تقدير موقفقراءة الحدث

انتفاضة الجامعات الأمريكية

لكي نفهم ما يحدث الآن في الجامعات الأمريكية، علينا أن ننظر إلى الوراء خمسة أشهر، وتحديدا في ٥ ديسمبر الماضي، عندما أدلى ثلاثة رؤساء لجامعات مرموقة بشهادتهم أمام الكونجرس حول معاداة السامية في الحرم الجامعي. كان الاستجواب الذي امتد لأكثر من خمس ساعات حافلا من النواب بلغة التهديد والاستعلاء ولم يكلف أحد منهم نفسه ليسأل السؤال البسيط: ماذا يريد الطلاب؟

لكي نفهم ما يحدث الآن في الجامعات الأمريكية، علينا أن ننظر إلى الوراء خمسة أشهر، وتحديدا في ٥ ديسمبر الماضي.

كشف ذلك الاستجواب عن فجوة هائلة بين النخب السياسية والجيل الحالي لطلاب الجامعات، حمل الاستجواب حينها نذر انقسام ضخم في المفاهيم وحتى في المعلومات بين طرفي الاستجواب، أو بين منصة النواب الهائجين، وطاولة رؤساء الجامعات البؤساء الثلاثة، الذين لم يكادوا يصدقون ما يسمعون.

وأدت جلسة الاستجواب سريعا إلى استقالة رئيستي جامعة هارفارد وجامعة بنسلفانيا.

فقرتان من ذلك الاستجواب تمثلان عقلية الكونجرس الذي يرى حرب غزة – تقريبا – بعين واحدة[1]:

الأولى: النائب ريك ألين (جمهوري من ولاية جورجيا) افتتح استجوابه قائلا:

“أنا أؤمن بالله وبالكتاب المقدس وكلمته. لدينا العَلم الأمريكي أعلاه الذي نثق به في الله، ثم الوجه الكامل لموسى الذي ينظر إلى الجسد الذي أعطانا الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس. دعوني أخبركم بمدى خطورة هذه المشكلة. في عام 1885 قبل الميلاد، يقول الكتاب المقدس، (في سفر التكوين ١٢: ٣): سأبارك مباركيك، وكل من يلعنك سألعنه، ويتبارك فيك جميع سكان الأرض. هذا وعد جاد، .. من يسوع الذي كان يهوديًا. الأمية هي المشكلة رقم واحد في القوى العاملة لدينا. ولكنني أعتقد من وجهة نظر الحقيقة، أن الأمية الإنجيلية هي المشكلة الأولى في أمريكا. نحن مجتمع أمي الكتاب المقدس. ليس لدينا أي فكرة عن هذه الوعود القديمة في هذا الكتاب والتي أتت كل النبوءات منها بثمارها. لذا، مثل العديد من الآخرين، شعرت بخيبة أمل شديدة. في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، حيث تم منع الطلاب من حضور الفصل الدراسي بسبب تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، وعندما أمرتم جميع المتظاهرين بمغادرة المنطقة أو مواجهة الإيقاف، غادر المتظاهرون وبقي المؤيدون للفلسطينيين. هل يمكنكم أن تشرحوا كيف يكون هذا عادلاً للمواطنين الأمريكيين اليهود الذين يتم انتهاك حقوقهم؟

أعتقد من وجهة نظر الحقيقة، أن الأمية الإنجيلية هي المشكلة الأولى في أمريكا. نحن مجتمع أمي الكتاب المقدس. النائب/ ريك ألن

هذا، وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على ذلك الاستجواب (أي بعد سقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين نصفهم تقريبا من الأطفال)، جلس نواب نفس اللجنة لاستجواب نعمات شفيق رئيسة جامعة كولومبيا، وعاد نفس النائب بسؤاله المفضل:

“هل أنتِ على دراية بسفر التكوين 12: 3؟، “إنه عهد قطعه الله مع إبراهيم… إذا باركت إسرائيل أباركك. وإذا لعنتم إسرائيل سألعنكم.. هل تعتبرون ذلك أمرا خطيرا؟ أعني، هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟

ردت نعمات شفيق: بالتأكيد لا.

وصف النائب جامعة كولومبيا بأنها إحدى “الجامعات الخارجة عن القانون” واقترح أن تقدم دورة تدريبية حول الكتاب المقدس و”ما سيحدث إذا غضب الله عليهم”.

الفقرة الثانية:

النائبة جوليا ليتلو (جمهورية من ولاية لويزيانا) افتتحت استجوابها بسؤال قصير مباشر (بدا وقتها خارج السياق):

إلى رؤساء جامعاتنا، أريد الإجابة فقط بـ نعم أم لا، هل وضعتم برامج وقواعد صارمة لمعالجة ومنع التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة في جامعاتكم؟ نعم أم لا؟

أجابت كل من الرؤساء الثلاثة: نعم.

النائبة جوليا ليتلو:

شكرًا لكم. أرجو أن تتحملوني، لأنني كأم وابنة وامرأة، فإن ما سأشاركه معكم هو أمر صعب. معي مقال من شبكة سي إن إن، يتناول التحقيق الإسرائيلي في أعمال العنف الجنسي التي ارتكبتها حماس خلال أحداث 7 أكتوبر، يتضمن شهادة من شاهدة على هجوم مهرجان نوفا.

إنه عهد قطعه الله مع إبراهيم… إذا باركت إسرائيل أباركك. وإذا لعنتم إسرائيل سألعنكم.. هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟ النائب/ ريك ألن

هنا اقتباس من كلام الشاهدة: “لقد أحنى رجل منهم امرأة، وفهمت أنه كان يغتصبها ثم كان ينقلها إلى شخص آخر”. وقالت المرأة التي لم يتم الكشف عن هويتها عما رأته،

اقتباس: “كانت على قيد الحياة. وقفت على قدميها وكانت تنزف من ظهرها. رأيت أنه كان يسحب شعرها. كان لديها شعر بني طويل. رأيته يقطع صدرها ثم يرميه في الطريق ويلقيه إلى غيره فيلعبون به”.

وأضافت الشاهدة: “تذكرت رؤية شخص آخر يغتصبها، وأثناء وجوده بداخلها أطلق عليها النار في رأسها”.

هذه مجرد واحدة من مئات روايات الاعتداء الجنسي التي حدثت في السابع من أكتوبر. دكتوره جاي، هذا مقال عن هارفارد قرمزي بتاريخ 10 أكتوبر، يتضمن بياناً من لجنة التضامن مع فلسطين لطلبة جامعة هارفارد تم التوقيع عليه من قبل 33 منظمة طلابية أخرى في جامعة هارفارد. أود أن أقرأ البيان لك.

اقتباس: “نحن، المنظمات الطلابية الموقعة أدناه، نحمل النظام الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن كل أعمال العنف التي تتكشف”.

كيف يمكنك، دكتوره جاي، التوفيق بين النفاق الصارخ المتمثل في السماح لطلابك بمنتدى للترويج والاحتفال بالجماعات الإرهابية التي تجعل من اغتصاب وتشويه النساء والأطفال وظيفة أساسية لعملياتها بينما تعملين في نفس الوقت لسنوات على مكافحة العنف الجنسي تجاه المرأة؟

ما هي الرسالة التي يوجهها هذا التأخير في مواجهة التظاهرات إلى نسائكم في جامعاتكم؟ لا أستطيع إلا أن أتخيل كم هو مرعب أن تكوني امرأة يهودية في أي من جامعاتكم.

(طبعا لم تجرؤ د. كلودين جاي رئيسة جامعة هارفارد آنذاك أن تقول للنائبة النابهة: كيف يكون دليل إدانتك واتهامك حماس بهذه الفظائع مقالا في ال CNN نقلا عن مصدر حكومي إسرائيلي نقلا عن شاهدة مجهولة الهوية؟!).

اللافت أن جلستي الاستماع كانتا حول “معاداة السامية في الحرم الجامعي”، ومع ذلك لم يقدم أي دليل أو تحقيق يثبت هذه المزاعم، وتبين أنها تهمة جاهزة لمنع انتفاضة طلابية أرقت النخب السياسية، وهي ترى هتافات وأعلام فلسطين في الحرم الجامعي لأسابيع متواصلة.

جلستا الاستماع قادتها عقول منفصلة عن الواقع وتخاطب نفسها، وتجلت صورتها لاحقا عندما زار رئيس مجلس النواب ومعه أعضاء لجنة التعليم جامعة كولومبيا، وصبوا جام غضبهم على إدارة الجامعة، وخيروها بين أمرين: إما الاستقالة أو التحكم في الحشود الثائرة!

نناقش في هذه الدراسة لتقدير الموقف:

  • ماذا يريد الطلاب؟
  • ما هو التوصيف السياسي لانتفاضتهم؟
  • المعاني المهمة لهذا الحراك
  • تداعيات الحراك على حرب غزة وعلى الشباب العربي
  • المآلات المتوقعة

 

أولا: ماذا يريد الطلاب؟

يطالب المحتجون بشكل عام حكومتهم بالضغط لوقف حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون، ويرون حكومتهم ضالعة في هذه الإبادة. وهم يطالبون جامعاتهم، التي يتمتع الكثير منها بأوقاف ضخمة، بسحب استثماراتها المالية من إسرائيل. سحب الاستثمارات يعني بيع أو إسقاط العلاقات المالية.

يقول الناشطون الطلاب إن الشركات التي تمارس الأعمال التجارية في إسرائيل أو معها، متواطئة بالفعل في حربها المستمرة على غزة – وكذلك الجامعات التي تستثمر في تلك الشركات.

في الولايات المتحدة تقوم الأوقاف الجامعية بتمويل كل شيء، من مختبرات الأبحاث إلى صناديق المنح الدراسية، وذلك باستخدام عوائد ملايين – ومليارات – الدولارات من الاستثمارات. إنهم يمتلكون أسهمًا في شركات كبيرة من أمازون إلى أبل ومايكروسوفت، ويستثمرون أموالهم في الأسهم الخاصة وصناديق الاحتياط وصناديق المؤشرات (أي في: private equity, hedge funds and index funds).

من الناحية العملية، فإن مَحافظ الوقف غالبا ما تتم إدارتها من قبل مديري الأصول بدلا من الجامعات نفسها، وتحمي المعلومات المتعلقة بمواقفهم في سوق الأوراق المالية عن كثب. لكن الناشطين الطلابيين طالبوا بمزيد من الشفافية بشأن هذه الأموال، حتى لو لم تقم باستثمارات نشطة أو مباشرة في إسرائيل.

طبعا لم تجرؤ د. كلودين جاي رئيسة جامعة هارفارد آنذاك أن تقول للنائبة النابهة: كيف يكون دليل إدانتك واتهامك حماس بهذه الفظائع مقالا في ال CNN نقلا عن مصدر حكومي إسرائيلي نقلا عن شاهدة مجهولة الهوية؟!

تدرك إدارات الجامعات – والحكومة بطبيعة الحال – أن سحب الاستثمارات حتى إن تحقق، سيكون له تأثير ضئيل، إن وجد، على الحرب في غزة، لكن المتظاهرين يرون إنه سيسلط الضوء على أولئك الذين يستفيدون من الحرب وأن ذلك سيساعد في بناء الوعي بقضيتهم، على غرار الطريقة التي حفز بها سحب الاستثمارات من شركات الوقود الأحفوري النشاط المناخي. ومن جهة السلطات، فإن التأثير العملي المعدوم تقريبا لسحب الاستثمارات لا يخفي هواجسهم من أنها ستفتح بابا يصعب إغلاقه بعد ذلك، وأن الطلاب الثائرين سيرتفع سقف مطالبهم، وسيرون أن مسألة سحب الاستثمارات مجرد بداية، ولذلك تصر السلطات الحكومية والجامعية على عدم الاستجابة لمطالب المتظاهرين، والتمسك باحتواء المظاهرات بالقوة أو بالتهديد والترهيب، أو بإجراءات اعتقال أو فصل قادة المتظاهرين.

ثانيا: التوصيف السياسي لانتفاضة الطلاب؟

فاجأ طوفان الأقصى إسرائيل والولايات المتحدة بشكل واضح، لذلك لم تكن هناك خطة حقيقية للتعامل مع تداعيات الحرب التي استعرت في غزة، داخل الولايات المتحدة. لقد بدأ تفاعل الشباب مباشرة بعد اندلاع الحرب، وتنامى بسرعة على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة على منصة التك توك، ومع اشتداد القصف الجوي لقطاع غزة، وبدء الغزو البري اشتعلت التظاهرات داخل الجامعات الأمريكية، ما دفع للجنة الاستماع الأولى في الكونجرس للتحقيق فيما أسموه مظاهر عداء السامية في الجامعات.

حاولت النخب السياسية توصيف هذه الحالة الطلابية، وكان الأمر الأسهل مقارنتها بتجارب تاريخية سابقة، فرأى البعض أنها أشبه بحركة “احتلوا وول ستريت” عام ٢٠١١، والحركة المناهضة للفصل العنصري في ثمانينيات القرن الماضي، وأعادت الانتفاضة إلى أذهان بعضهم ذكريات الاحتجاجات ضد حرب فيتنام عام ١٩٦٨.

معظم اللافتات والشعارات التي ترفع داخل الجامعات إنسانية وأخلاقية، ولذلك لم تفلح جهود السلطات وإدارات الجامعات في التأثير على صورة ومطالب حشود الطلاب.

ولا شك أنه توجد أوجه تشابه بين الانتفاضة الحالية وتلك الاحتجاجات، لكن ثمة فارق جوهري يجعل هذه الانتفاضة الطلابية مختلفة. ذلك بأن كل الانتفاضات القديمة كانت قضاياها “أمريكية” بامتياز، فحركة “احتلوا وول ستريت” رفعت شعار “نحن الـ ٩٩٪” ونادت بالعدالة الاجتماعية ونددت بأقلية الـ ١٪ التي تستحوذ على ٩٩٪ من مقدرات البلاد، وجعلت احتلال وول ستريت، في حي المال والأعمال رمزا على تغول الرأسمالية التي يمثلها. الحركة المناهضة للفصل العنصري كانت تخص المجتمع الأمريكي بالدرجة الأولى، وكذلك احتجاجات فيتنام كانت غالبيتها بسبب الخسائر الهائلة في صفوف الجنود الأمريكيين.

الانتفاضة الطلابية الحالية تتعلق بحدث لا يمس الولايات المتحدة بشكل مباشر، وإنما يمس قيما إنسانية يرى الطلاب أن الحرب تستبيحها وتستخف بها، ويرون الصورة أمامهم بعيدا عن توازنات السياسة، يرون طرفا معتديا بقوة غاشمة مدعومة بالغرب القوي، أمام شعب أعزل يتم التنكيل به. وقد ساعدت منصات التواصل على فتح أذهان الشباب إلى البحث في جذور القضية الفلسطينية، وبدا لهم سريعا أن هذا الشعب الواقع تحت الاحتلال يعاني منذ ٧٥ سنة من ويلات الحصار والاحتلال.

معظم اللافتات والشعارات التي ترفع داخل الجامعات إنسانية وأخلاقية، ولذلك لم تفلح جهود السلطات وإدارات الجامعات في التأثير على صورة ومطالب حشود الطلاب، بتسليط الضوء على حالات فردية قليلة رفعت أصواتها بالعداء لليهود.

إن الوجه “الإنساني” لهذه الحملة هو الذي حافظ عليها لأكثر من ستة أشهر، برغم الإهمال الإعلامي المتعمَّد لها، والذي لولا استدعاء جامعة كولومبيا للشرطة للتصدي لها، لبقيت التغطية الإعلامية محدودة وضعيفة، ولما انتشرت فكرة الاعتصامات سريعا إلى حوالي سبعين حرما جامعيا في كل أنحاء الولايات المتحدة.

ثالثا: المعاني المهمة لهذا الحراك

الحراك الجامعي الصاخب كشف خواء الأسس الفكرية والأخلاقية للنموذج السياسي الغربي، وكشف تناقضاته الكبرى. الغرب يقدم نفسه تحت مظلة الديمقراطية وحرية التعبير، وها هي هذه الانتفاضة جعلت الشباب في حيرة كبيرة يتساءلون أين الحرية؟ وأين الديمقراطية؟

الغرب يقدم نفسه تحت مظلة الديمقراطية وحرية التعبير، وها هي هذه الانتفاضة جعلت الشباب في حيرة كبيرة يتساءلون أين الحرية؟ وأين الديمقراطية؟

والغرب يصف نفسه بالعلمانية، ثم يحاسب النواب رؤساء كبرى الجامعات، على عدم معرفتهم بوعود الكتاب المقدس، ويوبخونهم على أمية الكتاب المقدس التي يصفون بها الشعب الأمريكي. كلام النائب إريك ألن في جلستي الاستماع لو صدر من أي برلماني في بلد مسلم، لطارت به وكالات الأنباء، واصفين ما يحدث بأجواء الدولة الدينية. ثم إن جلستي الاستماع أظهرتا الفارق الكبير بين اللغة الشعبوية المحرِضة للنواب، أمام اللغة العلمية الرصينة التي حاول رؤساء الجامعات أن يشرحوا مواقفهم بها.

نأخذ مثالين صارخين:

الأول: تعامل إيلون ماسك وهو رمز شعبوي ومالي مؤثر، وواجهته المعلنة هي حرية التعبير والتصدي لكل محاولات تكميم الأفواه، فإذا به يتجنب بداية كل تعليق على هذا الحدث الكبير الذي هو في جوهره قضية رأي وحرية تعبير من قطاع من الشباب ليس لأغلبهم أي مصلحة مباشرة في القضية الفلسطينية. وحتى عندما علق بعد أيام طويلة جاء تعليقه باهتا مدافعا عن إسرائيل، حيث كتب بفلسفة مفتعلة: ” إذا علمت أن “الضعيف يصنع الصواب”، فإن الطرف الأقوى – في هذه الحالة، إسرائيل – مخطئ. ينبغي تدريس الأخلاق بشكل مطلق، بمعنى أنه من الممكن للقوي أو الضعيف أن يكون صالحًا أخلاقيًا، فقط بحسب أفعاله.”، ثم غرد معلقا على فيديو قديم منذ سبع سنوات لوزير الخارجية الإماراتي، يحذر فيه الغرب من مغبة التراخي في التعامل مع التطرف الإسلامي، ويهدد بأن المستقبل سيجعل أوروبا والغرب مصدرا للتطرف والإرهاب المسكوت عنه. علق ماسك قائلا (هذا الرجل كان يعرف ما يتحدث عنه).

الثاني: لرمز إعلامي أمريكي رصين وهو أستاذ العلوم السياسية فريد زكريا، الذي التزم الصمت أيضا أياما طويلة، وبعدها اكتفى بمقال كتبه في الـ CNN، وجاء عنوانه (ما هو الخطأ في الحرم الجامعي؟) معبرا عن الحرج والمأزق الذي يهرب منه، إلى تحليل باهت يرى أن “الخطأ” ناجم عن ضعف الحياة الاجتماعية داخل الجامعات بعد العزل الإجباري الذي سببته جائحة كورونا! وقال “أدى إرث كوفيد-١٩ إلى تآكل التماسك الاجتماعي. إن طلاب الجامعات واجهوا دائمًا وناقشوا القضايا الخلافية، لكن خلافات اليوم تتميز بمزيد من النقد اللاذع وقليل من الانفتاح والتأمل”. والملاحظ أنه أصدر حكمه في العنوان مباشرة، بأن ما يحدث في الحرم الجامعي: خطأ. ورأى زكريا أنه من الصعب معرفة ما الذي يمكن فعله تجاه الاضطرابات في الحرم الجامعي، بما فيها من احتجاجات واستقطاب وترهيب ومرارة عامة.

الصورة الظاهرة للنخب السياسية والمالية والإعلامية أنها تتوجس من تداعيات الحراك الطلابي، وتنزعج من الاضطرار لتغطيته إعلاميا، وتحاول التقليل من شأنه ووصمه بصفات سلبية أو فاترة، ولعل السبب في هذا أنه حراك بلا رأس سياسي، وبالتالي يصعب السيطرة عليه، أو توقع خطوته التالية.

رابعا: تداعيات الحراك على حرب غزة وعلى الشباب العربي

استمرار الانتفاضة الطلابية ستكون له آثار مباشرة على الحرب، ذلك لأن تداعياته مباشرة على المجتمع الأمريكي، وهو ما لا تريده الإدارة الحالية منذ بداية الحرب، ألا يمتد شررها إلى الأراضي الأمريكية، فكيف والحال أن الانتخابات على الأبواب، وآخر ما يريده بايدن هو فعاليات لا يمكن السيطرة على نتائجها. وقد ذكرت عدة جهات إعلامية أن الحراك الطلابي دفع الإدارة إلى الضغط مجددا لعقد صفقة لوقف الحرب، بعد أن كانت قد وصلت إلى طريق مسدود. وقد كان تعليق نتنياهو المتلفز، ووصفه لاحتجاجات الجامعات الأمريكية بأنها “مروّعة ويجب أن تتوقف”، وأن “جحافل معادية للسامية سيطرت على جامعات رائدة”، كان له أثر سيء وبدا تدخلا غبيا في شأن أمريكي داخلي.

وكان لافتا أيضا في خضم زيارة مهمة وشاقة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين، أن يتطرق خلالها لمظاهرات الطلاب، ويصفها بأنها “سمة مميزة” للديمقراطية الأمريكية. وفي الوقت نفسه، انتقد الطلاب على “صمتهم” تجاه حماس، فقال: “ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن هناك صمتًا بشأن حماس. ويبدو الأمر كما لو أنها لم تكن حتى جزءًا من القصة”.

على كل الأحوال، فإن كل حراك شعبي له تأثير على صناع القرار، لكنه تأثير تراكمي بطيء.

لا يُتوقع من السلطات الأمريكية التجاوب مع مطالب المحتجين، ليس لخطورة أو تأثير هذه المطالب، ولكن لتوقعها أن تكون استجابتها ذريعة لمزيد من الاحتجاجات بحيث ترتفع حدتها وتتسع رقعتها.

هذا وقد كان لانتفاضة الطلاب الأمريكيين آثار كبيرة من التفاعل مع الشباب العربي على منصات التواصل، وسط حالة من الإعجاب والإحساس بالعجز عن التشبه بهم، لكن استمرار وتحدي هذه التظاهرات من شأنه أن تكون له تداعيات على وعي الشباب العربي وهم يرون حراكا يُخجلهم على أقل تقدير. بعض البلاد ربما ينشأ فيها حراك مماثل وإن كان على نطاق متواضع، مثل المغرب والجزائر وتونس والكويت والعراق ولبنان.

وعلى النطاق الأوسع، فإن للحراك الطلابي تأثير ملموس على الشعوب العربية، خاصة بعد كل هذه الشهور من الحرب المدمرة، فإن بعض التعاطف والحماس في نصرة الشعب الفلسطيني قد خفُت وضعف مع طول الأمد، فجاءت هذه التظاهرات الصاخبة لتحيي جذوة التعاطف العربي الشعبي، وربما تفتح ثغرة في جدار صمت الشارع العربي.

خامسا: المآلات المتوقعة

لا يُتوقع من السلطات الأمريكية التجاوب مع مطالب المحتجين، ليس لخطورة أو تأثير هذه المطالب، ولكن لتوقعها أن تكون استجابتها ذريعة لمزيد من الاحتجاجات بحيث ترتفع حدتها وتتسع رقعتها. إن أي حشود شعبية كبيرة من شأنها دائما أن تثير قلق السلطات الحاكمة ودولتها العميقة، مخافة خروجها عن السيطرة، خاصة وأنها في هذه الحالة حشود شبابية، ظهر أن ترهيبها يزيدها عنادا وتشبثا بقضيتها. كان المعتاد في نثل هذه التظاهرات الجامعية أن تنتهي بمفاوضات بين الطلاب وإدارة الجامعة تعزيزا لمعاني الحوار والتفاهم، لكن في التظاهرات الحالية بدا الطلاب أكثلا عقلانية وانضباطا من إدارة الجامعات، حيث حرص الطلاب على مد جسور التفاوض والتفاهم، ولكن كان واضحا أن القرار ليس بيد إدارات الجامعات – بشكل عام – ولكنه يتجاوزها إلى السلطات الحاكمة والتنافس الحزبي.

لقد كان لافتا عندما استعت إدارة جامعة كولومبيا الشرطة أول مرة (في ١٧ إبريل ٢٠٢٤)، أن أحد قادة شرطة نيويورك أبدى استغرابه الشديد من هدوء الطلاب، وعدم مقاومتهم الاعتقال، وتساءل: لماذا تم استدعاء الشرطة لمثل هذا التجمع السلمي؟ ومما زاد الموقف وضوحا أن هيئات التدريس في أكثر الجامعات أيدوا موقف طلابهم وساندوهم، وشكلوا في بعضها بأنفسهم سياجا لحماية الطلاب المعتصمين.

في نفس الوقت تدرك الإدارة الأمريكية أن الجامعات هي مراكز المعرفة والتعلم حيث يولد غالبا المفكرون وقادة المستقبل، وإذا كان الصراع مأساويا ومثيرا للجدل مثل حرب غزة، فمن الطبيعي والحتمي أن تتم مناقشته في الجامعات، وأن انحياز الإدارة التام لإسرائيل يجعلها طرفا لا يمكن أن يباشر أو يحكم على صحة النقاش داخل الجامعات.

في الأجواء الساخنة للانتخابات الأمريكية القريبة، قد يلجأ الجمهوريون إلى إحراج الإدارة القائمة وتوريطها، وسط حالة الارتباك التي تسود إدارات الجامعات ومن خلفها إدارة بايدن في كيفية التعامل مع هذه الموجة. فقد ناشد رئيس مجلس النواب مايك جونسون الرئيس بايدن باتخاذ إجراءات، بما في ذلك احتمال إرسال الحرس الوطني، لقمع الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في جامعة كولومبيا وفي الجامعات الأخرى في جميع أنحاء البلاد والتي قال إنها أصبحت عنيفة وخطرة ومعادية للسامية.

وقال جونسون خلال مؤتمر صحفي على درجات مكتبة كولومبيا، حيث تعرض لصيحات الاستهجان والمضايقات من قبل بعض الطلاب: “هناك سلطة تنفيذية ستكون مناسبة”. وأضاف: “إذا لم تتوقف هذه التهديدات، فهناك الوقت المناسب للحرس الوطني. علينا أن نعيد النظام إلى هذه الجامعات”.. الحرس الوطني – في الثقافة الأمريكية – يُستدعى في حالات الطوارئ الكبرى، وكثيرا ما يتصورونه جاهزا في حال تخيل غزو فضائي للعالم، أما استدعاؤه بعصبية لمواجهة طلاب يتظاهرون سلميا داخل الجامعة، فيعكس حالة التشنج في مواجهة هذا “الحدث” ودلالاته، وهو ما يمكن أن يتسبب في فوضى عارمة.

إذا أصرت الإدارة على أن هدفها الوحيد هو إنهاء التظاهرات، فلا يتوقع نجاحها في هذا إلا بكلفة باهظة من الانقسام المجتمعي في بلد يعاني أصلا من استقطاب حاد. أما إذا أصبح لديها نهج أكثر تفكيرًا لتهدئة التوترات وليس مجرد السيطرة على الحشود، فسينبغي عليها ببساطة أن تكف عن اعتبار أحد الطرفين (إسرائيل) على حق، وأن كل طرف آخر على خطأ.

في حالة الوصول إلى صفقة لوقف الحرب – ولو على مراحل – فإن هذا من شأنه أن يقلل من زخم التظاهرات وربما توقفها، ريثما تتطور الأحداث على الأرض.

إن هذه الانتفاضة الطلابية ستترك أثرا تاريخيا كبيرا في المجتمع الأمريكي، وهو يرى شبابا على استعداد للتضحية بمستقبلهم الجامعي من أجل قضية حق، لا علاقة مباشرة لهم بأصحابها.

أما إدارات الجامعات فيتوقع أن يستمر ارتباكها وتخبطها، وستكون مشغولة أكثر باليوم التالي، وليس بالمستقبل. من شواغلها الآنية احتفالات التخرج الوشيكة، وقد بدأت بعض الجامعات في اتخاذ إجراءات استثنائية، فقد أخبرت جامعة ميتشيجان طلابها بقواعد حفلات التخرج المقبلة، ومنها عدم السماح برفع الأعلام واللافتات، مع السماح بالاحتجاجات، لكن في مناطق مخصصة، بعيداً عن أماكن الاحتفال. أمّا جامعة كاليفورنيا، فقد ألغت خطاباً مقرراً لطالب مسلم متفوق في الجامعة، وأعلنت جامعة جنوب كاليفورنيا، ردًا على احتجاجاتها داخل الحرم الجامعي، أنها ألغت حفل التخرج الرئيسي للطلاب، وقالت إنها لم يعد بإمكانها استضافة حفل تخرج يتوقع أن يحضره حوالي 65 ألف طالب وضيوفهم.

إن الحركة الطلابية لها تاريخ طويل اتسم بانطلاقها عند وقوع أزمات تحاصر الأمة، وتميزت دائما بوقوفها ضد القمع والهيمنة. ولعل أبرز تلك الحركات ما وقع في فرنسا عام ١٩٦٨ وأدى إلى إضرابات شاملة وفرار الرئيس (الرمز) شارل ديجول سرا إلى ألمانيا بعد تخوف قادة البلاد من ثورة عارمة. كما ان الحراك الطلابي في مصر في نفس العام ١٩٦٨، احتجاجا على المحاكمات العسكرية الصورية التي تلت الهزيمة المذلة عام ١٩٦٧، ما حدا بالنظام الحاكم آنذاك للتراجع وإعادة محاكمة الضباط المتهمين، وتشكيل وزارة جديدة أغلبها من المدنيين ومعظمهم من أساتذة الجامعات، وقد حدث هذا في وقت كانت تئن فيه مصر من خنق شبه تام للحريات العامة.

وأخيرا، فإن هذه الانتفاضة الطلابية ستترك أثرا تاريخيا كبيرا في المجتمع الأمريكي، وهو يرى شبابا على استعداد للتضحية بمستقبلهم الجامعي من أجل قضية حق، لا علاقة مباشرة لهم بأصحابها. أما إسرائيل التي أنفقت جهودا مضنية لأكثر من سبعين سنة لغرس صورة ذهنية معينة في العقل الغربي، فإذا بها ترى هذه الصورة تتأثر ثم تتغير ثم تتبدل إلى النقيض، للدرجة التي أصبح كثير من الطلبة اليهود في أمريكا يشعرون بالخوف من أن دينهم وتراثهم الذي يفتخرون به، أصبح يُستخدم رخصة للقتل، بل وللإبادة.

 

 

[1] التسجيل الكامل لجلستي الاستماع مع التفريغ النصي لهما هنا: https://www.c-span.org/video/?532147-1/university-presidents-testify-college-campus-antisemitism-part-1

زر الذهاب إلى الأعلى