العقل اليهوديملفـات

صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية

الكاتب:

وُلد فنكلشتاين لأبوين من اليهود الناجين من الهولوكوست في نيويورك عام 1953. تخرج من جامعة بينغامتون ونال دكتوراه العلوم السياسية من جامعة برنستون. وعمل أستاذا للعلوم السياسية بعدة جامعات أميركية، وتغطي مجالات بحثه الأساسية سياسة الهولوكوست (المحرقة النازية) والصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

برز فنكلشتاين كمؤرخ وعالم سياسة وناشط منذ عام 2000 بعد تأليف كتابه “صناعة الهولوكوست”، وقد وثق فيه كيف تُستغل ذكرى المحرقة النازية “كسلاح أيديولوجي” لتحصين إسرائيل ضد النقد. وعُرف بانتقاده لإسرائيل، وقد مُنع من دخول إسرائيل منذ 2008. وقد وصف فنكلشتاين إسرائيل بأنها “دولة تفوق عنصري يهودي”، وترتكب جريمة الفصل العنصري ضد شعب فلسطين. ومن خلال روايات شخصية في أحد كتبه، يقارن محنة الفلسطينيين تحت احتلال إسرائيل بأهوال النازية. أحدث كتاب لفنكلشتين عن فلسطين وإسرائيل هو “غزة: تحقيق في استشهادها”.

 

القضية:

اتخذ الصهاينة من قضية الهولوكوست حائط مبكى مزعومًا آخر، وجعلوا منها سبيلا للوصول إلى مصالحهم. فما هي حقيقة هذه القضية في الفكر الغربي ولدى اليهود؟ وكيف استطاعوا تحويلها إلى سلاح أيديولوجي؟

المعلوم أن سنوات الحرب العالمية الثانية وقُبيلها قد شهدت المحرقة النازية (الهولوكوست) وما تضمنته من معسكرات اعتقال وأفران غاز وأعمال سخرة، وقد شملت يهودًا وغجرًا وسلافيين ومعاقين ومعارضين للنازية، وعمليات إبادة وتطهير عرقي مارستها ألمانيا النازية في أوروبا. التقط الحلفاء، أميركا وبريطانيا خاصة، الحدث ضمن حربهم الدعائية ضد ألمانيا (مع تجاهل محرقة حليفهم جوزيف ستالين ضد اليهود السوفيات في سخالين، شرق الاتحاد السوفياتي)، بزعم الدفاع عن حقوق يهود أوروبا، فتمّ تكريس المشروع الصهيوني (الوطن القومي اليهودي) على أرض فلسطين حلاً لمنع تكرار المحرقة التي احتكر الصهاينة مظلوميتها ودور الضحية فيها تبريرا لاحتلال واقتلاع وإبادة شعب فلسطين، وتحت شعار Never Again “لن يحدث مطلقا مرة اخرى”.

 

الحدث:

تعتبر الهولوكوست حدثا هامًا بل صادمًا في تاريخ حضارة أوروبا الحديثة، بما تضمنته من إبادة أعداد كبيرة من يهود أوروبا بيد النظام النازي في ألمانيا، بعد قرون من وعود الحداثة والأنوار وحقوق الإنسان والحقوق المدنية والدولة القومية الأوروبية الحديثة، دولة المواطنة والحرية والإخاء والمساواة، وبعد اندماج الجماعات اليهودية الأوروبية في مجتمعاتها التي عاشت فيها مئات السنين. بل إنه في سينودس (مؤتمر) حاخامات الإصلاح الذي عقد في فرانكفورت عام 1845، رفض الحاخام صموئيل هولدهايم فكرة أنه شخصيا المسيح المخلص، ورفض الخلاص السياسي في أرض (إسرائيل)!

 

اللحظة النازية:

جاءت اللحظة النازية، لحظة نموذجية كاشفة، وذروة تجلي النموذج الحداثي الإمبريالي القائم على الصراع والنفي والإبادة ونزع القداسة عن الإنسان وإنكار التكريم الإلهي لبني آدم. وبدلا من مراجعة هذا النموذج واستدراك علله واختلالاته وتصحيحه، ابتلع ذلك النموذج هذه التجربة واستوعبها وإعادة توظيفها داخل ذات النسق الإمبريالي الصراعي لاستدامة غاياته في التوحش والهيمنة والسيطرة والتوسع.

 

الكتاب:

يُشكّل كتاب فنكلشتاين احتجاجا موثقا بالأدلة والبراهين على توظيف الهولوكوست وتحويله إلى صناعة ترمي لخدمة المصالح السياسية للنخبة اليهودية الأميركية المتنفذة، والتي تتوافق مع مصالح السياسة الخارجية للحكومة الأميركية. يميز فنكلشتاين بدايةً بين “الإبادة النازية لليهود”، باعتبارها حادثةً تاريخية، والهولوكوست، أي التعبير الأيديولوجي عن هذه الحادثة، مشيراً إلى أن الهولوكوست قد تحول إلى شيء لا مثيل له في التاريخ الإنساني، إذ أن “تفرده مطلقٌ تماماً”، ومن ثم “لا يمكن فهمه بشكل عقلاني”.

وهذا ما يسميه عبد الوهاب المسيري (ر) “الأيقنة”، أي تجريد ظاهرة إنسانية من طبيعتها التاريخية الزمنية، وتقديمها باعتبارها شيئاً فذاً متفرداً لا يمكن فهمه أو تفسيره من خارجه، شأنه شأن الأيقونة، وهو مرجعية ذاته ولا يمكن مناقشته إلا من خلال مصطلحات ممعنة في الغيبية والغموض، هذا إذا تمت مناقشته أصلاً. وبهذه الطريقة يتم التحول من الزمني التاريخي إلى اللازمني الكوني.

يتكون الكتاب من ثلاثة فصول. الفصل الأول: الاستفادة من الهولوكوست، الفصل الثاني: المخادعون والمتجولون والتاريخ، والفصل الثالث: الابتزاز المزدوج. وقد تضمنت الطبعة الثانية (2003) 100 صفحة من المواد الجديدة، خاصة في الفصل الثالث المتعلق بالدعوى القضائية التي رفعها المؤتمر اليهودي العالمي ضد البنوك السويسرية.

 

الأفكار:

يتناول فنكلشتاين موضوع صناعة الهولوكوست معتبرا أن الإبادة النازية استغلت لتبرير سياسات إسرائيل الإجرامية وتبرير الدعم الأميركي لهذه السياسات، ونهضت هذه الحملة كسياسة ابتزازية من قبل النخبة اليهودية الأميركية، فجنت أموالا خيالية من أوروبا باسم “ضحايا الهولوكوست المحرومين”؛ وقد استحوذت هذه النخبة ولوبياتها ومنظماتها وشركات المحاماة والعلاقات العامة على قدر كبير من هذه الأموال؛ رغم أن ذات النخبة تقاعست عن نصرة ضحايا المحرقة من اليهود خلال سنواتها ورافق ذلك إحجام أميركا عن استنقاذهم إذ قامت بتحديد أعداد المهاجرين من اليهود إليها. بل قدم رأسماليون أميركيون يهود القروض المالية لألمانيا خلال سنوات صعود النازية فيها.

بقيت قضية الهولوكوست، ربما حتى نهاية الحرب الباردة، بعيدة عن التناول إلا من حفنة أقلام ضئيلة، ولم يُعرها الأميركيون اهتماما كبيراً. كما أن اليهود أنفسهم كبتوها لأنها صدمة كبيرة بالنسبة إليهم. وكانت السياسات الافتعالية التي انتهجها اليهود الأميركيون، والمناخ السياسي الذي يعيشون فيه، سبباً آخر لصمتهم.. ويضاف تحالف ألمانيا الغربية مع أميركا بعد الحرب العالمية الثانية كسبب في صمت اليهود الأميركيين تجاه قضية الهولوكوست، لأنهم رأوا أن الخوض فيها يزيدها تعقيدًا وجدواها السياسية والمالية آنذاك غير مؤكدة.

وإذا كانت المنظمات اليهودية الأميركية قد قللت من شأن الهولوكوست في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية، تماشيا مع سياسات الولايات المتحدة في الحرب الباردة، الإ أن بعض قادة اليهود الأميركيين صرحوا بخشيتهم من انضمام متوقع من قبل قيادة إسرائيل اليسارية ذات الأصول الأوربية الشرقية إلى المعسكر السوفياتي.

 

يتتبع فنكلشتاين المنطق الذي يشكل أساس صناعة الهولوكوست، فيرى أنه “إذا كان الهولوكوست حدثاً لم يسبق له مثيل في التاريخ، فلابد أنه يقف خارج التاريخ، ومن ثم لا يمكن فهمه بالمنطق التاريخي”. ولما كان نفي القداسة عن الأحداث التاريخية هو بمثابة كُفر بيِّن من وجهة نظر المؤمنين “الأتقياء” فإن “محاولة فهم واقعة الهولوكوست بشكل عقلاني تُعد -طبقاً لوجهة النظر هذه- بمثابة إنكار لهذه الواقعة، لأن العقلانية تنكر الطابع المتفرد والغامض للهولوكوست”.

 

الهولوكوست وعمليات التلاعب بالقضية:

ويلاحظ فنكلشتاين أنه مع نمو صناعة الهولوكوست، أخذ المنتفعون من هذه الصناعة يتلاعبون في أرقام الناجين، وذلك بغرض المطالبة بمزيد من التعويضات، وبدأ الكثيرون يتقمصون دور الضحية. ويعلق على ذلك ساخراً:

“لا أبالغ إذا قلت إن واحداً من كل ثلاثة يهود ممن تراهم في شوارع نيويورك سيدعي بأنه من الناجين. فمنذ عام 1993، ادعى القائمون على هذه “الصناعة” أن 10 آلاف ممن نجوا من الهولوكوست يموتون شهريا، وهو أمر مستحيل كما يبدو، لأنه يعني أن هناك ثمانية ملايين شخص نجوا من الهولوكوست في 1945 وظلوا على قيد الحياة، بينما تؤكد الوثائق أن كل اليهود الذين كانوا يعيشون على الأراضي الأوروبية التي احتلها النازيون عند نشوب الحرب لا يزيد عن سبعة ملايين فقط”.

لكن وفقاً للحسابات الرياضية البسيطة، كما يقول فنكلشتاين، يتبين أن هذا التلاعب يؤدي في واقع الأمر إلى تقليل عدد الضحايا الذين يُقال إنهم أُبيدوا، وهكذا يصبح من الصعب التمسك برقم الستة ملايين ضحية أو الدفاع عنه. ويعلِّق فنكلشتاين على هذا الأمر ساخراً فيقول إن القائمين على صناعة الهولوكوست يتحولون تدريجياً إلى منكرين للإبادة!

ولا يقف الأمر عند حدود التلاعب بالأرقام بل يتجاوز ذلك إلى التلاعب بالحقائق نفسها. فيلاحظ فنكلشتاين أن “متحف إحياء ذكرى الإبادة النازية” في واشنطن، على سبيل المثال، “يتغاضى عن أثر سياسة التمييز التي اتبعتها أميركا بتحديد أعداد المهاجرين اليهود إليها قبل الحرب، بينما يبالغ في دورها في تحرير معسكرات الاعتقال النازية، ولا ينبس ببنت شفة عن إقدام أميركا على تجنيد أعداد كبيرة من مجرمي الحرب النازيين في نهاية الحرب”.

كما يشير فنكلشتاين إلى أن متحف واشنطن يمر مرور الكرام على موضوع المذابح الجماعية التي ارتكبها النظام النازي في حق الغجر والسلاف والمعاقين فضلاً عن المعارضين السياسيين. ويخصص الكاتب جزءاً كبيراً من كتابه لمسألة الأموال المجمدة من الحقبة النازية في المصارف السويسرية، ويتساءل عن الأموال المماثلة في المصارف الأميركية، والتي لا يشير إليها أحدٌ من قريب أو بعيد.

وقد يتساءل المرء -على ضوء الشواهد المتوفرة- عما إذا كانت الولايات المتحدة تستخدم المنظمات اليهودية، من خلال مسألة الأموال المجمدة في المصارف الأوروبية، لزيادة الضغوط على البلدان الأوروبية لإجبارها على الوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني.

 

المقدس والتاريخ والمساءلة التاريخية:

يحاول فنكلشتاين أن يخرج بقضية “الهولوكوست” من نطاق المقدس إلى نطاق التاريخ، بأن يضعها في سياق محدد هو الصراع العربي الإسرائيلي. فيبين مثلاً أن “كل الأدلة تقريباً تؤكد أن موضوع الإبادة النازية لليهود لم يصبح أمراً راسخاً في حياة اليهود الأميركيين إلا بعد اندلاع هذا الصراع (حرب يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل)”. أما قبل 1967، فكانت المؤسسات اليهودية تميل إلى التقليل من شأن الإبادة النازية ليهود أوروبا، وذلك تمشياً مع الأولويات السياسية للحكومة الأميركية بفترة الحرب الباردة، والتي كانت تتطلب تأييد إعادة تسليح ألمانيا بل وتجنيد أعداد كبيرة من جنود الغستابو “قوات الأمن الخاصة” للنظام النازي السابقين.

لكن هذا الوضع أخذ في التغير منذ منتصف الستينيات، كما يبين فنكلشتاين. فعوامل مثل تصاعد السياسات القائمة على الهوية أو الانتماء العِرقي، من ناحية، وسيادة مناخ احتكار دور الضحية، من ناحية أخرى، فضلاً عن تزايد معدلات اندماج اليهود في المجتمع الأميركي وتحولهم التدريجي من اليسار ويسار الوسط إلى اليمين؛ ساعدت كلها على بروز مسألة الإبادة النازية لليهود مصدراً لتدعيم الإحساس بالهوية العِرقية اليهودية، التي تضع اليهود في منزلة مختلفة عن جماعات عِرقية ودينية أخرى باعتبارهم شعباً مختاراً، وإن كان الاختيار هنا في إطار علماني.

ويلاحظ فنكلشتاين أن انضواء الدولة الصهيونية في فلك الترتيبات الأمنية الأميركية دوليًا، و”التحالف الإستراتيجي” بين أميركا وإسرائيل، يمثل عاملاً حاسماً. ويمكن أيضا إضافة أن تزايد التنافس أحيانا بين الدول الأوروبية وأميركا قد وضع حداً لموانع ومحاذير توظيف الإبادة النازية واستغلالها.

فهذه الحادثة يمكن أن تُستخدم كهراوة لابتزاز دول أوروبا لإرغامها على مساندة إسرائيل، وتسويغ ممارساتها إزاء الفلسطينيين. وهنا، يستشهد فنكلشتاين بكلمات بيتر بالدوين التي يقول فيها إن “تفرد المعاناة التي كابدها اليهود ضاعف من الادعاءات الأخلاقية والعاطفية القائلة إن بوسع إسرائيل أن تفعل الشيء نفسه مع شعوب أخرى”.

 

إذن تكرّس الهولوكوست استثمارا صهيونيا ممتدا يغطي المشروع الصهيوني. والمفارقة أن بعض الصهاينة يشير إلى ظاهرة الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود بأنه “هولوكوست صامت”، أي إبادة صامتة. ووصف إسحق رابين فيلم “قائمة شندلر” عن دور شندلر الألماني المسيحي في إخفاء وإنقاذ اليهود خلال فترة الهولوكوست، وصفه بأنه “ليس هولوكوستياً بما فيه الكفاية”، أي لا يكرّس احتكار اليهود لمظلومية المحرقة وتداعياتها بما يكفي!

المفارقة الأخرى أن إسرائيل رحبت بإنشاء متحف الهولوكوست في برلين باعتباره مَعلمًا يذكر الألمان بالمحرقة ويبتزهم لدعم الإبادة الصهيونية ضد شعب فلسطين مما يحيل إلى نازية جديدة. لكن إسرائيل لم ترحب بـ”متحف إحياء ذكرى الإبادة النازية” في واشنطن لأنه ينازع قدس أقداس المحرقة، أي متحف الهولوكوست في القدس المحتلة “ياد فاشيم” المرجعية، وينشئ مركزية للولاية على الهولوكوست خارج إسرائيل!

 

المفارقة الثالثة اكتشاف أقليات دينية وإثنية في الشرق فوائد احتكار دور الضحية واستدامة المظلومية لخدمة توجهاتها وتفصيل كل منها لمحرقته الخاصة على نمط ونموذج الهولوكوست. ومثال ذلك ما يدور حول أيقنة “مذبحة الأرمن” المزعومة في الأناضول عام 1915، خلال الحرب العالمية الأولى، بعد أن شن القوميون الأرمن مذبحة حقيقية جنوب شرق الأناضول ضد الأكراد العثمانيين، مما اضطر حكومة الاتحاد والترقي لتهجيرهم إلى شمال سوريا نظرا لخطورة وجودهم قريبا من الجبهة الروسية.

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى