تقدير موقفقراءة الحدث

الاحتجاجات الإيرانية: انتفاضة عابرة أم ثورة قادرة على إسقاط النظام

بشكل مفاجئ تماما، اندلعت مظاهرة يوم ٢٨ ديسمبر في مدينة مشهد الإيرانية تندد بتدهور الوضع الاقتصادي والارتفاع المستمر في الأسعار وتأخر رواتب المتقاعدين. في اليوم التالي انتقلت الاحتجاجات لعدة محافظات ووصلت إلى العاصمة طهران، ثم لخمسة أيام متتالية – حتى كتابة هذا التقرير – اتسعت رقعة الاحتجاجات وسقط أكثر من عشرين قتيلا من المتظاهرين بينما تم اعتقال حوالي خمسمائة غالبيتهم دون الخامسة والعشرين.
كان من المستغرب أن تنطلق شرارة هذه الانتفاضة الشعبية من مدينة مشهد دون غيرها، لأن مشهد مدينة مقدسة عند الشيعة يزورها كل عام ٢.٥ مليون من الشيعة حيث يوجد مرقد الإمام علي الرضا (الإمام الثامن من أئمة الشيعة الاثني عشر). رمزية هذه المدينة وأهميتها جعلها معقلا أمنيا للعديد من الجهات الاستخباراتية والأمنية لمكانة مشهد ولحماية أعداد الزائرين الكبيرة ولحماية الاستثمارات الضخمة بها. لذلك كانت المظاهرة الأولى في مشهد رسالة واضحة للشعب الإيراني الذي تجاوب سريعا معها ولسان حاله يقول “إذا كانوا في مشهد وتحت القبضة الأمنية المحكمة انتفض أهلها ضد الظلم والتهميش، فنحن أولى بهذا منهم”. وبالفعل انتشرت الاحتجاجات سريعا في خوزستان وكرمانشاه وبوشهر وهمدان ورشت وأصفهان وطهران وغيرها.
مدينة مشهد كانت محتقنة أكثر من غيرها حيث فقدت أكثر من مائة وخمسين ألف عائلة مدخراتها في مشروعات توظيف أموال وهمية (أكبرها مشروع شانديز السكني) علاوة على تبخر مدخرات أعداد كبيرة بسبب إفلاس عدة بنوك في مشهد إبان الحصار الاقتصادي وقبل الاتفاق النووي. تراكمت هذه الضغوط المعيشية وتزامنت مع إفلات الفاسدين والمحتالين من الحساب، وعدم ظهور أي بوادر انفراجة حتى الآن وبعد سنتين من الاتفاق النووي، وزاد الطين بلة أن الميزانية التي تقدمت بها حكومة روحاني للبرلمان في ١٠ ديسمبر (بقيمة ١٠٤ مليار دولار) خططت لأن تصبح المعيشة أكثر كلفة على المواطنين، وجاءت استمرارا لسياسات روحاني المتحفظة والقلقة من التوترات مع الولايات المتحدة وظلالها على آفاق الاقتصاد والإيرادات الحكومية. وبرغم أن إيران حققت نموا قدره ١٢.٥٪ عام ٢٠١٦ إلا أن تقديرات صندوق النقد وغيره تتوقع أن تنخفض إلى ٣.٥٪ فقط للعام ٢٠١٧

رد الفعل الحكومي
حاولت حكومة حسن روحاني في اليومين الأوليين للمظاهرات إلقاء اللوم على خصومها من المحافظين واتهمتهم بأنهم حرضوا على خروج المظاهرات في مشهد (والتي يؤيد أكثر أهلها التيار المحافظ)، كما اتهمت جهات خارجية بتحريك بعض المحتجين.
في اليوم الرابع وجه الرئيس روحاني كلمة إلى الشعب أبدى فيها قدرا من المرونة وتكلم بلهجة تصالحية وأعرب عن تفهمه لإحباط بعض المواطنين من الحالة الاقتصادية وأن لهم مطالب مشروعة، غير أنه هدد أيضا بنزول الملايين إلى الشوارع “لحماية النظام والثورة”. هذا التهديد عكس حالة التوتر والقلق لدى روحاني وخشيته من خروج الاحتجاجات عن السيطرة خاصة مع وقوع مصادمات عنيفة وهجوم بعض المتظاهرين على مقرات أمنية وعسكرية وإضرام النيران بها في عدة محافظات.
في اليوم الخامس تصاعدت أصوات متشددة في الحكومة والحرس الثوري تتوعد بمعاملة أكثر صرامة مع المحتجين كما أصدر المرشد الإيراني علي خامنئي أول تصريحات له وألقى باللائمة كلية على “أعداء إيران المتربصين بها”.
مجمل الإجراءات الحكومية كانت أمنية وإعلامية حيث لا توجد أمامها نافذة سياسية واضحة، فالاحتجاجات بدأت عفوية، وغير مسيسة، وليست لها قيادات سياسية يمكن التفاهم أو التفاوض معها.

ردود الفعل الدولية
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل أبرز المؤيدين للانتفاضة الشعبية نكاية في النظام الإيراني، لكن هذا التأييد في حقيقة الأمر يصب في مصلحة النظام الإيراني ويؤكد روايته المزعومة عن وجود مؤامرات خارجية وراء حركة الاحتجاجات. أوروبا كانت أكثر تريثا وترقبا لتطور الأوضاع على الأرض، خاصة وأن عدة مصادر دبلوماسية غربية في إيران أفادت بوقوع أعمال عنف وهجمات على مقرات أمنية وقواعد عسكرية. الدول الأوروبية أصبحت لها مصالح تجارية ضخمة مع إيران بعد الاتفاق النووي، وهي بالتأكيد حريصة على الحفاظ عليها.
تركيا من جانبها طالبت روحاني الالتزام بتعهداته بإتاحة حرية التعبير والتظاهر السلمي، وحذرت من التدخل الخارجي. أكثر الدول العربية في حيرة من أمرها، فلا هي تستطيع تأييد الانتفاضة الشعبية حتى لا تنتقل إليها عدواها، ولا هي يمكنها السكوت الذي سيبدو متناقضا مع عداوتها الشديدة مع النظام الإيراني. سوريا واليمن وحزب الله تراقب بخوف وتوتر ما ستؤول إليه الأحداث، وتتوقع أنها في كل الأحوال لن تنعم بنفس الدعم والتمويل الإيراني كسابق عهده.

ملامح مهمة للانتفاضة الشعبية


• هي انتفاضة شعبية بامتياز، لا دخل فيها لأحزاب أو مؤسسات سياسية. هذا يمثل عامل قوة لها إذ يمكنها الاستمرار وعدم التنازل إلا بتلبية مطالبها الأساسية. طول أمد الاحتجاجات وسقوط ضحايا، سيزيد من حالة الاحتقان وربما يرفع سقف المطالب الشعبية
• عكست الانتفاضة حالة الهشاشة في الوضع السياسي الإيراني الداخلي، حيث لم تظهر على السطح أي مؤسسات أو رموز سياسية تستوعب هذا الحراك الشعبي
• لأول مرة تظهر في الشارع الإيراني صرخات ضد المرشد الأعلى علي خامنئي وضد تراث الخميني، وقد ظهرت على جداريات عديدة في طهران شعار “مرگ بر خامنئي” أي الموت لخامنئي، كما تم تمزيق وحرق صور له في ميادين عدة
• الأقلية الكردية كان لها حضور قوي في كرمانشاه، كما كانت مشاركة الأقلية العربية في الأحواز حاضرة أيضا ولكن بدرجة أقل
• تختلف الانتفاضة الحالية عن المظاهرات الضخمة التي وقعت عام ٢٠٠٩ في أمرين: الأول أن الانتفاضة تقودها الطبقات الكادحة والفقراء، بينما كانت حركة ٢٠٠٩ يتقدمها الطبقة المتوسطة والطلاب. الأمر الثاني أن الانتفاضة غير مسيسة، بينما كانت مظاهرات ٢٠٠٩ تحت قيادة المعارضة وعلى رأسها مير موسوي ومهدي كروبي وبمطالب دارت حول الانتخابات فقط بينما تجاوزت الانتفاضة الحالية الإصلاحيين وبدأت تنادي بتنحي المرشد خامنئي عن السلطة
• شبكات التواصل الاجتماعي ما زالت تمثل ذراعا مهما لأي حراك شعبي، ولذلك سارعت الحكومة بحجب شبكتي تيليجرام وإنستجرام واسعة الانتشار في إيران. وقد كتب بافيل دوروف الرئيس التنفيذي لشبكة تيليجرام على تويتر أن إيران طلبت رسميا منهم إغلاق الشبكة داخل إيران، ولكن تيليجرام رفضت.
• إقدام المتظاهرين على حرق عدة حسينيات في مدن مختلفة، تعبير صريح عن رؤيتهم للمؤسسة الدينية كسدنة للنظام القمعي بالبلاد
• رفع المتظاهرين لشعارات “لا لغزة” و “لا للبنان واليمن” يعكس ما يراه قطاع من الشعب الإيراني بأن سياسات بلاده في المنطقة ليست عونا للمظلومين ونصرة للمستضعفين، وإنما هي استثمارات طائفية وأن الشعب الإيراني أولى بهذا الدعم من التمدد الطائفي

المآلات المتوقعة
من الصعب تحديد الوجهة التي ستؤول إليها الانتفاضة الشعبية، ولكن بشكل عام نحن أمام مشهدين محتملين:
الأول: أن يتمكن النظام الحاكم من احتواء هذه الانتفاضة بإحكام القبضة الأمنية وارتفاع وتيرة القمع مع السماح ببعض الإجراءات التي تخفف الأعباء المعيشية على الفقراء وتتيح تنفيس الضغوط الشعبية، واتخاذ كل الاحتياطات التي تمنع من اشتعال المظاهرات في العاصمة طهران. يضاف إلى ذلك قدرة النظام على حشد مواز لمؤيديه، وإن كان استخدام مثل هذا الحشد قد يكون محفوفا بمخاطر نشوب صدامات أهلية.
الثاني: أن ينضم لحركة الاحتجاجات شباب الطبقة المتوسطة، وهم القوة الحقيقية في الشارع الإيراني، فإن أكثر من ٥٠٪ من السكان دون الثلاثين، وتبلغ نسبة بطالة الشباب ٢٠٪ بينما يقول خبراء أن النسبة أقرب إلى ٤٠٪. إذا انضمت هذه الشريحة للاحتجاجات فإنها ستحدث نقلة كبيرة لها تهدد بقاء النظام، خاصة مع شعور أعداد كبيرة منهم بالإحباط من فشل روحاني وتياره الإصلاحي بالوفاء بوعوده الانتخابية من التحسن الاقتصادي وتوفير ٨٠٠ ألف فرصة عمل جديدة.
الاحتمال الأول أكبر، ولكن الاحتمال الثاني قائم وسيرتفع إذا استطاعت الانتفاضة الاستمرار في معركة نفس طويل وبروز قيادات داخلية وميدانية قادرة على التوجيه وصياغة المقاصد الكبرى لحركة التغيير، وقد أثبتت الانتفاضة الشعبية أن حراك الجماهير قادر على إحداث موجات متتالية من السخط الشعبي القوي.

زر الذهاب إلى الأعلى