كتبمراجعات

ولاء أكبر: الحقيقة والأكاذيب والزعامة

 

 تأليف: جيمس كومي

جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الذي أقاله ترامب بعد شهور قليلة من توليه الرئاسة، يحاول تبرير القرارات التي أخذها قبل الانتخابات، ويرسم صورة للرئيس لا يمكن أن تكون أكثر بشاعة.

جيمس كومي محامٍ أمريكي وأستاذ جامعي، وُلد عام ١٩٦٠، كان المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، في الفترة ما بين سبتمبر ٢٠١٣ حتى مايو ٢٠١٧.

 

القديس في المستنقع

هناك فرع من فروع أدب العاصمة الأمريكية الهائل يمكن أن نطلق عليه “القديس في المستنقع”. وهو يركز على متاعب رجل صادق كان يخوض في وحل السياسة الأمريكية. بالتأكيد هذا النموذج يتحدث عنه فيلم قديم اسمه “السيد سميث يذهب إلى واشنطن”، بطولة جيمس ستيوارت، في دور الرجل النزيه الوحيد الذي كان يعيش على نهر البوتوماك. هذا النموذج الأصلي يتكرر على مر الزمان. والآن يمكن إضافة مذكرات جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الذي طُرد منذ عام من قِبل دونالد ترامب.

يُعد أصحاب الوجوه الطفولية البريئة إهانة في واشنطن، ولكن كان كومي دائماً يختار لنفسه هذه الصورة، كما أنه أيضاً دائم الفخر بمؤهلاته ومواهبه الشخصية. نقرأ في الكتاب أنه عندما كان كومي شاباً في الجامعة كان الناس ينظرون إلى هذا المحامي الذى يبلغ طوله أكثر من ١٩٠ سم على أنه لاعب كرة سلة، ولكن الحقيقة أنه لم يكن لاعباً في يوم من الأيام، ولم يخبر أحداً بذلك؛ فقد كتب: “كانت كذبة صغيرة وغير مهمة من قِبل طفل غبي، ومع ذلك فهي كذبة”. ولهذا بعد تخرجي من كلية الحقوق أرسلت إلى زملائي أخبرهم بالحقيقة”. ولاحقاً أهدى كومي ربطة عنق إلى مدير الاستخبارات الوطنية أو على الأصح يقول كومي: “أهديته ربطة عنق كان قد أهدانيها صهري؛ فنحن نعد أنفسنا من الناس النزيهة، ولكني أوضح أنها كانت مهداة إليّ”.

وفي إشارة إلى تواضعه وبساطته يقول كومي إنه كان معتاداً على استخدام مقصف الموظفين في مقر مكتب التحقيقات الفيدرالية، ويقول: “لم أتخطَ دوري قط في المقصف، حتى وأنا متعجل”.

يمضي أسلوب الكتاب بشكل استباقي لضمان عدم ترك القارئ يشعر باستياء؛ فيعرض وصف إحساس كومي لو كان قد قلب الانتخابات لصالح ترامب. وفقاً لكل هذا تحذرنا المقدمة من أن المؤلف عانى من عيوب في شخصيته؛ مثل: “العناد، الفخر، الثقة الزائدة بالنفس، والانسياق وراء الأنا”. كما تظهر كلمة “منافق” في أول فقرة من الكتاب.

كل هذه الأخلاق الحميدة يمكن أن تجعل كومي شخصاً تحب صحبته والخروج والتجول معه، لكن الكتاب لا يصلح دليلاً إرشادياً لمهارات القيادة؛ لأنه خلط بين النواحي الشخصية والوظيفية لكومي، ومع ذلك توجد بعض النصائح الإدارية للطامحين في الوظائف القيادية، ونصائح أخرى لإخراج أفضل ما في فريق عملك، لكن هناك على كل حال تساهلاً في وصف أي منصب إداري بأنه “قيادة”.

ولحسن الحظ فإن كومي لديه قصه يحكيها، وهذا من قبل أن نصل إلى فصول كلينتون وترامب، التي جعلت الكتاب فوراً الأكثر مبيعاً.

كانت حياة كومي مليئة بالدراما، عندما كان مراهقاً حُبس هو وشقيقه الأصغر في منزلهما تحت تهديد السلاح من قِبل مغتصب مطلوب، كما فقد هو وزوجته مولوداً بسبب عدوى يمكن الوقاية منها بعد ولادته بتسعة أيام. وتولى كومي في بداية حياته المهنية كمدعٍ عام قضية عائلة (جامبينو) المجرمة وتمكن من هزيمتهم.

ترامب يستدعي ذكريات الطفولة لكومي

ومع ذلك فإن الإغراء قوي لقراءة كل هذا من خلال عدسة ما نعرفه قد حدث بعد ذلك. يدفعنا المؤلف لهذا الاتجاه ونعرف طوال الوقت من الذي يتحدث عنه وهو ترامب بطبيعة الحال، عندما يتذكر بعض ذكريات الطفولة الحزينة ويحلل نفسية البلطجي. هو لا يخاف من جعل هذه العلاقة واضحة. فيحكي أنه كان في عشاء مع ترامب وحدهما في البيت الأبيض، وعندما سئل ليقر بـ ولائه الشخصي يقول كومي إن سؤال ترامب ذكره بقصة عصابة جامبينو (Sammy the Bull) وكأن ترامب يلعب دور كبير العائلة، وسأل كومي إذا كان لديه ما يجعله من رجال المافيا.

ستصبح قراءة الكتاب بالنسبة لكارهي ترامب الليبراليين تجربة متضاربة؛ فكومي في ٢٠١٦ كان بطلاً وشريراً في نفس الوقت؛ فمن ناحية قد أغلق التحقيق في قضية استخدام هيلاري كلينتون لبريد إلكتروني غير آمن، ومن ناحية أخرى أعاد فتحه قبل الانتخابات بأسبوعين فقط؛ فقد أنقذ ترشحها وضيعه في نفس الوقت.

وبناءً على ذلك ستكون الفصول التي تخص هيلاري كلينتون صعبة على أولئك الذين كانوا يأملون أن تصبح أول امرأة تتولى الرئاسة الأمريكية، ولذلك فإن كومي يقدم دفاعاً جيداً عن أفعاله، موضحاً كيف واجه سلسلة من الخيارات الخاسرة؛ ففي أواخر شهر أكتوبر ٢٠١٦ عندما فُتح التحقيق مرة أخرى في قضية البريد الإلكتروني، كتب كومي أنه كان أمام أمرين أحدهما يشير إليه أن يتكلم والآخر أن يصمت، ولو أنه فشل في الكشف عن أن المحققين كانوا يبحثون مجدداً في بريد كلينتون الإلكتروني وانتُخبت، لاحتج الشعب الأمريكي لاحقاً بأنهم قد صوتوا دون علمهم بالحقيقة الكاملة؛ فصمت مكتب التحقيق الفيدرالي كان من الممكن أن يجعل كلينتون رئيسة غير شرعية. يمكنك أن تتخيل ماذا كان سيفعل مجمع فوكس الجمهوري بهذا الكشف.

 

السؤال الذي لم يجبه كومي

حتى هؤلاء الذين يقتنعون بمنطق كومي – وأظن أن معظم القراء منهم – يستنتجون أن دوافعه كانت بحسن نية، في الأغلب سيعترضون على قراره الحاسم الآخر الذي اتخذه في عام ٢٠١٦. إذا كان هذا الإفشاء صحيحاً بالنسبة لهيلاري؛ فلماذا لم يكن صحيحاً بالنسبة لترامب؟ لماذا لم يعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي أنه كان يبحث في قضية احتمال تواطؤ ترامب مع روسيا؟ هنا تفسير كومي لم يكن مقنعاً بما فيه الكفاية؛ فقد وضح أن التحقيق في قضية ترامب وروسيا كان في مرحلة مبكرة؛ فكانوا لا يريدون تسريب مجرد شبهات (معلومات غير مؤكدة)، ولكن بالنظر إلى المخاطر والعواقب لم يكن هذا قراراً جيداً.

الحقيقة هي كما اعترف كومي وغيره بما فيهم باراك أوباما، أنهم كانوا متأثرين بافتراضهم أن كلينتون – طبعا – ستفوز في الانتخابات، وهذا ما جعل أوباما لا يعلن ما يعرفه عن تدخل روسيا في الانتخابات؛ فلماذا نضعف ثقة الشعب في الديمقراطية إذا كان يبدو أن تلك الجهود الروسية لم تحدث اختلافاً كبيراً؟ ونفس الافتراض (بفوز كلينتون) قد شكل قرار كومي، فقد سمح لنفسه بأن يكون أكثر قلقاً من تساؤلات الشعب المستقبلية حول الثقة في فوز كلينتون، أكثر من المخاطرة بأن أفعاله قد تعيق هذه النتيجة.

فوز ترامب وما تبعه من أحداث من أكثر الفصول إثارة في الكتاب؛ فكومي لديه عين ثاقبة، وملاحظته على ترامب ومساعديه حادة؛ كما يظهر لنا على سبيل المثال المدعي العام جيف سيشنز تحت ضغط، ينظر إلى الأسفل ويندفع من اليسار إلى اليمين، ولكننا في الحقيقة دفعنا ثمن الكتاب لأننا نريد رؤية ترامب وليس سيشنز.

لا يستطيع كومي أن يخفي كرهه للرجل، والصورة التي رسمها له لا يمكن أن تكون أقبح؛ فهو يرى ترامب يتحدث دون أن يسمح لأحد أن يتكلم، كما يفهم الرئيس الجديد الصمت على أنه موافقة وتواطؤ. إن ترامب جاهل وغير مهتم وغير أمين أحياناً، وغروره ليس له حدود؛ فعندما حضر كومي اجتماعات المكتب البيضاوي مع أوباما وجورج بوش، كان الرئيس يجلس مع باقي المجموعة الكل سواسية، ولكن بالنسبة لترامب فيبقى جالساً خلف مكتبه الكبير كأنه يجلس على العرش بحضور الحاشية، يرى كومي هذا نوعاً من عدم الأمان؛ فالرجل الواثق من نفسه لا يحتاج أن يظهر منصبه بهذا الشكل البشع.

 

سجل كومي هذه التفاصيل من خلال توضيح من لديه ذكاء عاطفي ومن يفتقده؛ فقد وصف إصغاء الإدارة في واشنطن بأنها لا تصغي بل تنتظر انتهاء دورك لتتحدث، كما قدم بعض الملاحظات اللطيفة على الفكاهة الرئاسية؛ فمثلاً بوش ممكن أن يمزح ولكنه عادة ما يكون على حساب شخص آخر، كما يضحك أوباما بسهولة ولكنه لم يستخدم قط الدعابة كنوع من أنواع الإسكات أو الإهانة، أما بالنسبة لترامب فهو لا يمزح أبدًا، وللقيام بذلك يتطلب الأمر الاعتراف بوجوده ومدحه والثناء عليه.

 

بطل آخر للكتاب

إذا كان هناك بطل آخر للكتاب إلى جانب كومي فسيكون أوباما، كومي الذي انضم للحزب الجمهوري ذات يوم، كان منبهراً بهذا الرئيس الديمقراطي الذي عينه رئيسا لمكتب التحقيقات الفيدرالية؛ فهو يرى في أوباما الحكمة والإحساس الإنساني الذي يطمح أن يكون مثله. يتذكر في حفلة استقبال لتعيينه كيف وقف أوباما من أجل التصوير مع كومي وزوجته وابنتيهما وصديقيهما، وأشار أوباما بيده إلى الشبان قائلاً: “لماذا لا نأخذ صورة بدون الشباب للاحتياط”. كانت الطريقة مضحكة ولكنها ذكية؛ فكل هذا يجعل عقل الرئيس موزوناً، ومع ذلك فكانت لديه مساحة لتخيل الحرج الذي يمكن أن تسببه هذه الصورة بعد عدة عقود.

كان أوباما بالنسبة إلى كومي القديس في الوحل، لقد قيم أوباما ما اعتز به كومي وعدّه تقريباً شيئاً مقدساً، وهو استقلالية المؤسسات الأمريكية، والأهم من ذلك الالتزام بقول الحقيقة.

في وقت ما كنا نضايق هذا الرجل (كومي) ونسخر منه، ولكن لا نستطيع فعل هذا الآن؛ ففي عالم اليوم أصبحت الحقيقة سلعة ثمينة، والأشخاص المستعدون للمخاطرة بحياتهم المهنية قليلون، قد يرى كومي نفسه صالحاً، ولكن مع عرض الخيارات في ٢٠١٨ يبدو أنه نائب محتمل إلى حد ما.

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

ولاء أكبر، تأليف جيمس كومي

نُشر من قبل ماكميلان، يوم ١٧ أبريل ٢٠١٨

٣٠٤ صفحة

 

عرض/ الإعلامي البريطاني البارز جوناثان فريدلاند (Jonathan Freedland)

ترجمته لمركز رؤيا/ يسرا وليد

زر الذهاب إلى الأعلى