محاولة اغتيال قادة “حماس” في الدوحة.. قراءة في الدلالات والتداعيات

سياق الحدث:
في سابقة غير معهودة، أقدمت “إسرائيل” على شنّ غارة جوية استهدفت اجتماعًا قياديًّا لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في العاصمة القطرية الدوحة، ورغم أنّ الضربة لم تحقق هدفها المباشر المتمثل في اغتيال قادة مبرزين، إلا أنّها شكّلت حدثًا مفصليًّا في مسار الصراع، إذ امتد لأول مرة إلى دولة خليجية تُعتبر الحاضن السياسي والدبلوماسي الأبرز للمفاوضات الخاصة بين الطرفين.
الروايات تعددت حول أسباب فشل الضربة، ويمكن تلخيص ملابساتها فيما يلي:
1-بعض التقارير أشارت إلى أنّ الولايات المتحدة أبلغت قطر مسبقًا، إلا أنّ الحكومة القطرية سارعت إلى نفي هذه المزاعم، معتبرة أنّه لا أساس لها من الصحة لأنها أبُلغت بعد حدوث الهجوم.
2-من غير المنطقي الافتراض بأنّ قيادات “حماس” كانت ستبقي أبناءها مثل أسامة خليل الحية، في مكان مستهدف إن كانت قد تلقت أي إشعار قبل الهجوم.
3-هذا يُرجّح أنَّ الحركة كانت يقظة أمنيًّا، واعتمدت إجراءات احترازية حالت دون وقوع خسائر كبيرة في القيادات.
إنّ قراءة هذا الحدث لا تقتصر على بُعده العسكري، بل تمتد إلى أبعاد أعمق تتعلق بالعلاقات الأميركية–الإسرائيلية_ الخليجية، وبمفهوم الوساطة والمفاوضات، وبالبنية الأمنية للخليج العربي، إضافة إلى حالة الأزمة البنيوية التي تمر بها “إسرائيل” نفسها.
أولًا: الغدر الأميركي وراء الضربة في الدوحة:
كشفت الضربة في الدوحة وجهًا آخر من وجوه الخداع الأميركي، فقد كان الاجتماع القيادي لـ”حماس” عقب تقديم مقترح أميركي لبحث وقف إطلاق النار في غزة، ما يعني عقد اجتماع لمناقشته، ومن ثم يستهدف القصف هذا الاجتماع، مما يوحي بأنَّ المقترح الأمريكي لم يكن بريئًا، بل لعله كان غطاءً أمنيًّا أتاح لـ”إسرائيل” فرصة الاستهداف.
وليس الكذب الأميركي حادثة جديدة، بل أصبح نهجاً سياسياً ثابتاً يخدم المصالح الإسرائيلية ويكشف كيف يتحول الخطاب الأميركي إلى أداة تضليل، تُخدر الخصوم بالوعود الدبلوماسية بينما تُهيّأ الأرضية لعمليات عسكرية تخدم المشروع الإسرائيلي.
الأدهى من ذلك الغدر، أنّ القواعد العسكرية الأميركية في قطر، بما تحويه من منظومات دفاع متطورة، لم تتحرك لصد الهجوم، إذ إنَّ مسار الطائرات الإسرائيلية كان مرصودًا منذ لحظة الإقلاع، ومع ذلك لم تُفعَّل أي أنظمة اعتراض، وهذا الصمت لا يمكن تفسيره بالصدفة أو الإهمال، بل هو تواطؤ وتغاضٍ صريح متعمد، من هنا، يصبح الموقف الأميركي جزءًا من العملية نفسها، عبر تعطيل أدوات الحماية التي يُفترض أن تضمن أمن حلفائها والتي تُعدُّ قطر واحدة من أهمهم في منطقة الخليج!
وهو ما يعيد النقاش حول حجم الانكشاف الأمني في دول الخليج، الذي ظهر جليًا مع هذه الضربة، كاشفًا هشاشة البنية الدفاعية وارتهانها العميق للمظلة الأميركية، وما يترتب على ذلك من تبعية استراتيجية تجعل القرار الأمني مرهونًا بعوامل خارجية أكثر من اعتماده على القدرات الذاتية.
إن هذا الحدث أظهر بوضوح أنّ هذه التبعية ليست فقط عجزًا عن الاستقلال، بل قد تتحول إلى نقطة ضعف مكشوفة تستخدمها واشنطن أو تغض الطرف عنها في لحظات حرجة.
ثانيًّا: عربدة “إسرائيل” تتجاوز الخطوط الحمراء“:
الهجوم على الدوحة هو في الحقيقة مثال صارخ على منطق الغطرسة الصهيونية حين يغيب الردع، فإن “إسرائيل” تصرفت من موقع الفوقية المطلقة، مهددة حتى الآن سبع دول عربية، ومبتزة لتلك الدول بلا تردد، حتى في ظل الوجود الأميركي والذي على ما يبدو متواطئ حتى النخاع، كما أن إسرائيل قد وجدت في الصمت الدولي والعربي مظلة كافية لممارسة تلك العربدة.
إن هذا السلوك يؤكد أنّها لا تعترف بالحدود السياسية القائمة، بل ترى نفسها فوق الجميع، تتحرك بلا محاسبة، مستبطنة حلم إسرائيل الكبرى، ومنطق العربدة هذا لا يقتصر على استهداف خصومها التقليديين من الدول العربية في ساحات الصراع المفتوحة، كلبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن، بل امتد إلى عمق الخليج، وهو ما لا يمكن عزله عن الصورة الكلية، حيث تعمل الولايات المتحدة حاليًا على كسر قواعد النظام الدولي وإعادة تشكيله بما يخدم مصالحها، بينما تتدثّر إسرائيل بهذا الغطاء لتوسيع نفوذها وتكريس حضورها العدواني، في تزاوج واضح بين القوة الأميركية والإفلات الإسرائيلي من المحاسبة، على حساب استقرار المنطقة وحقوق شعوبها.
ثالثًا: زوال جدوى المفاوضات والتطبيع:
الرسالة الإسرائيلية لم تقتصر على توجيه ضربة عسكرية، بل كانت موجهة أيضًا إلى مسار المفاوضات نفسه، فأن يستهدف وفد تفاوضي داخل عاصمة آمنة حليفة لأمريكا، فهذا ينسف أي معنى للوساطة أو للحوار، لم تسقط المفاوضات وحدها، بل انهارت معها السردية التي بُنيت عليها موجة التطبيع الأخيرة: أنّ السلام مع “إسرائيل” سيجلب الاستقرار والأمن.
فالأنظمة التي بشّرت شعوبها بأنّ الانخراط مع “إسرائيل” سيحقق الاستقرار، تجد نفسها اليوم أمام وقائع مغايرة: لا دولة عربية محصّنة، سواء كانت لها علاقات بإسرائيل أو كانت بعيدة عنها، فالحماية لا تأتي من التفاهمات مع قوة احتلال، بل من قدرة الردع الفعلية التي تحمي سيادة واستقرار الدولة.
لقد كانت الرسالة صريحة: التطبيع والمهادنة لن تحميكم، والوساطات غير قادرة على ردع الغارات، الاستقرار لا يُشترى بالاتفاقيات وتقديم الولاء، بل يُفرض بالقدرة على المواجهة.
رابعًا: استباحة الأمن العربي:
إن الهجوم الذي تعرضت له قطر يفتح الباب أمام تساؤلات حول هشاشة أمن الخليج، ومدى قدرة أنظمته على الصمود أمام مخاطر تتجاوز القدرات الأمنية التقليدية للأنظمة الحاكمة، وتتضاعف خطورة هذه المخاطر في ظل هيمنة التسليح الأميركي على معظم تلك الجيوش، حيث يرتكز اعتمادها على المنظومات الأميركية دون تنويع لمصادر التسليح مع دول أخرى مثل الصين وتركيا والتي يمكن أن تشكل بديلاً أمنياً مناسباً للخليج، سواء عبر نقل التكنولوجيا أو إبرام شراكات عسكرية استراتيجية.
الأمر لا يقتصر على الخليج وحده، إذ إن تداعياتها تنسحب بالضرورة على المشهد العربي الأوسع، وتأتي مصر في مقدمة الدول المرشحة للتأثر المباشر، ليس فقط بوصفها دولة مركزية في معادلات الأمن في الإقليم، بل أيضًا باعتبارها الساحة الأكثر عرضة للاستهداف ضمن مشاريع التهجير القسري للفلسطينيين، حيث يطرح فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين نحو سيناء، هذه الفرضية، التي طالما اعتُبرت “مستبعدة”، لنجد في استباحة الأراضي القطرية مؤشرًا عمليًّا على أنّ أي دولة عربية لم تعد خارج الحسابات الإسرائيلية، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام سؤال خطير: من القادم بعد الدول السبع – لبنان وسوريا والعراق واليمن وتونس وقطر وإيران – في قائمة الاستهداف الإسرائيلي؟
تركيا أيضًا مطالبة بأن ترفع مستوى الحذر والانتباه في هذه المرحلة، إذ بات واضحًا أنّ “إسرائيل” لم تعد تأبه بأي اعتبارات سيادية أو سياسية عندما ترى أنّ الاستهداف يحقق مصلحة استراتيجية لها، فقد أثبتت التجربة العملية أنّها على استعداد لتوسيع مسرح عملياتها ليشمل أي طرف إقليمي يُظهر دعمًا للمقاومة أو يسعى إلى تقويض استراتيجياتها التوسعية.
وفي هذا السياق، يكتسب الموقف التركي أبعادًا إضافية، لا سيما في ظل ما تبديه أنقرة من حضور متزايد في الملف السوري، حيث تتقاطع حدود سوريا مع فلسطين المحتلة وتشكل ساحة تماس أمني حساس بالنسبة لإسرائيل.
إنّ أي دعم تركي مباشر أو غير مباشر لصمود الدولة السورية، أو لأي قوى مقاومة تنشط على تخوم تلك الحدود، سيُقرأ في تل أبيب باعتباره تحديًّا صريحًا لمصالحها الأمنية، وهو ما قد يضع تركيا نفسها ضمن بنك أهداف محتمل في الحسابات المستقبلية لإسرائيل.
خامسًا: “إسرائيل” في مأزق بنيوي:
رغم هذا الاستعراض المفرط للقوة، تمرّ “إسرائيل” بمرحلة تراجع وربما تفكك متوالٍ، إذ إنّ حرب غزة التي طالت لم تأت بنصر حاسم، بل كانت في جوهرها محاولة لتأجيل الأسئلة البنيوية التي يواجهها الداخل الإسرائيلي، فالأزمة الداخلية تتجلى أولًا في الانقسام الحاد حول القيادة السياسية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يلاحقه منذ سنوات ملف قضائي متشعب يتضمن اتهامات بالفساد، والرشوة وغير ذلك من التهم، وهو ما أفقده شرعية سياسية واسعة في الداخل، هذا الصراع القضائي والسياسي انعكس على الشارع الإسرائيلي على هيئة انقسام بين تيار موالٍ يرى في استمرار الحرب وسيلة لبقاء نتنياهو في الحكم، وآخر يعتبر أنّ التورط في احتلال غزة بالكامل سيكون كارثة استراتيجية تهدد وجود إسرائيل نفسه.
على الصعيد الخارجي، فإنّ تصدع تعاطف الشعوب الغربية مع إسرائيل بات أوضح من أي وقت مضى، فالمظاهرات التي اجتاحت عواصم أوروبية وأمريكية كبرى أظهرت فجوة عميقة بين مواقف الحكومات الرسمية الداعمة لتل أبيب، والرأي العام الغربي الذي يتابع صور المجازر في غزة يوميًّا، مما يضع ضغوطًا متزايدة على المؤسسات السياسية والإعلامية الغربية التي لم تعد قادرة على تسويق الرواية الإسرائيلية التقليدية عن “الدفاع عن النفس”، وهو ما يفاقم عزلة إسرائيل المعنوية ويُضعف قدرتها على الحفاظ على صورتها المزعومة في الغرب كدولة في حالة دفاع !!
أما على المستوى العسكري–الأمني، تبدو “إسرائيل” عالقة في مستنقع استنزاف غير مسبوق، فجيشها، الذي طالما قُدّم باعتباره الأقوى في المنطقة، يواجه في غزة حرب استنزاف تُفقده القدرة على الحسم السريع وتكبّده خسائر بشرية ومادية متواصلة، ورغم امتلاكه أحدث منظومات التسليح والدعم الغربي غير المحدود، فإنّه يجد نفسه عاجزًا أمام مقاومة محلية وشعبية منظمة نجحت في إدارة المعركة بأسلوب يربك الجيش ويكسر صورة الردع التي بُنيت لعقود.
لذلك كله تحاول إسرائيل معالجة أزماتها البنيوية بالهروب إلى الأمام، عبر تصعيد العنف وتوسيع دائرة العدوان، ظنًّا منها أنّ القوة المفرطة قادرة على ستر التصدعات الداخلية وكبح التآكل المتسارع في صورتها أمام العالم، لكن هذا المسار، مهما بلغ من شراسة في القمع أو من تطرف، يظل مسارًا قصير النفس، سيعمّق الأزمات ولا يحلّها لأنه مسار هروبي أمام أزمات بنيوية حقيقية.
وهنا تبرز المقاومة كعامل حاسم، فهي القادرة على فرض ردع واقعي، وإبقاء الاحتلال في حالة استنزاف دائم، ما يعمّق مأزقه الاستراتيجي ويحد من قدرته على فرض إملاءاته السياسية والعسكرية في المنطقة.
في هذا السياق تبرز أهمية أن تتحرك المقاومة بقدر عالٍ من البراعة السياسية، في ظل خيارات محدودة وحرجة؛ بدءًا من حسم مسألة بقاء قيادتها السياسية في الدوحة، وصولًا إلى خياراتها الميدانية التي تتطلب توازناً دقيقاً بين الاستنزاف المتواصل للاحتلال والحفاظ على الحاضنة الشعبية المنهكة من الحرب.
خاتمة:
الهجوم على الدوحة في جوهره محطة تكشف عددًا من الحقائق الاستراتيجية:
انكشاف الخداع الأميركي في الوساطة، سقوط وهم المفاوضات والتطبيع، اهتزاز منظومات الأمن الخليجية، وغطرسة “إسرائيل” التي تتغذى من غياب الردع، لكنه في المقابل أعاد إبراز الدور المحوري للمقاومة كفاعل وحيد قادر على موازنة ميزان القوى.
إن العالم العربي اليوم أمام لحظة حرجة صعبة، فالمعادلة لم تعد محصورة بين غزة وتل أبيب، بل اتسعت لتشمل الخليج ومصر وربما تركيا، وهذا يعني أنّ الاستباحة باتت شاملة، وأن أي حسابات للأمن لا يمكن أن تصمد على غير أساس واقعي: فلا ضمانة تأتي من واشنطن، ولا استقرار يولد من التطبيع، ولا حماية تتحقق إلا من خلال منظومات ردع مستقلة.
إنّ ما بعد استهداف الدوحة لن يكون كما قبله، فالمشهد الإقليمي دخل مرحلة جديدة، ولم تعد حسابات “الخطوط الحمراء” قائمة كما كانت، ليصبح من الواضح أن مقاومة الاحتلال لم تعد خيارًا يمكن الاستغناء عنه، بل ضرورة استراتيجية ضد الاستباحة الشاملة والعدوان الإسرائيلي الذي لا يعترف إلا بالقوة.