الدعوة للإصلاح بين “محمد علي” والشباب المتدين
أثار المقاول “محمد علي” بفتحه لكثير من ملفات الفساد ضجة كبيرة على مستويات متعددة، ولكن ما قام به استدعى في الأذهان سؤالًا مهمًا عن دور الشباب المتدين خاصة في مقاومة الفساد ومحاربته، هل يسعى لمكافحة الفساد والفاسدين؟ أم أنه ما يزال يعد هذا شيئًا سياسيًا بحتًا لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد؟ وأن الدين عبارة عن شعائر تعبدية ظاهرة وأذكار وصلوات وزهد وعزوف عن الحياة يريح القلب والعقل من هموم الدنيا؟
قبل مناقشة أسئلة هذا المقال قد يطرح القارئ سؤالًا: لماذا توجيه هذه الأسئلة للشباب المتدين بالخصوص؟
الجواب أن الشباب المتدين هو أهم المخاطَبين بالإصلاح والقضاء على الفساد ومحاربته، فهو في أوج قوته وفي مرحلة ذهبية من عمره لن تتكرر مرة أخرى، توفَر له فيها النشاط والحركة والفاعلية، مع ما رزقه الله من فهم صحيح لحقيقة الدنيا وأهمية الدين والتدين وعبادة الله سبحانه وتعالى وتعمير الكون، وهذان العاملان يجعلانه في مقدمة الصفوف وأولى من غيره في تصدر الجموع وقيادة مسيرة الإصلاح وخدمة أهله وشعبه، والدفاع عنهم إزاء أي سعي لتقويض كرامتهم وهناء عيشهم أو إذلالهم واستعبادهم.
فالله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان مكرمًا “ولقد كرمنا بني آدم”، وكل من يسعى للحط من هذه الكرامة بإفقار الناس وظلمهم في معيشتهم وسرقة قوتهم لإلهائهم وإضعاف قدرتهم والاستعلاء عليهم، فهو يسلب الإنسان نعمة حباه الله بها، وصفة أصيلة بل وحقاً للإنسان أيًا كان دينه أو لونه أو جنسه أو بلده، فكيف يبيت الشاب المسلم بهناء وراحة بال وهو يعلم أن جاره في نفس الوطن قد بات جوعانًا؟ وهنا حديث خطير لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به”.
فلا يؤمن برسول الله الإيمان الكامل من يشبع وجاره جائع، فكيف لو كان جاره يُعذب؟ أو يُسجن ظلمًا؟ أو يُعتدى عليه؟ أو يأكل من القمامة؟ أو ينام مريضًا على الأرض في مستشفى حكومي؟ أو يُهان يوميًا في موصلات مزدحمة وطرق لا آدمية وهو ذاهب للعمل؟ أو يتعلم في مدرسة متهالكة يتكدس في فصولها الطلاب مع تعليم متدنٍ وتجهيل متعمد؟… إلخ
فهل يسعى الشباب المتدين السعي الكافي لمعالجة ذلك؟ هل يفعل ما بوسعه لمقاومة الفاسدين والظالمين؟ أم يكتفي بدور المشاهدة لما يحدث على الساحة ويعد ذلك صراعًا سياسيًا لا دور له فيه؟
الحقيقة أن ما يحدث ليس معركة سياسية وإن كانت أطراف لا يهمها إلا مصلحتها الفردية دائما ما توجد وتكون حاضرة في المشهد بل وتحركه وفق ما تهوى، ولكن هذا لا ينفي كونها “معركة كرامة” يخوضها الشعب للحصول على حقوقه التي كفلها له الله سبحانه وتعالى، والتي من أجلها أمر الإسلام بـ”الحكم بما أنزل الله”، إنه المفهوم الحقيقي للحكم بما أنزل الله من تعاليم سامية تكفل إقامة الحق والعدل بين الناس وتلاحق الفساد والظلم والقائمين عليهما، وتضمن المعيشة الكريمة لكل طبقات الشعب، وتُحمل الحكام مسؤولية المريض والفقير والعاجز ورخاء جميع فئات الشعب دون تفرقة أو تمييز، وتجعل الناس سواسية لا أسياد وعبيد، فالسعي إذن لمحاربة الفساد والظلم والمرض والفقر والجهل هو نفسه سعي لإقامة الحكم بما أنزل الله تعالى!
فالوعي بطبيعة المعركة الدائرة الآن مهم للغاية، نحن أمام نخبة متجبرة تتألف من ضباط كبار فسدة وقضاة ظلمة وإعلاميين ورجال أعمال خونة، لا تتعدى هذه النخبة النصف بالمائة من الشعب ومع ذلك تتمتع بكافة الامتيازات وتعيش عيشة الملوك، وباقي الشعب بما فيهم العساكر المجندون والضباط العاديون يكافحون من أجل قوت يومهم، ويعانون من بطش هؤلاء ويعيشون كالعبيد لهذا النصف بالمائة الذي يتعامل مع الشعب بتكبر وعنجهية.
هل هذا يرضى به الله سبحانه وتعالى؟ هل هذا من المعروف الذي يحبه المولى عز وجل؟ وإن كان الجواب “لا” وأنه منكر لا يحبه الله، أليس من مسؤولية الشباب المتدين أن ينكر المنكر ويأمر بالمعروف؟
لقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الدور بل بمعنى أصح “الواجب”، وتوعّد الناس إذا لم يأخذوا على أيدي الظالم فقال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم”. رواه الترمذي وحسنه.
ولعل ما فعله بنو إسرائيل وما حدث لهم خير نموذج لواقعنا والخطر الذي يحدق بنا، فقد قص رسول الله ما فعلوه فقال: “إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ – إلى قوله – فاسِقُونَ [المائدة: 78-81]
ثم قال رسول الله: “كلا والله، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرًا، ولتقصرنّه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم”. رواه أبو داود والترمذي.
والقارئ للقرآن الكريم يتوقف مرات عديدة عند مواضع تحذر بشدة من الإفساد والفساد وتحث وتأمر بالإصلاح والصلاح، كما أنه يشد انتباهه الحديث المتكرر عن عاقبة الظلم وأن الله عز وجل لا يحب الظالمين، وفي آيات أخرى يأمر الله بالعدل ويقول إنه يحب المقسطين، فهي إذن رسالة واضحة بأن عاقبة الإفساد والظلم وخيمة وأن الإنسان عليه أن يعمل على الضد من ذلك بالإصلاح والعدل حتى يصل إلى أقصى درجة ممكنة من النموذج الذي يريده الله تعالى من عباده، أن يعبدوه لا يشركون به شيئًا وأن يصلحوا ويعمروا الأرض، حتى ولو اقتربت القيامة وفي يد إنسان فسيلة فعليه أن يغرسها على الرغم من عدم استفادة أحد من ثمرها، ولكنها رسالة ومنهج حياة كامل يلخصه الخالق تبارك وتعالى في قوله في كتابه: “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له…”.
ومن جانب آخر حث الوحي على إيجابية وفاعلية المسلم وبيّن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلّق خيرية هذه الأمة على قيامها بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الإصلاح ومواجهة الفساد) إضافة إلى إيمانها بالله، وذلك في قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”. فهذه الأمة إذن تفقد خيريتها إذا تركت المفسدين والظالمين يدمرون الإنسان والأرض بأفعالهم، فضلاً عن أن يكونوا من هؤلاء أو أن يشاركوهم ولو بكلمة في سعيهم لإفساد الأرض أو ظلم الإنسان.
وهنا تتجلى أهمية وقيمة الجهاد في سبيل الله بمعناه الواسع، بدءا من الكلمة الطيبة وانتهاء بالقوة الخشنة؛ فهو يمثل حالة الرفض التي يجب أن يكون عليها المسلم، حالة الرفض لكل ظالم وفاسد مهما كانت دعواه وشعاراته؛ فالمسلم في عملية مقاومة متواصلة يضمن بها عدم اختلال نظام الكون بسبب الظلم الذي يرتكبه ضعفاء النفوس وأصحاب الأهواء من بني آدم، فالعدل أساس الملك، والله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يداها”. متفق عليه.
فينبغي أن يستحضر ويدرك الشباب المتدين قبل غيره أن للظلم وتأييده والسكوت عنه عواقب وخيمة على الفرد والأسرة والمجتمع كله، ومغبة الظلم وتأييده سيئة في الدنيا قبل الآخرة، فبالظلم تزيد الثارات وتعم الكراهية ويستشري القتل وحب الانتقام والفرقة وفي النهاية كما يقول الله تعالى: (إنه لا يفلح الظالمون)، لا يفلحون في الآخرة كما أنهم في الدنيا لا يفلحون في تثبيت حكمهم مهما طال أمده، ولا يفلحون في تأسيس مجتمع صالح سوي. ويقول الله جل وعلا: “وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون”، دون ذلك: أي قبل موتهم. عقوبة شاملة للقرى الظالمة التي انتشر فيها الظلم وجاهر أهلها بها، التي لا يكاد يسلم منها أحد، بل تعم الصالح. ولقد ذكر الله تبارك وتعالى ما فعله بالقرى الظالمة: “وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين”، وقال: “فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلةٍ وقصر مشيد”.
إن الظلم سبب لإهلاك الأمم، فقد أهلك الله أقواما وقرونا من الناس قبلنا وما زال يهلك الأمم لوجود الظلم في الأرض، فصار هذا الأمر سنة كونية، كلما كثر الظلم والفساد في الأرض نزل الهلاك والعقاب الأليم، قال سبحانه: “وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا”.
وإن الفساد مدمر للبلاد فالمال كما جاء في كتاب الله هو “مال الله”، “وآتوهم من مال الله الذي آتاكم”، والحكام مستأمنون عليه فقط لا أكثر لإيصاله لمستحقيه، فإذا اعتدوا عليه بغير حق كما يحدث الآن في بلادنا يشملهم وعيد النبي عليه الصلاة والسلام القائل: “إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير الحق فلهم النار يوم القيامة”. أخرجه البخاري
فإذا لم يحقق الشباب المتدين إصلاح مجتمعه فعلى الأقل يكون قد أعذر إلى الله عز وجل بأن أدى دوره وشارك في الدعوة إلى الإصلاح، وفي السعي إلى جانب أهله وشعبه لنيل حقوقهم التي منحها الله لهم، فلا يليق بشاب أنعم الله عليه بالهداية إلى الطريق المستقيم أن يكون في مؤخرة الجموع خائفًا على دنيا زائلة وتاركًا غيره يعاني وحده.
فعلى مستوى الواقع ومعرفته لابد أن يحيط الشاب المتدين به ولا يكون منعزلًا وبالتالي لا يعرف ما يدور حوله فضلًا عن أن يتحرك ليتفاعل معه، وعلى مستوى الدعوة لا يمكن أن يغيب عن خطابه الحديث عن حقوق الناس وخطر الفساد والظلم، وعلى مستوى الاحتجاجات والفاعليات المطالبة بالعيش الكريم والمنادية بالإصلاح يجب أن يكون في مقدمة الصفوف يأخذ بزمام المبادرة ويعمل على تثبيت القلوب والتذكير بنبل المقصود، وهكذا في جميع المجالات يحرص على المشاركة كما يوجه إلى ذلك دينه. مع الأخذ في الحسبان أن مسيرة الإصلاح طويلة، وكل مجهود يُبذل في سبيلها سيكون سببًا ولو ضمن آلاف الأسباب في حدوث التغيير ولو بعد حين.