اختطاف النخب السياسية والثقافية والفنية والإعلامية
مقدمة:
لعب الغرب عن طريق الحكام والسلطات المستبدة للشعوب العربية والإسلامية دائماً وأبداً على اختطاف النخب من بين شعوبها وتسخيرها بكل الوسائل والإغراءات المتاحة، قاصداً إخضاعها لها؛ لأنها تدرك أهمية النخب ودورها في التأثير في وعي وحياة الشعوب مستغلة الفراغ والهوة المتسعة بين عدم إدراك ووعي بعض التيارات والقوى على تقديم نخبها السياسية وبخاصة الثقافية والفنية في الحياة العامة بأفضل مايكون.
فملأت السلطة هذا الفراغ القائم بتقديم بل وتسخير وإعداد نخب لها تمتلك بها مقدرات الشعوب ووعيها ومن ثم تعبر عن السلطة والحكم، ومن الخطورة عدم إدراكنا وإحساسنا بهذا الخطر، لذلك علينا مراجعة الأسباب والبواعث وطريقة ووسائل الاختطاف واستيراتيجيات المواجهة خاصة أن المختطف ليس أفراداً كما يبدو في الظاهر بل دين مختطف وهو الإسلام فحين تستغل السلطة نخبها لهدم الثوابت عن طريق كسب العقول والقلوب في الحياة الثقافية والفنية والرياضية والسياسية من قبل، فإنها تقدم نسخاً مزورة ومشوهة للإسلام بمنظومة فكرية ورموز من العلماء والسياسيين والمفكرين والإعلاميين والفنانين أصحاب التأثير الأكبر في حياة الشعوب.
أولا: الأسباب والبواعث:
غفت الأمة الإسلامية غفوة طويلة امتدت قرنين من الزمن على الأقل إن لم يكن أكثر، تقابل من تاريخ أوروبا قرنيها الثامن عشر والتاسع عشر قرني الصعود الأوروبي نحو السيطرة والتمكن والتقدم العلمي والحضاري والمادي وإن كانت فقيرة كل الفقر في الناحيتين الروحية والأخلاقية، أما العالم الإسلامي، فكان على المنزلق الهابط في نفس الوقت الذي تبذل أوروبا كل جهدها للصعود، ففي المجال العلمي حدث تقلص ضخم أبعد بالتدريج كل العلوم الدنيوية من معاهد التعليم.
لقد كان من مفاخر الحركة العلمية الإسلامية أنها تفتحت للعلم كله[1] وأبدعت في العلم كله، كان العالم يكون عالماً في العلوم الشرعية، وعالماً في ذلك الوقت في الطب أو الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء بغير تعارض أو تناقض بينهما.
وكانت المعاهد العلمية في الأندلس وغيرها – تلك التي تعلمت فيها أوربا حين بدأت تخرج من قرونها المظلمة- تعلم طلابها كل فروع العلم وألوانه بغير تفريق، ومنها تعلمت أوروبا المنهج التجريبي في البحث العلمي، وترجمت ماكتبه المسلمون في الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات والبصريات لتتتلمذ عليه في بدء نهضتها الحديثة.
ولكن المسلمين الغافلين طردوا تلك العلوم تدريجياً من معاهدهم ليقتصروا على العلوم الشرعية مع ما في دراستهم للعلوم الشرعية ذاتها من تخلف عن الصورة التي ينبغي أن تكون الدراسة عليها.
ولما حدث التخلف العقدي التدريجي الذي حصر العبادة في الشعائر التعبدية وحدها وأخرج منها بقية التكاليف وأصبحت أمورا كمالية. وكان طلب العلم والقراءة والتفكير من بين هذه التكاليف التي خرجت من حيز العبادة فأصابها الضمور، وساعد الاستبداد السياسي على إحداث جمود شامل في جميع المجالات، فحين حدث هذا القدر الهائل من التراجع والتخلف العقدي أولاً ثم العلمي، والحضاري، والاقتصادي، والحربي، والثقافي، والفكري، فماذا بقي؟ مسلمون بلا أخلاق، مسلمون بلا حضارة، مسلمون بلا علم، مسلمون بلا ثقافة ولا فكر، عالم إسلامي متهالك القوى الاقتصادية والحربية والمادية، عندئذ أقبل الصليبيون من كل حدب ينسلون.
الجذور التاريخية:
تعد آفة معاداة الفكر الغربي للعرب لاسيما المسلمين قديمة، كما أرّخ لها ديفيد بلانكس ومايكل فراستو – [2]منذ القرن الحادي عشر الميلادي الذي شهد بداية الحروب الصليبية والمراحل الأولى لنشأة الهوية الغربية الحديثة مرورًا بعصور الاستعمار الأوروبي ونشأة أمريكا إلى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية ثم المرحلة الراهنة وتبعات أحداث ١١ سبتمبر/أيلول على صورة الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة ودول أوروبا.
نظرة الغرب للإسلام وتعمد تشويهه:
حين أقر دانيال فيتكس أستاذ الآداب بجامعة ولاية فلوريدا الأميركية: “أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في فترة كانت علاقة أوروبا بالإسلام فيها علاقة خوف وقلق من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، والمتمثلة في التخوّف من ظاهرة انتشار الإسلام في اوروبا، مما دفع الأوروبيين لتعريف الإسلام تعريفًا ضيقا كدين مصطبغ بالجهاد العنيف في الحياة الدنيا والملذات الحسية الموعودة في الآخرة أي “العنف والشهوة”. [3]
ولذلك عمد الأوروبيون إلى تشويه صورة منافسيهم المسلمين، كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية ، وبناء ثقتهم في مواجهة عدو أكثر منهم قوة وتحضرًا، وقد انتقلت هذه الصورة غير الصحيحة إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوروبا، وعلى رأسهم زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر الذي نظر إلى الإسلام على أنه: “حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح، مغلقة أمام المنطق، ويمكن فقط مقاومتها بالسيف”.
وفي مرحلة استهلال عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي بدأت نظرة الغرب إلى الإسلام مرحلة جديدة بلغت قمتها في عصور الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح شرق العالم القديم خلال القرن التاسع عشر، ويرى إدوارد سعيد أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت من أجل السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية، بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
ومن أهم عناصر وأسلوب نظرة الغرب إلى الشرق والمسلمين في هذه المرحلة:
- النظر إلى المسلم على أنه الآخر، أي نقيض الذات الأوروبية.
- تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر عبر سلسلة من الثنائيات الفكرية، يضع كل منها الآخر، الشرقي أو المسلم ، في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فالمسلم متخلف وحشي والغربي متقدم متحضر، المسلم جاهل فقير والغربي المتعلم الثري.
ولقد وقفت المؤسسات الاستعمارية مؤازِرة للتقسيم الثنائي السابق، بغرض دعمه سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، عن طريق روابط مؤسساتية استعمارية، تضمن بقاء الشرق أو المسلمين الطرف الأضعف دائمًا في علاقته بالامبراطوريات الأوروبية، لذا عزم الاستعمار على تكريس استنزاف الشرق الاقتصادي تحت ذريعة تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر، فمضى في إضعاف لغاته وأديانه وثقافاته، وحارب ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي، كما غدا التحيز جزءًا من بنية الحضارة الغربية في نظرتها للغير يلغي الآخر ولا يدرك التعددية أو الخصوصية.
ثانيا: الاستراتيجيات والأهداف:
فكرة الغزو الفكري:
بعد الهزيمة الساحقة للصليبيين في حروبهم الصليبية الأولى مع المسلمين في القرنين الخامس والسادس الهجريين ” الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين”،[4] في تلك الحروب وقع لويس التاسع ملك فرنسا في الأسر بعد هزيمة حملته الصليبية وبقي سجيناً في المنصورة فترة من الوقت حتى افتداه قومه وفك أسره، وفي أثناء سجنه أخذ يتفكر فيما حل به وبقومه ثم عاد يقول لقومه: إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم.
ووعي قومه نصيحته فلما عادوا لغزو العالم الإسلامي مرة أخرى، لم يكتفوا بالسلاح وحده ولكنهم استصحبوا معهم تلك الوسيلة الخبيثة التي نطلق عليها اسم “الغزو الفكري”، والهدف الأخير من الغزو الفكري هو اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين وصرفهم عن التمسك بالإسلام.
وأوحى الغزو الصليبي للمسلمين بأن كل ما أصاب المسلمين من تخلف كان بسبب أنهم مسلمون أي بسبب الإسلام!، وركز بصفة خاصة على الجانب الفكري والثقافي مستدلاً بتاريخ الكنيسة في أوروبا وبأن أوروبا كانت متخلفة في جميع الميادين وميدان الفكر والثقافة خاصة وقت أن كانت حياتها محكومة بالدين وأنها لم تتقدم وتتحضر وتنطلق في جميع الميادين إلا بعد أن تحررت من قيود الدين.
استمرار البعثة العلمية في مصر:
ولكن العجيب أن البعثة العلمية قد بقيت تواصل عملها في الصعيد رغم ذهاب الحملة التي استقدمتها معها، وبقي من الحملة رجال ادعوا الإسلام كما ادعاه نابليون من قبل كسليمان باشا الفرنساوي الذي كان له دور كبير فيما بعد وبقي معهد الآثار الفرعونية الذي أنشأه نابليون في حي المنيرة بالقاهرة.
نداء نابليون لليهود:
وإذا أضفنا نداء نابليون [6]الخطير الذي أذاعه غداة احتلاله لمصر ليهود العالم كي يعودوا لوطن آبائهم ليستوطنوه. فقد اتضحت المؤامرة الصليبية التي جاء بها نابليون إلة مصر بالتعاون مع اليهود الذين كانت لهم ضلع كبير في إثارة الثورة الفرنسية والتي أنتجت نابليون ووجهت أعماله[7].
استدعاء الصورة الذهنية:
تم صناعة صورة نمطية محددة تكون صورة ذهنية يتم استدعاؤها بمجرد ذكر مصطلح الإسلاميين، هذا التشويه والاختزال ماعبر عنه إدغار موران بقوله: ماشاع استعماله في وسائل الإعلام الغربية يختزل كل إسلامي في إسلاموي” إسلامي متطرف”، وكل إسلاموي في “إرهابي محتمل”.
أهل الشر:
وبعد أحداث ١١ سبتمبر قسّم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش العالم إلى “خير” و”شر”، عالم “متحضر” وآخر “غير متحضر”.
وقد تجلت هذه الرؤى العنصرية أيضًا في موقف بعض قيادات اليمين الأمريكي المتدين تجاه الإسلام، والذين يمثلون أقوى القواعد الجماهيرية المساندة لبوش، حيث شعروا بغضب شديد تجاه موقف بوش من الإسلام والمسلمين في أعقاب أحداث سبتمبر/أيلول لأن بوش وصف الإسلام بأنه “دين سلام”.
وما لبث أن وجه عدد كبير منهم إساءات خطيرة للإسلام، فقد رفض فرانكلين غرام [10]وصف الإسلام بأنه “دين مسالم”، ووصف جيري فالويل[11] الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأنه “إرهابي”، وقال بات روبرتسون[12] إن الإرهابيين لا “يحرفون الإسلام، بل إنهم يطبقون ما في الإسلام”، وقد استخدم نفس اللفظ -أهل الشر- من قبل عبد الفتاح السيسى على الجماعات الإسلامية. (فيديو لعبدالفتاح السيسي: الرئيس الحالي لمصر).
https://www.youtube.com/watch?v=ix_fo-HnQ-Q
ثالثا: القوى الفاعلة:
العناية الخاصة بمصر لاختطاف الإسلام:
ولي الغرب عناية خاصة بمصر وبالقضاء على الإسلام فيها؛ بسبب مركزها الحيوي المؤثر في قلب العالم الإسلامي، وبسبب وجود الأزهر فيها مما جعلها مركز الإشعاع الروحي والثقافي للعالم الإسلامي كله.
لذلك كانت عنايتهم باختطاف الإسلام ومحاولة إخراج مصر من الإسلام عناية شديدة، وبذلوا في سبيل تحقيقها جهوداً مركزة قد تكون أوسع نطاقاً وأعمق أثراً من أي محاولة أخرى قاموا بها في بقية العالم الإسلامي، فيما عدا محاولاتهم التي بذلوها في تركيا لإزالة الخلافة حتى حققوا هدفهم على يد كمال أتاتورك.
الحملة الفرنسية والهدف منها:
في عام ١٧٩٨ جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت وكانت حملة صليبية تحمل معها أهدافاً محددة ضد الإسلام، وقد أرسل نابليون منشوراً إلى المصريين بعد احتلاله الإسكندرية جاء فيه: “قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم. فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمغترين إنني ماقدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم!.. أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد قول لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون![13]..”.
وبعد هزيمة المماليك أمامه في معركة إمبابة جاء واستقر في القاهرة في منزل الألفي بك، وكان بوصفه مسلماً محباً للإسلام والقرآن يرأس مجلس العلماء ويخلع عليهم أحياناً خلعاً سنية، ويحاول استخدامهم في ترويج القوانين الوضعية التي أراد إحلالها محل الشريعة الإسلامية والتي كان يطبعها في المطبعة العربية التي جاء بها معه ووضعها في بولاق.
إنها لسذاجة بلهاء أن نتصور أن نابليون جاء فقط ليقطع الطريق الإمبراطوري بين بريطانيا والهند، نعم إنه ينافس بريطانيا ويلاحقها ويضيق عليها، ولكن جاء ومعه مخططه الصليبي الكامل لإخراج مصر من دائرة الإسلام واختطافه ولعلها تكون بعد ذلك نقطة ارتكاز لإفساد بقية العالم الإسلامي الذي يتلقى فيها العلم ويستمد منها النور.
احتضان فرنسا لمحمد علي:
وبعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام عين محمد علي واليا على مصر من قبل الدولة العثمانية عام ١٨٠٥ واحتضنته فرنسا احتضاناً كاملاً لينفذ لها كل مخططاتها، ويقال من بعض الآراء أن فرنسا هي التي تدخلت لدي السلطان العثماني لإرساله واليا على مصر.
كانت الخطة الصليبية هي تكبير محمد علي وإغرائه بالاستقلال عن السلطان، فتنفصل بذلك قطعة من أرض المسلمين عن الدولة الإسلامية، وذلك يضعفها ولا شك ثم يكون محمد علي نموذجاً مغرياً لغيره من الولاة فيستقلون تباعاً عن الدولة رغبة في السلطان الذاتي فتتفكك عرى الدولة وتنهار، وفي ذات الوقت تغريب مصر “أي تقليد الغرب” بعد استقلالها لضمان تبعيتها الدائمة للغرب وانفصالها النهائي عن الإسلام، نفس مافعله الاستعمار والغرب مع كمال أتاتورك في تركيا وجمال عبد الناصر في مصر.
أنشأت فرنسا لمحمد علي جيشاً مدرباً على أحدث الأساليب ومجهزاً بأحدث الأسلحة بإشراف سليمان باشا الفرنساوي، وأنشأت له أسطولاً بحرياً على أحدث طراز وأنشأت له ترسانة بحرية في دمياط وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر.
دور محمد علي:
لقد قام محمد علي بدور خطير في نقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيء آخر يؤدي بها في النهاية إلى الخروج من الحيز الإسلامي، سواء كان واعياً تماماً لهذا الدور أو مستغلاً لتنفيذه لخدمة أعداء الإسلام.
فوضعوا في مخططهم أهدافاً مرحلية تمكنهم في تصورهم من القضاء الأخير على الإسلام، من هذه الأهداف القضاء على الدولة العثمانية، والقيام بتغريب العالم الإسلامي مع العناية الخاصة بتغريب مصر بلد الأزهر، وتصدير التغريب منها إلى بقية العالم الإسلامي عن طريق الغزو الفكري.
وتمثلت مهامهم ووظائفهم في الآتي:
-فمهمتها الأولى قتل روح الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين للقضاء على المقاومة المستمرة التي يلقاها الغزو الصليبي المسلح، وذلك بإزالة الحاجز العقدي الذي يذكر المسلم دائما بأنه مسلم وأعداؤه كفار يجب أن يجاهدهم ولا يسمح لهم باحتلال أرضه الإسلامية.
وقد قام محمد على بالدور المطلوب خير قيام، فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا في محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب بل في محاربة الخليفة نفسه، وكاد يتغلب عليه لولا تدخل بريطانيا تظاهراً بالوقوف في صف الخليفة، وحقيقته خشيتها من أن تستأثر فرنسا بصداقة السلطان وبالنفوذ في مصر.. وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للغرب بطريقة آخرى، ولذلك أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في ظاهر الأمر ومنعته من مهاجمة الخليفة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الخليفة والاستئثار بحكم مصر حكماً وراثياً ينتقل في ذريته مع التبعية الإسمية للسلطان.
-أما الجانب الآخر من المهمة وهو عملية التغريب خاصة للنخب في ذلك الوقت، فقد نفذها محمد علي بسياسة الابتعاث التي اتبعها بإرسال الطلاب الشبان إلى أوروبا بأعداد متزايدة ليتعلموا هناك، وكان هذا أخطر ما فعله؛ لأنه من هناك بدأ الخط العلماني يدخل ساحة التعليم ومن ورائه للحياة في مصر الإسلامية.
فإذا تغرب لم يعد هذا الحاجز قائماً في نفسه، كما أن تقليد الغرب حد الولع به هو الذي يضمن تبعية العالم الإسلامي للغرب بعد أن يخضع عسكرياً له؛ لأنه حين يتغرب يحس أن انتمائه لم يعد للإسلام وإنما للغرب، فلا يشعر برغبة في الانفصال عنه وحتى إن رغب في يوم من الأيام أن يستقل ففي حدود التبعية العامة التي لا تخرجه من حوزة سادتها.
دور الاحتلال البريطاني :
كان محمد على وأبناؤه حتى الخديوي إسماعيل عند ظن فرنسا بهم وقال إسماعيل قولته المشهورة: “أريد أن أجعل مصر قطعة من أوروبا”، حتى جاء توفيق وبدأ النفوذ الإنجليزي في عهده يتدخل في شئون مصر من بعيد ثم انتهى الأمر باحتلال الإنجليز لمصر عام ١٨٨٢م.
وكانت الخطة الجديدة هي تقليد الغرب “التغريب” على الطريقة الانجليزية بدلاً من الفرنسية، وإن كان العجيب أن انجلترا لم تتعرض قط للمؤسسات الفرنسية كالمدارس والمعاهد التبشيرية وماشاكلها.
الصهيونية ودورها:
إن تشويه صورة العرب والمسلمين في الغرب ليس وليد اليوم، فقد كانت السياسة الإعلامية الصهيونية التي بدأت منذ عشرات السنين تتفشى في عمليات تشويه صورة العرب والمسلمين؛ في محاولة لإظهار إسرائيل كدولة مسالمة، وتغيير عقيدة الجيوش العربية وتغيير المفهوم الواضح والعقيدة الراسخة بأن إسرائيل هي العدو الأول حتى أصبح من يقر ويعترف أمام الجميع أن العدو ليس إسرائيل بل العدو هو منظمة المقاومة الإسلامية حماس وكل الجماعات الإسلامية وكل من ينادى بمقاومة المحتل الغاصب.
دور الحكومات المستبدة:
لم يكتف الغرب وأمريكا بهذا الدور، بل عمدوا إلى رفع شعار الإرهاب عن طريق الحكومات المستبدة في بلاد المسلمين وجعله ملاصقاً للمسلمين منذ الحرب على العراق ورفع شعار الحرب على الإرهاب، حتى وصل الأمر أن قال الرئيس الحالي لمصر عبد الفتاح السيسى في احتفالية دينية وفى وجود شيخ الازهر والقيادات الدينية “إزاى واحد مليار مسلم يخوفون العالم “، وهي دعوة لمحاربة الإسلام والمسلمين بعد اتهامهم بالإرهاب.
ولا يخفى دور الحكومات في تأميم المؤسسات الدينية ووزارة الأوقاف وتعيين من يمثلهم لمصالحهم الشخصية. وتقديم نماذج مشوهة تستعين بها لاختطاف الإسلام، وبهذا اتسع مفهوم الحرب على الإرهاب بمفهومه الواسع وغير التقليدي، اتسع ليشمل حرب الأفكار المبنية على التشخيص الأمريكي للعنف والإرهاب الإسلامي وأسباب توليده، إلى وسائل مكافحته التي تنوعت من “تجديد الخطاب الديني” والضغط على بعض المؤسسات الدينية (كالأزهر)، إلى تغيير المناهج وإقامة المحطات الإعلامية لنشر خطابها مباشرة عن طريق مايسمونهم بالدعاة الجدد والعقلانيين التنويريين وتصديهم للخطاب الديني لتشويهه واختطافه تحت مسمى تجديد الخطاب الديني كما أمرهم السيسي.
وهذا الاتجاه المصرّح به في غالبية الخطابات الغربية، مثّل منحنى للسياسة الخارجية للدول الغربية بعد١١سبتمبر، فلقد كانت سياستها ترك الشأن الداخلي للأنظمة الحاكمة الصديقة والعدوة، مقابل تأمين مصالحها الحيوية في المنطقة وإبعاد شبح وصول الإسلاميين إلى السلطة، والذين يشكلون تهديدًا مؤكدًا للمصالح الكبرى، ثم تحوّلت السياسات إلى التوغل في البُنى الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية، مع تجاوُز قضايا السيادة والخصوصيات الثقافية والدينية.
خامسا: الأدوات والآليات:
الرحلات الاستكشافية:
حين أتم فاسكو داجاما رحلته -بمعونة البحار العربي المسلم ابن ماجد الذي أمده بالمعلومات والخرائط بل قاد بنفسه سفينته نحو جزر الهند الشرقية- قال قولته الشهيرة المفصحة عن الهدف الحقيقي للرحلة: “الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت”،
ومثلها كل الرحلات الأخرى التي قام بها الغرب في العالم الإسلامي، يدرسون مداخله ومخارجه ويرجعون إلى حكوماتهم ليدلوها على طريقة التسلل إلى بلاد المسلمين، وأشهرها إلى رحلة ماجلان التي كان هدفها الاستيلاء على الأرض الإسلامية في الفلبين وإخضاعها لحكم الصليبيين والتي ندرسها لأبنائنا على أنها من أعظم الرحلات العلمية الاستكشافية في التاريخ.[15]
ومن أمثلة ذلك ” كتب ماجلان إلى البابا عدة مرات يطلب الإذن له بإعداد رحلة إلى الفلبين لإخضاع الكفار أي المسلمين لحكم الصليب وأخيرا أذن له البابا فقام برحلته العلمية الاستكشافية ولما حاول رفع الصليب على الأرض الإسلامية قتله المسلمون ونحن ندرس لأبنائنا أن المتبربرين قتلوه لأنهم لم يقدروا قيمة الرحلة الاستكشافية العظيمة!”.
وسائل الإعلام والترجمات:
-الكتابات:
لقد امتلأت الأسواق الأمريكية بكتابات عدد من أكثر الكتاب الأميركيين تطرفًا في موقفهم من المسلمين والعرب مثل دانيال بايبس مؤلف كتاب “الإسلام المسلح يصل أمريكا”، الصادر عام ٢٠٠٣، وستيفن إمرسون مؤلف كتاب “جهاد أميركي … الإرهابيون الذين يعيشون وسطنا”، الصادر في العام نفسه.
فقد روج هؤلاء لمعتقد أن المسلمين والعرب المقيمين في أمريكا والغرب هم أعداء مقيمون في الولايات المتحدة، يتحينون الفرص للانقضاض عليها، ومن ثم يجب مراقبتهم والتضييق عليهم وتهميش منظماتهم.
كما ظهرت مجموعة أخرى من الكتابات الساعية إلى خدمة جهود مؤسسات السلطة الأمريكية في حربها على الإرهاب، والتي تدعم فكرة تدخل الولايات المتحدة لإعادة تشكيل العالم الإسلامي عن طريق دعمها المباشر لأطراف مسلمة، تم إطلاق مسمى “الإسلام المدني الديمقراطي” عليها، حيث يُنظر لها على أنها أكثر تعاطفًا مع أمريكا.
ومن هذه الكتابات دراسة أصدرتها مؤسسة راند الأمريكية العريقة للأبحاث، في العام ٢٠٠٣، لمؤلفتها شيريل بينارد، زوجة زلمي خليل زاده السفير الأمريكي في أفغانستان خلال العام المذكور، وأحد المقربين من الرئيس السابق بوش الإبن، دعت بشكل صريح إلى تبني سياسات أمريكية من شأنها مساندة الجماعات المسلمة العلمانية والتقدمية، ماليًا وسياسيًا وإعلاميًا.
أما الكتب التي تحمل الفكر العلماني، فالهدف من ترجمتها واضح يقول أ. شاتيليه في مقدمة كتاب الغارة علي العالم الإسلامي[16]: “ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية في قلوب منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوروبا وتتمهد السبل لتقدم إسلامي مادي وتقضي إرساليات لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها”.
إن الأدباء والمفكرين الذين تعلموا اللغات الأجنبية قد وقعوا ولا شك على ثروة أدبية وفكرية كانت جديدة بالنسبة إليهم، وكان فيها أشياء كثيرة تستحق الإطلاع عليها والاستفادة منها وكانت بالنسبة للخواء الفكري الذي يعيشه المسلمون تبدو ثروة لا تقدر بثمن.
وقد حدث انبهار ضخم عند هؤلاء الأدباء والمفكرين بالفكر الأوروبي والثقافة والأوروبية، ولكن الانبهار كان يمكن أن يظل مسألة شخصية عند هؤلاء الأدباء والمفكرين، ولكن الذي نشر ذلك الانبهار على نطاق الأمة كلها كان هو تلك الأجهزة المتربصة لالتقاط أولئك الأدباء والمفكرين وتكبيرهم وتلميعهم والدعاية لهم ونشر أفكارهم على أوسع نطاق ممكن.
وفي غياب الفكر الإسلامي الحقيقي الحي المتجدد الشامل لكل مجالات الحياة صار أولئك الأدباء والمفكرون العلمانيون هم قادة الفكر وعمداء الأدب وأساتذة الجيل، فجروا الأمة كلها وراءهم إلى الفكر الغربي على أنه مهبط الوحي وزاد الحياة.
وهناك من النماذج الواضحة للتخطيط لاختطاف الإسلام من خلال نخبها الثقافية والفنية والإعلامية والتأثير في الناس:
روز اليوسف:
كتبت روز اليوسف في مذكراتها-وكانت تقوم بالتمثيل على المسرح قبل اشتغالها بالصحافة وإصدار مجلتها التي تحمل اسمها-: إنها طلبت إعانة لمسرحها من الحكومة وكانت مصر خاضعة للنفوذ البريطاني المباشر، فنصحها المندوب السامي البريطاني وهو الحاكم الحقيقي في مصر في ذلك الحين أن تذهب إلى الريف وتعرض مسرحياتها هناك فإن فعلت ذلك نالت الإعانة في الحال.
والهدف واضح، فالريف المصري في ذلك الوقت مسلم في عمومه محافظ على الدين والأخلاق ومحافظ على التقاليد المستمدة من الإسلام، منها الحجاب والعفة وقضية العرض وصيانة المرأة بصفة عامة من التبذل والانحلال والانفلات، وبقاء الريف على هذه الصورة عقبة ولاشك أمام المخططين لاختطاف الإسلام.
جورجي زيدان:
هو أحد مؤسسي دار الهلال، والآخر هو إميل زيدان، وهما من اللبنانيين المسيحيين المارونيين الذين اتجهوا إلى تأسيس الصحافة في مصر، وكان جورجى يكتب قصصاً وروايات إسلامية! تتناول أحداث التاريخ الإسلامي بشكل فني، وفي كل مرة يصور المسلمين وهم غارقون في الطرب واللهو والجري وراء شهواتهم، سواء شهوة الجنس أو شهوة الملك أو شهوة المال، أو يصورهم في مواقف جادة تثير الإعجاب والاعتزاز بهم لأن واحداً يهودياً أو نصرانياً هو الذي يشير عليهم ويخطط لهم ويقف وراءهم يساندهم في التنفيذ.
إحسان عبد القدوس:
كتب إحسان عبد القدوس في مجلة روز اليوسف: إنني أطالب كل فتاة أن تأخذ صديقها في يدها وتذهب إلى أبيها وتقول له: هذا صديقي!.
أنيس منصور:
كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: أنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجاً مستلقين على الحشائش في فناء الجامعة، قال: فقلت في نفسي متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه!.
هذا وغيره من آلاف بل ملايين الصور العارية والأغاني العارية والأفكار العارية التي تملأ الصحف والمجلات والسينما والتليفزيون.
محمد حسنين هيكل:
كتب محمد حسنين هيكل في عهد جمال عبد الناصر في الفترة الاشتراكية والتي جرأته على الهجوم السافر على الإسلام : إن التقدم التكنولوجي قد أحال أكثر الكتب المنزلة قداسة إلى أوراق صفراء تحفظ في المتحف.
*وكتب أحد الشيوعيين بمناسبة الخير المزعوم الذي كان سيفيض على البلاد من جراء السد العالى : إن هذه الصحراء قد بقيت في يد الله ملايين السنين فظلت كما هي صحراء جرداء فلما تسلمها الإنسان حولها إلى مروج خضراء!.
صلاح جاهين:
ورسم صلاح جاهين الشاعر ورسام الكاريكاتير المعروف صورة هزلية في جريدة الأهرام، رسم فيها رجلاً بدوياً يركب حماراً في وضع مقلوب -أي رأس الحمار في اتجاه ووجه الرجل في الاتجاه المضاد- رمزاً للرجعية، وفي أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات وعنوان الرسم: “محمد أفندي جوز التسعة”. [17]
فهم من الرسومات أنه هجوم سافر على شخص رسول الله وزوجاته التسع، وهذا لم يسبق له مثيل في أية صحافة إسلامية على الإطلاق إلا بعد مايقرب من نصف قرن وأكثر حين نشر الرسوم المسيئة للرسول في صحف أجنبية.
ومن هنا أخذت مهاجمة الإسلام واختطافه على يد الاشتراكيين بعداً فكرياً وبعداً اجتماعياً وبعداً سياسياً في وقت واحد منطلقاً كله من محور واحد محور التطور الذى أصبح الدين بمقتضاه رجعية. رجعية فكرية ورجعية اجتماعية ورجعية سياسية ينبغي سحقها والقضاء عليها.
ولم تعد القضية أن الإسلام يحوي بعض الأفكار أو بعض الأحكام أو بعض المواقف التي لا يرضى عنها التقدميون كما كان الحال من قبل، إنما صارت القضية هي الدين ذاته وضرورة نفيه من الوجود ونسفه من القلوب وتحرير كل ما أمكن تحريره من الدين.
ومن هنا وقع التحالف بين الاشتراكيين وبين جمال عبد الناصر وهو يحارب الإسلام كما تحالف معه المثقفون الذين يكرهون الإسلام، فكان عبد الناصر ومن قبله أتاتورك في تركيا لسقوط الخلافة العثمانية ومن قبلهما محمد علي، ومن بعدهم كثيرون حتى عبد الفتاح السيسي أداة في يد المستعمر والغرب والصهيونية لاختطاف الإسلام بل والقضاء عليه من خلال نخبهم، ومن خلال إضفاء بطولات زائفة على كل منهم لكي تتوارى الجريمة.
الصالونات الأدبية والفنية:
كان في تاريخ مصر الحديث ثلاثة صالونات ثقافية كان لها تأثير ملحوظ: صالون مي زيادة ” ماري زيادة” الأديبة الشاعرة اللبنانية المسيحية، وصالون هدى شعراوي، وصالون نازلي فاضل، والصالونات الثلاثة كانت تتميز بأن أصحابها نساء، ويستقبلن الرجال بلا محارم على غير مثال مسبوق في الحياة الإسلامية.
- فأما مي الأديبة الشاعرة، فقد فتنت أدباء مصر جميعاً في وقت من الأوقات، كما قالوا بلطف حديثها وحسن استقبالها للرجال وثقافتها ولباقتها.
- وأما هدى شعراوي، فقد استقطبت من استقطبت من الصحفيين والشعراء والكتاب المدافعين عن قضية المرأة.
- وأما نازلي فاضل، فهي أميرة متحررة من أميرات أسرة محمد علي، كان ضيف الشرف الدائم في صالونها هو اللورد كرومر المعتمد البريطاني الحاكم المطلق في البلاد، وكان من رواده لطفي السيد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومحمد عبده، ومصطفى فهمي والد صفية التي سميت بعد زواجها من سعد زغلول صفية زغلول نسبة إلى زوجها على طريقة الغرب في إلحاق الزوجة بلقب الزوج.
معارك فكرية وثقافية لاختطاف الإسلام:
ولاننسى من الذاكرة المعارك الثقافية والفكرية لضرب ثوابت الإسلام من شخصيات فنية وأدبية:
–معركة الشيخ محمد متولي الشعراوي مع الكاتب توفيق الحكيم بسبب المقالات التي كتبها الحكيم وهو على مشارف التسعين، في أول مارس من عام ١٩٨٣م، وعلى مدى أربعة أسابيع على صفحات الأهرام في صورة حوارات مع الله تحت عنوان: “حديث مع الله”.
وسببت هذه المقالات أزمة وردود أفعال غاضبة، وتصدى الشعراوي وقتها لما كتبه الحكيم، وقال: عجبت من رجل يعتبرونه شيخ الكتاب يعلن، بنفسه أنه لم يعد صالحاً لأن يكتب لا مسرحيات ولا روايات، أي أنه لا يصلح لكتابة بشر لبشر ثم يتسامى إلى أن يتكلم مع الإله أو يستقبل كلاما من الإله!.
واشتدت المعركة واتسعت ساحاتها، وتدخل إلى جانب توفيق الحكيم كل من يوسف إدريس والدكتور زكي نجيب محمود، وطالب الشعراوي وقتها بعقد ندوة مفتوحة في التليفزيون، وأن يحضرها توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود، ويحضرها هو بمفرده، لكن الحكيم تراجع وغير عنوان مقالاته من “حديث مع الله” إلى “حديث إلى الله”، ثم إلى “حديث مع نفسي”.
وكتب الحكيم في رده على الشيخ الشعراوي، يقول: إن ما فهم أنه حوار بيني وبين الله تعالى على أنه أمر منكر وتطاول علي مقام الله تعالى، أو على الأقل هو ما يمس الإحساس الديني عند البعض، فقد اقتنعت بذلك، ولا يمكن أن أستمر عامداً متعمداً على إيذاء شعور المؤمنين.
–أما معركة الشيخ الشعراوي مع الكاتب يوسف إدريس، فكانت أشد المعارك وأكثرها ضراوة،
ففي كتابه (فكر الفقر وفقر الفكر) وصف يوسف إدريس الشيخ الشعراوي بأنه: “يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم من قدرة على إقناع الجماهير البسيطة، وقدرة على التمثيل والحديث بالذراعين وتعبيرات الوجه”.
لكن يوسف إدريس عاد وتراجع وأعلن اعتذاره للشيخ، وقال إن ما ورد في الكتاب هو خطأ فني مطبعي سقط إصلاحه سهواً وبحسن نية. وأنا لا يمكن أن أتولى بنفسي تجريح شخصية عظيمة كشخصية الشيخ الشعراوي الذي أكن له أعمق آيات الود والتقدير والحب والاحترام.
هوليوود:
ظلت هوليوود لأكثر من قرن منذ عام ١٨٩٦م وحتى الآن تشوه سمعة كل شيء عربي، وقبل هجمات ١١ سبتمبر بوقت طويل كان يتم تصوير الإسلام كتهديد للغرب. إن الصورة النمطية للمسلم العربي قبل الحادى عشر من سبتمبر تتطابق مع الصور الكاريكاتورية التي أنتجت فيما بعد ذلك التاريخ وما تزال هوليوود تصور المسلم ككائنات دون بشرية.
لقد تم إنتاج أكثر من ٥٠٠ شريط سينمائي عن الإرهاب في تاريخ السينما الغربية، كان من بينها ١٢٨ بين عامي ١٩١٨ و١٩٨٨، في حين أُنتج ٣٧٢ بين سقوط جدار برلين وعام ٢٠٠٦، يتمحور أغلبها حول ما أسماه الغرب “الإرهاب الإسلامي”.
كما حوّل الغرب نظرية الصراع الدولي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي من صراع بين أمريكا وروسيا إلى صراع بين الغرب والإسلام، حتى إن أحد مسئولي حلف الناتو قال: إن الإسلام أصبح هو العدو الجديد بعد الشيوعية.
وعلى ذلك فقد حولت السينما الأمريكية (هوليود) – كمرآة للواقع – مادتها الأساسية من صراع مع عملاء استخبارات روس وإرهابيين دوليين من أوروبا الشرقية إلى صراع مع إرهابيين عرب ومسلمين، ولاح ذلك الواقع الجديد – أو الذي يبدو بجديد – في سلسلة من الأفلام، مثل سلسلة أفلام الممثل الذي يعشقه الجمهور الإسرائيلي شوك نوريس، والتي جسدت مقاومة وحدات مكافحة الإرهاب الأمريكية بالتعاون مع الصهاينة لإرهابيين عرب في لبنان خلال الحرب الأهلية، دون أن ينسى معدو الأفلام إبراز الآيات القرآنية على حوائط الجدران و”الإرهابيين” العرب بالكوفية الفلسطينية، وخشونتهم وحياتهم القذرة ونومهم فوق وسائد من القنابل، وعلى النقيض فقد لاح التعاون الواضح بين “قوى الخير” الأمريكية مع الضباط الصهاينة الحاملين لنجمة داود على أكتافهم بوضوح للتخلص من العرب الأشرار!.
ويبدو أن أحداث سبتمبر زادت من هذه النوعية في أفلام هوليود، مع الحديث عن امتلاك الإرهابيين العرب المسلمين لأسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية يهدفون من ورائها إفناء حضارة الغرب، ويؤكد مايكل تشوسدوفسكي أستاذ الاقتصاد بجامعة أوتاوا ومدير مركز أبحاث العولمة أن ثلث أفلام هوليود المنتَجة بعد ١١ سبتمبر هي أفلام حرب تصوِّر العرب والمسلمين على أنهم مجموعة من الهمج ذوي الطباع القاسية لا يهمهم سوى النساء وجمع المال.
هذا الاهتمام بالعداء الغربي والأمريكي للعرب ليس بجديد، ولكنه بدا أكثر وضوحًا في الأفلام السينمائية الأخيرة للسينما الأمريكية، التي تقوم على أكتاف اليهود وأموالهم.
دوراللوبي اليهودي:
نشرت (عصبة الدفاع المسيحية الأمريكية) دراسة موسعة كشفت فيها كيف استولى اللوبي اليهودي على ديزني، وخصصت عدد سبتمبر/ أيلول ٢٠٠٠ من نشرتها (ريبورت)، الصادر في مدينة أرابي بولاية أريزونا عن “السيطرة اليهودية على الإعلام الأمريكي”، فضحت فيه النفوذ اليهودي في أمريكا، والمراحل التاريخية لهذه السيطرة على الإعلام والسينما وديزني لاند منذ اختراع توماس أديسون كاميرا الصور المتحركة.
ومنذ أن سيطر اللوبي الصهيوني على شركة والت ديزني، بدأت أفلامها تأخذ طابع أفلام هوليود التي يسيطر اليهود أيضاً على صناعتها، فزادت من جرع العنف والخداع في الأفلام التي تُقدم للأطفال، كما هو الحال في فيلم “الأميرة والوحش”، وزادت جرعة الجنس والعري عبر استعراضات الفتيات شبه العاريات، وأصبحت البطولة المطلقة لديفيد، وهو نفس ما حدث في أفلام “يوم الاستقلال” و”هرمجدون” وغيرهما حيث أنقذ البطل “اليهودي” أمريكا من الخراب.
فأفلام والت ديزني التي يحبها العرب كثيراً يشوه إنتاجها صورة العربي ويعلي شأن اليهود، حتى إن بطل أفلامها يسمى غالباً “ديفيد” أو “داود”!، فمثلاً فيلم “علاء الدين”، قد قام بتصوير العرب على أنهم مجموعة من الهمج، وزعماء العصابات الذين لا يعرفون شيئاً عن الرقي في السلوك، ويعيشون على الخزعبلات والأساطير، كما تم إنتاج فيلم في العام ١٩٩٣ يُظهر الصهاينة على أنهم رواد الزراعة في التاريخ.
السينما المصرية “محاولات لاختطاف الإسلام”:
شهدت السينما المصرية إنتاج أول فيلم ديني عام ١٩٥١م، وكان الفيلم الأخير من بين ثلاثة عشر فيلماً هو الشيماء عام ١٩٧٢م، وفي السبعينات قل عدد الأفلام الدينية بشكل ملحوظ، وقدم المخرج العالمي مصطفى العقاد فيلمه الرسالة عام ١٩٧٦م بمنظور سينمائي أمريكي وبتمويل عربي.[19]
وتوالت الأفلام الدينية العالمية بعدها، ولاينسى الكثير منا الأفلام الدينية والتاريخية كفيلم صلاح الدين واإسلاماه، ورغم أهمية عناوين هذه الأفلام إلا أنها كتبت من خلال رؤى مؤلفها ومخرج العمل، وقدمت بشكل كبير من السطحية في رسم الشخصيات الدينية والتاريحية وحتى من كفار قريش.
ولم تقدم دعوة الإسلام وتحولاتها في حياة الناس، بل أظهرت التحولات في شكل الشخصيات من السواد في الملبس للكفار ومشاهد طويلة للرقص والعري لكفار قريش، وعند إسلامهم يرتدون الملابس البيضاء بعد أن يهذبوا لحاهم وشعر الحاجبين ويتطلعون إلى السماء دائما وهم يرتلون القرآن بأداء ميلودرامي فج مثل فيلم بلال مؤذن الرسول، فكان ظهور الشخصية الإسلامية بصورة سطحية أن اختطفت الصورة الحقيقة في خيال المشاهد بصورة ذهنية ثابتة من خلال الشخصيات المؤداة في الأعمال الدرامية، والتي لم تخدم الإسلام إلا أنه يوجد أفلاما دينية وتاريخية في أرشيف السينما المصرية، ولكن هذا لا ينفى مدى اهتمام الناس بالأعمال الدينية في الذاكرة.
أضرحة السينما:
واختطفت السينما المصرية الشخصية الدينية والإسلامية، والتي تتبرك بالأضرحة وقت أزماتها، وكأنه هو السلوك الحقيقى لكل المسلمين، وكأنه شكل ارتباطهم بالمساجد يتمسحون ويشكون للضريح متاعبهم ويتعهدون بالنذور لو حلت البركة باسم صاحب الضريح وتم حل مشاكلهم الاجتماعية، ورغم أنها حالات موجودة بالمجتمع ولا تمت للإسلام وبأوامر الله وبتعاليم الرسول بصلة، إلا أن هذه الأفلام بقيت راسخة خاصة للصورة الذهنية عند الكثير لقوة تأثير العمل الفني على المتلقي، ومن ثم تم اختطاف الإسلام الحقيقي عن طريق الدراما وتأثيره في المشاهد.
فعلى سبيل المثال في فيلم الزوجة الثانية لصلاح أبو سيف عام ١٩٦٧ قرر الزوجان المنكوبان أن يذهبا إلى ضريح السيد البدوي، والدعاء لله والتشفع باسمه من أجل أن يرد عنها شرور العمدة الذي قرر فجأة أن يفصل بين الزوجين كي يتزوج منها حتى تنجب له الوريث، والزوجان هنا منكوبان فعلاً والزوج ضعيف، عليه مغادرة القرية بعد أن سلبه العمدة بيته لذا فإنه يتجه إلى المسجد ليتضرع إلى الله وهو يتلمس الضريح، وعلى جانب آخر تقف الزوجة فاطمة في مشهد آخر تفعل نفس الشئ، ويكشف لنا الفيلم كيف استجيبت دعوات الزوجي،ن فأقعد المرض العمدة ثم دفع حياته أمام عيني الزوجة التي عادت مرة أخرى إلى زوجها بعد وفاة العمدة.
فاللجوء إلى الضريح في السينما يعنى أن الدعاء المنطلق هناك من الحناجر مستجاب، مثل فيلم سارق الفرح والكيت كات، ومن كلاسيكيات السينما فيلم الأرض الطيبة وبين القصرين وقنديل أم هاشم للكاتب يحيى حقي، وفي بعض الأفلام نسمع عبارات يرددها الأشخاص الذين يعيشون في دائرة الضريح، كالقسم باسم صاحب الضريح مثل: ومقام السيدة، وحياة الحسين، أو وحياة أبو العباس، وذلك دلالة على مكانة هذه الشخصية في قلوب الناس الذين حولوا القسم من الله سبحانه وتعالى إلى الأولياء.
سادساً: نماج نجاح فاعلة .. حالات وخبرات:
نماذج نجاح.. حالات وخبرات:
الشعر في الزمن الأول:
برغم ما يبدو للبعض أن المسلمين الأوائل انقطعوا عن التعبير الفني، منها أنها كانت فترة لبناء العقيدة الجديدة في داخل النفوس وفي واقع المجتمع، وأن فترة البناء لم تكن مناسبة للتعبير الفني خاصة الشعر، ولكن نجد تجارب فنية شعرية تستحق الوقوف عندها كيف كان لهم هذا الإنتاج الشعري الضخم، وكيف تحولوا من الفخر والمديح والهجاء والمجون لحدود القبيلة والمعارك الحربية والنزاعات بينهم إلى تعبير آخر وقيم جمالية وإبداعية تخدم هذه المرحلة واحتياج النفس البشرية للتعبير الفني عنها.
فكان منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك الأنصاري، وكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، وعبد الله بن رواحة، ولبيد بن ربيعة العامري، والنعمان بن البشير، والخنساء، وعاتكة بنت زيد، وصفية بنت عبد المطلب، وغيرهم.
-حسان بن ثابت[20]: من شعراء الغساسنة في الشام وهو شاعر النبي، كان يرد على شعراء قريش الذين يتعرضون للاسلام بهجائهم، أو يتجرؤون على النبي بقولهم، وقد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب حين هجا النبي قبل أن يسلم، فأذن له، وفي أبي سفيان قال همزيته المشهورة:
ألا أبلغ أبا سفيان عــني مغلغلة
فقد برح الخفاء
هجوت محمداً فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكـفء
فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالده وعرضـي
لعرض محمد منكم وقاء
وقال كثيراً من الشعر في مدح النبي ووصف محاسنه الخلقية والخلقية، منها:
وأحسـن منك لم تر قط عيني
وأجمل منـك لم تلد النساء
خلقـت مـبرأ من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
-كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني[21]: روى كعب الشعر عن أبيه، وأخذ عنه طريقته في تنقيح الشعر حتى أجازه، يقول ابن الاعرابي: كان لزهير في الشعر مالم يكن لغيره، كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة، وهي غير الخنساء المشهورة، وورثه من بعد أبناؤه وأحفاده.
قال قصيدته المشهورة (بانت سعاد)، وتهلل وجه النبي فرحاً بإسلامه، فلما انتهى كعب خلع عليه رسـول الله صلى الله عليه وسلم بردة كان يلبسها، وقد ظفرت قصيدة (بانت سعاد) باهتمام الدارسين والنقاد لما فيها من جمال الأسلوب وروعة المعاني، وقد بلغ عدد أبياتها ثمانية وخمسين بيتاً.
عبد الله بن رواحة[22]: هو أحد السابقين إلى الاسلام، شهد العقبة وشهد بدراً وما بعدها، واستشهد في غزوة مؤته، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، أرسله النبي إلى المدينة يحمل إلى أهلها بشارة النصر في بدر، وقد كان مع المسلمين في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية فدخل مكة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيلـه اليوم نضربكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة أفي حرم الله، وبين يدي رسول الله تقول هذا الشعر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “خل عنه ياعمر فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل”.
تجربة الفن عند حسن البنا:
كما كان للمسلمين الأوائل فن وشعر، كان للإسلاميين في العصر الحديث من القرن الماضى تجربة فنية تستحق الوقوف والتأمل عندها، فقد أنشأ حسن البنا فرقة مسـرحية في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي ـ بـل فرقـاً مسـرحية ـ لعـل ابرزهـا واشـهرها فرقـة القــاهرة، والتي قدمت عدداً من المسرحيات للجمهور، معظمها كان من اللون الفكاهي.
وقد تولى هذا الأمر عبـد الـرحمن البنـا ـ شـقيق البنـا ـ المعـروف بميولـه الأدبيـة، والـذي صـدر لـه عـدة مسرحيات ومؤلفات أدبية، وكانت أولى المسرحيات مسرحية جميل بثينة، وقد أنتجت المسرحية لجنة تشجيع التمثيل التابعة لوزارة المعارف التربية والتعليم، وقررت إخراجها على نفقتها عام ١٩٣٤م وقد نجحت المسرحية الأولى نجاحاً مبهراً[23].
ممـا دفع بأحـد البـاحثين وهـو الـدكتور شـوقي قاسم في رسالته للدكتوراره (الإسلام والمسرح المصري) إلى الإقرار بأن مسرحية جميل بثينة قد صارت موضع المقارنة مع مسرحية أمير الشعراء مجنون ليلى، ومن الأهمية أن نقف على أسماء الفنانين المشاركين فـي المسـرحية، فمـنهم: جـورج أبـــيض، وأحمـــد عـــلام، وعبـــاس فـــارس، وحســـن البـــارودي، وفتـــوح نشـــاطي، ومحمود المليجي، ومن العناصر النسائيىة فاطمة رشدي، وعزيزة أمير، وكلها أسماء لامعة ومحترفة للعمل الفني.
وبدأ حسن البنا فـي تعمـيم تجربـة إٕنشـاء الفرق المسرحية من المحترفين أو الهواة على حد سواء، كانت الفرقة الأم الكبرى في القاهرة وفرق أخرى في معظم محافظات مصر؛ لتكون بديلاً للريف المصري والمناطق النائية عن المسارح والسينما لغرس أهداف وقيم تصل سريعاً عن طريق الفن أكثر من أي وسيلة أخرى، وقد درب طلبة الثانوية بقصد اتقان التمثيل.
واسـتمر مسـرح الإخــوان المســلمين فـي تقــديم أعمالـه، وكان من بـين فنانيــه عــدد مــن كبار الفــن المصــري فيمــا بعــد، مثــل: عبــد المــنعم مــدبولي، وإبراهيم الشامي، وسراج منير، ومحمود المليجي، ومحمد السبع، وعبد البديع العربـي، وشـــفيق نـــور الـــدين، وســـعد اردش، وحمـــدي غيـــث، وعبـــد االله غيث، وإبراهيم سعفان، وغيرهم.
الدراما التركية:
أدرك صناع الدراما في تركيا أهمية الفن والدور الذي يلعبه في التأثير على الشعوب، وقد عمدت تركيا إلى أن يروج إنتاجها التليفزيوني لمعان وأفكار تصب فيما تراه نظامًا عالميًا جديدًا، يقوم على العدل ونصرة المهمشين والمستضعفين، وإدانة المسالك الاستعمارية بصورها المختلفة[24].
فكان منها أشهر أربع مسلسلات حاليًا، كلها لها أهداف سياسية وثقافية واضحة، وهي: (قيامة أرطغرل، السلطان عبد الحميد، علي عزت بيجوفيتش وكوت العمارة)، لكنها مصاغة في حبكة درامية جذابة ومثيرة.
وفي تحقيق لشبكة البي بي سي عام ٢٠١٦، قدرت أن المسلسلات التركية يشاهدها أكثر من ٤٠٠ مليون نسمة في أكثر من ١٤٠ بلدًا في العالم، وقدرت الشبكة أن المسلسل التركي “ما ذنب فاطمة غل؟” بعد دبلجته إلى اللغتين الإسبانية والبرتغالية، قد أحدث صدىً واسعاً في أمريكا الجنوبية كلها عام ٢٠١٥، وأنه في الأرجنتين وحدها شاهد حلقات ذلك المسلسل أكثر من ١٢ مليون شخصًا، وأن مسلسل “ألف ليلة وليلة” قد حاز على لقب أكثر البرامج التلفزيونية مشاهدة في تشيلي عام ٢٠١٤، وأن آلاف الآباء الجدد من التشيليين يختارون اسمي “أنور” وشهرزاد” لأبنائهم حديثي الولادة تيمنًا ببطلي المسلسل، وبعض الشهادات التي نقلها التقرير تعكس بوضوح أثر هذه القوة الناعمة.
كما نشر موقع “ناخريشتن اكسبريس” الألماني تقريرًا، سلط من خلاله الضوء على الشهرة الاستثنائية التي حظي بها مسلسل “قيامة أرطغرل” التركي الذي اشترت أكثر من ٦٠ دولة حقوق بثه، حيث تحصل على المركز الثاني في قائمة أعلى نسب المشاهدة في العالم، وأوضح الموقع أنه وفقًا لبيانات رسمية في تشيلي يتصدر الاسم التركي “إيلف” قائمة الأسماء الأكثر انتشارًا في البلاد بين الفتيات الصغيرات إلى جانب اسم “فرونيكا” بسبب الشغف الشعبي بالمسلسلات التركية.
هذا الانتشار الواسع عبر ثقافات متنوعة وفي سنوات قليلة، وأمام منافسين أمريكيين وأوروبيين وهنود ذوي خبرات درامية عريقة يعطي مؤشرًا هامًا حول نفوذ هذا الذراع الثقافي الفعال.
سابعا: استراتيجيات المواجهة:
يجب علينا النظر بالأهمية لدور النخب الثقافية، والفنية، والسياسية، والإعلامية،
والرياضية، والعمل على تقديم أعمال تليق بالقدرات المتاحة والمواهب الكبيرة قبل اختطافها،
ولانكون نحن من يختطف جهدنا ومواهبنا قبل الغير خاصة أنه تم ذلك كثيراً من خلال تغيير مفاهيم النخب وضرب كل ما هو ثابت، والمثال الصارخ كان لقاسم أمين بعد عودته من فرنسا ومطالبته بتحرير المراة ومدى تأثيره على خلع الحجاب بعد مناداته بذلك.
والآن نجد نماذج وأسماء مصرية وعربية مثل الإعلامي إسلام بحيري وما يثيره من “شبهات” حول بعض الثوابت الإسلامية المرتبطة بكتابي صحيح البخاري وصحيح مسلم وبعض الأحكام الفقهية الإسلامية، ولم يكن إسلام هو الوحيد في هذا الهجوم المتكرر على البخاري وغيره وإنما كان الصحفي إبراهيم عيسى أيضًا في أكثر من موضع، حتى أصبح من يقدم لنا الدين ليس علمائها ولكن تقدمها الراقصة سما المصري في صورة واضحة لاختطاف الإسلام وتشويهه.
لذلك تبرز أهمية العمل على تقديم نماذج ناجحة في كافة المجالات؛ لاحتياجنا لها، وليس فقط من موقف المدافعين عن ديننا ودفع التهمة عنه من خلال الأعمال الأدبية والثقافية والفنية، والنظر بعين الاعتبار للتجارب السابقة، وتقديم المناخ المناسب لها وتقديم مشروع فني وأدبي وثقافي يكون من ملامحه:
1ـ فن منضبط بالضوابط الشرعية وقيمها وقواعدها الأخلاقية والسلوكية.
2ـ فن منفتح: كما فعل حسن البنا في مسرحياته التي قدمها من حيث تكوين الفرقـة، أو عـرض الموضـوعات، فلـم يصـر علـى أن يكـون أعضاء الفرقة من تنظيم جماعة الإخـوان فقـط، واســتعان بالعنصــر النســائي، واستعان بغير المسلمين في العمل المسرحي والدعاية.
3ـ فن واقعي: الاستفادة مـن التــــاريخ الإســــلامي والعربــــي، ومعالجة قضــــايا الحــــب والعروبــــة والوطنيــــة، مــــن خــــلال الأعمال الفنية.
4ـ فن يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
5ـ مبدا الإنسانية الفن: أي وضـع أهـداف للفـن الإسـلامي، وأن هـذا الهـدف إذا تحقـق ـ ولـو علـى يـد مـن لا يؤمنـون بقضـية الفـن الإسـلامي ـ أن نعتبـر هـذا الفـن معبـراً عـن الفـن الإسلامي، وهــو مافعله البنا وتبنــاه نظريــاً، وكتبه فيمــا بعــد الكاتبان والمفكران سيد قطب محمد قطب ولكن في مجال الأدب، فتبنيا مبدأ إنسـانية الأدب.
6ـ تبني فقه التيسير: فــإن فقــه التيســير كفيــل باستمرارية الفــن، أمــا فقــه التشــدد فــلا يمكــن أن ينشــأ فــن فــي ظلالـه أبـداً.
7ـ العامل البيئي: الاستفادة قدر المستطاع من طبيعـــة المجتمـــع المصـــري ومكوناته؛ لتقديم فن جاد وهادف.
فكان البنا يضع برنامجاً لأي ضيف يأتي مصـر مـن الخـارج أن يصـحب الضـيف إلى الأوبرا، كما كان بين الفنانين من يحمل لقـب شـيخ، ويبـاهي بـذلك، ولا يجـد حرجـاً فيـه، ولا تســـتنكف الطبقــة الفنيـــة مـــن ذلـــك ولا تلفظـــه أو ترفضـــه، كالشـــيخ ســلامة حجـــازي، والشيخ زكريا أحمد، والشـيخ إمـام عيسـى، إلـى الشـيخ سيد مكاوي، هذه البيئة وهذا المناخ لا شك كان له عامل كبير فـي نجـاح تجربـة البنـا في الفن.
8ـ الاعتماد علـى المختصــين.
9ـ تبنـي قضـية الفـن بوصفه عملاً جماعياً: وجعله عملاً مؤسسياً لا مـن بـاب الهوايـة أو علـى هـامش الحيـاة.
10ـ لا ننشغل دوماً بتصحيح صورة العالم الإسلامي في الإعلام الغربي على أننا متهمون، بل تقديم أنفسنا بشكل يليق ومقتضيات الحوار بين الحضارات والثقافات، وتعزيز ثقافة السلام القائم على العدل والإنصاف والاحترام المتبادل.
11ـ كما يجب إثراء جهود رجال الفكر والعلم والثقافة والصحافة والإعلام، إزاء تصحيح الصورة النمطية التي يقدمها الإعلام الغربي عن العالم الإسلامي عقيدة وثقافة وحضارة؛ للتقليل من وطأة التوتر الذي يسود علاقات العالم الإسلامي بالغرب.
12ـ كما أنه من واجب المسلمين والعرب أن يعيدوا إلى الإسلام روحه الحضارية السمحة، ومضمونه الإنساني المتجدد في سلوكهم وأعمالهم، قبل أقوالهم وخطاباتهم.
13ـ الإمساك بمصادر القوة السياسية (النخبة السياسية) ودورها الفاعل في صناعة السياسة وتنفيذ ما تتضمنه من برامج.
14ـ توجيه المواطنين إلى القيم الاجتماعية التي تؤمن بها.
15ـ العمل على تقديم نخب جديدة في كافة المجالات تتمتع بالقبول الشعبي والاستقلالية في التأثير واتخاذ القرارات ولم شمل الصف على مشروع وطني.
16ـ يجب مراجعة وفهم أن حقيقة التخلف العقدي في حياة الأمة وما يصاحبها من التخلف السلوكي عن حقيقة الإسلام لهو خطير غاية الخطورة، فالتخلف العقدي هو الذي يمهد للتخلف السلوكي من ناحية، ويؤخر علاجه من ناحية أخرى.
هذا التخلف العقدي وصل إلى أقصى درجاته حين نحيت الشريعة الربانية عن الحكم، ومن التخلف العقدي نشأت كل ألوان التخلف التي أصابت العالم الإسلامي: التخلف العلمي، والحضاري، والاقتصادي، والحربي، والفكري، والثقافي.
17ـ ينبغي أن يكون فهمنا لأحداث التاريخ الإسلامي فهماً سننياً، فهناك أمم أخرى غير الأمة الإسلامية يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله، بل كلما زادت بعداً عن الله زادت في القوة والتمكين كما هو حال أوروبا اليوم، لأن هذا من السنن الربانية في معاملة الكفار، أما أمة الإسلام، فإنها تعامل بسنة خاصة، فالمسلمون لا يمكنون إلا على الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين؛ ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقه، فيزيدوا انحرافاً حتى يصلوا إلى الكفر فتأخذهم سنة الكافرين.
خاتمة:
النخب الفنية والثقافية والإعلامية والسياسية هم قادة الجماهير بلا منافس، فإليهم تتطلع عيون الملايين ومئات الألوف من الناس من الخواص والعوام، بحيث يتلقون الأخبار وصورة الحياة من حولهم، مع توجيه أساسي إلى ما يجب أن تؤيده هذه الجماهير وما يجب أن ترفضه، وما يجب أن تعمله، أو تهمله، أو تقاومه. فهذه هي – من المفروض – نخبة المجتمع والمنوط بهم تنويره، وتطويره، وتنبيهه، وتحذيره، بل يناط بهم تشبيك المجتمع وتحريكه.
فالنخب الثقافية لها أهميتها في المجتمع، كما يعرفها الدكتور أنور عبد الملك: بأنها كل ما يصور تجارب الإنسان شعراً، ونثراً، ولوناً، وتراثاً، شكلاً وصورة، وكل تغيير أيا كان شكله، ونمطه، وهدفه، وأصالته، ونوعيته، وكل ما من شأنه أن يخرج أحوال الناس من برجها الذاتي إلى ساحة الإدراك والتذوق والفاعلية. وهو من حمل الحقيقة فى وجه القوة، كما عرفه المفكر الأمريكي نعوم شوميسكى.
لكن مع الحكم المستبد تنعكس كل هذه الأدوار والمهام، ويتحول هؤلاء إلى أذرع وبهلوانات في سيرك الطاغية يتحول المثقف الحر الذي هو جزء من أهله وأرضه وتاريخه وواقع أمته ومستقبلها إلى مثقف تحت الطلب “ديلفري”، يتلهى بالثقافة، ويجعل منها ملهاة ومضيعة للوقت، ويطرح القضايا السجالية ليلفت أنظار الناس عن استبداد الطاغية والحالة الوطنية المزرية.
فمع الحكومات المستبدة فإن العالم العربي لم ينجح في خلق نخب سياسية تتمتع بالقبول الشعبي، ولكن إذا نظرنا أن كثيراً من النخب بل ومن الشباب العربي أجبر على ترك بلادهم وهاجر لدول أوروبية، فالفرصة متاحة الآن لدور فعال في إيجاد نخب جديدة وتوفير كل السبل لهم للوقوف أمام أي تقسيم مجتمعي موجود، ومن ثم وحدة هذا الوطن وهذا الدين من أن يختطف.
…………………………………………………………………………………………………………ز
[1] واقعنا المعاصر – محمد قطب، دار الشروق، القاهرة ١٩٩٧م ، ص ١٦٢
[2] الإسلام في الغرب بعد ١١ سبتمبر- شبكة الأخبار العربية الأحد ٣ أكتوبر ٢٠١٠م
[3] نفس المرجع السابق – الإسلام في الغرب بعد ١١ سبتمبر
[4] واقعنا المعاصر – محمد قطب ، دار الشروق ص ١٨٣
[5] نفس المرجع السابق
[6] موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية ص ٢٤٣ نشر مؤسسة الأهرام عام ١٩٧٩ مادة ” الصهاينة المسيحيون”
[7] دور اليهود في إفساد أوروبا من كتاب ” مذاهب فكرية معاصرة” محمد قطب
[8] القسيس زويمر رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين، أول من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين.
[9] مفكر وفيلسوف فرنسي ، يعد أحد أهم المفكرين الغربيين في النصف الثاني من القرن العشرين.
[10] واعظ البنتاجون والواعظ الخاص بالوراثة للرئيس الأمريكي بوش الإبن
[11] القس الإنجيلي الأمريكي
[12] سياسي وداعية مسيحي أمريكي اشتهر بتصريحاته المثيرة للجدل وبعدائه للإسلام
[13] نص المنشور بكامله في كتاب ” عجائب الآثار في التراجم والآثار ” لعبد الرحمن الجبرتي، ص ١٨٢- ١٨٣ طبع دار الجيل ببيروت
[14] نفس المرجع السابق
[15] نفس المرجع السابق
[16] الغارة على العالم الإسلامي ترجمة محب الدين الخطيب.
[17] نفس المرجع السابق
[18] “تم الاعتماد على كتابه العرب السيئون: في إخراج فيلم وثائقي أنتجته مؤسسة التعليم الإعلامي عام ٢٠٠٦ م وعرض في الولايات المتحدة عام ٢٠٠٧م مصحوبا بترجمة نصية عربية” ……….
… ميشيل فوكو فوكو صحافيا: أقوال وكتابات …..
[19] الأديان على شاشة السينما المصرية محمود قاسم
[20] حسان بن ثابت حقق وعلق عليه د. وليد عرفات
[21] ديوان كعب بن زهير شرح ودراسة د. مفيد قميحة
[22] عبد الله بن رواحه حياته وشعره إعداد إبراهيم محم إبراهيم
[23] البنا وتجربة الفن عصام تليمة
[24] الاستراتيجية التركية في أفريقيا د. محمد هشام راغب http://ruyaa.cc/Page/8015