ملفـاتوباء كورونا

على هامش كورونا: في غزوة الأحزاب

على هامش كورونا: في غزوة الأحزاب

التهميش على كورونا يأخذ أبعاداً مختلفة على قدر التأثير الذي أحدثه وما زال يحدثه في حياتنا على مستويات عدة أضحت تشكل بالنسبة لنا مساراً جديداً في النظر إلى الحياة وأنماط العيش فيها، ولا ينبغي أن يكون همنا في التعامل مع أزمة كورونا التعايش والتكيف معها وتجاوزها، بل يلزم أن يكون هذا الهم منصرفاً نحو إدارة أزمته والبحث عن سبل وطرق العلاج والحل لها.

ويبدو لنا أن من الأمور التي يمكن جعلها في هامش كورونا؛ الوقوف على الأمثلة والنماذج التاريخية التي تجلي لنا كيفية مواجهة الأزمات في واقعات تاريخية مشابهة لما نحن عليه اليوم أو مقاربة على أقل تقدير من حيث جنس الأزمة ونوعها لا من حيث مطابقة الوباء، وسنن الحياة والكون سارية مهما اختلف زمانها أو مكانها أو شخوصها، إلا أنها قد تتفاوت قدراً ومساحة، والعبرة بأنموذج الإدراك للأزمة الذي يُتعامل معه وبه.

ولا يخفى على المسلم أن السيرة النبوية تعد أحداثها كاشفة عن مسار التوظيف والإحسان المتعلق بالإدراك والأداء والإجراء على حد سواء؛ لما تمثله من مرجعية نماذجية صالحة للنظر والاستئناس في التعامل مع مفاصل الحياة وأحداثها ووقائعها، وللتنبيه والتذكير فإن السيرة تعد المجال التطبيقي والتنزيلي الواقعي في التعامل مع الوحي قرآناً وسنة، وعليه فإن استجلاء بعض قسماته من مشاهدها الكثيرة يعد في حد ذاته مناراً للمسلم بل ولغير المسلم كذلك يضيء به حياته حال استشعاره للأزمات أو تلبسه بها.

ومن المشاهد التي نلتقطها من السيرة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزمة الحصار الجائر الذي فرضه كفار قريش وحلفاؤهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، وقد دام الحصار شهراً كاملاً، والحاجة ماسة أن نتساءل عن تلكم الأجواء التي عاشها عليه الصلاة والسلام وأصحابه في ظل هذا الحصار، على مستوى مواجهة متطلبات الحياة المعيشية في سياق حفظ النفس والنسل والمال، وعلى مستوى متطلبات مواجهة الأزمة إيمانياً في سياق حفظ الدين والعقل، ومدى التحقق بالمسؤولية الجماعية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم  في نفوس الصحابة، والأخذ بالأسباب والممكنات لاستثمارها في دفع الأزمة أو رفعها.

ويكفي لتصور الحالة النفسية التي كانت عليها المدينة تدبر قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً . إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)[الأحزاب: آية 9-12]، ولا يمكن الوقوف مطلقاً على تصوير للواقعة والأزمة بمثل هذا البيان القرآني البليغ، وكأن هناك رائيين يصوران هذا المشهد من خارجه وداخله ولكن بشكل يبرز ما داخل النفس من الرهبة والخوف والرعب، فترى الموقف من خارجه (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)، ثم يظهر أثره في نفوس المؤمنين (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً).

وبالرغم من هذا الهلع الذي أصاب المؤمنين في المدينة، إلا أن حسن التخطيط والتدبير ونجاعة الإجراءات والسياسات التي قام بها المجتمع الإسلامي بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه رضي الله عنهم كان له أثره البالغ في تخفيف وطأة الأزمة على نفوس المؤمنين، بل أفضت إلى انزياح الأعداء وكشف الغمة والأزمة عنهم، وفيما يأتي إجمالاً أهم الإجراءات والخطوات التي اتخذها مجتمع المدينة لتأمين حمايتها من هذا الغزو:

-تتبع الأخبار ورصد تحركات الأعداء، وهذا يسهم في حسن التقدير للموقف بما يمكن صانع القرار من اتخاذ تدابير ناجعة في مواجهة الأزمة.

-الوحدة الفكرية والسياسية كان لها أثرها في مواجهة الأزمة، فوحدة القيادة ووحدة الرأي في النظام السياسي وإشراك الأمة في القرارات المصيرية ساعد بشكل كبير في تجاوز الأزمة، ولا يخفى أن الاختلاف في الرأي والتنازع من عوامل ذهاب الريح.

-اتخاذ سياسة الشورى في مواجهة الموقف، واستثمار كل الأفكار التي يمكن أن تثمرها هذه الشورى، وقد أثمرت هذه السياسة استدعاء فكرة حفر الخندق التي لم يعهدها العرب في أيامهم، بل ومن أثار هذه السياسة ما أبرزته الأزمة من مواقف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على اتخاذها دفعاً لهذه الأزمة، ولكن لا يتجاوز بها هذا النهج، وفي حادثة مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة مقابل انصرافها عن المدينة كان مقترحاً نبوياً لم يجد له طريق إلى المصادقة بعد استشارة كبار الأنصار، ولم يمنع مقامه النبوي عليه الصلاة والسلام من الأخذ بمقتضى هذه الشورى؛ لعلمه وإدراكه أن القرارات الكبرى المتعلقة بالأمة إنما سلطانها للأمة نفسها والحاكم إنما هو أمين ووكيل عنها.

-الاتفاق على حفر الخندق واختيار موضع مناسب له وهو الجزء الشمالي للمدينة؛ لكون بقية الجوانب محصنة منيعة، وهذا بمقتضى اللغة المعاصرة اعتبار للجغرافيا السياسية التي تأخذ بالاعتبار تأثير الجغرافيا على التدابير السياسية والقرارات المرتبطة بها.

-تأمين الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة بالعهد المسبق الذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة؛ دفعاً للممالأة والمناصرة التي يمكن أن يقوموا بها لأعداء الله.

-اعتماد سياسة الحماية لأفراد المجتمع المسلم وتأمين الجبهة الداخلية، فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصغار في حصن بني حارثة؛ ليكونوا في مأمن

-استثمار كل الطاقات صغيرها وكبيرها في إنجاز الأعمال الكبرى، وهذا الذي حدث في حفر الخندق، فقد اشترك الجميع فيها حتى النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة يستيعنون به في مهماتهم الكبرى.

-تشكيل وحدات حماية وحراسة للمدينة على مدار الساعة؛ إدراكاً من القيادة النبوية بأهمية حماية الثغور التي يمكن من خلال أن يتسلل الأعداء.

-البعد المعنوي كان حاضراً وبقوة في هذه الأزمة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشارك أصحابه وأمته مصاعبهم وآلامهم بحيث يشعروا أن القيادة ليست بمعزل عن تأثيرات الأزمة بل هي في مقدمة الصفوف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان عليه الصلاة والسلام يدرك أهمية رفع معنويات الصحابة، فقد كان عليه الصلاة والسلام يرتجز معهم؛ ليرفع هممهم وعزائمهم.

-الهم الجامع الذي كان يملأ قلب النبي صلى الله عليه وسلم وعقله ونفسه أن يدفع الأذى والألم والجوع عن أصحابه، ولعل في خبر جابر بن عبدالله رضي الله عنهما مثالاً كاشفاً في إظهار سياسة التكافل والتعاون بين أفراد الأمة حاكماً ومحكوماً، ولك أن تتصور من بركات التكافل والتداعي الجمعي أن يكون صاع من شعير وعناق وهو الذي لا يكفي أكثر من ثلاثة، فإذا به يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم، وإذا كانت البركة في هذا المثال مرتبطة بمعجزة حسية للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن بركة التكافل لا ترتبط بإعجاز حسي، وهي قائمة ما تحقق هذا التكافل في المجتمع المسلم.

-سياسة التخذيل التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في استثماره لشخصية نعيم بن مسعود رضي الله عنه، واستناده إلى قاعدة  الحرب خدعة (إنما رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة).

-وقبل كل هذا وبعده البعدُ الإيماني الذي كان راسخاً في قلوب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب أصحابه، فإن رسوخ الإيمان وثباته في قلبه المؤمن يسهم إسهاماً كبيراً في مجاوزته للأزمة، بل والبحث عن حلول جذرية لها، ولذلك جاء الأمر بالتقوى في هذه الواقعة التي اشتد فيها الأمر على الأصحاب كما أخبر الله تعالى، وكان الإيمان حاديهم في مواجهة الموقف، قال تعالى: (ولما رءا المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)[الأحزاب: آية 22]، نعم لم يكن ليُترك الإيمان إظهاراً وإقراراً دون أن تكون له فتنة ممحصة واختبار يميز الله به الخبيث من الطيب، وقد جلَّته هذه السورة بكل معاني البيان، حتى كأنك ترى الموقف والواقعة بل المدينة كلها في مشهد يراه المسلم اليوم وهو يتلو هذه الآيات، وما زالت الفتن والابتلاءات تفعل فعلها في الأمة تمحيصاً وتهذيباً، وما زال الإيمان مؤثراً في النفوس؛ لتبقى في اتصال مباشر بالله الذي يثبت لها في كل وقت وحين أنه صاحب الأمر (ألا له الخلق والأمر)[الأعراف: آية 54].

          وبعد: فإذا كنا قد نقلنا صورة من صور الجهاد والاجتهاد في مدافعة أعداء الله وحماية بيضة الأمة من حملاتهم ضدها كشأن غزوة الأحزاب أو الخندق وأمثالها، فإن الأمة اليوم وهي تتذكر أيام الله وصنعه مع عباده المؤمنين في تلكم الأيام، فإنها ما فتئت على مدار تاريخها تواجه الفتن والابتلاءات، وستبقى تواجهها ما بقيت متمسكة بدينها وكتابها، والعبرة أعظم العبرة أن تأخذ الدرس وتستوعبه من هذه الغزوة التي مثلت تحولاً وتغيراً جذرياً في تاريخ الأمة في عهد النبوة، فإن ما تلا هذه الغزوة أثر في ميزان القوة في الجزيرة العربية وأضحت الأمة المسلمة هي الفاعلة بعدها، ولقد نصرها الله تعالى بموجب الوعد الذي وعدها إياه، ولكن بعد أن أخذت بسنن النصر والتمكين وأسست لتحصيله والوصول إليه بناء محكماً ودولة مكينة ومجتمعاً متماسكاً تأصل على إيمان راسخ وعمل مستقيم، والأمة اليوم مطالبة بأن تحث السير في تغيير مسارها نحو الفعل الحضاري لتكون فاعلاً مؤثراً في واقع الناس.

ولعل أزمة كورونا أظهرت لنا هشاشة وضعف البنية الدولية وضحالة أنظمتها السياسية وما يرتبط بها من أنظمة خادمة لها، وإنما يتحقق للأمة هذا الفعل بأن تأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية، وتتخذ لها أهدافاً استراتيجية، وترسم لها وتخطط مسارات تنفيذية على مستوى بنيتها العلمية والاقتصادية والصناعية والتعليمية .. إلخ، وتحرص كل الحرص على تخريج أجيال بعقول بانية فاعلة في مجتمعها، ولنا في الفعل النبوي وهديه وتربيته وتزكيته ونهجه أسوة حسنة، (أولئك الذين هدى فبهداهم اقتده)[الأنعام: آية 90]

 

زر الذهاب إلى الأعلى