القانون العام والشريعة الإسلامية.

([1]) المعجم الوسيط (1/ 244).

([2]) تفسير القرطبي (1/ 222).

([3]) راجع: فاطمة الزهراء جزار، جريمة اختطاف الأشخاص، رسالة ماجستير نوقشت في كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الحاج الخضر- الجزائر، في العام الجامعي 2013/2014م، يمكن تحميلها عبر هذا الموقع: http://www.sajplus.com

([4]) اضطرت مفوضة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى الاعتراف بذلك، ولجأت إلى تعريف الاختطاف تعريفًا عمليًا بشأن جريمة خطف الأطفال بصفة خاصة، فقررت أن: “الاختطاف هو نقل طفل (دون الثامنة عشرة) أو حجزه أو القـبض عليه أو أخذه أو اعتقاله أو احتجازه أو أسره، بصفة مؤقتة أو دائمة، باستعمال القوة أو التهديد أو الخـداع، بغية إلحاقه بصفوف قوات مسلحة أو جماعات مسلحة أو إشراكه في القتال أو استغلاله في الأغراض الجنسية أو العمل القسري”. انظر: تقرير مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن اختطاف الأطفال في أفريقيا، منشور على موقع جامعة منيسوتا:

http://hrlibrary.umn.edu/arabic/AR-HRC/AHRC4-56.pdf

(([5] سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب (المتوفى: 1233هـ). تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد. تحقيق زهير الشاويش، بيروت، دمشق، المكتب الإسلامي، ط1، 1423هـ/2002م، ص30.

([6]) التهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية: د. جورج زيناني، بيروت: 1996م، ج1، ص178.

([7]) محمد مصطفى شلبي، المدخل في الفقه الإسلامي -تعريفه وتاريخه ومذاهبه- نظرية الملكية والعقد، بيروت: الدار الجامعية، الطبعة العاشرة: 1405هـ/1985م، ص30.

([8]) محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة- مصر، دار الشروق، ط8، 1421هـ/2001م، ص8.

([9]) انظر: لسان العرب، مادة “طبق”، والمحيط في اللغة، مادة “طبق”، والمعجم الوسيط – (2/550).

([10]) عبدالعزيز رمضان سمك، تاريخ التشريع الإسلامي ومصادره، القاهرة: دار النهضة العربية، 1427هـ/2006م، ص10.

([11]) حازم علي ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية، القاهرة، دار النهضة العربية، ط1، 1439ه/2018م، ص38.

([12]) ذكر مالك بن نبي هذا المعنى في كثيرًا من كتبه، مثل: “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”، وشروط النهضة، و”في مهب المعركة”، و”المسلم في عالم الاقتصاد، و”ميلاد مجتمع”، و”مشكلة الثقافة، وغيرها.

([13]) انظر: طارق البشري، نحو تيار أساسي للأمة، الدوحة-قطر: مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2008م، ص12. ولا أرى تعارضًا بين المعنيين المشار إليهما؛ فإن الاستدمار على الرغم من أنه واجه من الأمة قابلية له، بل وتلك القابلية هي التي جلبته ومكنت له، فإنه وجد مقاومة في الوقت نفسه استطاعت أن تقود بلادنا بعد ذلك إلى التحرر النسبي، من الاحتلال العسكري المباشر على الأقل، ومن الاستسلام للغزو الفكري ومن الذوبان الكامل في فكر الغزاة.

([14]) لم يتفق الباحثون على معيار موحد للتفرقة بين الشرق والغرب، فمنهم من اعتمد “التقسيم الجغرافي”، ومنهم من عول على “الخصائص (أو الطابع والمزاج”، ومنهم من فرق بينهما على أساس “الزمن”، وقد استعرض هذه الآراء أحمد أمين، واختار أن يميز بين الشرق والغرب على أساس اختلاف الطابع والمزاج. انظر كتابه: الشرق والغرب، دمشق، وبيروت، وبغداد: دار المدى للثقافة والنشر، إعادة نشر للطبعة الأولى من الكتاب التي صدرت في 1955م، 2011م، ص11-21.

([15]) انظر في هذا المعنى: سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، الأمة الإسلامية وعواقب الدولة القومية، حولية “أمتي في العالم”، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2000م، ص46؛ وموريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام -العهد المعاصر– بحثًا عن حضارة جديدة، ترجمة: يوسف أسعد داغر، وفريد م. داغر، بيروت- لبنان- عويدات للنشر والطباعة، 2003، المجلد السابع، ص764-765، 774.

([16]) يراجع في هذا المعنى: وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات، بيروت- لبنان، دار المدار الإسلامي، 2018م، ص629-630.

([17]) لبيان المقصود بمفهوم التحديث ونقده، راجع: سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، بين التجديد والتحديث، الكتاب رقم (70) من سلسلة “في التنوير الإسلامي”، القاهرة: دار نهضة مصر،  أغسطس، 2006م، ص61-72.

([18]) انظر: سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، بين التجديد والتحديث، المرجع نفسه، ص63.

([19]) انظر: في السمات التي تجعل كل من الدولة القومية والشريعة الإسلامية كيانين غير متوافقين: وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة والتحولات، مرجع سابق، ص632-648.

([20]) انظر: وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة والتحولات، المرجع نفسه، 650-672.

([21]) انظر لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع: حازم علي ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية، والنصوص الدستورية، مرجع سابق.

([22]) انظر: ديبا كومار، فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية، ترجمة: أماني فهمي، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2015م، ص46-47؛ وكذلك: زكاري لوكمان، تاريخ الاستشراق وسياساته- الصراع على تفسير الشرق الأوسط، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2007م، ص129-135.

([23]) انظر: حازم علي ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية، مرجع سابق، ص198.

([24]) انظر: خالد محمد خالد، تقنين الشريعة يبدأ من هنا، مقال منشور ضمن الكتيب غير الدوري: حقوق الإنسان العربي، والذي تصدره المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في 30 من مارس 1985م، ص9.

([25]) لعل من أوضح البراهين على ذلك، ما صرح به اللورد كرومر –وهو القنصل البريطاني والحاكم الفعلي لمصر في الفترة منذ عام 1883 حتى 1907م- في رسالته –عام 1896م- إلى رئيس وزراء بريطانيا آنذاك (اللورد ساليسبري) “ثمة علاج أوحد وفعال للموقف، وهو إلغاء المحاكم الشرعية بوصفها مؤسسة مستقلة كليًا، ونقل ولايتها القضائية إلى المحاكم المدنية العادية. وهو ما قد تم في الهند قبل عدة سنوات، وأنا لن أيأس أبدًا من تحقيق تغير مشابه لم يسبق له الحدوث في مصر”. نقلاً عن: عزة حسين، سياسات تقنين الشريعة، النخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكل الدولة المسلمة، ترجمة: باسل وطفة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2019م، ص287.

([26]) انظر: جاكوب سكوب فجارد- بيترسون، إسلام الدولة المصرية- مفتو وفتاوى دار الإفتاء، ترجمة: أ. د. السيد عمر، الكويت- لبنان: دار نهوض للدراسات والنشر، ط1، 2018م، ص94-97. وراجع مزيدًا من مثل تلك التغيرات التي حدثت في النظامين القانوني والقضائي في العالم الإسلامي على يد الاحتلال الأوروبي في: محمد أحمد سراج، “الفقه الإسلامي والتغير القانوني في البلاد الإسلامية في القرن العشرين” المنشور ضمن كتاب: الأمة في قرن- عدد خاص من “أمتي في العالم”، حول قضايا العالم الإسلامي، 1420-1423هـ- 2000- 2001، الكتاب الثاني: الأمة في قرن- خبرة العقل المسلم- خبرات وتطورات وحوارات، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2002م، ص218-242.

([27]) انظر لمزيد من التفصيل عن تأميم الدولة للدين ولمؤسساته: سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، قراءة في دفاتر المواطنة المصرية- الزحف غير المقدس- تأميم الدولة للدين، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1426هـ/2005م.

([28]) جاكوب سكوب فجارد- بيترسون، إسلام الدولة المصرية- مفتو وفتاوى دار الإفتاء، مرجع سابق، ص242.

([29]) انظر: مقدمة طارق البشري لكتاب: محمد إبراهيم طاجن، أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية (1886-1925م)، الكويت- لبنان، مركز نهوض للدراسات والنشر، ط1، 2020م، ص24، 31 (بتصرف).

([30]) انظر للمزيد من التفاصيل حول هذه الدراسات: محمد إبراهيم طاجن، أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية، المرجع السابق، ص365-388.

([31]) يراجع كلاً من: س. س. أنر، مجلة الأحكام العدلية، ترجمة: رضوان السيد، مجلة الاجتهاد، بيروت: دار الاجتهاد، ع3، ربيع 1989م، ص203، 217. ومحمد أحمد سراج في تعليقه على كتاب: في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، مراجعة: حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، الكويت، دار العروبة، القاهرة، دار الفصحى، 1402ه/1982م، ص303 -304 (هامش رقم 2)، ومحمد كمال الدين إمام، نظرية الفقه في الإسلام (مدخل منهجي)، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1418هـ/1998م، ص308، 305.

([32]) انظر: محمد أحمد سراج، “الفقه الإسلامي والتغير القانوني في البلاد الإسلامية في القرن العشرين”، مرجع سابق، ص272-284.

([33]) انظر بحثه المعمق: المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي الراهن، لبنان: مجلة المسلم المعاصر، السنة السابعة والعشرون، العدد 105، سبتمبر 2002م، منشور بموقع المجلة: https://almuslimalmuaser.org/.

 

([34]) انظر كتابه: الكليات الأساسية في الشريعة الإسلامية، الرباط: إصدارات اللجنة العلمية بحركة التوحيد والإصلاح، ط2007، ص15-19.

 

([35]) راجع: الصادق النيهوم، الإسلام في الأَسر- من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة، لندن، قبرص، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية، فبراير 1993م، ص123.

([36]) يمكن الرجوع في هذا الشأن إلى الفكرة التي شرحها المستشار طارق البشري في دراسته المعنونة “منهج النظر في دراسة القانون مقارنًا بالشريعة”، والتي قدمها في ندوة انعقدت بجامعة قطر في ديسمبر سنة 1995، ونُشرت بصحيفة الحياة اللندنية على ثلاث حلقات في الأسبوع الأول من مارس 1996 ثم نُشرت بعد ذلك ضمن كتابه: في المسألة القانونية المعاصرة- الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1417هـ/1996م، ص115-135.

زر الذهاب إلى الأعلى