بحوثمشاريع

الاستراتيجية التركية في أفريقيا

 

حتى سنوات قليلة مضت، إذا ذكرت الاستثمارات في أفريقيا فإنه يخطر على الذهن مباشرة الصين والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكن هذه الصورة الذهنية آخذة في التغير، حيث أصبحت تركيا لاعبًا أساسيًا في القارة السوداء، وأصبحت تثبت أقدامها بشكل منتظم حتى في الدول الأفريقية التي تمزقها الحروب الأهلية. تبدو تركيا وكأنها تستيقظ من عزلة طويلة وتسعى بجدية لتكون لاعبًا إقليميًا ودوليًا مؤثرًا.

زار أردوغان أفريقيا ثلاثين مرة منذ عام ٢٠٠٣، بينما أحصيت ٣٧ زيارة قام بها الرئيس أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان أو وزير الخارجية إلى أفريقيا بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١١ فقط، وفي نفس تلك الفترة القصيرة استقبلت تركيا زيارات من ٧٦ مسئولًا أفريقيًا على نفس المستوى، وفي عام ٢٠١٤ حضر أكثر من ٣٠٠ صحفي أفريقي من ٥٤ دولة أفريقية لملتقى الإعلام التركي الأفريقي في أنقرة.

لتركيا الآن ٤١ سفارة في القارة الأفريقية (بعد أن كانت ١٢ فقط في ٢٠٠٩) وأعلنت وزارة الخارجية عن نيتها فتح ممثليات لها في باقي دول القارة (توجد ٥٤ دولة أفريقية) كما توجد في أنقرة ٣٣ سفارة أفريقية. تطير الخطوط الجوية التركية إلى ٥٢ مدينة أفريقية في ٣١ دولة، وتعتبر أكبر ناقل جوي في القارة.

في عام ٢٠١٥ استحوذت تركيا على ٢.٤٪ من حجم التجارة الأفريقية بينما ارتفعت حصة القارة الأفريقية من التجارة التركية على ٨.٧٪. كما بلغ حجم المساعدات التنموية التركية للقارة ٣.٣ بليون دولار (إحصاء ٢٠١٤)[1].

لقد حدثت طفرة كبيرة في العلاقات التركية الأفريقية منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، لكن عام ٢٠٠٨ كان علامة فارقة، ففي ذلك العام أعلن الاتحاد الأفريقي في دورته العاشرة أن تركيا شريك استراتيجي للقارة الأفريقية، وبناء عليه عقد مؤتمر التعاون التركي الأفريقي الأول في إسطنبول من نفس العام بحضور ٤٩ دولة أفريقية. دشن ذلك المؤتمر عملية تعاون منتظمة ومتنامية، ووضع آليات عمل لمتابعة هذا التعاون.

نرصد في هذا البحث ملامح الاستراتيجية التركية التي تقف خلف هذا التغير العميق في توجهات السياسة الخارجية، ثم نحاول تقييم هذه الاستراتيجية من حيث جدواها ومدى نجاحها، وقد تطلب هذا رصدًا مشابهًا للمنافسين الكبار خاصة الصين والولايات المتحدة والهند ليكون التقييم موضوعيًا وفي حجمه الصحيح.

 

أفريقيا في قلب الاستراتيجية التركية:

تسعى تركيا منذ عام ٢٠٠٢ لتصبح فاعلًا مركزيًا ودوليًا، مما يجعل سياستها الخارجية ذات أبعاد متعددة ومتشابكة؛ فتركيا الجديدة ترى نفسها دولة “آسياأوروأفريقية”، فهي تنتمي لآسيا وأوروبا بحكم الجغرافيا، وتتطلع إلى أفريقيا بحكم التاريخ والجيوبولوتيك.

كدولة صاعدة، ترى تركيا القارة الأفريقية صاعدة وواعدة؛ فأفريقيا بها ٥٤ دولة، وتعتبر من الأسواق البكر، وشعوبها تخطت المليار نسمة، وهي شعوب شابة (٧٠٪ من الأفارقة تحت سن الخامسة والعشرين) مما يجعلها صاحبة قوة عاملة لا يستهان بها.

والاقتصاد الأفريقي ينمو بمعدلات متسارعة في السنوات العشر الأخيرة (ما عدا عام ٢٠١٦)، وقد بلغ معدل نمو الناتج المحلي (GDP) للقارة ٣.٧٪، ومعدل نمو الدول الأفريقية جنوب الصحراء ٣.٤٪ عام ٢٠١٧ مقتربة من المعدل العالمي (٣.٦٪)[2]، وبها ١٣ دولة بمعدل نمو للناتج المحلي أعلى من ٥٪[3]، ومن المثير أن ست دول أفريقية حافظت على متوسط معدلات نمو مستدامة لأكثر من ٦٪ للأعوام العشر الأخيرة بلا انقطاع[4]، وتمثل هذه الدول قاطرة مثيرة لعمليات التنمية بالقارة.

 

لقد ظل شائعًا في السياسة الدولية عند ذكر الدول الأفريقية، وخاصة دول جنوب الصحراء؛ أن تتبادر إلى الأذهان على الفور مشاهد الفقر، والأمراض، والجهل والحروب الأهلية، لكن تلك الصورة بدأت تتغير تدريجيًا منذ ثلاثة عقود، وأخذ عدد متنام من الدول الأفريقية مسارات واعدة للاستقرار السياسي والتقدم التنموي. لقد بلغ الأمر أن بعض الدول الأفريقية أصبحت تبادر لفرض شروطها ورؤيتها للاستثمارات الأجنبية، وتسعى لتحديد أولوياتها في خطط تنميتها.

أفريقيا تعد الآن أهم الأسواق الواعدة، والعالم يستيقظ على حقيقة أن أفريقيا، مع سكانها الشباب، الذين ينمون بسرعة، ستكون الدافع الكبير التالي للطلب العالمي والنمو العالمي، وتقدر مؤسسة ماكينزي العالمية أنه بحلول عام ٢٠٢٥، يمكن أن يصل الإنفاق الاستهلاكي للأسر الأفريقية والأعمال التجارية البينية (B2B) إلى ٥.٦ تريليون دولار، وهو ما يعادل تقريبًا ثلث الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي الحالي. وقد صرح الرئيس الصيني في ديسمبر ٢٠١٥ أن بلاده تنوي ضخ ٦٠ بليون دولار لأفريقيا في صورة قروض ومنح وتسهيلات ائتمانية واستثمارات مباشرة.

لقد بدأت دول أفريقية تشعر بأهميتها القادمة، وبضرورة أن تكون الشراكات الاقتصادية على أسس جديدة تضع فيها أفريقيا احتياجاتها وأولوياتها. والعديد من دول أفريقيا الآن تشترط أن تكون العمالة وطنية، وألا تتعرض حكوماتها إلى ضغوط سياسية مقابل الاستثمارات الخارجية، وأن تخضع الاتفاقيات لشروط صارمة من الشفافية والمراجعة المالية لمنع الفساد والرشاوى الحكومية.

في مؤتمر أمريكا – أفريقيا الذي انعقد في واشنطن عام ٢٠١٤، قال البليونير الأفريقي محمد إبراهيم والذي شارك في الاجتماع مع عشرات الرؤساء الأفارقة، قال مخاطبا الرئيس أوباما وإدارته:

“أينما ذهبت في أفريقيا، هناك رجال أعمال صينيون، وهناك رجال أعمال برازيليون، ولم يذهب أي منا إلى البرازيل أو إلى الهند والصين لنطلب منهم المجيء والاستثمار في أفريقيا، هم يعرفون بأنفسهم فرص الاستثمار ويأتون ويستثمرون. لماذا يجب أن نأتي نحن ونطلب من الأمريكان؟! هذا لن يحدث كثيرًا في المستقبل. إنكم اخترعتم جوجل، واخترعتم كل هذه المنابر الإعلامية الأخرى، من فضلكم استخدموها، لتعرفوا قيمة أفريقيا اليوم”.

هذه التوجهات الأفريقية الجديدة كانت أحد أسباب النجاح الصيني الهائل في دخول الأسواق الأفريقية، فالصين لا تفرض أجندات سياسية (اللهم إلا فيما يتعلق بتايوان وإقليم التبت، وهذه لا تهم الأفارقة كثيرًا) كما أن الصين وعت درس العمالة الوطنية، وأصبحت تضعه بندًا ثابتًا في مشاريعها الأفريقية (على سبيل المثال: مجموعة هاربور الهندسية الصينية، التي فازت هذا العام في مناقصة لبناء السكة الحديدية الأوغندية التزمت بمساعدة أوغندا في تأهيل وتدريب ١٥ ألفًا من الفنيين والمهندسين، وبناء كلية وطنية للفنون التطبيقية، وقد وقعت جميع هذه الاتفاقات في إطار تدابير صارمة لمكافحة الفساد، وعمليات مراجعة وتدقيقات مالية مستقلة، وسياسات تفصيلية لحماية البيئة).

الأجندات السياسية:

إن سعي الدول الأفريقية لفك الارتباط بين الاستثمارات الخارجية وأجندات الدول المستثمرة السياسية، لا يعني اختفاء هذه الأجندات، وإنما يعني فقط عدم ربطها المباشر بالاستثمارات بحيث تصبح شروطًا لازمة، وستبقى الأهداف السياسية قصيرة وبعيدة المدى هي المحرك الأهم خلف التوجهات الاقتصادية، والتجربة الصينية تحديدًا في هذا المجال تركت آثارها القوية على الاستراتيجية التركية، وعلى الدول الأخرى، بما فيها دول مجموعة البريكس.

ظلت الصين لعدة عقود ملتزمة بسياسة عدم التدخل السياسي في شئون الدول الأخرى، ولكنها مؤخرًا أصبحت لها طموحات سياسية واقتصادية متنامية تدفعها للتدخل الفاعل على الأرض، ويبدو أن استراتيجيتها تضع القارة الأفريقية على رأس هذه الطموحات والأطماع.

وبعد تولي الرئيس الصيني تشي جي بينج السلطة في ٢٠١٢ سنت الصين قوانين تسمح ببقاء قوات لها خارج الحدود، وتمدد نشاطها العسكري في بحار شرق وجنوب الصين. وقد افتتحت الصين مؤخرا قاعدة بحرية لها في جيبوتي هي الأولى من نوعها خارج الصين منذ سحبت قواتها من كوريا الشمالية عام ١٩٥٨. والقاعدة الصينية تمثل حضورًا صينيا مباشرًا في فضاء نفوذ تقليدي لفرنسا والولايات المتحدة، والمثير أن لكلا الدولتين قواعد أيضًا متاخمة للقاعدة الصينية في جيبوتي.

وقد كان للتجربة الصينية الفاشلة في ليبيا إبان ثورتها الشعبية على معمر القذافي عام ٢٠١١ آثار مباشرة في تغيير السياسة الصينية الخارجية؛ حيث دعمت الصين نظام القذافي حتى قبيل انهياره وراهنت على بقائه وعلى حماية استثماراتها الضخمة في ليبيا والمقدرة بـ ١٨ بليون دولار معظمها في البنى التحتية.

ولم تستطع الصين بعد مصرع القذافي وانهيار نظامه أن تمد جسورًا سريعة مع الواقع الليبي الجديد، وخلال شهور قليلة وجدت نفسها خارج المشهد الليبي الذي انفردت به الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا.

بعدها تعلمت الصين الدرس في السودان؛ فبعد معارضتها الطويلة لانفصال الجنوب – حماية لاستثماراتها في السودان – سارعت الصين بتأسيس علاقات قوية مع جنوب السودان بعد انفصاله، بل وساهمت في حل بعض النزاعات التي نشأت بين حكومة الخرطوم وجنوب السودان، واستطاعت أن تؤمن تدفق نفط الجنوب عبر الأراضي السودانية.

للصين الآن حوالي ٢٦٠٠ جندي ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا؛ منهم أكثر من ألف جندي وخبير عسكري في جنوب السودان وحدها، وهي المساهمة الأعلى بين الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن.

وبرغم خبرات الصين الاستعمارية المحدودة، إلا أنها آخذة في التمدد في القارة الأفريقية على نحو متسارع، وأصبحت مساعيها تتجه للنفوذ السياسي والثقافي داخل القارة عن طريق الاختراق الإعلامي النافذ، أحد أبرز تجليات هذا التمدد الصيني للقارة الفتية.

وإذا كانت تركيا تنظر لأفريقيا في إطار العمق الاستراتيجي وأمام ناظريها التجربة الصينية فائقة النجاح، فإن مقاربتها الاستراتيجية جاءت مختلفة وفيها قدر من الإبداع السياسي واشتملت على توجهات حضارية واجتماعية وأمنية إلى جانب البعد الاقتصادي.

محاور الاستراتيجية التركية في استعمال القوى الشاملة:

أولا: المحور الحضاري:

تسعى تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، إلى تحقيق مصالحة تاريخية مع محيطها العربي والإسلامي والأفريقي، وأن تكون لها شراكات استراتيجية في هذه الدوائر الثلاث، ليس كبديل عن علاقاتها الأوروبية والأمريكية والروسية، ولكن كعمق استراتيجي يحقق توازنًا مع علاقاتها الخارجية الأخرى.

لقد كان لتركيا العثمانية علاقات قوية مع شمال أفريقيا ودول القرن الأفريقي، لكن هذه العلاقات تراجعت بشدة بعد قيام الجمهورية عام ١٩٢٣، حين ولت تركيا وجهها بالكامل نحو المعسكر الغربي.

صحيح أن أحد أسباب هذا التراجع هو أن محيطها العربي والأفريقي كان في ذلك الوقت واقعًا بالكامل تحت الاستعمار الغربي، لكن حتى بعد حركات التحرر، ظلت تركيا على سياستها الخارجية التي ازدادت تصلبًا بحكم آليات الحرب الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وحتى عندما حضرت تركيا مؤتمر دول عدم الانحياز في باندونج بإندونيسيا عام ١٩٥٥، فإن كلمة وزير خارجيتها آنذاك (فطين روستو زورلو) وتحذيره الدول الأفريقية والآسيوية الحاضرة من خطورة عدم الانحياز وحثها على الانضمام للمعسكر الغربي، مما حدا ببعض تلك الدول إلى وصف تركيا آنذاك بأنها “المتحدث الرسمي للإمبريالية الأمريكية”.

كما كان لانحياز تركيا لحلفائها في الناتو في أزمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، وامتناعها عن التصويت في الأمم المتحدة على قرار استقلال الجزائر، ثم انضمامها لحلف بغداد الذي كان العرب يرونه حلفًا للهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، كل هذا ساهم في عزلة تركيا عن محيطها العربي والأفريقي.

ظلت السياسة التركية على هذا المسار حتى أواخر التسعينيات، وعندما بدا واضحًا أن مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي لن تنجح، بدأت تركيا في انتهاج استراتيجية جديدة تقوم على تعدد الدوائر التي تقيم بها علاقات قوية، وتفتح فيها أسواقًا جديدة، وكان وزير الخارجية إسماعيل جيم، محركا قويًا لهذه الاستراتيجية الجديدة بدءًا من عام ١٩٩٨.

وقد قوبل هذا الانفتاح الجديد بعقبات كبيرة نتيجة الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي في تركيا في ذلك الوقت، حتى فاز حزب العدالة والتنمية الصاعد بالانتخابات العامة عام ٢٠٠٢ بعد عام واحد من تأسيسه.

وبدأت تركيا انفتاحها الكبير على أفريقيا من خلال الأعمال الإغاثية والخدمية كمقدمة للتعاون التجاري والسياسي، وكان في طليعة هذا الانفتاح منظمات غير حكومية وعلى رأسها وكالة التعاون والتنسيق التركية تيكا (TIKA) وهيئة إدارة الطوارئ والكوارث أفاد (AFAD). هذا المدخل الإغاثي وإشراك المنظمات الأهلية أعطى تركيا ميزة تنافسية كبيرة على دول مجموعة البريكس (الصين، البرازيل، جنوب أفريقيا، روسيا والهند) وخاصة الصين وروسيا التي ليس لديها منظمات أهلية حقيقية، وإنما منظمات شبه حكومية وإن تسمت بأسماء أهلية.

لقد كان لقرار الاتحاد الأفريقي اعتبار تركيا شريكًا استراتيجيًا فاتحة لمجالات واسعة من التعاون وأثمر عن عقد ثلاث مؤتمرات تركية أفريقية، الأول عام ٢٠٠٨ في إسطنبول بحضور خمسين دولة أفريقية والثاني عام ٢٠١٤ في غينيا الاستوائية والثالث عام ٢٠١٧ في أنطاليا بتركيا. وفي تطور لافت دعمت ٥٢ دولة أفريقية (من بين ٥٤ دولة) ترشيح تركيا كعضو غير دائم بمجلس الأمن عام ٢٠٠٩.

لاحظت الدول الأفريقية فارقين جوهريين في الاستراتيجية التركية عن المنافسين الآخرين:

الأول: أن المساعدات أو العقود التركية لا تأتي مرتبطة باشتراطات تضغط على الطرف الأفريقي أو تحاول استنزاف موارده الطبيعية (كالمشروع الصيني “القروض مقابل النفط” أو العقود الهندية التي تشترط شراء البضائع الهندية).

الثاني: أن تركيا تهدف إلى تنمية اقتصادها من خلال مشروعات مشتركة دون الإضرار بالطرف الأفريقي، بينما اعتادت الدول الأفريقية على السلوك الاستعماري الذي ينقض على مواردها الطبيعية من أجل استثمارها خارج أفريقيا، وهي السياسات الأوروبية الأفريقية الموروثة.

فالولايات المتحدة بدورها تعتمد على التدخل السياسي والعسكري لتأمين احتياجاتها من الموارد الطبيعية الأفريقية، وحتى اتفاق القيادة الأمريكية الأفريقية الموقع عام ٢٠٠٧ (AFRICOM) بدأ الأفارقة ينظرون إليه ليس كوسيلة لدعم الأمن والاستقرار بقدر ما هي سياسة أمريكية لقطع الطريق على التغلغل الصيني في القارة البكر.

التحدي الذي يواجه الاستثمارات الأوروبية والأمريكية هو أن الصين تستثمر في البنى التحتية بشكل يجعل الدول الأفريقية لا تستطيع أن تستغني أو تضحي بهذه المصالح بعيدة المدى. وقد بدأت تركيا في السنوات الخمس الأخيرة تتجه لنفس ميدان البنى التحتية من طرق وجسور وأنفاق وسكك حديدية وتعدين، وفي نفس الوقت لم تغفل الجانب الأمني والعسكري حماية للاستثمارات الاقتصادية وتوفيرًا للبيئة الآمنة لها.

البعد الإسلامي في العلاقات الأفريقية يتمتع بميادين واسعة ليس لتركيا منافسون أقوياء فيها، فكل من الصين والهند ليس لها هذا الرافد الحيوي، وإيران حديثة عهد بأفريقيا دون جذور تاريخية. لقد كان لمصر حضور قوي في القارة الأفريقية حتى عهد حسني مبارك، الذي انحسر فيه النفوذ المصري وتراجع الحضور المصري حتى كاد ينعدم في أقطار أفريقية عديدة، وأغلقت عشرات المراكز الأزهرية التي كانت مشاعل للتعليم والتربية في أفريقيا لقرون عديدة.

لقد أعطى هذا البعد الحضاري لتركيا جسورًا من الثقة، وبدأت تكسب به قلوب وعقول الأطراف الأفريقية، وبدأت المدارس والأكاديميات التركية تنتشر في مراكز أفريقية مؤثرة، كما قدمت تركيا منحًا دراسية متزايدة للقارة الأفريقية، حيث يدرس حاليًا أكثر من ٢٠ ألف طالب أفريقي في الجامعات التركية، بالإضافة إلى ١١٦ أستاذًا زائرًا.

 

وقد نظمت وزارة التعليم التركية بالتعاون مع وقف المعارف التركي، مؤتمر وزراء التعليم التركي الأفريقي الأول في إسطنبول في ١٩-٢١ أكتوبر ٢٠١٧. وقد أقيمت عدة برامج تدريب مشتركة، منها تدريب ٢٠٠ من شباب الدبلوماسيين الأفارقة ضمن “البرنامج الدولي لتدريب شباب الدبلوماسيين” الذي تقيمه الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية التركية بشكل منتظم. وقد نظمت هذه الأكاديمية برامج حصرية لدول أفريقية معينة وهي: الصومال، مدغشقر، السودان، جنوب السودان، نيجيريا وناميبيا.

لقد حصل أكثر من ٢٨٠ ألف مواطن أفريقي على فحوصات طبية شاملة تحت مظلة برنامج ضخم للرعاية الصحية أعدته وزارة الصحة التركية بالتعاون مع العديد من المنظمات الأهلية، وشارك فيه أكثر من ٥٠٠ طبيب ومائة فني من الأتراك.

ومن الأمثلة الدالة، مشروع الكاتاراكت الأفريقي الذي أجريت به عمليات جراحية (للمياه البيضاء بالعين) لأكثر من ٥٣ ألف مواطن أفريقي، في عام ٢٠١٤ وحده.

كما استقدمت تركيا أكثر من ألف مريض أفريقي للعلاج بتركيا للحالات التي لم يمكن علاجها في بلادهم. وقد أنشأت هيئة تيكا الإغاثية مستشفى جامعيًا للبحوث والتدريب في نيالا السودانية بسعة ١٥٠ سريرًا عام ٢٠١٤، وتقوم بإدارته بشكل مشترك مع وزارة الصحة السودانية لمدة خمس سنوات تنتهي في ٢٠١٩، وحينها تسلم المستشفى للإدارة السودانية بالكامل.

وافتتح الرئيس أردوغان أكبر مستشفى في مقديشيو بالصومال عام ٢٠١٥، وتعتبر المستشفى حاليًا (بسعة ٢٠٠ سرير) أكبر صرح طبي في الصومال. كذلك أنشأت وزارة الصحة التركية مستشفى جوبا التعليمي في جنوب السودان، ومستشفى البلاك ليون في أديس ابابا في إثيوبيا.

لوكالة التعاون والتنسيق التركية (TIKA) حاليا مقرات في أكثر من ١١ دولة إفريقية؛ لتقديم المساعدات والهبات لأكثر الدول حاجةً وفقرًا، كما حققت المؤسسة التركية للتعاون والتنمية انطلاقة نوعية في الانفتاح على إفريقيا إذ استطاعت من خلال مكاتبها في ثلاث دول إفريقية، هي: إثيوبيا والسودان والسنغال، أن تسهم إسهامًا مباشرًا في العديد من مشروعات التنمية داخل ٣٧ دولة إفريقية، كما أنها قدَّمت مساعدات إنسانية عاجلة للعديد من الدول الأفريقية فضلًا عن برنامجها الخاص بالتنمية الزراعية في أفريقيا الذي بدأ في ٢٠٠٨، وذلك بهدف تطوير الزراعة في ١٣ دولة أفريقية، هي: بوركينافاسو، جيبوتي، إثيوبيا، غينيا بيساو، مالي، السنغال، جزر القمر، مدغشقر، تنزانيا، كينيا، رواندا وأوغندا.

الإعلام رافعة حضارية:

الإعلام من أهم أدوات الاختراق الحضاري لكسب عقول وقلوب الشعوب، ولتركيا خبرات إعلامية متنامية وهي أحد أسباب القوة الناعمة التركية، والتي تظهر مؤشرات عديدة على أنها تتمتع باهتمام بالغ في الاستراتيجية التركية.

وقبل أن نحاول تقييم هذا البعد، من المفيد أن نتناول الجهود الإعلامية للمستثمر الأكبر في أفريقيا وهي الصين، برغم غربة الثقافة الصينية عن المشهد الأفريقي في ماضيه وحاضره.

الفضاء الإعلامي فضاء سياسي:

في الشهور الستة الأخيرة من عام ٢٠١٧ كانت كينيا تمر بالحدث السياسي الأهم في البلاد وهو الانتخابات الرئاسية وشبح المواجهات الدامية للانتخابات السابقة والتي خلفت ١٤٠٠ قتيلًا وقرابة العشرة آلاف إصابة ماثل في الأذهان، وبالفعل خيمت الانتخابات وإعادتها على سلام واستقرار البلاد.

وفي خلال تلك الشهور القليلة التي كانت تغلي بالتوتر السياسي، كانت شركة ستار تايمز (StarTimes) الصينية للتليفزيون الفضائي، تتمدد في كل مقاطعات ومدن وقرى كينيا، وتقوم بتركيب معداتها وطبق استقبالها في مليون ونصف مليون بيت (وكوخ) في كينيا، وهذه البيوت تمثل تقريبًا ٢٠٪ من سكان البلاد.

في المتوسط يستغرق فني الشركة نصف ساعة فقط ليقوم بمد التوصيلات وتركيب معدات الشركة وطبق الاستقبال، ليجد المواطن الكيني مئات القنوات الفضائية الرقمية تحت ضغطة من أصابعه. وهذه الباقات الضخمة فيها مواد ترفيهية من الفنون الكينية المحلية، وفيها بعض المواد العالمية وفيها بطبيعة الحال مواد صينية متنوعة بدءًا من أفلام الكاراتيه والكونج فو والكارتون إلى المواد الوثائقية والتاريخية من وجهة النظر الصينية.

شركة ستار تايمز تحقق نتائج متسارعة لكسب عقول وقلوب الأفارقة، وأمام منافسة محدودة من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والهند وتركيا.

الباقة الشعبية لستار تايمز تباع بأربعة دولارات للاشتراك الشهري، مقابل ١٥-٣٠ دولارا لباقات شبكات الجزيرة أو فرانس ٢٤ أو البي بي سي، كما يقول إيمانويل مواسيا (Immanuel Muasya) لجريدة التايمز[5]، بالإضافة إلى أن البنية التحتية الرقمية الكبيرة التي أسستها ستار تايمز تعطيها ميزة تنافسية، وتجعل التعاطف الحكومي أو السياسي معها أكبر؛ لأنها استثمارات تبقى لصالح البلاد بشكل عام.

يمكننا أن نتصور الأثر والنفوذ السياسي الصيني في هذا البلد الذي يمثل من هم دون الخامسة عشرة فيه حوالي ٤٠٪ من تعداد السكان. ويمكننا أن نتصور أيضًا أنه بعد عشر سنوات من الآن ستكون الشريحة الفاعلة في المجتمع لها ثقافة وأفكار متعاطفة مع المارد الصيني.

كينيا مثال واحد من إحدى وثلاثين دولة أفريقية تنشط فيها ستار تايمز، تشمل حتى الدول التي تمزقها الحروب الأهلية مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى.

السؤال الحائر يفرض نفسه: كيف لشركة صينية تكاد تكون مجهولة تمامًا في الغرب، أن تكتسح البنية التحتية للبث التليفزيوني في قارة أفريقيا وتبث محتوى صينيًا لعشرات الملايين من البيوت الأفريقية؟!

في تصريح لافت لنائب رئيس ستار تايمز جو تشي جي (Guo Ziqi)  في ديسمبر ٢٠١٦ قال:

“هدفنا ببساطة أن يتمكن كل بيت أفريقي من امتلاك تليفزيون رقمي وأن يشاهد محتوى تليفزيون رقمي عالي الجودة وأن يستمتع بالحياة الرقمية”.

لقد كانت العلاقة الاستراتيجية بين الصين وأفريقيا حتى عشر سنوات مضت قائمة على تبادل الموارد الطبيعية مقابل تأسيس البنى التحتية من طرق وشبكات كهرباء وجسور ونحوها، لكن هذه العلاقة تطورت مؤخرًا بالنظر إلى طموحات الصين المتصاعدة، وأن أفريقيا أصبحت أكثر ثراء من السابق.

الصين تنفق البلايين الآن لتغيير الصورة الذهنية عنها في أفريقيا، وفي مقابلات صحفية غربية عديدة مع مواطنين أفارقة، يبدو أن ثمة نجاح قد تحقق للصين في هذا التحدي، لكن الصورة العامة عن الصين ما زالت مرتبطة بالقمع والتلوث… والمجهول. وتبقى معظم الإصدارات الإعلامية أو الدعائية الصينية غير مقروءة أو مشاهدة خارج الصين.

صورة التوسع الصيني في أفريقيا قد تتضح أكثر إذا تذكرنا أنها في نفس البلد الذي يشهد توسعًا هائلًا في التليفزيون الرقمي (كينيا)، أن الصين تتصدر الدول المانحة والمقرضة لكينيا، وأنها في السنوات الثلاثة الأخيرة فقط قامت ببناء خط سكة حديدية، وقد افتُتح في يونيو ٢٠١٧، من العاصمة نيروبي إلى ميناء مومباسا على بعد ٦١٠ كيلومتر بتكلفة ٣.٢ بليون دولار، وهو الخط الذي اختصر مسافة السفر بين أهم مدينتين من ١٠ إلى ٥ ساعات.

وتقول الصين: إنها تتطلع لمد شبكة خطوط السكك الحديدية لتربط كينيا بجنوب السودان وأوغندا ورواندا وبوروندي.

وفي كينيا أيضًا وقعت الصين هذا العام اتفاقية لبناء شبكة توليد كهرباء (من الفحم) بطاقة ١٠٥٠ ميجاوات وبتكلفة ٢ بليون دولار.

الدراما التركية:

قد لا تستطيع تركيا المنافسة القوية مع العملاق الصيني في استثمارات البنى التحتية الإعلامية، ولكنها بالتأكيد تتفوق في القوة الناعمة الإعلامية بعد أن أصبحت أكبر منتج ومصدر للدراما التليفزيونية في العالم بعد الولايات المتحدة، وأصبحت المنتجات التليفزيونية التركية تمثل ٣٠٪ من الإنتاج العالمي بحسب إحصائيات يوروداتا (EuroData) في عام ٢٠١٦.

وقد أدركت تركيا أن بإمكانها تحقيق اختراقات في أفريقيا بعد أن حققت نجاحات ضخمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا.

وفي تحقيق لشبكة البي بي سي[6] عام ٢٠١٦، قدرت أن المسلسلات التركية يشاهدها أكثر من ٤٠٠ مليون نسمة في أكثر من ١٤٠ بلدًا في العالم، وقدرت الشبكة أن المسلسل التركي “ما ذنب فاطمة غل؟” بعد دبلجته إلى اللغتين الإسبانية والبرتغالية، قد أحدث صدىً واسعاً في أمريكا الجنوبية كلها عام ٢٠١٥، وأنه في الأرجنتين وحدها، شاهد حلقات ذلك المسلسل أكثر من ١٢ مليون شخصًا، وأن مسلسل “ألف ليلة وليلة” قد حاز على لقب أكثر البرامج التلفزيونية مشاهدة في تشيلي عام ٢٠١٤، وأن آلاف الآباء الجدد من التشيليين يختارون اسمي “أنور” وشهرزاد” لأبنائهم حديثي الولادة تيمنًا ببطلي المسلسل. بعض الشهادات التي نقلها التقرير تعكس بوضوح أثر هذه القوة الناعمة.

تقول مارسيل ميرا، ٤٢ عاماً، وهي مواطنة تشيلية تعيش في العاصمة سانتياغو، وتواظب على مشاهدة المسلسلات التركية وترى أن فهم هذه المسلسلات والتفاعل معها أسهل عليها من التفاعل مع المسلسلات الأمريكية، وذلك مقارنة بما تصفها بالمبالغة الدرامية التي تنتجها هوليوود، والتي ترى أنها تحمل العديد من المضامين الجنسية.

وتقول ميرا: “رغم أن تركيا بعيدة جداً، إلا أنني أجد تشابهاً بين ثقافة أهلها وثقافتنا. كما أن الإنتاج التركي به مستوى عال، ويخلو من القوالب النمطية، والعبارات المكررة. وعندما بدأت في مشاهدة هذه المسلسلات، أدركت كم كانت ترهقني مشاهد العنف والجنس في المسلسلات الأمريكية”.

وفي ليما عاصمة بيرو، تقول إيفيت سانشيز، ٢٣ عاماً، وهي طالبة جامعية من هواة المسلسلات التركية: “ألتقي مع أصدقائي بانتظام، ونمضي معًا ليالي سمر مع المسلسلات التركية. ونشاهد فيها تلك المسلسلات، ونتجاذب أطراف الحديث.”

كما نشر موقع “ناخريشتن اكسبريس” الألماني[7] تقريرًا، سلط من خلاله الضوء على الشهرة الاستثنائية التي حظي بها مسلسل “قيامة أرطغرل” التركي الذي اشترت أكثر من ٦٠ دولة حقوق بثه، حيث تحصل على المركز الثاني في قائمة أعلى نسب المشاهدة في العالم.

وأوضح الموقع أنه وفقًا لبيانات رسمية في تشيلي يتصدر الاسم التركي “إيلف” قائمة الأسماء الأكثر انتشارًا في البلاد بين الفتيات الصغيرات إلى جانب اسم “فرونيكا” بسبب الشغف الشعبي بالمسلسلات التركية.

كما نقلت شبكة يورونيوز[8] في تغطية لها أن المسلسلات التركية تعصف بالسوق التليفزيوني في باكستان وسيريلانكا والهند وأذربيجان.

في تقرير للتايمز الاقتصادية الهندية[9] عبرت الصحيفة عن قلق هندي بالغ من التوسع التركي في آسيا؛ حيث رصدت العديد من المحطات التليفزيونية في باكستان والهند وإيران وأفغانستان وماليزيا وفيتنام والفلبين بدأت في استبدال المسلسلات الهندية بأخرى تركية، وذكرت أن الحلقة الأخيرة من المسلسل التركي (الحب الممنوع Aşk-i Memnu) شاهدها في باكستان وحدها ٩٠ مليون مشاهد.

التقرير يفسر هذا الانتشار بأن المحتوى جاذب لثقافات متنوعة لدرجة أن بعض المحطات الباكستانية والإندونيسية تبث ثلاثة أو أربعة مسلسلات تركية بشكل متتالٍ دون أي فقرات أخرى بينها، وحتى أن شبكة هندية كبيرة (Zindagi) عندما أرادت جذب شرائح من الشباب لشاشتها عرضت مسلسلًا تركيا (هو مسلسل Feriha) لجذبهم، وكان بداية لشراء المزيد من المسلسلات التركية ودبلجتها للهندية.

وقد بدأت شركة الإنتاج التليفزيوني الأمريكية العملاقة نيتفليكس (Netflix) خدمة محلية في الهند بتقديم المسلسلات التركية، ويقول ريد هاستينج رئيس الشركة وأحد مؤسسيها: “الأتراك بطبعهم يجيدون حكاية القصص، وقد قررنا في نيتفليكس أن نكون سفراء للدراما التركية في الهند وغيرها”.

لقد بدأت شعوب كثيرة تمل من المسلسلات الأمريكية، ولاحظت شركات التوزيع العالمية انخفاضًا بأكثر من ٥٠٪ لعدد مشاهديها في الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا الجنوبية خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهو ما فتح الباب للدراما التركية بمحتواها الإنساني والاجتماعي لسد هذا الفراغ.

ورصد تقرير التايمز الاقتصادية الهندية أيضًا، أن حبكة الدراما التركية لا تناسب بالضرورة كل الثقافات خاصة بطول حلقاتها (وهي في المتوسط من ساعتين لساعتين ونصف) وطول مواسمها التي تمتد لأكثر من مائة حلقة، وقد لاحظت مثلًا أن مسلسل (النهاية Son) عند عرضه في السويد والدنمارك اختصرت شركة التوزيع التليفزيوني هناك مشهدًا لبطلة المسلسل تبكي فيه من أربع دقائق لنصف دقيقة فقط ليناسب مشاهدي إسكندنافيا.

كذلك حققت الدراما التركية نجاحًا سريعًا عند بدء عرضها في روسيا والصين وأوكرانيا عام ٢٠١٣[10] وتم بث أول مسلسل تركي في كوريا الجنوبية في نوفمبر ٢٠١٧.

وبدأت شبكة (Atresmedia Nova) في إسبانيا بدورها بث أول مسلسل تركي[11] في وقت الذروة، مدبلجًا إلى الإسبانية في يناير ٢٠١٨.

أفريقيا بدورها آخذة في استقبال الدراما التركية بترحيب شديد، وقد بدأت الموجة بشمال أفريقيا، حيث للمسلسلات التركية شعبية كبيرة في مصر وتونس والجزائر، ثم انتقلت إلى إثيوبيا وغانا ونيجيريا وجنوب أفريقيا وغيرها.

شبكة تليفزيون “كانا” الإثيوبية تقول[12] إن المسلسلات التركية المدبلجة للغة المحلية (الأمهاريك) هي الأكثر انتشارًا منذ بدء بثها عام ٢٠١٦. وتضع شبكات تليفزيون في جنوب أفريقيا المسلسلات التركية لإذاعتها في أوقات الذروة مدبلجة باللغة الإنجليزية[13].

هذا الانتشار الواسع عبر ثقافات متنوعة وفي سنوات قليلة، وأمام منافسين أمريكيين وأوروبيين وهنود ذوي خبرات درامية عريقة يعطي مؤشرًا هامًا حول نفوذ هذا الذراع الثقافي الفعال.

ومع أن حجم التصدير التركي لا يزال ضعيفًا أمام الصادرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، لكن معدلات نموه عالية جدًا.

لقد كانت صادرات الإنتاج التليفزيوني التركي عام ٢٠٠٤ عشرة آلاف دولار فقط، قفزت عام ٢٠٠٨ إلى عشرة ملايين دولار، ثم عام ٢٠١٦ إلى ٣٥٠ مليون دولار، وترى شبكة بلومبرج وبدر أرسلان، الأمين العام لجمعية المصدرين الأتراك، أن قيمة الصادرات التلفزيونية التركية ستصل إلى ملياري دولار بحلول عام ٢٠٢٣.

هذا النجاح الإعلامي أغرى أكثر من ٥٠٠ شركة إنتاج تليفزيوني في تركيا على الإنفاق أكثر على منتجاتها، وأصبح من المعتاد الآن أن تتكلف الحلقة الواحدة في مسلسل مليون دولار، خاصة وأن سوق الإعلانات للمسلسلات التركية داخل تركيا يشهد طفرات كبيرة وصلت بحجمه[14] إلى ١.٣ مليار دولار عام ٢٠١٦.

هذه الذراع الثقافية لا تقدر قيمتها بمردودها الاقتصادي – على أهميته ودوره في تطور هذه الصناعة – ولكن في قوته الفكرية والثقافية.

ولقد وعت تركيا القوة الناعمة لهذا الإنتاج، ورأت أنه لما ترك بالكامل لآليات السوق، فإن الأثر الفكري والثقافي قد يتوارى ويضعف.

ولقد رأينا في السنوات الأولى لهذه الطفرة منتجات تليفزيونية مسلية وجذابة تكاد تخلو من أي خطة فكرية، حتى أن بعضها أثار لغطًا كبيرًا في الشرق الأوسط، مثل مسلسل “نور” الذي كانت له شعبية جارفة في العالم العربي وشاهده ٨٥ مليون مشاهد عام ٢٠٠٨، لكنه أثار حفيظة قطاعات كبيرة، أدت في بعضها إلى ردود أفعال متشنجة كفتوى الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى بالسعودية والتي أفتى حينها بجواز قتل مُلاك الفضائيات التي تبث المجون والخلاعة.

وقد عمدت تركيا بعد ذلك إلى أن يروج إنتاجها التليفزيوني لمعان وأفكار تصب فيما تراه نظامًا عالميًا جديدًا، يقوم على العدل ونصرة المهمشين والمستضعفين، وإدانة المسالك الاستعمارية بصورها المختلفة.

إن أشهر ٤ مسلسلات حاليًا كلها لها أهداف سياسية وثقافية واضحة (وهي: قيامة أرطغرل، السلطان عبد الحميد، علي عزت بوجوفيتش وكوت العمارة)، لكنها مصاغة في حبكة درامية جذابة ومثيرة.

هذا النجاح ربما يؤهل الأتراك إلى ساحات أخرى مؤثرة كالأفلام السينمائية أو أفلام الكارتون للأطفال، وهي مجالات تفتقر حاليًا في أغلب إنتاجها إلى المعاني الإنسانية الراقية، والعلاقات الاجتماعية النبيلة، وأخلاق التعايش بين الشعوب والانتباه للقواسم المشتركة، والعناية بالمشاكل الحقيقية والمعاناة المنتشرة بين الناس، وعدم الهروب للأمام إلى الأساطير والخرافات.

اختر بشكل عشوائي قائمة الأفلام العشرة الأكثر رواجًا ودخلًا في العالم في أي أسبوع، ستجدها غالبًا أمريكية، قصصها غير واقعية وأقرب إلى المبالغات المستحيلة عن القوى الخارقة والسحر وضربات الحظ ومعرفة الغيب والكائنات الأخرى ونحوها مما يشيع في العالم ضحالة ثقافية وعاهات تربوية.

هذا الميدان متاح لصنعة محترفة أن تخوض غماره وتحقق نجاحات ربما تكون أكبر من الإنتاج التليفزيوني؛ كل ذلك يصب في القوة الناعمة والقدرات الرمزية واستخدامها كأدوات مؤثرة في الدبلوماسية الشعبية.

يبدو الذراع الإعلامي بروافده الفكرية والثقافية أكثر المجالات نجاحًا في الحضور الدولي لتركيا، لكن هذه القوة الناعمة الناشئة تتطلب نفسًا طويلًا لتعمل عملها.

وهذه القوة لها آثارها المباشرة على المكانة السياسية لكن العكس غير صحيح، فالمواقف السياسية ربما تكون أحيانًا معوقة ومضعفة لهذه القوة الإعلامية، ولذلك ربما يكون من الأولى للأتراك عدم الاندفاع في تصدير الكثير من المسلسلات السياسية والاكتفاء بها للداخل التركي، لأن شركات التوزيع الإعلامي العالمية لا تجري فقط خلف المصالح التجارية، وإنما تتحكم فيها الضغوط السياسية على كل حال.

لقد قامت – على سبيل المثال – شبكة تليفزيون MBC السعودية/الإماراتية وبشكل مفاجئ بإيقاف بث كل المسلسلات التركية على قنواتها اعتبارًا من مارس ٢٠١٨، وهو قرار سياسي بامتياز يعكس تدهور العلاقات السياسية بين تركيا والسعودية.

ولقد كانت تلك الشبكة تحديدًا هي من قدمت المسلسلات التركية للشارع العربي، وهي أيضًا من جنى منها أكثر من عشرة مليارات دولار من عوائد الإعلانات، وهي قبل ذلك من وظفت تلك المسلسلات لتوجيه الوعي العربي بعيدًا عن الدين، لكن السياسة غالبة في نهاية المطاف.

ليس من الواضح إن كان قرار الشركة سيؤذي تركيا أكثر أم الدول التي حظرت البث، وذلك في ظل عالم رقمي جديد، حصة الفضائيات فيه تتقلص وتنحسر مع الوقت.

ومن المفارقة أن شبكة MBC قد أعلنت أن سبب الإيقاف يرجع إلى مصادمة المسلسلات للثقافة العربية، وهو ما يمكن ترجمته – من وجهة نظر الشبكة – أن المسلسلات كانت مناسبة للثقافة العربية عندما كان يغلب عليها التحلل الأخلاقي، ثم صارت غير مناسبة لما بدت أكثر جدية ووعيًا!!

العلاقات الإسلامية:

لتركيا مواقف سياسية قوية للدفاع عن المضطهدين من المسلمين، وجهودها متواصلة للدفاع عن اللاجئين السوريين، والمحاصرين الفلسطينيين في غزة، واللاجئين من أقلية الروهينجا في ميانمار، وغيرها من القضايا الإسلامية.

استضافت إسطنبول في عام ٢٠٠٦ المؤتمر الأول للقيادات الدينية للدول الأفريقية ذات الأغلبية المسلمة، وحضره ممثلون عن ٢١ دولة أفريقية. وقد أسس ذلك المؤتمر لعلاقات دينية، وتبعته تركيا عام ٢٠٠٩ باستضافة ٣٠٠ طالب أفريقي مسلم لتأهيلهم ليصبحوا أئمة في بلادهم.

وفي مؤتمر القيادات الدينية الثاني الذي انعقد عام ٢٠١١ خطبهم الرئيس أردوغان، وحثهم على مزيد من الشورى بين الدول الإسلامية، وحذر من ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتم تأسيس سكرتارية دائمة برئاسة الشئون الدينية التركية لضمان متابعة التعاون الأفريقي الإسلامي.

كما دشنت تركيا عام ٢٠٠٥ برنامجًا لتحسين الأمن الغذائي والصناعات القطنية في ست دول أعضاء في منظمة مؤتمر التعاون الإسلامي (هي بوركينافاسو، تشاد، جامبيا، مالي، النيجر والسنغال)، كما تعاونت تركيا مع بنك التنمية الإسلامي والمركز الإسلامي للتنمية والتجارة من أجل تشجيع الصناعة في أفريقيا.

ثانيًا: المحور الاقتصادي:

بالتوازي مع التوسع التركي في ممثلياتها الدبلوماسية في أفريقيا، أنشأت تركيا ملحقيات تجارية في ٢٦ عاصمة أفريقية، وقام مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي مجالس أعمال تجارية في ١٩ بلدًا جنوب الصحراء الأفريقية. وقد أدت هذه الهيئات والكيانات المختلفة إلى توقيع اتفاقيات تعاون اقتصادية وتجارية مع ٣٨ بلدا أفريقيا.

٢١٪ من حجم الاستثمارات الخارجية التركية يصب في القارة الأفريقية (وإن كان شمال أفريقيا لا يزال يستحوذ على النصيب الأكبر من هذا).

وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا ١٨.٨ بليون دولار عام ٢٠١٧ بزيادة ١٢٪ عن العام السابق، وبحسب إحصائيات تركية رسمية، فإن الشركات التركية تعاقدت على ١١٥٠ مشروعًا بنهاية عام ٢٠١٥، وبحجم أعمال ٥٥ بليون دولار.

تحرص تركيا على توظيف العمالة المحلية في تلك التعاقدات، واستخدام المواد والموارد الخام المحلية، وتصدير المنتجات إلى أطراف ثالثة، وبحسب تقرير الفاينانشيال تايمز[15] (في أكتوبر ٢٠١٥) فإن الاستثمارات التركية المباشرة في أفريقيا هي الأكبر من حيث تشغيل العمالة المحلية، بإجمالي ١٦٥٩٣ وظيفة في عام ٢٠١٤.

في مؤتمر التعاون التركي مع مجموعة دول غرب أفريقيا (ECOWAS) الذي انعقد في فبراير ٢٠١٨ بإسطنبول، اتفق الطرفان على زيادة حجم الاستثمارات التركية في هذه المجموعة من ٣ بليون دولار حاليًا إلى ١٠ بليون دولار خلال ٥ سنوات[16].

إن التنوع والعمق في العلاقات التجارية بين تركيا وأفريقيا يجعلها أكثر صلابة أمام التقلبات السياسية والاضطرابات المالية؛ خذ مثلًا زيارة الرئيس التركي في مارس ٢٠١٨ لأربع دول أفريقية (موريتانيا، الجزائر، السنغال ومالي) خلال خمسة أيام، لترى ملامح هذا التنوع، وهي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس تركي لكل من موريتانيا ومالي. ومن تصريحات الرئيس التركي أثناء الزيارة:

  • نريد أن نسير مع أفريقيا على درب واحد أثناء تشكل نظام عالمي جديد، ونحن نحب ونقدر إخوتنا من الأفارقة دون أي تحيز.
  • توجد لدينا حاليًا أكثر من أربعين سفينة صيد في المياه الموريتانية.
  • القطاع الخاص التركي يزيد من استثماراته في موريتانيا، ونريد لهذه العلاقة أن تتطور على أساس مصلحة الطرفين معًا.
  • تركيا ستساهم في القوة المشتركة بالساحل G5 للتصدي للتهديدات الإرهابية.
  • وقعنا عقدًا مع الجزائر بقيمة بليون دولار لبناء محطة إنتاج بوليبروبيلين، ونرى الجزائر – أول شريك لنا في أفريقيا – جزيرة من الاستقرار السياسي والاقتصادي ونهدف أن يصل التبادل التجاري بيننا إلى عشرة بلايين دولار (من وضعه الحالي عند ٣.٥ بليون دولار).
  • سيكون بيننا وبين الجزائر تعاون أكبر في قطاعي النفط والغاز المسال.
  • عرضنا مساعدتنا للتصدي للهجمات الإرهابية التي تقع في مالي وموريتانيا، وأبدينا استعدادنا لأي ترتيبات أمنية تساعد إخوتنا الذين يعانون منذ سنوات.

في تعليقها على الزيارة قالت هيئة الإذاعة الألمانية (DW):

“ليست مصادفة أن تكون الدول الأربعة بكل منها أغلبية مسلمة بأكثر من ٩٠٪، تركيا تريد أن تصبح الدولة المهتمة والمدافعة عن المسلمين في العالم. مواقف تركيا القوية في الشهور الأخيرة حول محنة مسلمي الروهينجا، وقرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ومواقفها الشهيرة حول حصار غزة واستقبالها لملايين اللاجئين السوريين، كلها تصب في هذه السياسة”.

إن ارتفاع معدل نمو التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا مؤشر جيد، لكن حجم التبادل ما زال صغيرًا بالنسبة لعلاقات تركيا التجارية الأخرى. إحصائيات[17] عام ٢٠١٧ تعكس هذه الصورة:

بلغت الصادرات التركية عام ٢٠١٧ ما قيمته ٢٣٣.٨ بليون دولار، اتجه منها إلى أوروبا ٥٣.٣٪ و٢٩.٧٪ إلى آسيا و٧.٢٪ إلى أفريقيا و٦.٥٪ إلى أمريكا الشمالية. ولا توجد دولة أفريقية واحدة ضمن قائمة أعلى ١٥ دولة تتوجه إليها الصادرات التركية.

وفيما يلي القائمة (مع نسبة كل منها إلى إجمالي الصادرات التركية):

الصين:    ٢٣.٤ بليون دولار (١٠٪ من إجمالي الصادرات التركية).

ألمانيا:     ٢١.٣ بليون دولار (٩.١٪).

روسيا:    ١٩.٥ بليون دولار (٨.٣٪).

الولايات المتحدة: ١١.٩ بليون دولار (٥.١٪).

إيطاليا:    ١١.٣ بليون دولار (٤.٨٪).

فرنسا:     ٨.١ بليون دولار (٣.٥٪).

إيران:     ٧.٥ بليون دولار (٣.٢٪).

سويسرا: ٦.٩ بليون دولار (٣٪).

كوريا:     ٦.٦ بليون دولار (٢.٨٣٪).

بريطانيا: ٦.٥ بليون دولار (٢.٨٪).

إسبانيا:    ٦.٤ بليون دولار (٢.٧٣٪).

الهند:      ٦.٢ بليون دولار (٢.٦٦٪).

الإمارات: ٥.٥ بليون دولار (٢.٤٪).

اليابان:    ٤.٣ بليون دولار (١.٨٪).

هولندا:    ٣.٧ بليون دولار (١.٦٪).

 

هذه الأرقام الاقتصادية المختلفة لا تقارن في حجمها بمستوى التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا، إذ ثبتت الصين أقدامها كأكبر شريك تجاري للقارة منذ ٢٠٠٩، وتنمو خلال العامين الأخيرين بنسبة ١٩٪ سنويا تقريبًا.

وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا في النصف الأول من عام ٢٠١٧ ما قيمته ٨٥.٣ بليون دولار، ويلاحظ فيه الزيادة الهائلة في الصادرات الأفريقية للصين، إذ بلغت ٣٨.٤ بليون دولار (بزيادة ٤٦٪ عن نفس الفترة من عام ٢٠١٦)، بينما بلغت الصادرات الصينية لأفريقيا ٤٧ بليون دولار (بزيادة ٣٪ فقط عن نفس الفترة من عام ٢٠١٦).

وتلك الزيادة الحادة في الصادرات الأفريقية للصين (معظمها مواد خام) يرجع إلى تعديل أسعار بعض المواد الخام وخاصة المواد الهايدروكاربونية.

 

 

 

 

حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠١٦
  ٢٠٠٦ ٢٠١٦
الصادرات (بليون دولار) ٤.٦ ١١.٤
الصادرات ٪ ٥.٣٪ ٨٪
الواردات (بليون دولار) ٣.٨ ٥.٣٥
الواردات ٪ ٢.٧٪ ٢.٧٪
حجم التبادل (بليون دولار) ٨.٤ ١٦.٧٥
حجم التبادل ٪ ٣.٨٪ ٤.٩٪

 

وفي الخلاصة تبدو الجهود التركية لفتح أسواق في أفريقيا ناجحة بمعدلات نمو جيدة، ولكن يبقى حجم التبادل محدودًا، ويعتقد أنه قابل أيضًا للارتفاع بالنظر إلى طبيعة الصادرات التركية؛ لأنها بشكل عام مما تحتاجه الأسواق الأفريقية.

وهذه قائمة بأعلى ١٠ صادرات تركية[18] لعام ٢٠١٧ وتظهر فيها قابلية الأسواق الأفريقية لحجم استيراد أكبر بكثير من مستوياته الحالية:

 

الصادرات التركية لعام ٢٠١٧
  قيمة الصادرات (بليون دولار) النسبة لإجمالي ٪ الصادرات التركية
السيارات ٢٣.٩ ١٥.٢
الماكينات الصناعية وأجهزة الكمبيوتر ١٣.٨ ٨.٨
المعادن الثمينة ١٠.٩ ٦.٩
الملابس التريكو والكروشيه ولوازمها ٨.٨ ٥.٦
الحديد والصلب ٨.٢ ٥.٢
الأجهزة الكهربائية ٨.١ ٥.٢
الملابس (من غير التريكو والكروشيه) ٦ ٣.٨
أجزاء وقطع غيار من الحديد والصلب ٥.٦ ٣.٦
مواد بلاستيكية ٥.٥ ٣.٥
وقود معدني ٤.٣ ٢.٨

 

من جهة أخرى يسمح التمدد التركي في أفريقيا للشركات التركية أن تنافس على نطاق أكبر مما اعتادته حتى الآن، مما يكسبها خبرات تنافسية ضرورية لأي دولة تريد أن تكون لاعبًا دوليًا؛ فعلى سبيل المثال تقوم شركة المقاولات التركية (Yapi Merkezi) حاليًا ببناء خط سكة حديد دولي فائق السرعة بطول ١٢٢٤ كيلومتر يربط أوغندا – رواندا – الكونغو الديمقراطية وتنزانيا ويوفر طريقًا مباشرًا من المحيط الهندي إلى شرق أفريقيا[19].

وقد وقعت الشركة هذا العقد مع الحكومة التنزانية في ديسمبر ٢٠١٦ (بالشراكة مع شركة مقاولات برتغالية)، وبدأت التنفيذ في أبريل ٢٠١٧ بالمرحلة الأولى بقيمة ١.١ بليون دولار وهي المرحلة التي تربط العاصمة التنزانية دار السلام ومدينة موروجورو (بمسافة ٢٠٥ كيلومتر). يذكر أن الشركة التركية نفذت ٤١ مشروعًا لبناء خطوط سكة حديد منذ تأسيسها عام ١٩٦٥.

ثالثًا: المحور الأمني والعسكري:

في أكتوبر ٢٠١٧ قامت تركيا بافتتاح أكبر قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في العاصمة الصومالية مقديشيو لتدعم علاقاتها القوية مع الصومال. وقد تكلفت القاعدة ٥٠ مليون دولار، وتهدف إلى تدريب ١٠ آلاف جندي صومالي في الجيش والشرطة، من أجل مساعدة الحكومة للسيطرة على مزيد من المناطق، ولبسط هيمنة السلطة المركزية.

وسيوفر هذا التدريب القوة الكافية بحلول عام ٢٠٢٠ موعد انسحاب القوات متعددة الجنسيات التابعة للاتحاد الأفريقي من الصومال والتي يقدر عددها بـ ٢٢ ألف جندي.

ويذكر أن للولايات المتحدة عمليات عسكرية تنطلق من قاعدة في منطقة شابيللا بجنوب الصومال، وأن الإمارات العربية تسعى لإقامة قاعدة عسكرية لها بجمهورية أرض الصومال الانفصالية لكن حكومة مقديشيو تضغط لمنعها (ربما استجابة بدورها لضغوط تركية).

لقد ساعد الوجود التركي العميق في الصومال على إحداث تغيرات كبرى في البنية التحتية وفي مجالات الصحة والتعليم والتجارة، وقد ضخت تركيا مساعدات إنسانية ضخمة أثناء مجاعة عام ٢٠١١ التي أودت بحياة ربع مليون إنسان[20].

كما شاركت تركيا في تجديد مطار وميناء مقديشيو، وتحقق مقديشيو الآن أعلى ربحية تجارية لخطوط طيران في العالم، للخطوط التركية التي تطير منها يوميًا.

إن بناء القاعدة العسكرية التركية في الصومال – برغم الأزمات الداخلية والإقليمية التي تواجهها تركيا –  يؤكد على الاستراتيجية التركية التي تضع أفريقيا في مركز اهتمامها الاستراتيجي على المستوى الدولي.

وقد منحت السودان الحكومة التركية عقدًا طويل المدى لاستغلال جزيرة سواكن على البحر الأحمر وترميم الآثار الإسلامية فيها والتي ترجع إلى أيام الدولة العثمانية، حين كانت سواكن الميناء الرئيس لعبور الحجاج من أفريقيا إلى جدة.

يقول سادات آيبار مدير مركز البحوث الأفريقية بجامعة آيدن بإسطنبول: “إن مشروع سواكن يهدف إلى إبراز الدور التركي في الحفاظ على التراث الإسلامي”.

بينما يرى مراقبون أن الدافع الرئيس هو المصالح الاقتصادية، بينما يتخوف آخرون من أن المشروع له أهداف عسكرية، وأن الجزيرة ستكون نقطة استطلاع واستخبارات عسكرية، وقد تتحول لقاعدة عسكرية. إلا أن آيبار ينفي هذه التوقعات، بل ويؤكد أنه حتى القاعدة العسكرية التركية في الصومال هي استثمار اقتصادي بعيد المدى، لأن استقرار الصومال والقرن الأفريقي من شأنه أن يهيئ البلاد لمناخ استثماري جيد، وأن سيطرة حركة الشباب على مساحات واسعة بالصومال، واستمرار الاضطرابات الأمنية أكبر معوق لتدفق الاستثمارات لبلاد مزقتها الحرب الأهلية لأكثر من عشرين عامًا[21].

تتجه تركيا أيضًا لإقامة تعاون عسكري مع نيجيريا في مجالات التدريب وغيرها، وقد عُقدت جولتان لمحادثات عسكرية بين وفدين رفيعين من البلدين، وفي الجولة الثانية صرح رئيس الوفد التركي الجنرال جوندوز[22] قائد القوات الجوية بأن آفاق التعاون العسكري بين البلدين مفتوحة على مصراعيها، وأنه يتطلع لبدء إرساء آليات تنفيذية لها تستفيد من الخبرات المتراكمة للطرفين. وقد أعلن الرئيس التركي في مارس ٢٠١٨ أن بلاده مستعدة للتعاون الأمني والعسكري مع كل من موريتانيا ومالي من أجل تعزيز الأمن فيهما والتصدي للمخاطر الإرهابية التي تتهددهما.

تحاول بعض الكتابات الغربية تصوير الاهتمام التركي بدول جنوب الصحراء الأفريقية على أنه لإحياء الدور الإمبراطوري العثماني في القارة ويستشهدون ببعض الكتابات الصحفية لشخصيات في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، فيها عاطفة قومية حول التاريخ العثماني في أفريقيا، وفي الحقيقة لم يكن للعثمانيين دور يذكر جنوب الصحراء إلا في مناطق محدودة في القرن الأفريقي[23] وعلى ساحل البحر الأحمر إلى حيث إريتريا الآن، وأن الاهتمام التركي الحالي بدول جنوب الصحراء هو لأسباب اقتصادية في المقام الأول وقد يضاف إليها بعد ثقافي في الدول ذات الأغلبية المسلمة.

إن أي حديث يستدعي التشابه مع التاريخ العثماني في أفريقيا هو أقرب إلى الخيال ويهدف إلى خلط الأوراق.

إن أحد أهم أسباب تركيز تركيا على مصالحها الأفريقية هو حالة السيولة الشديدة في المشهد العربي، بحيث أصبحت المواقف السياسية كلها على رمال متحركة، فعلى سبيل المثال بدت العلاقات السعودية التركية عام ٢٠١٥ في أحسن حالاتها بعد اعتلاء الملك سلمان العرش، ودارت أحاديث حول تكون محور سني صلب قطباه الرياض وأنقرة، لمواجهة التمدد الإيراني والأخطار الخارجية، ثم بعد سنتين فقط تحول المشهد رأسًا على عقب.

هذه السيولة العربية بالإضافة إلى تأزم العلاقات التركية الأوروبية مؤخرًا، جعل الأتراك ينظرون إلى علاقاتهم الأفريقية كتنوع جيوسياسي مهم وراسخ مع شركاء أكثر استقرارًا في وضعهم الإقليمي والدولي. وهذا السبب هو المرجح في ميل السياسة التركية أن يكون لها عمق أمني وعسكري يوفر المناخ اللازم للاستثمارات الاقتصادية.

من ناحية أخرى، تعطي السياسة الأمريكية في أفريقيا الأولوية للمخاوف الأمنية وقد بنت تحالفات عديدة في القارة من أجل حل الإشكاليات التي تسمح بنمو الأنشطة الإرهابية[24]. لكن يبدو أن هذه السياسة جاءت على حساب الاهتمام بقضايا التنمية التي تعطيها الدول الأفريقية اهتمامها الأول.

وقد تسبب هذا التراخي الأمريكي عبر العقدين الأخيرين في التمدد الصيني والهندي والتركي في القارة، لأن الفراغ يُملأ وأفريقيا الناهضة المتطلعة للنمو لن تنتظر.

ولقد كان تشكيل القيادة الأمريكية في أفريقيا أفريكوم (إشارة واضحة للأهمية الاستراتيجية التي توليها الولايات المتحدة لما تمثله أفريقيا لأمنها القومي سواء من ناحية الموارد الطبيعية الأفريقية أو كون أفريقيا مأوى ومصدرًا للعمليات الإرهابية، وذلك بناء على المؤتمر الأمريكي الأفريقي الذي انعقد عام ٢٠١٤.

وقد أصبحت القيادة (USAFRICOM) التي تشكلت عام ٢٠٠٨ حتى الآن المنوطة بتحقيق القسط الأكبر من الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الأخطار الأمنية في عدة أقاليم أفريقية من خلال عمليات الطوارئ والتدخل السريع كلما دعت الحاجة. واللافت للنظر أن أفريكوم أصبحت هي الأداة الرئيسة أيضًا لتحقيق الأهداف الأمريكية الاقتصادية في أفريقيا.

يمكننا تلخيص الاستراتيجية الأمريكية تجاه أفريقيا والتي أقرها الرئيس السابق أوباما عام ٢٠١٢ بأن لها سبعة مرتكزات:

  • ضرورة حماية الأمن القومي الأمريكي عبر حماية المصالح الأمريكية في أفريقيا خاصة فيما يتعلق بالنفط ومصادر الطاقة الأخرى، والتقليل من مخاطر تهديد الأمن الأمريكي اعتمادًا على عمليات مكافحة ما يسمى بالإرهاب.
  • الأولويات السياسية للولايات المتحدة في أفريقيا (الحكم الراشد، التقدم الاقتصادي، فض النزاعات، دعم وتقوية برامج الصحة العامة ودعم الشركاء الأفارقة لرفع مستوى قدراتهم لمواجهة التحديات الانتقالية).
  • محاربة شبكة تنظيم القاعدة والجريمة العابرة للحدود وتجارة المخدرات.
  • تأمين الملاحة البحرية ومحاربة عمليات القرصنة.
  • مساعدة الدول والمنظمات الأفريقية الإقليمية وتطوير قدرتها على مواجهة التهديدات المحلية والدولية.
  • مساعدة الدول والمنظمات الأفريقية لبناء منظومة قارية لعمليات حفظ السلام والاستجابة للطوارئ.
  • تشجيع القوات العسكرية الأفريقية للعمل تحت مظلة السلطة المدنية، واحترام القانون، وخدمة استقرار الدولة.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية اعتمدت الولايات المتحدة الآليات التالية:

  • الاهتمام بقضايا الإرهاب، التطرف، حقوق الإنسان والأقليات، المخدرات والجريمة الدولية، وحقوق المرأة، ووضعها على قائمة أولويات سياسة الولايات المتحدة نحو القارة الأفريقية.
  • تطويق الأنظمة غير الموالية في القارة الإفريقية، وتلك التي يمكن تصنيفها بأنها دول داعمة للإرهاب.
  • خلق كيانات إقليمية تساعد في تحقيق مصالح الولايات المتحدة في القارة الإفريقية واختيار دول معينة لكي تمارس دورًا قياديا في هذه الكيانات الإقليمية.
  • تحقيق الأمن والاستقرار لتأمين المصالح الأمريكية البترولية والتجارية (ومحاولة السيطرة على الموارد الهيدروكربونية والمعدنية) عن طريق إنشاء قوة أفريقية لمواجهة الأزمات، عبر تقديم التمويل والتدريب للدول الحليفة، وإنشاء القواعد العسكرية لتأمين مناطق المصالح الحيوية.
  • تفعيل الاستثمارات والتجارة في القارة الأفريقية، بدلاً من إرسال المساعدات التي تكلف الخزينة الأمريكية أموالًا طائلة.
  • نشر القيم والأفكار الغربية ومواجهة مد الأفكار والدعايات الشيوعية والصينية.

يتضح جليًا عند تأمل هذه المرتكزات والآليات طغيان الهاجس الأمني والرغبة في الميراث الاستعماري الغربي، مع اعتبار النفوذ العسكري أداة مهمة لحماية المصالح التجارية.

في زيارة لوزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون إلى مقر الاتحاد الأفريقي في إثيوبيا في مارس ٢٠١٨، حذر الدول الأفريقية من التفريط في سيادتها الوطنية عند التعاقد مع الصين التي أصبحت أكبر شريك تجاري للقارة.

وكان تيلرسون يحاول معالجة الآثار السيئة لتصريحات مسيئة للأفارقة أطلقها الرئيس الأمريكي ترامب في يناير ٢٠١٨.

ويدرك تيلرسون أن المساعدات الأمريكية للقارة الأفريقية قد تجاوزتها الصين منذ عام ٢٠٠٩ حين بدأت ضخ بلايين الدولارات في مشاريع للبنى التحتية، وربما تكون التحركات الأمريكية متأخرة وضعيفة في ملاحقة التمدد الصيني حتى مع تحذيرات تيلرسون بأن الاستثمارات الصينية لا تخلق فرص عمل محلية للدول الأفريقية، وأن القروض الصينية للحكومات الأفريقية ستوقعها في مشاكل مستقبلية وقد تفقدها ملكية البنى التحتية.

ولم يقدم تيلرسون أي أمثلة، ولم تبد الدول الأفريقية تأثرًا بتلك التحذيرات. وزير الخارجية الروسي لافروف في زيارة لزيمبابوي في مارس ٢٠١٨ أيضًا دخل على خط الجدل الدائر وندد بتصريحات تيلرسون وعدها تدخلًا في العلاقات الصينية الأفريقية، وضرب لافروف مثلًا بكينيا التي افتتحت مشروع سكة حديد تكلف ٣.٢ بليون دولار تكفلت الصين ببنائه بالكامل بينما تبلغ المساعدات الأمريكية لكينيا مائة مليون دولار سنويًا.

المفارقة الطريفة أن مقر رئاسة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا التي أدلى فيها تيلرسون بتصريحاته قد قامت الصين ببنائه وإهدائه للاتحاد الأفريقي!

في تعليقها على جولة تيلرسون، قالت وكالة رويترز[25] إنه في الوقت الذي تركز فيه إدارة ترامب على المخاوف الأمنية في أفريقيا تمضي الصين وتركيا ودول أخرى في بناء علاقات سياسية وتجارية وطيدة مع القارة، دون إغفال للجوانب الأمنية وتأثيراتها المباشرة.

هكذا تبدو الاستراتيجية التركية في أفريقيا وكأنها ترصد بدقة منافسيها التجاريين (وخاصة الصين والهند) والعسكريين (خاصة الولايات المتحدة وفرنسا وربما الإمارات العربية)، وبالتالي توازن وتنوع بين مواردها التنافسية فتجمع بين الاقتصادي والأمني، ثم تزيد عليها الجانب الحضاري، والذي يمكن أن يكون ميزة سبق لها.

في تقرير للجيروزاليم بوست الإسرائيلية[26] في يناير ٢٠١٨، رأت الصحيفة أن تركيا تتجه بهدوء لبناء بنية تحتية عسكرية واستخباراتية على ساحل البحر الأحمر، وأنه برغم الإنكار التركي المتكرر للإعداد لبناء قاعدة عسكرية بحرية في سواكن بالسودان فإن وزير الخارجية السوداني إبراهيم الغندور قد أكد على توقيع تركيا والسودان عددًا من الاتفاقات الأمنية والعسكرية بالتزامن مع إعطاء تركيا حق التصرف في جزيرة سواكن لمدة غير محددة، كما أن وزير الخارجية التركي أكد على أن تركيا ستقدم مساعدات للجيش والشرطة السودانية.

اللافت للنظر أيضًا أنه في نفس وقت توقيع تلك الاتفاقات عقد لقاء ثلاثي بين رؤساء أركان تركيا والسودان وقطر في الخرطوم، في إشارة لتكوين محور جديد أمام المحور السعودي المصري الإماراتي والذي تشير تقارير إلى تقاربه مع إسرائيل.

وقد أعلنت قطر بأنه سيكون لها ملحق عسكري دائم في الخرطوم وأنها ستستقبل فرقة عسكرية تركية إضافية للانضمام للقاعدة العسكرية التركية بالدوحة.

التحركات العسكرية التركية في السودان تثير قلق مصر التي تعتبره تدخلًا في محيط أمنها القومي، وتراه مثلثًا داعمًا لجماعة الإخوان المسلمين الخصم الأساسي لنظام الحكم المصري، وتتخوف أيضًا من تأثيره السلبي على مشكلة المياه بينها وبين إثيوبيا التي تشيد سدًا ضخمًا على النيل سيؤثر على حصة مصر المائية، خاصة في وجود أزمة في العلاقات المصرية السودانية.

ليس من الواضح إن كانت تلك التخوفات هي السبب في إقبال مصر على شراء صفقات أسلحة ضخمة شملت حاملتي طائرات هليكوبتر ومدمرة فرنسية وثلاث غواصات ألمانية وعشرات الطائرات من روسيا وفرنسا.

المحور المصري السعودي الجديد يخشى أيضًا من أي تقارب تركي إيراني إذا تم تسوية القضية السورية، كما يخشى من ضعف الدعم الأمريكي الكافي حال نشوب نزاع مع إيران.

وفي الخلاصة:

تقع الاستراتيجية التركية في أفريقيا ضمن منظومة إعادة التموضع التي تمليها توجهات الدولة التركية الصاعدة والمنفتحة لتكون قوة إقليمية مؤثرة ولاعبًا دوليًا مهمًا.

لقد انكفأت تركيا على نفسها بعد إعلان الجمهورية إنقاذًا لما تبقى من تركة الرجل المريض للدولة العثمانية، وآثرت أن تحافظ على النواة الصلبة لتلك الدولة المتمثلة آنذاك في القومية التركية، لكن التوجهات التي تناسب زمان الضعف والانحسار لا تناسب زمان التعافي والانطلاق.

إن الانفتاح التركي على محيطها الإقليمي وللعمق الأفريقي يأتي ولادة طبيعية لإرادة التقدم والنهوض. وهذا التوجه له آلياته وتكاليفه، وفي مقدمتها تماسك الوضع الداخلي واحتشاده حول الأهداف الكبرى، ثم الوعي بموازين القوى والتغيرات السريعة التي تطرأ عليها في العالم.

إن نظرة مثلًا على مجموعة دول البريكس الخمس (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، وجنوب أفريقيا) التي مثلت وقت إنشائها عام ٢٠٠٩ الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم في ذلك الوقت، نرى بعد أقل من عشر سنوات كيف تغيرت صورتها قوة وضعفًا، وكيف زاحمتها دول أخرى مثل إندونيسيا وتركيا، بينما تراجعت بعض مكوناتها (مثل البرازيل وجنوب أفريقيا).

هذا التغير المستمر في المشهد العالمي يفرض على تركيا الوعي الكامل بهذه التغيرات وبتوجهات المنافسين وطموحاتهم، وهي الطموحات المتنوعة بالنسبة للقارة الأفريقية.

نشير هنا إلى أحد تجليات هذه التحديات المحيطة بإعادة التموضع التركي وهو الموقف بالغ الحساسية الذي سلكته تركيا إزاء أزمة الخليج في يونيو ٢٠١٧. حيث مثل الانحياز التركي السريع سياسيًا وعسكريًا لقطر في أزمتها مع السعودية وحلفائها منعطفًا سياسيًا كبيرًا حمل في طياته مخاطرة سياسية بالعلاقة مع السعودية من جهة، وعامل ثقة لتحالفات مستقبلية من جهة أخرى حين تطمأن دول مثل السودان أو الجزائر أو إثيوبيا وموريتانيا ومالي لصلابة الحليف التركي ووفائه مع شركائه.

لقد كانت هناك نظرة سائدة تعتبر السعودية قائدة للعالم السني ومصر قائدة للعالم العربي، إلا أن الاستراتيجية التركية في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء قد تغير هذه التوازنات[27].

إن سياسة إعادة التموضع التركي في سياستها الخارجية سيقلل من اعتمادها على علاقاتها الاقتصادية بالغرب (الاتحاد الأوروبي لا يزال هو الشريك التجاري الأول لتركيا) وسيحررها من الضغوط على انتهاج رؤى تناسب مصالحها في سوريا والعراق على المدى المتوسط والبعيد، وإن الإقدام على التدخل التركي العسكري المباشر في عفرين بالشمال الغربي لسوريا – بعد تردد طويل – يمثل علامة بارزة لثمار إعادة التموضع.

إن التوترات الإقليمية العربية وحالة السيولة التي تميزها تجعل التحرك التركي ضروريًا خاصة في السودان والصومال والجزائر ودول جنوب الصحراء.

العلاقات التركية الصومالية: دراسة حالة:

عندما اجتمع وزراء أفارقة من خمسين دولة في إسطنبول في فبراير ٢٠١٨ للتحضير للقمة التركية الأفريقية في ٢٠١٩، واثناء استراحة بين الاجتماعات قال عبد القدير أحمد خير عبدي وزير الدولة بالخارجية الصومالية:

“تركيا أتت إلى الصومال في عام ٢٠١١ عندما لم تجرؤ أي دولة أخرى على القدوم للصومال، حينها كانت بلادي غارقة في الجفاف والمجاعة، وكانت الجماعات الإرهابية في أوج نشاطها، وظلت القوى الخارجية ترقب أوضاعنا من بعيد.

عندما هبطت طائرة الرئيس أردوغان وزوجته في مقديشيو وانطلقا لزيارة مخيم لأطفال سحقتهم المجاعة، كانت تلك لحظة فارقة لنا نحن الصوماليين، وأصبحت تركيا في قلوبنا لأننا وجدناها إلى جوارنا في ساعة الشدة”.

كانت زيارة أردوغان آنذاك الأولى من نوعها لزعيم غير أفريقي منذ عام ١٩٩١. وبرغم خطورة الأوضاع الأمنية في الصومال آنذاك، رفض أردوغان إلغاء رحلته وصمم أن يكسر حاجز الخوف مصطحبًا بعض كبار المسؤولين الأتراك وأفراد أسرهم، فضلًا عن أطقم طبية وهندسية كاملة.

وقد صُدم أردوغان بما عاين على الأرض من آثار المجاعة التي لم تشهد الصومال مثيلًا لها منذ ثمانينيات القرن الماضي، فأمر بتسخير طاقات تركيا لمساعدة الشعب الصومالي، وأرسلت الحكومة المزيد من الأطقم الطبية والتعليمية والهندسية والعسكرية، وتكفّلت بتعليم الآلاف من الطلبة وبناء المدارس والمستشفيات وبدأت بتدريب الجيش والشرطة، وباشرت بإصلاح الشوارع والمقرات الحكومية.

مع بداية توارد أخبار المجاعة في الصومال عام ٢٠١٠ استضافت تركيا مؤتمرًا دوليا حول الصومال برعاية الأمم المتحدة، وقدم الشعب التركي أثناء فعاليات المؤتمر ٣٠٠ مليون دولار مساعدات طارئة لمواجهة المجاعة.

وفي عام ٢٠١١ استضافت تركيا اللجنة العليا لمنظمة مؤتمر التعاون الإسلامي لمناقشة الوضع الإنساني المتدهور في الصومال، ثم في عام ٢٠١٢ مؤتمر إسطنبول الدولي الثاني حول الصومال تحت عنوان “الإعداد لمستقبل الصومال – الأهداف حتى ٢٠١٥”.

وفي عام ٢٠١٥ استضافت تركيا الجولة الثامنة من المحادثات بين الصومال وجمهورية أرض الصومال الانفصالية للاتفاق على المشاكل الأمنية والقرصنة وحقوق الصيد.

الآن إذا زرت الصومال ستهبط في مطار مقديشيو الذي تديره شركة تركية، وستخرج منه إلى طرق رئيسية قامت ببنائها هيئة التطوير التركية، وربما تمر بطريقك بالهلال الأحمر التركي الذي تجمع سياراته القمامة من طرقات العاصمة، وإذا احتجت لرعاية صحية فيمكنك التوجه للمستشفى التركي في مقديشيو، أكبر صرح طبي بالبلاد.

الاهتمام التركي بدولة الصومال أدى إلى توقيع عدد كبير من الاتفاقات بين البلدين، منها:

  • توقيع عقد مع شركة تركية لإعادة بناء وصيانة ميناء مقديشيو لمدة ٢٠ سنة.
  • توقيع اتفاقية مدتها ٤٩ سنة تتولى فيه هيئة تركية تطوير وإدارة نظام التعليم في الصومال.
  • تقديم منحة ٩ مليون دولار لإعادة هيكلة الجيش والشرطة الصومالية، وتدريب كوادر عسكرية وشرطية صومالية في تركيا.
  • إصلاح وترميم العديد من المقرات الحكومية.
  • تأسيس أكاديمية بحرية في مقديشيو.
  • صيانة وإدارة مطار مقديشيو وتركيب معدات الملاحة والمراقبة الجوية.
  • بناء وتشغيل أكبر مجمع طبي في مقديشيو.
  • تحسين معدات مياه الشرب في العاصمة وصيانتها.
  • بناء مسجد ضخم وملاحقه الخدمية في العاصمة.

قفز حجم التبادل التجاري بين تركيا والصومال من ٥ ملايين دولار عام ٢٠١٠ إلى ١٢٣ مليون دولار عام ٢٠١٦.

وفي تصريح لوكالة رويترز قال وزير الإعلام الصومالي عبد الرحمن عمر عثمان: “لقد كسبت تركيا عقول وقلوب الصوماليين، تركيا لم تعطنا مساعدات فحسب؛ وإنما أسست بنية تحتية ومؤسسات ستبقى لنا لخمسين أو مائة سنة قادمة”.

بالإضافة إلى ذلك، لا تمتلك سوى ثلاثة بلدان فقط سفارات لها في الداخل الصومالي، وهي تركيا وقطر وكينيا، حيث اقتصرت البلدان الأخرى على افتتاح سفاراتها ضمن نطاق مطار مقديشو، وبجانب ذلك، تُعد السفارة التركية في الصومال أكبر بعثة دبلوماسية تركية في الخارج في جميع أنحاء العالم.

تستضيف تركيا حاليا حوالي ١٥ ألف طالب صومالي بمنح دراسية في الجامعات التركية.

يتميز الدعم التركي للصومال بانتظامه وثباته مع الوقت، وعندما وقع تفجير إرهابي ضخم في العاصمة مقديشيو في أكتوبر ٢٠١٧ أوقع ٣٥٠ قتيلا ومئات الجرحى، كانت تركيا أول من بادر بالمساعدة فأرسلت طائرات إسعاف نقلت ٣٥ حالة حرجة إلى أنقرة للعلاج، ووصل وزير الصحة التركي وطاقم جراحين إلى الصومال ومعهم عشرة أطنان من الأدوية والمواد الطبية في اليوم التالي للحادث، وأنارت المواقع الرئيسية في إسطنبول بألوان العلم الصومالي، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي برسائل الشكر والامتنان من الصوماليين للتحرك التركي السريع أمام الحادث المروع. ويُذكر أن تركيا فقدت عددًا من مواطنيها في مقديشيو في عدة تفجيرات أعلنت حركة الشباب مسئوليتها عنها.

إن الوجود التركي المكثف في الصومال أحدث نقلة كبيرة في البلد الذي لا يزال يفتقر للاستثمارات والبنية التحتية لدعم اقتصاده، كما أنه أنشأ رأيًا عامًا إيجابيًا لدى العقل الجمعي الصومالي، بحيث أصبحت لتركيا منزلة خاصة في قلوب وعقول الصوماليين، كما أن الأهمية الجيوستراتيجية للصومال بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات وباعتبارها ممرًا مهمًا للطاقة في العالم إضافة إلى الثروات الطبيعية الكثيرة التي يمتلكها الصومال والمخزون النفطي، كلها تمثل عامل جذب مهم لاستمرار وتقوية العلاقات التركية الصومالية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] http://www.mfa.gov.tr/turkey-africa-relations.en.mfa.

 

[2] http://www.imf.org/external/datamapper/NGDP_RPCH@WEO/OEMDC/ADVEC/WEOWORLD/SSQ.

 

[3] https://knoema.com/IMFWEO2017Oct/imf-world-economic-outlook-weo-database-october-2017.

 

[4] https://www.gfmag.com/global-data/economic-data/countries-highest-gdp-growth-2017.

 

[5] http://www.latimes.com/world/asia/la-fg-china-africa-kenya-20170807-htmlstory.html

 

[6] http://www.bbc.com/news/business-37284938.

[7] https://goo.gl/tvCKbV

[8] https://www.youtube.com/watch?v=3yBy1J43q_Y.

 

[9] https://economictimes.indiatimes.com/magazines/brand-equity/heres-why-turkish-soaps-are-a-cultural-force-to-reckon-with/articleshow/57289530.cms.

[10] http://english.alarabiya.net/en/life-style/entertainment/2014/01/24/Not-just-in-Mideast-Turkish-TV-series-catch-on-in-China-Russia.html.

[11] https://www.rapidtvnews.com/2018010650341/atresmedia-opens-door-for-turkish-soap-opera-in-spain.html.

[12] https://www.dailysabah.com/arts-culture/2016/11/14/ethiopia-takes-delight-in-watching-turkish-drama-series.

[13] https://www.channel24.co.za/TV/News/turkish-telenovelas-coming-to-fox-life-20170926-2.

[14] https://goo.gl/hRLEUz.

 

[15] https://www.academia.edu/23904260/Turkey_expending_to_Africa_A_case_of_strategic_diversification.

 

[16] http://www.xinhuanet.com/english/2018-02/22/c_136992152.htm.

 

[17] http://www.worldstopexports.com/turkeys-top-import-partners/.

[18] http://www.worldstopexports.com/turkeys-top-10-exports/.

[19] https://aa.com.tr/en/africa/turkish-firm-to-build-high-speed-rail-line-in-e-africa/796221?amp=1.

[20] https://qz.com/1093011/turkey-opens-its-largest-overseas-military-base-in-somalia-to-train-somali-soldiers/

[21] https://www.npr.org/sections/parallels/2018/03/08/590934127/turkey-is-quietly-building-its-presence-in-africa.

 

[22] http://www.ndc.gov.ng/index.php/news/377-commandant-hosts-members-of-nigeria-turkey-military-dialogue-team.

 

[23] https://www.chathamhouse.org/sites/files/chathamhouse/field/field_document/20150909TurkeySubSaharanAfricaShinn.pdf.

 

[24] https://obamawhitehouse.archives.gov/sites/default/files/docs/africa_strategy_2.pdf.

[25] https://www.reuters.com/article/us-somalia-turkey-military/turkey-opens-military-base-in-mogadishu-to-train-somali-soldiers-idUSKCN1C50JH.

 

[26] http://www.jpost.com/Middle-East/Is-Turkey-setting-up-a-naval-base-on-the-Red-Sea-532904.

 

[27] https://turkey.theglobepost.com/turkey-africa-arab-world/.

زر الذهاب إلى الأعلى