مقدمة
تعيش الأمة اليوم في حصار ظالم شديد ممتد لأكثر من مائتي عام، في ظروف قاسية وظالمة، مَسَّت جميع جوانب حياتها وأغرقت معالمها في ظلال الاستبداد، إذ تفشّت فيها الأمراض الفكرية والروحية.
هذا الواقع الأليم للأمة والذي يفرض عليها تحدياتٍ كبيرة، يجاوره أمل يجب أن يبقى شعاعًا وهاجًا يُنير طريقها، ويُحرك قلوب المؤمنين نحو المستقبل
لكنَّ هذا الحال لا يعني اليأس أو القعود عن العمل، فحتى في أوقات الشدة والظلم، تبقى الآمال مستمرة ولا بد من السعي لإحياء الأمة، إذ لا ينبغي أن يقتصر الأمر على التكيف مع الواقع بل يجب أن يتعداه إلى صناعة الأمل لإحداث التغيير المطلوب.
الأمل بين معاني اللغة ونصوص الوحي:
هذا الواقع الأليم للأمة والذي يفرض عليها تحدياتٍ كبيرة، يجاوره أمل يجب أن يبقى شعاعًا وهاجًا يُنير طريقها، ويُحرك قلوب المؤمنين نحو المستقبل، ففي ديننا، يُعدُّ الأمل ركيزة أساسية من ركائز العقيدة، فالمؤمن يُدرك أن الله سبحانه وتعالى قادر على تغيير الأحوال، مهما طال الزمن، وأنه لا بد له من التمسك بالأمل في رحمة الله التي لا حدود لها، فلا مكان لليأس في قلب المؤمن، بل يَثبُت على إيمانه ويثق بوعد الله.
ثم يأتي الوعد الإلهي في أحلك الأوقات، حين تنقطع أسباب الدنيا ويشتد الكرب، ليمنح المؤمنين معنى ساميًا للرجاء، إذ يقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]
في اللغة العربية، يُعبَّر عن الأمل بأنه “الرجاء”، هذا ما أثبتته معاجم اللغة ففي مختار الصحاح أ م ل: (الْأَمَلُ) الرَّجَاءُ. ([1]) وفي معجم “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي، يُقال: “أملته آمله، وأملته أؤمله تأميلا” ([2]) ، وهذه الصيغ تشير إلى التمني والرجاء في حدوث شيء مستقبلي، وفي “تاج العروس” للزبيدي، يُعرف الأمل بأنه: “توقع حصول الشيء، وأكثر ما يُستعمل فيما يُستبعد حصوله” ([3]) ، مما يعكس معنى الأمل الذي يرتبط بتوقع تحقق أمر قد يكون بعيدًا أو مستبعدًا.
والمراد من “الأمل” لغة في هذا السياق ليس كونه مجرد أمنية تظل في القلب دون حراك، بل هو توقُّع يتحقق من خلال السعي والجهد، فالأمل باعتباره مفهومًا لغويًّا يشير إلى معنى وجود صعوبة في تحقُّق الأمر، وهو بذلك يدل على ارتباطه بالعمل الذي يؤدي إلى تحقُّقه، وبذلك يصبح الأمل موجهًا نحو الهدف؛ مما يستدعي الجهد والعمل الدؤوب للوصول إلى النتيجة المرجوة التي كانت مستبعدة.
يضفي القرآن الكريم على مفهوم الأمل عمقًا ومعاني سامية ترتبط بحياة المؤمن وتعلُّقه بالله سبحانه وتعالى، إذ لا يكون الأمل في القرآن مجرد شعور عابر، بل رجاء نابع من إيمان راسخ، ومتصل بالطاعات والعمل الصالح، يقول الله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]، إن الأمل الصادق هو ما يقوم على العمل الصالح الذي يرجو ويأمل صاحبه النجاة يوم القيامة، وما يُبذل فيه من طاعات تبقى ثوابًا خالدًا عند الله، لا يزول ولا ينقطع، فالأمل الحق إذن، ليس أمنية دون سعي، بل جهدٌ في الخير رجاءً لما عند الله.
ثم يأتي الوعد الإلهي في أحلك الأوقات، حين تنقطع أسباب الدنيا ويشتد الكرب، ليمنح المؤمنين معنى ساميًا للرجاء، إذ يقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وهنا يتجلى الأمل بالله عند الشدة، فيتوجه المضطر إلى ربه بقلب منيب، راجيًا رحمته وكشف البلاء، فيستجيب الله، ويكشف السوء عمَّن توكَّل عليه ولجأ إليه، ليعلم المؤمن أن الأمل الحقَّ لا يكون إلا بربِّه، حين تنقطع الأسباب وتنغلق الأبواب؛ تلك إحدى معاني الأمل المهمة في القرآن التي يكتسبها العبد بأن يكون أمله بالله لا بالأسباب المادية مهما عظم شأنها.
ويتجسد في قصة يعقوب عليه السلام أسمى معاني الأمل بالله، إذ يقول لأبنائه في أوج شدته: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87]، فيعلِّمنا القرآن في هذا الموضع، أن الأمل لا ينقطع مهما تزايدت الشدائد، وأن رحمة الله قريبة من عباده المؤمنين، وأن من يعرف الله ويوقن بوعده لا ييأس من فرجه، فكان رجاء يعقوب بالله سببًا في أن جمع الله له شمله وأعاد له يوسف عليه السلام، ليصبح صبره وأمله عنوانًا على عاقبة اليقين بالله وحسن الظن به.
في هذه الآيات كلها نجد كيف يجعل القرآن من الأمل سراجًا للمؤمنين يضيء لهم، يعينهم على الصبر على ما يُرضي الله، ليكون الأمل في الله عملا وابتغاءً لما عنده من فضل ورحمة مرجوة في الدنيا والآخرة.
وفي أحداث غزوة أحد شاهد، حينما أصاب المسلمين ما أصابهم من جراح وخسائر، فجاءت آيات الله في القرآن الكريم لتُثبّت قلوب المؤمنين وتبث الأمل في نفوسهم، إذ نهى الله تعالى عن الوهن والحزن، وأمرهم بالثبات وبأن يرفعوا رؤوسهم عاليًا لأنهم هم الأعلون بإيمانهم بالله، يقول الله تعالى في هذا السياق: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، في هذه الآية يتجلّى المعنى العميق للرجاء الربّاني، إذ يذكّر الله المؤمنين بأنّ عزّتهم وعلوّهم مرتبطان بإيمانهم، مما يجعل الأمل في نصر الله جزءًا لا يتجزأ من معركتهم.
وفي موضع آخر، يحثّ الله المؤمنين على التمسك بقوتهم وعدم الضعف، حتى وإن دعاهم الأعداء إلى السلام الموهوم، يقول تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، هذه الآية تأتي لتغرس في قلوبهم اليقين بأنّ الله لن يضيع أعمالهم، وأنّ ثباتهم على الحقّ هو سبيلهم للنصر والعلو.
إن الأمل كان قيمة محورية في الإسلام، مبثوث كذلك في كلام علماء الأمة، فقد اعتبروه دافعًا مهمًّا للإنتاج وحافزًا للاستمرار والتعمير في الحياة.
كما جاء الوحي مبشّرًا بأن الله ناصر للمؤمنين، وموضّحًا لهم أن الكافرين سيولّون الأدبار إن التزموا بطريق الجهاد والصبر، يقول تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ۞ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 22-23]، في هذه الآيات وعدٌ من الله بأنّ الذين يقفون في وجه الباطل وينصرون دينه سيرون أعداءهم يتراجعون، فالنصر نتيجة لسنة الله التي لا تتبدّل.
وهكذا، نجد أن القرآن يركّز على رفع الروح المعنوية للمؤمنين ويعزز في نفوسهم الثقة بأن النصر هو حليف أهل الحق بالأمل والصبر، وهذه الآيات، بجانب كونها دلائل على صدق نبوة المصطفى ﷺ، فهي كذلك تحفيزٌ ورفعٌ للهمم، وتذكيرٌ بأنّ الأمل بالله أساس كلّ ثبات وعزيمة، وأن من يسير في سبيل الله لن يُخذل.
في السنة النبوية، يبرز دور الرسول ﷺ في زرع الأمل وتقوية العزيمة لدى الصحابة، خاصةً في الأوقات الصعبة وأثناء الحروب، ففي غزوة الخندق، حين اشتد الكرب على المسلمين وتضاعفت التحديات، بشّرهم رسول الله بفتح فارس والشام واليمن، مما أعطاهم أملًا كبيرًا برغم قلة الزاد وشدة الصعوبات، وأكد لهم أن الفرج والنصر قريب.
وقد قال النبي ﷺ أيضًا: “فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ” ([4]) ، مما يدل على أن التفاؤل والأمل في الخير ركائز أساسية في التصدي للشدائد، ومن نماذج بثه ﷺ للأمل ما جاء في حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، حين شكا الصحابة ما يلاقونه من أذى، فأخبرهم النبي ﷺ بمواقف المؤمنين السابقين الذين صبروا على أشدّ أنواع التعذيب، مؤكداً لهم أن الله سيُتمّ هذا الدين، وأن الأمان سيعمّ على المسلمين، لكنهم استعجلوا النصر، فقال لهم: “ولكنكم تستعجلون”. ([5])
إن الأمل كان قيمة محورية في الإسلام، مبثوث كذلك في كلام علماء الأمة، فقد اعتبروه دافعًا مهمًّا للإنتاج وحافزًا للاستمرار والتعمير في الحياة.
قال الإمام ابن حجر رحمه الله في بيان سر الأمل: “لولا الأمل ما تهنّى أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا” ([6]) ، مبينًا بذلك أن الأمل ضروري لاستمرار الحياة وتحقيق التوازن بين أعمال الدنيا والاستعداد للآخرة، مع التحذير من الإفراط فيه والانغماس فيه على حساب العبادة والاستعداد للقاء الله تعالى.
أما الماوردي رحمه الله، فقد اعتبر الأمل نعمة من الله سبحانه، وسرًّا من أسرار عمارة الأرض؛ فقال: “أرفق الله تعالى خلقه باتساع الآمال حتى عُمّر به الدنيا، فعمَّ صلاحها وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن“([7]) .
دور العلماء في زرع القوة الإيمانية في النفوس:
على العلماء في كل عصر أن يعوا حجم دورهم في إشعال جذوة الإيمان في قلوب الأمة، وأن يبتعدوا عن الصمت حين يكون الحق في موضع الحاجة، وألا يكونوا مصدرًا للتثبيط أو توهين صف المؤمنين
إن دور العلماء في رفع المعنويات الإيمانية عظيمٌ ومسؤوليتهم جسيمة، فهم يحملون ترياقًا معنويًّا يخترق القلوب ويغذيها بنور الثقة واليقين، فمتى ما اجتمعت كلماتهم الصادقة مع العلم الراسخ والتوجيه النبوي، دبّت في النفوس طمأنينةٌ تتجاوز جميع التحديات.
ابن تيمية -رحمه الله- خير مثالٍ على هذا، فقد أشعل جذوة العزيمة في صدور المسلمين زمن اجتياح التتار، حيث نزل مع الجنود، يذكرهم بآيات الجهاد، ويبثّ فيهم أملًا محكمًا بوعد الله، ويمكّنهم من فهم أن النصر نتيجة قوة إيمانهم وصبرهم لا كثرة عددهم.
ولم يكن ابن تيمية ليكتفي بالجنود فقط، بل كان يقف أمام السلاطين والأمراء، داعيًا إياهم إلى الشجاعة والإقدام بغير وجل، مخاطبًا إياهم بخطاب يعزز مسؤوليتهم عن الأمة، ويزرع فيهم روح القيادة الربانية فقد قال للناصر ابن قلاوون حين تردد في القتال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايتها أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه. ([8])
إن العلماء، حين يتخلّون عن مداهنة السلطان ويصدعون بكلمة الحق، يكونون منارات تهتدي بها الأمة، وسواعد تذكي روح العزّة وتزيل غشاوة الوهن.
لذا، على العلماء في كل عصر أن يعوا حجم دورهم في إشعال جذوة الإيمان في قلوب الأمة، وأن يبتعدوا عن الصمت حين يكون الحق في موضع الحاجة، وألا يكونوا مصدرًا للتثبيط أو توهين صف المؤمنين، إنهم بحملهم هذا السلاح المعنوي يشكلون دعامة لا تُكسر أمام طغيان الظلم وفتن الحياة، وعندها، تتجدَّد الهمم، ويعود للأمة مجدها بإذن الله، ليكونوا بذلك أملًا حاضرًا في الأمة يسدّ عجز السلاح ويقهر الجبابرة بتثبيتٍ رباني يستلهم روح القرآن والسنة.
من صفحات التاريخ: أمة تمرض ولا تموت:
التاريخ شاهد حي على أن أمتنا، رغم ما يصيبها من وهنٍ وكسور، لا تموت؛ بل تتعافى وتعود أقوى، وهذه الحقائق تتجلى في قصص من المحن التي اعتصرت الأمة لكنها لم تقصم ظهرها، ففي حقب عديدة، واجهت الأمة الإسلامية تحديات طاحنة كادت أن تمحو وجودها، لكنها كانت تخرج منها صلبة عزيزة.
أحد أبرز هذه الأحداث تمثّل في اجتياح التتار وهي كارثة لا مثيل لها في وحشيتها، وقد عبّر المؤرخ الكبير ابن الأثير عن عمق هذه الكارثة قائلاً: “إن العالم منذ خلق الله آدم وإلى الآن لم يُبتلَ بمثلها” ([9]) ، ورغم أن ابن الأثير شهد فقط بداية هذا الهجوم المدمر، إلا أنه لم يدرك أن ما سيأتي بعدها سيكون أشد كارثية، عندما اجتاح هولاكو خان بغداد عام 656 هـ (1258 م) وأحرقها وأمعن في القتل حتى صارت شوارع بغداد مليئة بالجثث، وتحدث المؤرخون عن مذبحة ربما تجاوز عدد ضحاياها المليونين، مما خلّف أجواء من الذعر والرعب سادت الأمة.
إلا أن هذه الهزيمة لم تكن نهاية الأمة، إذ ما لبثت أن عادت روح المقاومة والإيمان، وانتصرت جحافل المسلمين في معركة عين جالوت عام 1260 م بقيادة السلطان سيف الدين قطز، وقد كسر المسلمون في هذه المعركة شوكة التتار لأول مرة، وانقلبت الموازين، واستعادت للأمة قوتها وأملها، وأحيت فيها إيمانها بأن الله معهم، وأن النصر حليف من يصبر ويثبت.
وعلى مر العصور، أثبت التاريخ أن الأمة تمرض، تضعف، تذرف الدموع، لكنها لا تموت، بل تعود بحزمٍ أكبر وعزيمةٍ أمضى.
بين الرجاء والتمني:
قال ابن القيم رحمه الله: “والفرق بين الرجاء وبين التمنِّي أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد. والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل”. ([10])
الرجاء لا يتحقق إلا من خلال العمل الجاد والنية الصادقة في السعي نحو تحقيق المراد، بخلاف التمني الذي لا يعدو أن يكون تصورًا عقليًّا بعيدًا عن الواقع
ومن هذا الكلام يتبين أن الرجاء ليس مجرد أمنية أو خيال، بل هو أمل مصحوب بالسعي والعمل الجاد، مع التوكل على الله، أما التمني، فهو شوق في القلب لا يصحبه عمل، بل غالبًا ما يكون مجرد أمنية مستحيلة لا تترافق مع خطوات عملية.
وقد ورد في القرآن الكريم شواهد تدل على هذا المعنى، من بينها قوله تعالى في سورة النساء: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) [النساء: 73]، حيث يظهر التمني على لسان الذين ضيعوا فرصة الإيمان بالله والجهاد مع رسوله، وندموا على ما فات من الغنيمة، وكذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27]، إذ منها يظهر أن أناسًا كانوا في الدنيا يرفضون الإيمان ويكذبون بالآيات، لكنهم حينما رأوا عاقبة أعمالهم يوم القيامة تمنى كل واحد منهم أن يعود ليؤمن ويعمل صالحًا.
والعلماء صرحوا في نصوصهم بأن الرجاء “أمل مصحوب بعمل” بينما التمني “وهم”. ([11])
والمعنى أن الرجاء لا يتحقق إلا من خلال العمل الجاد والنية الصادقة في السعي نحو تحقيق المراد، بخلاف التمني الذي لا يعدو أن يكون تصورًا عقليًّا بعيدًا عن الواقع، فالرجاء إذًا هو الأمل الذي يحرك العبد نحو العمل والاجتهاد في مساره، ويظل معلقًا على توكل صادق على الله عزَّ وجلَّ، بينما التمني هو ما يقع فيه من لا يتحرك نحو هدفه، بل يقف مكتوف اليدين يتمنى ما لا يتحقق من دون سبب.
انشر الأمل ولا تصدر الأوهام:
فرق كبير بين بث روح اﻷمل والطمأنينة في نفوس المسلمين في مواطن المحن، وبين نشر الإشاعات وبيع الأوهام والأحلام الكاذبة.
إن بثّ روح الأمل في النفوس وتثبيتها في مواقف الشدة جزء أصيل من توجيهات النبي ﷺ، وهو مبدأ قائم على اليقين بوعد الله تعالى والنصر القريب للمؤمنين، وفي السيرة النبوية نجد النبي ﷺ، يُذكّر أصحابه ويثبّت قلوبهم بكلمات تحمل معاني الثقة بالله وتفتح آفاق الأمل، حتى في أصعب الظروف.
أحد هذه المواقف هو ما قاله النبي ﷺ، حينما اشتدت عليهم ضغوط قريش في مكة، وقال له بكل ثقة: “والله ليُتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه” ([12]) ؛ فكان حديثه إشارةً إلى أن الإسلام سينتشر ويعم الأمان.
وأيضًا في حادثة الهجرة النبوية، عندما اشتدّ الخطر عليه وعلى أبي بكر، رضي الله عنه، قال لأبي بكر بكل طمأنينة: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟” ([13]) هذا التوكل الراسخ لم يكن إلا يقينًا برعاية الله، وكان يتحدث عن النصر والفتح رغم قساوة الواقع.
وكذلك في غزوة الأحزاب، حينما كانت المدينة محاصرة وكان المسلمون يعيشون ظروفًا عصيبة، وأبلغهم النبي ﷺ بأنه أُعطي مفاتيح الشام وفارس واليمن، فكان بذلك يُعيد لأصحابه الأمل ويجدد فيهم العزم، ويظهر هذا التوجه في سنة الأنبياء السابقين كذلك، مثلما ردّ سيدنا موسى _عليه السلام_ على قومه حين شعروا بالخوف من جيش فرعون قائلاً: “{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}” [الشعراء: 62]، فهذه الكلمات لم تكن سوى تأكيد على أن الأمل لا ينفصل عن الإيمان وأنه منبع للصمود والثبات، بعيدًا عن بيع الأوهام الخادعة.
في المقابل، هناك من ينشر الأكاذيب والإشاعات التي تزرع الوهم وتبعد الناس عن الحقيقة، ومن ذلك ما جاء عن انتشار خبر كاذب بين المسلمين المهاجرين في الحبشة بأن قريشًا قد أسلمت، فعاد بعضهم إلى مكة ليكتشفوا أن الأمر لم يكن صحيحًا، تحملوا مشقة الطريق، وعند عودتهم، وقعوا في قبضة المشركين وتعرضوا للتعذيب، الكذب هنا جاء على هيئة أملٍ زائف لا أصل له، فانقلب ضررًا على من صدّقه.
من هنا، تتضح خطورة الأخبار الكاذبة التي تزرع آمالًا واهية، فالشرع والعقل يذمّان نشر الوهم والإشاعات، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، ويدعونا هذا إلى ضرورة التثبت من الأخبار وعدم الانجراف وراء الشائعات.
ففي التجربة الشيوعية، التي رفعت شعار كارل ماركس: “كلٌّ حسب طاقته، كلٌّ حسب حاجته”، نجد أن النظام فرض نمطًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا قاسيًّا قتل التنافس، وطمس طموحات الأفراد
في هذا السياق، تتجلى محاولات الشيطان لبث الشك وتغيير قناعات الناس تجاه شرع الله، من خلال تحوير الحقائق وتزيين الباطل، ففي قصة سيدنا آدم، نرى كيف أوهم الشيطان آدم وزوجه بأن النهي عن الشجرة كان بغرض منعهما من الوصول إلى مرتبة الملائكة أو الخلود، قائلاً: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، ومضى الشيطان إلى قسمه بصدق دعوته: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، ليثير في نفس آدم وزوجه أوهامًا غير حقيقية للوصول إلى مُلكٍ زائف لم يكن في بادئ الأمر من طموحاتهما، وهو درس بليغ للأمة عن خطورة الوهم على مستقبلها.
الإسلام وصناعة الأمل مقابل المذاهب الأخرى:
امتاز تصور الإسلام في صناعة الأمل وتكريسه في قلوب أتباعه بكونه نهجًا إلهيًّا يزرع الأمل بثقة راسخة ويستمدها من الإيمان بقدرة الله وتدبيره الحكيم للكون، مقارنة بكثير من الفلسفات الأخرى التي عانت من الإفلاس الروحي والمعنوي.
ففي التجربة الشيوعية، التي رفعت شعار كارل ماركس: “كلٌّ حسب طاقته، كلٌّ حسب حاجته”، نجد أن النظام فرض نمطًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا قاسيًّا قتل التنافس، وطمس طموحات الأفراد، ليحيلهم في نهاية المطاف إلى كائنات تلهث وراء سدّ الرمق فقط، وهذا الإفلاس ترك المجتمعات بلا أفق، تحيا يومها من دون حلمٍ لمستقبل مشرق أو طموح إلى تحسين واقعها.
كذلك الحال في أوروبا الحديثة الرأسمالية مع تصاعد التوحش المالي والخواء الروحي، فقدت الحياة معناها، حتى باتت أزمة الانتحار إحدى القضايا المقلقة التي تعكس فراغًا روحيًّا ومأساة اجتماعية، إذ تشير الإحصاءات إلى أن نحو عشرة آلاف شخص يقدمون على إنهاء حياتهم بأنفسهم سنويًّا في ألمانيا وحدها، بما يعكس عمق الأزمة النفسية التي يمر بها هذا المجتمع، بل إن الأمر بلغ حدَّ إجازة الانتحار بواسطة “كبسولة انتحار” في سويسرا، باعتبارها وسيلة طبية تُتيح إنهاء الحياة بطريقة يُقال إنها غير مؤلمة.
وعلى خلاف هذه الفلسفات، يرسخ الإسلام في نفوس المؤمنين أن الأمل حياة الروح ووقود السعي، ويحثّ على الطموح والتطلع بوعي إلى مستقبل يحمل الخير، فكان الدين قوّة دفعٍ روحية تمكّن الأمة من مواجهة التحديات والصعاب بأمل وثقة وصبر راسخ، فحياة الصحابة كانت مليئة بالتحديات غير أن رسول الله رباهم على حسن التعامل معها، قال ﷺ: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله – عزَّ وجلَّ – إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط“. ([14])
لا أمل لمن لا صبر له:
إن الصبر هو ركيزة أساسية إيمانية في الإسلام، فهو ليس مجرد تحمُّل للمشاق بل هو عبادة تربط القلب بالله وتُضيء طريق المؤمنين إلى النجاح والفلاح، كما قال تعالى: “وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ” [النحل: 127]، فقد أمر الله بالصبر ونبّه إلى أن العون والقوة فيه إنما يكونان بتوفيق من الله، فالمؤمن يستمد صبره من اتصاله بالله واعتماده عليه، وهذا يعزز لديه قوة الرجاء.
وقد جاء القرآن بالنهي عن الاستعجال الذي يُضعف الأمل في تحقيق النصر والنجاح، كما في قوله تعالى: “وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ” [الأحقاف: 46]، وهذا النهي عن الاستعجال يُعلّم المؤمنين أن المبالغة في التسرع قد تقود إلى الجزع، وهي عكس الصبر الذي يبعث فيهم الأمل المستمد من الثقة بالله وحسن التدبير.
وقد ربط القرآن بين الصبر والفلاح في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [آل عمران: 200]، ليؤكد على أهمية الصبر باعتباره شرطًا للفلاح، فلا يتحقق الأمل دون أن يتحلى المؤمن بالصبر، فهو القوة الدافعة التي تُبقيه على طريق الثبات.
ومن أعظم البشائر أن الله يمنح الصابرين أجرًا عظيمًا يتجاوز ما يمنحه لغيرهم، فقد قال تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر: 10]، والصبر هنا هو ما يقوي الأمل في قلوب المؤمنين، فينتظرون الفرج والرحمة من الله دون أن ينهزموا أمام مشقات الحياة.
والسنة أيضًا دلت على ذلك، قال النبي ﷺ: “ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر”. ([15])
يشغل الأمل في الفكر الإسلامي السياسي موقعًا جوهريًّا، إذ يُعدِّه من الدعائم الأساسية التي ينبغي للدولة أن تزرعها في نفوس رعاياها، ويعتبره إحدى وظائفها الاستراتيجية التي لا يجوز التغافل عنها أو التقصير فيها
فالصبر وطلب التوفيق من الله تعالى هو طريق المؤمنين إلى الثبات والعزيمة، فـكلمة “يتصبر” هنا تعني أن المؤمن يبذل جهدًا لتعويد نفسه على الصبر، ويبحث عن توفيق الله في تحمُّل مشاق الحياة وابتلاءاتها.
وهكذا، فإن الأمل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصبر؛ فلا أمل لمن لا صبر له، فالصبر زاد الأمل، كلما قوي الصبر وثبت المؤمن على البلاء، تجدد الأمل واقترب الفرج.
موانع الصبر المحطِّمة للأمل:
التحلي بالصبر هو مفتاح الأمل والتفاؤل والرجاء في حياة المؤمن، لكنه قد يُواجه موانع تُثقل قلبه وتُعطِّل مسيرته، ونستعرض هنا أبرز هذه الموانع:
1. الغضب:
الغضب قد يُعيق الصبر، خاصة عندما يرى الداعية أو المؤمن صعوبة في تقبل الآخرين لنصحه أو توجيهه، فيغضب، إلا أن الأمل أن يعود أحدهم إلى الحق لا بد أن يكون حاضرًا نفسه، ظهر هذا المعنى في قوله تعالى: “فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ” [القلم: 48-50]، يُذكر الله نبيه ﷺ بعدم فقدان الأمل والصبر على ما يلقاه من صدود وإعراض.
2.شدة الحزن والضيق:
الحزن الناتج عن صعوبات الطريق والمكائد التي تواجه المؤمن قد يؤثر سلبًا على أمله، وقد نُهي عن ذلك في قوله تعالى: “وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ” [النحل: 127]، هكذا يبعث في قلب المؤمن الراحة، لأن معية الله ترافق الصابرين، مما يخفف الضيق ويُضيء درب المؤمنين في كل وقت.
3.اليأس:
اليأس هو عدو الأمل ومثبط الصبر، فالمؤمن يسعى دائمًا إلى رؤية ثمرة جهوده، ولكن إذا ما غلبه اليأس، فقد يتراجع عن العمل الصالح، وقد دعا القرآن إلى تجنب اليأس، مشيرًا إلى أن الأيام تتداول بين الناس، فقال الله تعالى: “وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ” [آل عمران: 140]، فهذه الآية تدعو المؤمن إلى تجديد أمله دومًا، فالتمسك بالأمل وتذكر وعود الله لأوليائه يعيد للمؤمن صبره على البلاء ويقربه من الفرج.
إن الموانع التي تعترض طريق الصبر تعد عقبات تقف أمام تحقيق الأمل والتقدم، فهي تُضعف العزيمة وتثقل القلب، لذا، من الضروري التنبه لخطورتها وتجاوزها بالصبر والإيمان بحكمة الله في تدبير الأمور.
صناعة الأمل في الفكر السياسي الإسلامي:
يشغل الأمل في الفكر الإسلامي السياسي موقعًا جوهريًّا، إذ يُعدِّه من الدعائم الأساسية التي ينبغي للدولة أن تزرعها في نفوس رعاياها، ويعتبره إحدى وظائفها الاستراتيجية التي لا يجوز التغافل عنها أو التقصير فيها، وقد أشار إلى هذا المفهوم الفقيه الإسلامي “الماوردي”، فقد أكد أن ازدهار المجتمع وارتقاءه يتطلب توفير ستة أسس: الدين المتبع، السلطان القاهر، العدل الشامل، الأمن العام، الخصب الدائم، والأمل الفسيح ([16]) .
“الأمل الفسيح” هنا يعني أن على الدولة أن تقدم رؤية مشجعة للمستقبل، تطمئن من خلالها الجماهير وتغرس في نفوسهم رجاء الغد المشرق المحمل بالخيرات والنماء، إذ إن الأمل يزود الأفراد بطاقة تساعدهم على تحمل الصعاب ومواجهة التحديات، مما يولد فيهم دافعًا للاستمرار في مواجهة الصعاب، ولا يقوم بهذه الصناعة إلا زعماء ذوو نفوس كريمة ورؤية بعيدة، ممن يدركون أن الأمل يستند إلى ثوابت العقيدة التي ترسخ الكرامة والعزة، وهو ليس مجرد رضًى بالقائم، بل دعوة مستمرة للسعي نحو الأفضل، في ظل تطلع نحو مستقبل يتناغم مع القيم الإسلامية وأهداف الشريعة السمحة.
إن صناعة الأمل استراتيجية سياسية تعدّ من أهم وسائل بناء الأمة المتماسكة القادرة على مواجهة التحديات، إذ يشكل الأمل نواة للإرادة الجماعية، فعندما تُزرع بذور الأمل، يتسنى للناس توحيد جهودهم لتجاوز المحن والانطلاق نحو مستقبل مشرق.
وفي الفكر الإسلامي، يتجاوز الأمل باعتباره قوة بناء المستوى الفردي ليصبح مسؤولية مجتمعية وسياسية، فيصبح الأمل قوة دافعة نحو التغيير المنشود.
صناعة الأمل: بين غزوة الخندق وصمود غزة:
وقعت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، حيث تحالفت قريش وغطفان مع يهود بني النضير لمهاجمة المسلمين، في تلك الغزوة كانت الغاية هي استئصال المسلمين وتدمير دولتهم الفتية، فالتحالفات بين قريش وغطفان واليهود لم تهدف إلى إضعاف المسلمين أو نهب ثروتهم لكن للخلاص منهم، لكن صمود المسلمين ووحدتهم، بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، أفشلت هذه المحاولة، وفي سياقنا المعاصر، نشهد اليوم بوضوح تحالفات اليهود ودول الغرب المعتدية ضد أمتنا خاصة على أرض فلسطين، وهو ما يتطلب منا استحضار هذا الدرس في ظل الحرب الطاحنة التي نعيشها في وجه القوى المتآمرة على مقدساتنا.
المقابلة بين ثبات الصحابة وتثبيط المنافقين:
في هذه الغزوة ظهرت معادن الناس الحقيقية، فكان المؤمنون كالجبل الراسخ، لم تهزهم ريح العدوان ولا زمجرة الجيوش، بل استقبلوا الابتلاء بثبات وإيمان عميق، مردِّدين في يقين: “هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله”، أما المنافقون، فكانوا على النقيض تمامًا، يتسللون بالكلام المسموم، مُشكِّكين بوعد الله قائلين: “ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا”، هكذا كانت المعركة أكثر من مجرد قتال؛ إنها ميدان لاختبار الصدق والوفاء تحت ضغط الزلزلة، هذه المواقف المتباينة كشفت معدن المؤمنين الصادقين مقابل مرضى القلوب، لأن الابتلاء يفرز أهل الثبات من أهل التردد.
وهذا ما نلمحه الآن في محنة غزة اليوم، بين طائفتين: طائفة ثابرت على الصمود والإيمان بقضيتها العادلة، وأخرى وهن عزمها تحت وطأة المحن، تُثبط الصفوف وتنشر الوهن بقولها: “ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا“، وبينما تمتحن غزة عزائم الأمة، تبقى المواقف شاهدة على الفرق بين ثبات أصحاب الحق وتخاذل أصحاب القلوب المريضة.
حتى باتت بعض الأصوات المرتجفة تتساءل: لماذا خاضت المقاومة معركة “طوفان الأقصى”؟ وكأنهم يستنكرون على أصحاب الحق الدفاع عن كرامتهم ومقدساتهم، هذا الارتباك في الطرح يكشف عن غياب البصيرة واندثار روح النصرة، بينما تبقى المقاومة شاهدة على معاني الصدق والثبات، تقف كالسد المنيع في وجه الاحتلال ومخططاته، لتعيد للأمة روح الأمل والعزة التي كادت تُفقد.
تحالف الأعداء وخذلان الجيران ليسا جديدين على معارك الحق؛ ففي تلك الغزوة، اجتمع الوثنيون من قريش وغطفان وفزارة، ومرة وأشجع، مع يهود بني قريظة، ليحيطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وفي مواجهة هذا الحصار القاسي، أبدى الصحابة أعظم صور الصبر بعد أن امتلكهم الجوع، حتى أن جابرًا رضي الله عنه قال: “وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا” ([17]) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربط حجرين على بطنه من شدة الجوع ([18]) ، ومثل ذلك نراه في غزة، حيث الحصار والجوع، ليعلمنا تاريخ الإسلام أن دعم صمودهم فرض متعين.
وتعلمنا السيرة المطهرة كذلك درسًا آخر عن التفاوض والصلح، فعندما اشتدّ البلاء في غزوة الأحزاب، رفض الصحابة وعلى رأسهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة المصالحة مع غطفان على ثلث ثمار المدينة لتخفيف الحصار، فأشارا بالثبات والرفض، ففرح لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وتهلّل وجه تأكيدًا على عزيمته.
واليوم، تشهد غزة ثبات المقاومة أمام ضغوط المفاوضات الأمريكية وصلف الاحتلال لإجبارها على الاستسلام، مؤكدين أن الكرامة لا تُباع مهما اشتدت الأزمات، مستلهمين من دروس السيرة أعظم صور الصمود والعزة.
اجتماع الأحزاب ختام المرحلة الدفاعية:
كانت غزوة الأحزاب علامة فارقة ختمت بها المرحلة الدفاعية في بناء الدولة الإسلامية، وافتتحت مرحلة جديدة تتسم بالهجوم والمبادرة، لقد كانت امتحانًا عظيمًا للمؤمنين، تجلّى فيه اليقين الراسخ بوعد الله ورسوله، كما في قول الله تعالى: “وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ” [الأحزاب: 22]، والمؤمنون بهذا الثبات استحقوا التأهيل لقيادة أمة مستعدة للتحديات القادمة، فكان الإيمان والتوكل على الله وقودًا لانتصارات لاحقة، ومثل هذا المآل هو ما نستشرفه اليوم في غزة، وهي تقاوم الحصار والتحالفات، ثابتة أمام أعاصير الأعداء، تكتب بدمائها صفحة جديدة من صفحات الصعود الحضاري للأمة وتضع المقاومة اسمها في سجل الثبات والجهاد.
الأمل في مواجهة العدوان: قضية غزة نموذجًا:
في خضم العدوان والحصار الذي تتعرض له غزة، تمثل روح الأمل التي يحملها أهل غزة والمقاومة الإسلامية شكلًا من أشكال الجهاد والصمود، وفي هذا السياق، فإن الأمل يُعدُّ وقودًا يدفع المقاومين للثبات في ميادين العزة، إذ يواجهون قوى الظلم والاحتلال بقلوب يملؤها اليقين بوعد الله، وفي قوله تعالى: “إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” [محمد: 7]، دعوة واضحة لتحقيق النصر من خلال الثبات.
إن هذه الثقة بأمر الله ووعده عززت من عزيمة المقاومة وظهرت خلال صمودها، وأضفت معنويات عالية على قلوب الشعب الفلسطيني، فالأمل أصبح زادًا يستمد منه الأطفال والشيوخ والشباب قدرتهم على تحمل المصاعب، وبالأمل يتغذى المجتمع الفلسطيني المقاوم، فيأخذ الجميع زادًا يوميًّا يمدهم بالطاقة لمواجهة الاحتلال، ويقودهم إلى رؤية طريق التحرير، ويحفزهم على مواصلة هذا الصمود.
كيف نحافظ على الأمل في زمن التحديات؟
- 1. التعلق بالله والإيمان بقدره: قوة الأمل تنبع من تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى والرضا بقضائه، فتزداد النفس قوة وثباتًا لمواجهة المصاعب، مطمئنة بأن كل ما يحدث هو بيده وحده، بهذا التوجه، يصبح الإيمان مصدر طمأنينة وأمل لا ينقطع، وركيزة متينة لصنع التفاؤل والاستمرار في العطاء.
- 2. تحديد الأهداف بواقعية: صنع الأمل يتحقق أيضًا من خلال امتلاك أهداف واضحة وموزعة على مراحل، فالنجاحات الصغيرة المتتابعة ترفع الروح المعنوية، وتدفعنا لمواصلة الجهد والصبر حتى نصل إلى الهدف الأكبر.
- 3. الأخذ بالأسباب العلمية: كما تتطلب صناعة الأمل الالتزام بقوانين الكون وحكمة الترتيب الإلهي في الحياة، فمن خلال الدراسة والتحليل واتخاذ القرارات بناءً على المنطق والعلم، نستطيع تجاوز العقبات والوصول إلى نتائج إيجابية.
حتى في أشد الظروف سوادًا، يظل الأمل متمثلًا في يقيننا بالله وبأنه سيأتي بالفرج بعد الشدة، فرغم الصعاب، نستمد قوتنا من الله عزَّ وجلَّ مستلهمين ومستحضرين سيرة أمتنا ومواقفها التاريخية العظيمة، بدءًا من معارك “حطين” و”عين جالوت”، وحتى أمثلة البطولة المعاصرة كأطفال فلسطين ونسائها وأبطال مقاومتها، فلا بد من اليقين بأن النصر والفرج آتيان، وأن التضحيات ليست عبثًا بل تمهيد لنصر مأمول، وفتح قادم.
ختامًا:
تُعد صناعة الأمل أحد أهم أركان النهضة والبناء في التصور الإسلامي، وليست مجرد وسيلة لتحفيز الهمم فقط، بل أداة سياسية واجتماعية تستند إلى قيم راسخة تنبع من الإيمان بالله والاعتصام بحبله المتين، فالأمل، في هذا السياق، ليس مجرد طموح فردي، بل رؤية استراتيجية تحتاجها الأمة لإعادة بناء نفسها على أسس قوية وراسخة، فالأمل هو ذاك الضوء المنبثق في أعماق الظلام؛ يُنير للناس طريقهم، ويغذي نفوسهم بالصبر والعزم، ويرفع عنهم عبء اليأس والقنوط في أوقات المحن، وعند مشارف الابتلاءات الكبرى، يكون الأمل ملاذ الأمة، كما كان عبر تاريخها الطويل، فالأمل يجعل المستحيل ممكنًا.
واليوم، إذ تعيش الأمة في ظل العدوان والأزمات، يبقى نشر الأمل واجبًا على كل مصلح، يحمل رسالته بين الشعوب، ويشعل جذوة الأمل في النفوس، ويفتح الآفاق لرؤية المستقبل بروح متوقدة.
نسأل الله أن يثبت أقدامنا وأهلنا في غزة، ويجعل من الأمل دربًا نسير عليه، ونورًا نستضيء به، وبشرى لكل من أعياهم السعي.
[1]– مختار الصحاح للرازي، (1/21)
[2]– العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، (8/ 347).
[3]– تاج العروس ، لأبي الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، (28/ 26).
[4]-متفق عليه.
[5]-رواه البخاري.
[6]– ابن حجر، فتح الباري (11/237).
[7]– الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص144
[8]– البداية والنهاية ابن كثير -ج 17 – الصفحة 735.
[9]-الكامل في التاريخ – ابن الأثير – ج ١٢ – الصفحة ٣٥٨.
[10]– مدارج السالكين، للإمام ابن القيم.
[11]– انظر “حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك” (1/399).
[12]– رواه البخاري.
[13]– متفق عليه.
[14]-أخرجه الترمذي، وابن ماجه وحسنه الشيخ الألباني في هداية الرواة.
[15]– رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[16]– الأحكام السلطانية – الماوردي.
[17]– رواه البخاري (3792).
[18]– الترمذي: (2371).