مفاهيممناهج ومفاهيم

مفهوم العقيدة

العقيدة

أ. محمد الجوهري

لغةً يقول العرب عُقِد الحبل والبيع، وتعني الارتباط الوثيق والالتزام القوي، حسيًّا كما في المعنى الأول، ومعنويًّا في المعنى الثاني، وهذا المعنى اللغوي يوضح لنا أن لفظ العقيدة يدور حول الإحكام والتوثيق. وقد ورد هذا اللفظ ومشتقاته في القرآن بهذا المعنى، الذي يفيد التوثيق والإحكام وإيجاد رابطة ما بين شيئين، فيقول الله تعالى {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} (المائدة: 89)([1]).

ويضفي القرآن –أيضًا- معنى جديدًا على هذا المفهوم؛ ففي مواضع من القرآن الكريم يأتي المفهوم ليفيد الارتباط بين العقل البشري وبين فكرة أو رأي أو منهج معين، وهو ارتباط متسم بالقوة والإحكام والثبات والاستمرار، ولأجل هذا نرى عبارة “العروة الوثقى” قد وردت في القرآن الكريم مرتين في مجال التعبير عن العقيدة الصحيحة التي جاء بها الإسلام، فيقول تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256)([2]).

وقد استخدم علماء المسلمين الأوائل لفظ العقيدة للدلالة على المفاهيم المنبثقة من نصوص الوحي التي يشكل مجموعها تصور المسلم الكلي للوجود، ولم يتطور المفهوم ليأخذ المعنى المستخدم به اليوم إلا في مرحلة متقدمة من الفكر الإسلامي؛ فمنذ منتصف القرن السادس الهجري بدأت تظهر مؤلفات توظف مصطلح العقيدة لإعطاء تصور كلي للوجود مستمد من الكتاب والسُنّة، ومن أهمها كتاب شرح العقيدة الطحاوية الذي ألفه علي بن أبي العز، وكتاب شرح العقائد النسفية للتفتازاني ([3]).

والعقيدة تعني شرعًا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. وللعقيدة الإسلامية عدد من الخصائص؛ أهمها([4]):

    • أنها ربانية من عند الله.
    • ما دامت أنها عقيدة من عند الله فهي عقيدة ثابتة.
    • هي عقيدة واضحة لا غموض فيها.
    • هي عقيدة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط.
    • عقيدة تقدم الدليل فلا تسأل الآخرين مجرد التصديق الأعمى بها.
  • هي عقيدة الفطرة ليست غريبة عليها أو متناقضة معها.

تقوم العقيدة في الإسلام على عدد من المبادئ الأساسية، التي يجب على كل المسلمين الإيمان بها جميعًا دون نقصان، وإلا أصبح إيمان هؤلاء غير مكتمل([5])، وتتمثل هذه المبادئ في:

أولاً- دين التوحيد الخالص، الإسلام منذ بدايته الأولى هو دين التوحيد الخالص لله، أساسه “أن لا اله إلا الله”؛ بمعنى إثبات الإلوهية لله (عز وجل) ونفيها عن أي شيء آخر، فالمؤمن يدرك أن هناك إلهًا واحدًا فقط؛ لأنه لو كان هناك إلهان لاختلفا ولفسد الخلق. إذن محور العقيدة في الإسلام واضح وصريح هو التوحيد، توحيد الله رباً، والإقرار بوحدانيته في كل شأن فلا نتجه بأي مظهر من مظاهر العبادة لغيره([6]).

ثانيًا- الإيمان بالرسل؛ حيث لا يستقيم إسلام المسلم، ولا يصح إيمانه بدون الإيمان برسل الله جميعًا.

ثالثًا- الإيمان بالكتب السماوية؛ فالإيمان بالرسل يقتضي الإيمان بالوحي الذي أنزله الله عليهم لهداية البشر.

رابعًا- الإيمان بالملائكة، بوصفهم من مخلوقات الله، ولكن لهم طبيعة مختلفة غير طبيعة البشر، وهم من عالم الملأ الأعلى الذي لا يدرك بالحواس.

وهناك -أخيرًا- الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر.

وبصفة عامة، يمكن القول إن العقيدة -مهما اختلف جوهرها- ليست مجرد مبادئ عامة تسبح في الفضاء، دون أن يكون لها انعكاس على الواقع الحياتي للمؤمنين بها وبمبادئها؛ لذلك فإن ارتباط النظرية بالتطبيق هو ما يميز العقيدة عن غيرها من البنى الفكرية الذهنية. فالعقيدة ليست مجموعة من التصورات الذهنية المنفكة عن الواقع والحياة العملية للفرد والمجتمع، بل هي منظومة من التصورات الهادفة إلى التأثير في الفعل الإنساني، من خلال مجموعة من القيم والمبادئ والأحكام التي تنبثق من هذه التصورات وترتكز عليها. فالعقيدة هي القاعدة الصلبة التي تتأسس عليها الوحدة السياسية للأمة([7]).

وإذا كان هذا ينطبق على العقائد عامة، فان الأمر يكون أكثر وقعًا مع العقيدة الإسلامية؛ لأنها عقيدة لا تنظم فقط الحياة الدنيوية المعيشة للأفراد، بل تمتد قواعدها ومبادئها لتضع للإنسان كيفية الخلاص والفوز برحمة الله سبحانه وتعالى في الآخرة، ومن ثم فإن وجود العقيدة الإسلامية له أثر كبير على كل من الفرد والمجتمع والأمة الإسلامية بأسرها([8]).

بالنسبة للفرد، تحرر العقيدة الإسلامية الإنسان من الخوف على الحياة، لأنها تقرر أن الله هو الخالق، وأن الأجل بيده وحده، يقول تعالى: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 11). وكما تحرر الإنسان من الخوف على رزقه، لأن الرزق بيد الله، وأنه ليس هناك مخلوق على وجه الأرض يمكنه أن ينقص من رزقه شيء، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} (الذاريات: 58). وتحرره أيضًا من الأنانية والجشع والشُح، فالإنسان بطبيعته يحب المال حبًا جمًا. فإذا استقرت هذه المعاني في قلب المؤمن فإنه يأبى أن يعيش في ظروف مهينة لا تكفل كرامته، وحينما تترسخ العقيدة الإسلامية في نفس المسلم فإنها تحرره من الأنانية وحب المال وأثرة الذات، بل قد تدفعه إلى التضحية بنفسه من أجل الآخرين، يقول الله تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9).

تربي العقيدة الإنسان أيضًا على يقظة الضمير، فالمسلم يعي تمامًا أن الله يراقبه في أفعاله وتصرفاته وأحواله، ومن ثم فإن الضمير الحيّ يمنع صاحبه من انتهاك محارم الله ومخالفة قواعد الشريعة الغرّاء.

علاوة على ذلك تحرر العقيدة الإنسان من الخضوع للظلم؛ فالإسلام دين نزل بالعدل وحرَّم الظلم بين العباد، هذا العدل الذي يؤسس على إقامة الشرع الإلهي دون النظر إلى أي اعتبارات مثل القرب أو النسب… إلخ

هذه العقيدة وما تحدثه في حياة الفرد من تغيير وإيمان بالله، تعود بالنفع في نهاية الأمر على حياة المجتمع ككل، فتؤدي إلى قيام مجتمع يأمن فيه الجميع على نفسه وماله وعرضه، مجتمع متحاب متراص كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، مجتمع متجرد من الهوى، مجتمع منصف يكره التعصب.

ومن منظور التحليل الحضاري تحتل قضية العقيدة أهمية قصوى، ليس فقط باعتبارها القاعدة الذهنية التي يقوم عليها الفعل الفردي، ولكن أيضًا لكونها الشرط الأساسي والضروري لنجاح أي مشروع جماعي نهضوي، هذا النوع من المشاريع لا يمكن القيام به في حال غياب منظومة من التصورات والمبادئ التي تنسق جهود أفراد الجماعة، وتبرر وجودهم وتعاونهم، وتحفزهم لتحقيق الأهداف التي يسعون إليها([9]).

من هذا المنطلق لرؤية العقيدة، باعتبارها القاعدة الصلبة التي تتأسس عليها الوحدة السياسية للأمة، هل يمكن الحديث عن إمكانية وجود تعدد داخل الأمة فيما يتعلق بمسألة العقيدة؟ نعم، لأن الوحدة العقدّية التي يشترطها تشكيل مجتمع سياسي تتعلق بالحد الأدنى من التجانس العقدي لتحقيق وحدة الفعل السياسي، أي ضرورة وجود الإطار العقدي العام الذي يجمع مختلف التقسيمات العقدّية الثانويّة([10]). ولكن هذا الأمر يثير التساؤل حول تلك الآليات التي تضمن نجاح هذه العملية وتضمن عدم تغلب عوامل الفرقة والفتنة على عوامل الوحدة والتعاضد والتنسيق؟ لأن مفهوم العقيدة يرتبط به دومًا معضلة كبيرة وهي مشكلة التوظيف السياسي للعقيدة باستخدام سلاح التكفير أو التبديع، فقد استخدم الخوارج سلاح التكفير لتبرير خروجهم على السلطة السياسة القائمة آنذاك في الدولة الإسلامية.

يرتبط بمفهوم العقيدة عدد من المفاهيم المهمة من قبيل الإيمان، الأمة الواحدة في إطار التعدد وغيرها، ولكن من أهم هذه المفاهيم هو مفهوم التوحيد، باعتباره جوهر العقيدة في الإسلام.

والتوحيد في الإسلام له جانبان: الأول توحيد الربوبية، وهى الإيمان بوحدة الخالق الرزاق المنعم. والثاني توحيد الألوهية، وهذا الجانب يعني إفراد الله بالعبودية، فهو وحده المعبود بحق، وإذا كان توحيد الربوبية يعني ألا شريك مع الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وما إلى ذلك، فإن توحيد الألوهية –وهو الجانب الثاني لمفهوم التوحيد- يعني أنه لا شريك مع الله في العبادة. ويجب أن يكون واضحًا أن توحيد الله غير مقصور على جانب الربوبية وجانب الألوهية فقط، ولكن المؤمن مطالب بتوحيد الأسماء والصفات لله تعالى، فكما أن الله لا نظير له في ألوهيته وربوبيته، فإنه أيضًا ليس له نظير في أسمائه وصفاته فيما سمى به نفسه([11]).

([1]) السيد رزق الطويل، العقيدة في الإسلام منهج حياة، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1981، ص: 15.

([2]) المرجع السابق، ص: 17.

([3]) لؤي صافي، العقيدة والسياسة: معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، ص: 51.

[4])) نعيم يوسف، أثر العقيدة في حياة الفرد والمجتمع، المنصورة، دار المنارة، 2001، ص: 15 وما بعدها.

([5]) محمود حمدي زقزوق، العقيدة الدينية وأهميتها في حياة الإنسان، القاهرة، مطبوعات مجلة الأزهر الشريف، 2002، ص: 32 وما بعدها.

([6]) السيد رزق الطويل، مرجع سبق ذكره، ص: 17.

([7]) لؤي صافي، مرجع سبق ذكره، ص: 53.

([8]) نعيم يوسف، مرجع سبق ذكره، ص: 68 وما بعدها.

([9]) لؤي صافي، مرجع سبق ذكره، ص ص 54:53.

([10]) لؤي صافي، مرجع سبق ذكره، ص: 77

([11]) السيد رزق الطويل، المرجع السابق، ص: 36.

زر الذهاب إلى الأعلى