حدث ورؤية

التقارب المصري الإيراني: لماذا الآن؟!

 

مقدمة:

في خطوة دبلوماسية ذات دلالات على المشهد السياسي الراهن، قام عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني وأحد أبرز وجوه الدبلوماسية الإيرانية، بزيارة إلى مصر، عقد خلالها سلسلة اجتماعات رسمية، وذلك ضمن جولة تهدف إلى استكشاف حدود التقارب الممكنة بين القاهرة وطهران في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة.

ما يلفت النظر أن الزيارة – كما كشف رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية في مصر، محمد حسين سلطاني فرد – قد جاءت بدعوة رسمية من الجانب المصري، وتحديدًا من وزير الخارجية.

هذا المعطى الدبلوماسي الحساس يطرح تساؤلات جوهرية حول الدوافع الحقيقية لهذا الانفتاح المصري المفاجئ على طهران، ومدى ارتباطه بحالة الجفاء أو التجاهل التي تُبديها عواصم خليجية وواشنطن تجاه القاهرة في الآونة الأخيرة، سواء على مستوى الدور الإقليمي أو حتى الاقتصادي.

فهل تحمل هذه الدعوة المصرية دلالة على انفتاح تكتيكي لإعادة التوازن في العلاقات الإقليمية؟ أم أنها رسالة اعتراض ناعمة موجهة إلى الأطراف التي تسعى لإقصاء القاهرة من معادلات المنطقة وإعادة هندسة خريطتها الجيوسياسية؟! لا سيما أن العلاقات المصرية الإيرانية مقطوعة رسميًّا منذ أكثر من 46 عامًا، ما يجعل أي لقاء بهذا المستوى مؤشرًا سياسيًّا لا يمكن اعتباره عابرًا.

بجانب ذلك تبرز محاولة الولايات المتحدة فرض نموذج جديد للتموضع الإقليمي، يتناغم مع الأجندة الصهيونية ويُعاد هندسته عمليًّا ليخدم مصالحها على حساب مراكز الثقل التقليدية في المنطقة، ويبدو أن هذا النموذج يمنح الأولوية لعواصم خليجية تحوّلت إلى أدوات مباشرة في صناعة القرار الإقليمي، فيما تُدفع القاهرة نحو الهامش.

توقيت صعب!

هذه الزيارة تأتي في ظرف إقليمي دقيق لكلا الطرفين، حيث تمر القاهرة بمرحلة من العزلة النسبية، وقد تراجعت مكانتها التقليدية كلاعب عربي محوري، لاسيما مع توتر علاقاتها أو برودها مع أبرز شركائها الخليجيين؛ وعلى رأسهم السعودية، فضلًا عن العلاقات الفاترة مع واشنطن، التي لم تعد تتعامل مع مصر بوصفها ركيزة في هندسة الأمن الإقليمي، بل كحليف ثانوي في ملفات بعينها، كذلك تواجه مصر ضغوطًا غير مباشرة من الاحتلال الإسرائيلي في ملفات حساسة كغزة، حيث أزيحت نسبيًّا من مقعد الوسيط الحصري لحساب وسطاء جدد كقطر والولايات المتحدة وحتى تركيا.

أما، إيران فهي الأخرى تُواجه تحديات على أكثر من جبهة، إذ تتعرض لضغوط أمريكية متصاعدة في ملفها النووي، في وقت تتكثف فيه التهديدات العسكرية الصهيونية بعمل عسكري استباقي، ومع انشغال إيران في إدارة صراعات النفوذ في العراق ولبنان وسورية، تجد نفسها بحاجة إلى منفذ عربي جديد لا يحمل الخصومة المذهبية التي تطبع علاقتها مع الرياض، ولا التنافسية التي تميز علاقتها مع أنقرة. من هنا، تبدو القاهرة – برغم خلافات الماضي – شريكًا محتملًا في تخفيف الضغط السياسي، ووسيطًا قد يُقبل دوليًّا في لحظات التأزم.

توقيت اللقاء بين عراقجي ومسؤولي الدولة المصرية، متزامنًا مع وجود المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة، يحمل مؤشرات رمزية تشير إلى رغبة مصرية – ولو محسوبة – في إعادة تقديم القاهرة كلاعب إقليمي من بوابة الملف الإيراني النووي، وهو ملف بالغ الأهمية ومفتاحي في توازنات المنطقة.

مناورة سياسية غير مجدية:

برغم الزخم الظاهري للزيارة، فإن تقديرات واقعية لمآلاتها لا توحي بإمكانية إحداث اختراق كبير في جدار العلاقات المصرية الإيرانية، فالمعادلات الحاكمة للقرار المصري، داخليًّا وخارجيًّا، ما زالت تدار تحت سقف أميركي– خليجي، خاصة من قبل السعودية والإمارات، اللتين لعبتا دورًا محوريًّا في تثبيت نظام السيسي، وفرضتا عليه التزامات إقليمية يصعب تجاوزها، ولو من باب المبادرة التكتيكية، وعليه، فإن أي تقارب مع طهران سيبقى – على الأرجح – محدودًا، ومضبوطًا على إيقاع ما تسمح به واشنطن، أو ما لا يغضب الرعاة!

في عام 2022، التقى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بعبد الفتاح السيسي على هامش قمة “بغداد – 2” التي استضافتها الأردن، وقد وصفت الخارجية الإيرانية اللقاء بأنه “إيجابي ومقتضب”، وأكد المتحدث باسمها ناصر كنعاني أن العلاقات الثنائية بين البلدين تسير في إطار المصالح المشتركة، مشيرًا إلى عدم وجود عقبات أمام استمرار الحوار.

ورغم هذه اللقاءات والتصريحات الإيجابية، لم يُسجل أي تطور ملموس في العلاقات بين البلدين حتى خلال الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني، مما يشير إلى أن هذه اللقاءات لا تحقق تقدمًا حقيقيًّا في تغيير واقع فقد مصر لأدواتها الفاعلة لصالح الخليج.

على الجانب الآخر فإن وجود دوافع أمنية واقتصادية مباشرة، يُملي على القاهرة طرق أبواب إيران ولو بحذر، ومنها – على وجه الخصوص – الرغبة المصرية في تأمين خطوط الملاحة الحيوية في البحر الأحمر، بعد أن تضررت قناة السويس بشدة جراء هجمات الحوثيين – الحلفاء المباشرين لطهران – على السفن الغربية والإسرائيلية، مما يجعل القاهرة مضطرة لبحث تفاهمات ولو غير معلنة مع من يملك خيوط هذه الهجمات.

غير أن هذا التفاهم غير المباشر مع الحوثيين، عبر البوابة الإيرانية، لا يُعدّ على هوى السعودية، التي تنظر بعين الريبة لأي تقارب مصري إيراني قد يُفضي إلى إعادة تموضع إقليمي يخلّ بنفوذها التقليدي في المنطقة، فالمملكة قد ترى في هذه التحركات المصرية نوعًا من المناورة السياسية، لدفعها نحو مراجعة سياساتها الباردة تجاه مصر، سواء في ملف المساعدات الاقتصادية أو في ملف النفوذ داخل الإقليم، بعبارة أخرى، فإن مصر تحاول عبر هذا التقارب مع طهران أن تلوّح بورقة “البدائل”، لدفع السعودية إلى تحسين شروط التعامل معها، أو على الأقل التوقف عن تحجيم دورها الإقليمي ضمن ترتيبات الخليج – واشنطن – تل أبيب!

لكن على نحو كبير تبدو هذه المناورة السياسية غير مجدية في جوهرها، لأن السعودية – واقعًا – لا تزال تملك كثيرًا من خيوط التحكم في بنية النظام المصري، سواء عبر الدعم المالي المباشر أو النفوذ الإقليمي الذي يستند إليه النظام لتثبيت شرعيته، ولذا، فإن أي تحرك مصري خارج هذا المدار، وخصوصًا نحو إيران، قد يُقرأ كمحاولة ضغط ضعيفة، تفتقر إلى أوراق القوة الحقيقية.

وتتسق مع هذه المناورة خطوة أخرى تحمل دلالة رمزية، تمثلت في الطعن القانوني الذي قُدِّم أمام المحاكم المصرية ضد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتي نصَّت عام 2016 على تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى الرياض، ورغم أن الطعن يأتي بصيغة قانونية، إلا أنه يُقرأ ضمن سياق سياسي أشمل، باعتباره أحد تجليات الضيق المصري الصامت من تصاعد التجاهل السعودي، ويُضاف إلى سلسلة إشارات تعكس توترًا غير معلن في العلاقة بين القاهرة وبعض العواصم الخليجية.

وتزداد دلالات هذه الخطوة أهمية في ضوء التقارير التي تشير إلى عرض سعودي لاستضافة قاعدة عسكرية أمريكية على الجزيرتين، بما يكشف عن قلق من تآكل السيادة المصرية.

وفي هذا السياق ورغم الحرص الظاهري على تصدير مشهد تحالف مستقر، إلا إن وقائع المشهد، وتحركات الأطراف، تشي بأن هناك إعادة هندسة ناعمة للنفوذ الإقليمي، تُبقي مصر في موقع المتلقي، وتُضعف من قدرتها على التأثير، لتتحول من شريك مركزي إلى تابعٍ ضمني، لا يملك إلا أن يعبّر عن اعتراضه بمناورات محدودة الأثر.

وفي نهاية المطاف، تبقى هذه المناكفات – سواء عبر الانفتاح على طهران أو الطعن على اتفاقيات قديمة – مجرد تعبيرات باهتة عن أزمة إفلاس مصرية سياسية متفاقمة، في ظل هيمنة سعودية ناعمة تتجاوز القاهرة في الملفات الكبرى، بينما تتآكل أدوار مصر الإقليمية بمرور الوقت.

طهران: سعي جديد لكسر العزلة:  

تتجلى خلفيات الزيارة الإيرانية للقاهرة في رغبة طهران في كسر دائرة العزلة الإقليمية المتفاقمة حولها، خاصة في ظل تصاعد الضغط الأميركي–الإسرائيلي، وتراجع نفوذها النسبي في الساحات الحيوية كسورية ولبنان، وفي لحظة إقليمية معقدة، تمثل مصر – بثقلها الرمزي وموقعها الجيوسياسي – فرصة استراتيجية لإيران لاختراق جدار الطوق الخليجي الموالي للغرب، وإعادة تموضعها كفاعل في المنطقة، لا مجرد قوة محاصَرة.

زيارة عراقجي تمثل – في هذا السياق – جس نبض سياسي، تسعى من خلاله طهران إلى اختبار حدود الانفتاح المصري ومدى استعداد القاهرة للانفتاح – ولو جزئيًّا – رغم الوصاية الخليجية والأميركية، خصوصًا في ظل تدهور العلاقات المصرية مع الحليف الأميركي على خلفية ملف غزة والضغوط بشأن التهجير القسري، فضلًا عن شعور مصري متزايد بالتهميش من قبل السعودية والإمارات اللتين باتتا تعيدان رسم خرائط النفوذ دون اكتراث بمصالح القاهرة.

تستفيد إيران أيضًا من فوضى التحولات الجارية في بنية الإقليم، وتسعى لاستغلال تشققات محور واشنطن– تل أبيب– الرياض عبر بناء علاقات محسوبة مع قوى عربية لطالما كانت خصومًا، لكنها لم تعد ترى في إيران تهديدًا مباشرًا، بقدر ما ترى في السلوك الخليجي والتموضع الإسرائيلي ضغطًا متصاعدًا.

في الجوهر، تحاول إيران أن تقول: إن عزلها الكامل لم يعد ممكنًا، وإن الانكفاء الخليجي عن مصر قد يصنع فراغًا لدى القاهرة، وهي جاهزة لملئه بهدوء.

خاتمة:

رغم ما أحاط زيارة عراقجي للقاهرة من زخم إعلامي ورسائل دبلوماسية ضمنية، إلا أن المؤشرات كافة تدفع للاعتقاد بأنها لن تسفر عن جديد يُذكر في المشهد الإقليمي، فالقاهرة لا تزال واقعة تحت سقف تحالفات استراتيجية تتحكم بها واشنطن وتل أبيب وعواصم الخليج، وهي تحالفات تُضيّق هوامش المناورة، وتجعل من أي تقارب مع طهران خطوة محكومة بسقف منخفض ومجردة من الأدوات الفاعلة.

ولم تحمل الزيارة في جوهرها أي تحوّل نوعي؛ فلا اتفاقات رسمية وُقّعت، ولا تمثيل دبلوماسي رُفع، ولا خطوات فاعلة تُشير إلى تشارك سياسي جديد، في لقاء لم يتجاوز حدود اللقاءات الاستكشافية والمواقف العامة، بما يؤكد أن الخطوة رمزية أكثر منها استراتيجية.

أما إيران، فليست في وضع يمكنها من صياغة تحالفات جديدة، وهي تحت ضغط داخلي وخارجي خانق، وتخسر تباعًا مواقع نفوذها في محيطها العربي، وتسعى إلى كسر عزلتها لا إلى بناء محاور متينة.

وهكذا، تبقى الزيارة في إطارها الواقعي مجرد حراك دبلوماسي ومناورة سياسية، لا تغيّر من توازنات المنطقة شيئًا، ولا تُحرّك مياه العلاقات المصرية الإيرانية الراكدة، بقدر ما تعكس اضطراب اللحظة الإقليمية وسعي القاهرة لإعادة تموضعها من أجل دفع العواصم الخليجية إلى مراجعة أسلوب تعاطيها معها ضمن معادلات النفوذ والشراكة والدعم الاقتصادي!

 

زر الذهاب إلى الأعلى