غير مصنف

عالم ما بعد كورونا والرؤية التوحيدية

في النموذج البديل

لا يخفى أن كورونا قد أسس ولا يزال لنمط من العلاقات فيما يبدو أنها ستأخذ بعداً زمنياً ممتداً لمراحل من حيث تأثيرها وانعكاساتها، ومهما حاول الكثير -وخاصة صناع القرار- أن يعيد المجتمع البشري بفعالياته وأنشطته إلى ما قبل الجائحة، فإنه في الغالب لن يحالفه النجاح في مرحلة زمنية قصيرة؛ لعظم عواقب هذه الجائحة وما تركته من آثار جانبية كبيرة على مستويات مختلفة، ولا يمكن أن ندعي بأن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفاً بالكامل عما قبله؛ فإن البشرية قد مرت بأمثلة مشابهة أو مقاربة على مدار الزمان في بعيده أو قريبه، ولم تكن هذه الأمثلة قاضية بأن البشرية فارقت أو باينت أحوالها السابقة قبل التلبس بتلكم الأزمات إلا قليلاً.

ولعل قوله تعالى: (أَوَلَا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون)[التوبة: آية 126]، يوحي بمقتضى عموم اللفظ أن الله يختبر كثيراً من الناس في كل عام مرة أو مرتين بالبلاء، ثم هم مع هذا البلاء الذي يحل بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون، ولا يتوبون، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته، فيتعظوا بها[1]، والمعنى ذاته هو الذي أكدت عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)[العنكبوت: آية 65]، وقوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور)[لقمان: آية 32] .. في غيرهما.

ومن الحكمة التي من أوتيها، فقد أوتي خيراً كثيراً ألا يقف المرء عند ظواهر الأزمة، وإنما يأخذ بعداً أعمق في التعرف على عناصرها ومقوماتها والعوامل الفاعلة فيها ومسبباتها، وضرورة ربطها بالنماذج المعرفية الحاكمة التي جعلها الإنسان مرجعاً له، منها يؤسس ويؤصل، وبها يغير ويؤثر، وعليها يؤالف ويخالف.

ومكمن الداء فيما يظهر لنا أن الإنسان المعاصر وخاصة في نموذج الحضارة الغالبة المباينة لنهج الاستقامة الذي تمثله الرسالة الخاتمة (الإسلام)، قد ادعى ما يمكن توصيفه بالفهم النهائي للكون، من خلال منهجيته المادية التي جعلها موصوفة بكونها مطلقة؛ بمعنى أنه من خلالها ادعى القدرة على التنبؤ بمسار الظواهر وتفسيرها، ولذلك كان مطلقه المادي الذي اتخذه ديناً جديداً بديلاً عن الدين الحق، بحيث يأخذ بالاعتبار عالم الشهادة بعيداً عن عالم الغيب، جعله يتخبط في ميادين النظر والمعرفة والتسخير إلى القدر الذي أصابه حقاً بالورم الكامن في المنطق الداخلي لنموذجه المعرفي وانعكاساته على أبنيته الفكرية والفعلية وما تقوم عليه من مؤسسات ونظم[2]، وإن كان قد نجح في اكتشاف بعض سنن الكون المادية التي سخرها في بناء مدنيته ذات الأبعاد المضطربة.

لقد جاءت كورونا لتفضح بالفعل مزاعم الحضارة المعاصرة بامتلاكها للمعرفة المطلقة لهذا الكون والفهم النهائي له، ولتكون حدثاً كاشفاً بالفعل للكم الهائل من الأزمات التي تعانيها البشرية اليوم؛ بسبب تحكم وسيادة هذا النموذج المعرفي، ولتثبت للإنسانية جمعاء أن الإنسان مهما ارتقى في مدارج العلم والمعرفة، فإنه يبقى في دائرة العلم المحدود، وليس من العبث أن نرى تركيز القرآن من خلال منهجيته المعرفية في إظهار خصائص الإنسان وسماته والحدود التي يدور في إطارها بما لا يمكن تجاوزه، وليؤكد على محدودية قدراته العقلية والمعرفية؛ ليبقى دائماً في صلة بما وراء عالم الشهادة؛ به تكتمل شخصيته، وتتكامل وظائفه ومهامه في هذه الحياة.

ولذلك قال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)[الإسراء: آية 85]، وقال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)[الروم: آية 6-7]، وقال تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)[غافر: آية 83]، وهذا النسق الموضوعي من الآيات يشير إلى أن هناك نمطاً من السير في الأرض يحرص عليه الإنسان يخرجه من دائرة الاستخلاف ووظيفته إلى دائرة التوظيف العبثي -إن صح التعبير- لقاعدة التسخير الإلهي.

فالسير في الأرض نوعان: سير بقلوب تعقل وتعي، يستفيد منه الإنسان السائر، ويحقق به ما لا يحققه القابع في وطنه، من اطلاع على أحوال غيره وخصائص بلدانهم وعاداتهم، ويأخذ الحكمة أنى وجدها بوصفه أولى الناس بها ما دامت لا تصادم منهج الله، أما في حالة العمى القلبي، وهو النوع الثاني، فإن آثار آلات الاستدلال التي منحها الله تعالى للإنسان تنعدم حتى لو سار في الأرض، ولذلك يكون سيره سير المعاجِز في آيات الله، الذي يكد ليس من أجل الوصول إلى الحقيقة، وإنما من أجل فرض نموذجه وتعجيز من يدعوه إلى الإيمان، والسعي إلى فتنته في دينه[3]، ولعل في النموذج الفرعوني مثالاً وأنموذجاً كاشفاً ظل يتكرر على مدار التاريخ، ليُفهم سر هذا البسط الذي جاء في السياق القرآني للعلاقة الفرعونية والعلاقة الإيمانية في إطار قصة موسى وفرعون وما اقترن بها من أحوال بني إسرائيل.

وحتى نكون على بينة من أمرنا في أزمة النماذج المعرفية في الوضعية الغربية الحديثة والمعاصرة، فإن البيان يقضي بالوقوف عند أبرز قسماتها ومفاصلها ومقوماتها ولو بشيء من الإيجاز الذي يأتي على عناوين أزمة هذه النماذج بما يوحي للإنسان العاقل فضلاً عن المسلم المستقيم على أمر دينه أن هذه الحضارة ليست محلاً للقدوة والأسوة، ولكن يلزم عند النظر إليها الإنصاف والعدل والاستقامة العلمية.

ولن نذهب بعيداً لإثبات حقيقة هذه الأزمة التي أضحى تقريرها من الواضحات، لأنها من المسلمات حتى عند أهلها، ولن نستدل عليها بما قاله مفكرونا؛ لأن الإنصاف يقضي أن نقف على حقائق هذه الأزمة النماذجية ومكنوناتها وتجلياتها على الأرض من خلال ما قاله أبناؤها ومعتنقوها، وعليه فإننا سنقف مع مثال من هذه القراءات التي تكفينا للتدليل على حقيقة ما وصل إليه العالم اليوم بعد تحكم النموذج الغربي وحداثته وما بعد حداثته بالعقلية البشرية وتجلياتها في الواقع.

يقول إدغار موران الفيلسوف اليهودي الفرنسي: “تتجلى الحداثة في ثلاث أساطير كبرى: أسطورة التحكم في الكون .. وأسطورة التقدم والضرورة التاريخية .. وثالثة هذه الأساطير هي أسطورة السعادة .. لقد بدأت أزمة الحداثة في الظهور منذ أن صار الاستشكال الناشئ عن الحداثة والمنقلب على الله وعلى الطبيعة وعلى الخارج ينقلب على الحداثة نفسها. فقد بات العلم اليوم يطرح بشقين أساسين. فهو ينتج معارف جديدة تثور معرفتنا بالعالم وتمدنا بالمقدرات الهائلة لتنمية حيواتنا وتطويرها، لكنه في الوقت نفسه يطور قدرات هائلة للموت، من قبيل الموت النووي، بحكم الانتشار الذي تعرفه أسلحة الدمار الشامل والتراجع الإنساني في حال تواصل تدهور المحيط الحيوي الناجم عن تنميتنا …

لقد طالت الأزمة أساطيرنا الكبرى: التقدم والسعادة والتحكم في العالم. فكيف أمكن لفكرة التقدم أن تصمد .. وقد آل الأمر بهذه الأسطورة إلى التفكك .. وبات  المستقبل نفسه اليوم في أزمة، وانتفت كل إمكانية للتكهن وإن هي إلا فرضيات، بله سيناريوهات. لقد أصبح المستقبل شيئاً مجهولاً. قال الفيلسوف التيشكي باتوك: (لقد استشكلت الصيرورة وستظل في استشكال على الدوام). وأما في ما يتعلق بالتحكم في العالم فلقد فقدنا لا نهائياً زائفاً. فنحن ندرك في الواقع أننا كلما زاد تحكمنا في القوى المادية في العالم إلا زدنا انحطاطاً بالمجال الحيوي. وقد تبين من الاكتشاف الجديد أن النظام الشمسي لا يزيد عن ضاحية صغيرة من العالم فهذا أدى إلى انهيار كل قول بسلطان بني البشر على العالم. أفلا يحسن بنا أن نرتب أرضنا وكأنها لنا بيت مشترك؟

وباتت أسطورة السعادة هي الأخرى في أزمة. فقد بدأ الناس اليوم يدركون أنه إذا كانت المنتجات الإيجابية للسعادة سيظل لها وجود فستظهر كذلك منتجات صغرى سلبية: التعب والإفراط في استعمال المحركات العقاقيرية النفسية والمخدرات … ثم إن النزعة الفردانية إذ تقوض التكافلات التقليدية تنتج كذلك العزلة وتنتج التعاسة. فإذا المدينة المتألقة تصير مدينة مجسية بحياتها المعقلنة وأشكال التلوث المهيمنة عليها وكروبها. وقد خيل إلينا أن في مقدورنا أن نبني حضارة تنعم بالأمن، لكننا صرنا ندرك في الوقت الحاضر أن هذه الحضارة تخلق مخاطر جديدة بدلاً من أن تزيل الخطر الواحد …”[4].

وفي كلام موران إشارة واضحة إلى أن التقدم العلمي والمخترعات والابتكارات والثورة المعلوماتية التي حققها الغرب لم تسهم في تحقيق ما أسماه الأساطير الثلاثة التي كانت في نظر أصحابها مسارات مستقبلية، ولم تكن بحسبه إلا زيوفاً أضحى المستقبل معها مجهولاً، بل جلبت إلى البشرية التعاسة والأمراض النفسية والتمدد في تطوير القدرات الهائلة للموت، إنه يعبر عن معضلة كامنة في العقلية الغربية التي انتهجت بحداثتها مسلكاً انقلبت فيه على الله وعلى الفطرة الإنسانية أفضى بها إلى الانقلاب على الحداثة ذاتها، وآل أمرها إلى فقدان بوصلتها الموجهة بوصفها الثابت الذي يدور معه المتغير، فأضحى المتغير دينها وثابتها ومطلقها، ولو كان الأمر متوقفاً من حيث آثاره ونتائجه على صاحبه، لهان الأمر، إلا أن ما حدث -وبحكم هيمنة النموذج الغربي على العالم بقواه ووسائله- هو تأثر العوالم الأخرى بأمراض وأدواء هذا النموذج، ولهذا كانت مساعيه ومراميه في تعميم نموذجه المعرفي ورؤيته الكلية حول الإنسان والحياة والكون، وضمَّن رؤيته الكلية نماذج فرعية تجلت في سياق علاقات وسياسات ومؤسسات تبنتها أنظمة سياسية عملت وما زالت على جعل الهامش العالمي منجذباً إلى المركز الغربي في دائرة التبعية.

وكانت الرسالة التي أرسلها أربابه حكاماً ومفكرين ونخباً وفاعلين أن هذا النموذج يمثل النهاية التي يلزم الغيرَ الالتحاق به والسير في ركابه، ولم يكن تعميم النموذج الغربي حباً في الآخر المباين له في دينه وعقيدته، وإنما هو تأمين جانبه بجعل هذه العوالم مصدراً له في تزويده بالخامات في صناعته، وسوقاً لمنتوجاته بما يدر عليها الكثير من الموارد والأموال، ولهذا جعل دائرة نظره واسعة متجاوزة لحدوده، ووضعها في دائرة ما يسميه مفكرو السياسة والاستراتيجية بالأمن القومي، فإن الأمن القومي لهم توسعت دائرته لتشمل أبعاداً جغرافية ممتدة، فأضحت مصائر الأمم مرهونة بهم إلى حد كبير، ومشكلها الأكبر هو حالة التماهي التي انساقت معها وفيها دولنا ومجتمعاتنا وأجيالنا في سياق هذا النموذج.

ويجلي لنا المسيري حقيقة هذا النموذج ومرجع تأثيره في الأنساق الحضارية المغايرة، فما يتعلق بحقيقة هذا النموذج فإنه يقف على جملة من السمات السلبية الكاشفة له على مستويات عدة، ومن أبرزها إجمالاً[5]:

-أن هذا النموذج يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان؛ لأنه مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون، وتقف وراء ذلك المؤسسات الكبرى في العالم الغربي، فهي تنكر على الإنسان خصوصيته وتنكر على عقله أنه مبدع وفعال، وأنه قادر على تجاوز ذاته الطبيعة ووضعه المادي.

-استحالة المشروع المعرفي والحضاري الغربي؛ لأنه استهدف السيطرة على العالم والكون من خلال يقينه بأن نسبة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن المجهول سيتم معرفته، وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملاً -كما أشرنا من قبل-، ومدخله في تحقيق ذلك كله هو علومه ومعارفه المادية، ووسائل تطبيقها في الواقع العملي.

-أزمة الحضارة الغربية ذاتها، وقد ظهرت أزمتها منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، ويرى المسيري أن ظهور الأزمات في هذه الحضارة أمر طبيعي ومتوقع مع تصاعد مظاهرها وكثرتها ابتداء من حربيها الغربيتين وانتهاء بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الأيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته … إلخ.

وأما فيما يتعلق بحالة التماهي للأنساق الحضاية المغايرة والمباينة، فمرجعه فيما أسماه بالتبعية الإدراكية، فيقول: “حينما نتحدث عن الحضارة الغربية، وحينما نتحاور بشأنها، ونتخذ مواقف معها أو ضدها تتضح تبعيتنا الإدراكية؛ إذ إننا عادة ما نفعل ذلك بناء على المعطيات التي تسمح لنا هذه الحضارة بالاطلاع عليها وداخل أطر جاهزة ونماذج معرفية مسبقة أعدها مفكرون غربيون، ونطرح نفس الأسئلة التي يطرحونها هم عن حضارتهم ومن منظورهم، أي أننا ندرك الحضارة الغربية لا بشكل مباشر وإنما كما يشاء أصحابها لنا أن ندركها، بل إننا بدأنا ننظر إلى أنفسنا من خلال مقولات الغرب التحليلية ونماذجه الإدراكية؛ ولذا بدأ الإنسان العربي يرى نفسه متخلفاً مهما بذل من جهد ومهما أنتج من روائع، وبدأ يحكم على نفسه بالهزيمة في المعركة قبل دخولها. والتبعية الإدراكية ليست تبعية اقتصادية وحسب، وإنما هي تبعية عميقة كامنة تنصرف إلى أسلوب الحياة، وإلى رؤية الذات ورؤية الآخر …”[6].

والسؤال الأهم الذي يهمنا في هذا السياق هو: ما الإشكالات التي عرضت لهذا النموذج في ظل جائحة كورونا؟ وواضح أن هناك إجماعاً عاماً بأن الجائحة كان لها أثر كبير على جميع الأصعدة، ولم تقف عند مستوى عالم الأشياء الذي دارت فيه وما زالت، بل تجاوزته إلى عوالم الأفكار والأحداث والمؤسسات والنظم، والرسالة الأهم التي بعثها هذا الفايروس أن هناك من الأشياء التي لا ترى بالعين المجردة يمكنها تغيير أنماط الحياة بل وأنماط التفكير بما يجعل البشرية تؤسس لعلاقات تحاول معها أن تعايش هذا المتغير الذي أسهم بعمق في تغيير الخريطة الإدراكية عند الإنسان بمختلف تجلياته وتمظهراته، ولذلك كان لزاماً على الإنسان المعاصر أن يعي أن أنماط التفكير والحياة التي عايشها كانت وراء هذه الأحداث.

وقد وعيها مبكراً مالك بن نبي رحمه الله حين أكد على خطورة الأفكار وما تعملها في عالم الأحداث والأشياء، حين بيَّن أن هناك فكرة ميتة “هي الفكرة التي بها خذلت الأصول، فكرة انحرفت عن مثلها الأعلى؛ ولذا ليس لها جذور في العصارة الثقافية الأصلية. وفكرة مميتة: هي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي”[7]، ثم يقول في مرجع خطورتها: “وفي هذه وتلك خيانة أفكار تجعلها سلبية أو ضارة. هذا التنكر ليس خاصاً بالمجتمع الإسلامي، فالعوامل النفسية الاجتماعية نفسها أنتجت الآثار المعوقة في مجتمعات أخرى وعصور سالفة”[8].

وعوداً إلى تأثير كورونا في واقع الناس اليوم، فإنه يُظهر مدى صدقية الأفكار المحذرة والمنذرة من الانحراف النماذجي الذي تلبست به الحضارة الغربية ونموذجها الحضاري المتحكم، وقد رصد المسيري نفسه قبل أكثر من عشرين عاماً الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة لهذا النموذج، مثل: المخدرات – الإباحية – السلع التافهة – تآكل الأسرة – طريقة التعامل مع المسنين – الوقت الذي يقضيه الإنسان مع أطفاله وزوجته – تراجع التواصل بسبب الكمبيوتر – الأمراض النفسية – تزايد العنف والجريمة في المجتمعات التي يقال لها متقدمة – انتشار الفلسفات العدمية وفلسفات العنف والقوة والصراع – تزايد الإحساس بعدم المقدرة على معرفة الواقع – تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة – تزايد إنفاق الحكوممة على التسليح وأدوات الفتك – ظهور إمكنية تدمير الكرة الأرضية إما فجأة بالسلاح النووي أو بالتدريج من خلال التلوث – أثر السياحة وحركة التنقل على نسيج المجتمعات وعلى تراثها – تزايد معدلات الجريمة في المجتمعات التي يقال لها متقدمة تزايدت معه السجون وميزانيتها[9].

فكيف لو أدرك المسيري وأمثاله ممن قضى من المفكرين الذين حذروا من هذا الانحراف النماذجي وتجلياته على الواقع الإنساني، كيف لو أدركوا حال العالم اليوم مع هذه الجائحة التي غيرت كثيراً من معالم وملامح الحياة الإنسانية، لقد أتى كورونا ليكشف ويفضح بعض المستور ومعظم المكبوت.. فيروس صغير وخطير لكنه لا يفرق ما بين ضعيف وقوي وما بين غني وفقير، يجتاح الدنيا ويصاب عالمنا بالذعر .. لم يصل هؤلاء إلى عمق توجيه كارل دويتش[10] ولا إلى دقة إرشاد جارودي حينما كتب في كتابه (حفارو القبور) ليؤكد أن مسيرة الحضارة الغالبة على هذا النحو ليست إلا مسيرة قتل وموت. واختار هذا العنوان البليغ ليؤكد أن هذا سمة خطيرة لتلك الحضارة، ولم يقف عند هذا الحد، بل تحدث عن مفهوم سفينة الأرض[11] التي تجمع العالم والمعمورة بكل إنسانها وبتنوع صنوفها وأن المصير المشترك في معنى السفينة إنما يشكل الحقيقة الكبرى التي يجب أن تكون في إدراك الناس[12].

وهذا لا يتحقق إلا أن تكون هذه السفينة في سياق رؤية كلية ونموذج معرفي مغايرين ومباينين للنموذج المعرفي المتحكم في عالم اليوم، ولا يضمن ذلك إلا النسق والنموذج والرؤية ذوات القيد (التوحيدي) مرجعيةً ومعرفةً وفعلاً وحركةً في الفكر والوجود، ومركز هذا النسق هو التوحيد الذي يشكل رؤية عامة للحقيقة، وللواقع، وللعالم، وللمكان، وللزمان، ولتاريخ الإنسانية، ولمصيرها[13]، والتوحيد إذا خالطت بشاشته القلب، واستيقنه الضمير، واستنار به العقل، واستضاء به الوجدان، انعكس على سائر جوانب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية، هو منطلق العلاج الشافي لكل أمراض ومشكلات الحياة والأحياء بل والأشياء، إنه آنذاك ينعكس على الفكر فيُقيِّمه، وعلى التصور فيُنَقِّيه، وعلى الاعتقاد فيصححه ويطهره، وعلى الوجدان فيحرره، وعلى السلوك فيعدله، وعلى الخلق فيحسنه، وعلى الحياة فيجعلها حياة طيبة، وعلى نظم الحياة فيجعلها صالحة قائمة على الهدى والحق والعدل والأمانة، وتساوي الخليقة ووحدتها، ووحدة الحقيقة ومناهجها[14].

إن تأسيس الرؤية الكلية على قاعدة ثابتة راسخة وهي التوحيد يعطي للإنسان قيمة وجوده بتحمله أمانة التكليف على وفق ما أوتي من قدرات التخلق بالعلم والمعرفة، هذه القدرة على الإدراك والعلم هي أصل قدرته الحضارية والعمرانية[15]، وبها ينساح في الأرض التي هي مجال التسخير الإلهي لهذا الإنسان الخليفة، بحيث يستطيع من خلال هذا التسخير استعمار الأرض بما يحقق المقاصد الإلهية باستخلاف الإنسان، ويثبت ضرورة أن الحياة البشرية دائرة في مجال الاختبار والابتلاء، وعلى هذا الأساس تنبني فاعلية هذا الإنسان المستخلف في الأرض، وإنما يتحقق ذلك بما أوتيه من مؤهلات ومقومات تجعله مستحقاً للخلافة في الأرض، وهي: أولاً: التحقق بالعلم كما يثيره قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)[البقرة: آية 31]، وهو علم لا يقف عند حدود المعرفة بل يتجاوزها إلى التحقق به على وفق منهج الهدى ودين الحق، وهذا يثبت أن الإنسان لا يمكن أن يستقل بمعرفة الحقائق بمعزل على الهداية الإلهية. وثانياً: تكريم الذات الإنسانية، فاستخلاف الإنسان يحمل في أثنائه تشريفاً له وإن كان دائراً في إطار التكليف، فالخلافة تكليف وتشريف وتكريم (ولقد كرمنا بني آدم)[الإسراء: آية 70]. وثالثاً: الاستمساك بمنهج الهداية (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)[البقرة: آية 38]، ولا يمكن أن يتحقق الاستخلاف المقصود إلا إذا كان مقترنا بالاستمساك بمنهج الهداية، فالعلم بمعزل عن هذا المنهج يفضي بالإنسانية إلى ما آلت إليه في زمن النماذج الوضعية المستحكمة في الأرض اليوم، وما جائحة كورونا إلا حدثاً كاشفاً عن كوامن من الانحرافات والأدواء والفساد في الأرض بعيداً عن منهج الهدى والحق.

هذه الرؤية التوحيدية الكلية الجامعة تستدعي منهجتها في الواقع الإنساني، بتفعيل نموذجها الخاتم الذي بُعث بها وكُلف حملَها وأُمر بتبليغها، وهو الأمة المسلمة، فتأخذ دورها الريادي الفاعل في الشهود الحضاري، هذا النموذج الأمة له من المقومات الرسالية ما تجعله قادراً على التحقق بالوظيفة الاستخلافية؛ لكونه كما بينته الدكتورة منى أبو الفضل قائماً بصفات مميزة ووظيفة مبلورة ومنهاج محدد، فهي أمة وسط تقوم على الدعوة إلى الحق والعدل، وهي صاحبة رسالة ومنهاج وطريقها الجهاد، فهي تتسم بالإيجابية والالتزام، ووجهتها محددة وغايتها واضحة وضوح هذه الوجهة، وشرطها اليوم أن تعيد إخراج نفسها مع وجود هذه المقومات التي لا تزول ولا تحول عنها، فمنهاجها قائم ومحفوظ، وإنما الدور يكمن في التحقق به بجعله شرعة ومنهجاً في مسارات ومسالك الحياة الإنسانية، فإذا تحقق وجودها عاد حضورها في الأرض ريادة وسيادة وتمكيناً وصلاحاً وهداية واستقامة، فيعود نفعها للبشرية جمعاء، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء: آية 107]، ليس في عالم الأفكار فحسب، بل في العوالم كلها، عالم الأفكار والأشياء والأحداث والمؤسسات.

وإنما يرتبط ذلك بوظيفة الأمة المسلمة، أمة  الرسالة الخاتمة وخاصة في شقها السياسي الذي يأخذ مقامه في أعلى الهرم من حيث الرعاية والعناية وخطورة الدور، وهي وظيفة ذات بعدين[16]، البعد الأول متعلق بالوظيفة العقيدية للأمة، وجوهرها توظيف القيمة التوحيدية في الممارسة وبناء الكيان المجتمعي الملتزم بهذه العقيدة، وهدفها مرتبط مباشرة بالإطار الوجودي والمعرفي والقيمي للإنسان وحياته، فالاعتقاد بأن الله قد اختار الإنسان خليفة له في الأرض؛ لأداء أمانة محددة ينطوي على مبدأ وحدة أو عدم قابلية الحياة البشرية للانقسام بين الإطارين المادي والمعنوي القيمي، فالمفهوم أحادي المركز للإنسان في القرآن والميول المترابطة والمتشابكة في البنية القرآنية يؤديان إلى نمط حياة شامل ينبذ الفصل بين الديني والدنيوي، أو بين المناحي الدنيوية والأخلاقية، وليس هناك فرق بين الحياة المادية والحياة الروحية في سياق هذه المنظومة العقيدية. وهكذا، فإن هناك مظهرين من مظاهر وحدة أمانة ومسؤولية الإنسان في الأرض، يتعلق أولهما بنوع هذه الأمانة الإنسانية الفريدة في تضمنها لجانبين روحي ومادي، بينما يتصل الآخر بحقيقة كون كل إنسان مكلفاً بأداء هذه الأمانة[17]، وهذا الذي يثيره قوله عليه الصلاة والسلام: “فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” في بعده الإنساني الكلي.

والبعد الثاني متعلق بالوظيفة الاستخلافية، وهي مرتبطة بالوظيفة العقيدية؛ لكون الأخيرة محوراً مركزياً يعود إليه كل مسار وكل وظيفة سواء ارتبطت بالأصول أو بالفروع، والوظيفة الاستخلافية تعنى بالعمران، فهي وظيفة عمرانية إنمائية، تأخذ على عاتقها الحفاظ على صلاح المعمورة التي تمثل موطن الاستخلاف الإنساني، وهذا المعنى يضمنه الارتفاق بالكون الذي يعاني اليوم من آثار تحكم وتسلط النموذج الغربي المادي، والارتفاق بالكون بحسب الدكتور عبدالمجيد النجار يتضمن ثلاثة مرتكزات[18]: الأول: الأساس العقدي لعلاقة الإنسان بالكون، وهو قائم على ثلاثة عناصر، الوحدة والتوافق بين الإنسان والكون من جهة المأتى والمصير والسيرورة، واستعلاء الإنسان بمقتضى التكريم، وتسخير الكون للإنسان. والثاني ارتفاق الانتفاع بالكون ويأخذ بالاعتبار: دافعية الانتفاع، والانتفاع الروحي بالكون، والانتفاع المادي بالكون. والثالث الرفق بالكون وهذا قائم بالحفاظ على مقدراته ونظمه وموجوداته، والحيلولة دون كل ما عسى أن يكون فيه إتلاف لها أو تحريف عن غاياتها في استتاب الحياة ونفع الإنسان، وهذا الرفق يكون بإطارين، الأول الرفق الصياني، وتدخل فيه الصيانة من التلف ومن التلوث ومن الأوبئة، والثاني الرفق الاستهلاكي، ومعناه الانتفاع بالكون في حدود ما يلبي الحاجة الحقيقية بعيداً عن التصرف الاستهلاكي المبني على الإسراف وسوء التصرف بمقدرات هذا الكون.

[1]  الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، دار هجر، ط1، 1422هـ/2001م، ج12ص91.

[2]  د.طه كوزي، أزمتنا الحضارية: العقدة والمخرج، دمشق، دار وحي القلم، ط1، 1437هـ/2016م، ص19.

[3]  د.السيد عمر، الأنا والآخر من منظور قرآني، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص105.

[4]  إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2012م، ص25-29.

[5]  د.عبدالوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، العدد 602، 2001م، ص213-218، وقد تحدث رحمه الله بإسهاب أكثر، اكتفينا منه بالمثال تنبيهاً على غيره، ولا يغني المقتبس عن الأصل، فلينظر للتوسع.

[6]  د.عبدالوهاب المسيري، النماذج المعرفية الإدراكية والتحليلية، ضمن كتاب: المنهجية الإسلامية، القاهرة، دار السلام، ط1، 1431هـ/2010م، ج2ص795.

[7]  مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دمشق، دار الفكر، إعادة للطبعة الأولى، 1423هـ/2002م، ص153.

[8]  المرجع السابق، ص153.

[9]  د.عبدالوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص225-226.

[10]  في قوله: “تعد هذه المقدمة لدراسة العلاقات الدولية في العصر الحاضر بمثابة التقديم لفن وعلم بقاء الجنس البشري”، انظر: كارل دويتش، تحليل العلاقات الدولية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983م، ص10.

[11]  في قوله: “فقدت سفينة الفضاء (الأرض)، التي نبحر نحن كلنا على متنها، اتزانها، وهي مهددة اليوم بعد خمسة قرون من الهيمنة الغربية المطلقة بالسقوط ..”، انظر: روجيه جارودي، حفارو القبور: الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها، القاهرة، دار الشروق، ط3، 1423هـ/2002م، ص23.

[12]  د.سيف الدين عبد الفتاح، فيروس كورونا المستجد وأحوال الاستبداد والمستبد.. أحداث كاشفة (50)، العربي 21، تاريخ النشر: 18/مارس/2020م.

[13]  د.إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة، عمان/الأردن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1437هـ/2016م، ص78.

[14]  د.طه جابر العلواني، التوحيد ومبادئ المنهجية، ضمن كتاب: المنهجية الإسلامية، مرجع سابق، ج1ص357-358.

[15]  د.عبدالحميد أبو سليمان، الإنسان بين شريعتين: رؤية قرآنية في معرفة الذات ومعرفة الآخر، القاهرة، دار السلام، ط1، 1423هـ/2003م، ص9.

[16]  انظر: د.سيف الدين عبدالفتاح، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي، عمان/الأردن، المركز العلمي للدراسات السياسية، ط1، 2002م، ص268 فما بعدها. د.حامد عبدالماجد قويسي، في التراث السياسي الإسلامي حول نظرية السلطة وتعاملها الخارجي، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1430هـ/2009م، ص68 فما بعدها.

[17]  أحمد داود أوغلو، النموذج البديل: أثر تباين الرؤى المعرفية الإسلامية والغربية في النظرية السياسية، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2019م، ص169.

[18]  منقول بتصرف من كتاب فقه التحضر الإسلامي للدكتور عبدالمجيد النجار، تونس، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1999م.

زر الذهاب إلى الأعلى