اختطاف المفاهيم الكبرى : مفهوم الجهاد أنموذجاً
المقدمة:
تقع المفاهيم في قلب البنية الحضارية لأي أنموذج حضاري؛ بحكم كونها عملية في صلب هويته الحضارية، ومن المفترض أن المفاهيم بوصفها منظومة فكرية تكون منسجمة مع العناصر البنيوية الأخرى التي تتأسس منها البنية الحضارية، ومن المعلوم أن عناصر البنية في الغالب هي التي تشكل النسق الحضاري العام الذي يعكس الخصوصية وبه يواجه حالة التدافع الحضاري عند تفاعله مع البنى الحضارية الأخرى، وموقع المفاهيم من البناء الفكري لأي نسق معرفي يعد هو حجر الأساس الذي يستتبع بقية العناصر الحضارية، إذ المفهوم من حيث هو يمثل خلاصة البنى الفكرى والنظرية المعرفية في النسق المعرفي الواحد.
وأخطر ما يصيب المفاهيم -ونحن نؤصل في سياق المفاهيم الإسلامية الأصيلة- هو حالات الاحتلال المفهومي التي ترجع إلى جملة من العوامل والمؤثرات، تارة يكون مرجعها الميوعة المفاهيمية التي تفضي بالضرورة عند استحكامها إلى فقدان الخصوصية الحضارية، وتارة يكون مرجعها حالة الغموض التي يتلبس بها المفهوم بسبب التساهل في بيان محدداته ومميزاته الجامعة والمانعة كما يراه المناطقة، فيكون المفهوم عرضة للداخل والخارج، فيحدث الاحتلال المفاهيمي على حساب المقصود الذي دل عليه المفهوم في أصل وضعه الشرعي.
وأخطر ما يصيب المفاهيم -ونحن نؤصل في سياق المفاهيم الإسلامية الأصيلة- هو حالات الاحتلال المفهومي التي ترجع إلى جملة من العوامل والمؤثرات
وتارة يكون بسبب حالة الاضطراب في قراءة المفهوم وتنزيله وتطبيقه على وقائعه وحوادثه، وخاصة إذا انتزع المفهوم من دائرته ومنظومته الكلية وسياقاته النصية والموضوعية والتنزيلية، فتتداخل والحالة هذه الأبعاد المقاصدية بقسيمتها الوسائلية، فيدخل المفهوم في حالة مرضية قد لا يقتصر ضرره على الخاصة، بل يتجاوزه إلى بقية الأعضاء في دائرة العدوى، خاصة إذا أدركنا القيمة المنظومية للمفاهيم الإسلامية التي ينبه بعضها على بعض.
وإنما تنشأ هذه الحالة المرضية في المفاهيم حينما تكون الحضارة الغالبة هي المتحكمة في تشكيل عقلية المغلوب وفقاً لما تثيره حالة الانبهار الحضاري والعمراني، فيقع الاحتلال المفهومي، وهي قضية أخذت حيزاً من النقاش العلمي في أروقة العلم وحواضنه، حيث تتم عملية اختطاف للمفاهيم ذات الخصوصية الحضارية بالتشويش على دلالاتها الأصلية وإخراجها من سياقاتها الفكرية والمعرفية، فيؤول إلى إفراغ هذه المفاهيم من مقصودها الموضوع له أصلاً، ثم يعاد ملء هذه المفاهيم بالدلالات المقصودة عند أرباب الاختطاف، ويؤول الأمر إلى حالة من الإحلال المفاهيمي.
وإنما تنشأ هذه الحالة المرضية في المفاهيم حينما تكون الحضارة الغالبة هي المتحكمة في تشكيل عقلية المغلوب وفقاً لما تثيره حالة الانبهار الحضاري والعمراني، فيقع الاحتلال المفهومي
وهنا لا ينقضي العجب من حالة الجَلَدَ التي يتصف بها المختطِفون على مدار أجيالهم وأزمانهم الممتدة؛ من أجل تحقيق أهدافهم في تفريغ المفاهيم الإسلامية من مضامينها الحقة، وجعلها دائرة في سياقات فكرية لا تبقي للمفهوم قيمته العليا في دائرة الثوابت التي لا تتغير زماناً ومكاناً وحالاً وأشخاصاً، والأخطر من ذلك حالة الإبقاء على العوارض اللفظية التي تتصف به المفاهيم المخطوفة بعيداً عن دلالاتها الأصلية.
فنكون بهذا الاعتبار بإزاء صورة من صور تحريف المعنى المقصود أصلاً من الألفاظ، ثم تسوق بوصفها مفاهيم إسلامية أصيلة تحمل من الدلالات التي قصدها واضعها الأصلي، فنقع والحالة هذه في سياق من التلبيس والتدليس المفاهيمي الذي يفقد المفاهيم الإسلامية قيمتها الفكرية والحضارية، ومن ثم لا يمكنها المغالبة في حالة التدافع المفاهيمي مع المفاهيم الحضارية الغالبة، فيُطلب استجداؤها لتحل محل ما صُرع من مفاهيم الأمة الأصيلة[1].
ومن هنا فإن من الأهمية بمكان -ونحن في دائرة المواجهة الحضارية لحالة الاختطاف للمفاهيم الكبرى كما هي في دائرة التأسيس- التأكيد على ضرورة المحافظة على المفاهيم في الأمة والاحتفاظ بمدلولاتها والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل؛ لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية وتطبيقات تاريخية مأمونة، وبوصفها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري، وعدم تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري[2].
من الأهمية بمكان -ونحن في دائرة المواجهة الحضارية لحالة الاختطاف للمفاهيم الكبرى كما هي في دائرة التأسيس- التأكيد على ضرورة المحافظة على المفاهيم في الأمة والاحتفاظ بمدلولاتها والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل
ولعل من باب التشويش المفضي إلى دائرة الاختطاف تلكم العملية التي يستحدثها الخاطفون على مستوى واسع في إطار مجموعة من الدعاوى، بقصد تنحيتها وإزاحتها أو على الأقل توريتها عن دائرة الحضور، بدءاً بنفي قدرة المفاهيم الإسلامية على الاستيعاب، ومن ثم تأطيرها بأطر تاريخية تجاوزها الزمان، ومروراً بحالة العجز التي تتصف بها حسب ظنهم تجعلها غير قابلة للتطبيق والتحقق في الواقع المعيش، فضلاً -وهو الأصل عن دعوى نفي الوجود لمثل هذه المفاهيم في المنظومة الإسلامية، وعند ممارستهم للتضليل المفاهيمي بغية نقد المفاهيم الإسلامية ونقضها تقدم بدائل جاهزة في سياق منهجية الإحلال، قوام هذه البدائل مجموعة من المفاهيم التي تشكل بناء متكامل الأسس، قادراً بزعمهم على التطور والاستجابة إلى الواقع[3]، وهي عملية في غاية الخطورة يلزم الاستنفار لها؛ حماية للمنظومة الإسلامية ومفاهيمها الكبرى من الاحتلال المفاهيمي والغزو الفكري.
إن الأمة حين تتخلى عن مفاهميها الكبرى ومرجعيتها المطلقة إنما هي تؤسِّس أو يؤَسَّس لها حالة من الاستتباع الحضاري الذي يجعل الأمة متجهة نحو المفاهيم الوافدة، ولا شك أن “من مفاهيم التبعية (إيجاد البديل في مواجهة الأصيل)، والأمم العريقة التي تكامل فكرها لا تكون عادة في حاجة إلى مفاهيم وافدة، فإذا نظرت فيها فمن أجل أن تعرف أسلوبها وأهدافها، مع تقدير الفارق البعيد بين منهج جزئي إنشطاري ومنهج متكامل جامع، بين منهج رباني يستقطب النفس الإنسانية من جميع أبعادها ومنهج بشري عاجز عن الاستمرار والدوام”[4].
الأمة حين تتخلى عن مفاهميها الكبرى ومرجعيتها المطلقة إنما هي تؤسِّس أو يؤَسَّس لها حالة من الاستتباع الحضاري الذي يجعل الأمة متجهة نحو المفاهيم الوافدة
وفي سياق الأنموذج الذي نحاول من خلاله التدليل على حالة الاختطاف للمفاهيم الكبرى، فإن مفهوم الجهاد يقع في مقدمة المفاهيم المستهدَفة بالاختطاف؛ وبالرغم من كون الجهاد من المفاهيم الإسلامية التي تتمتع بالإصالة في المضمون والضوابط والقيم والوجهات التي يستبطنها، والتي تنأى عن محاولات التشويه أو التلبيس الفكري والحركي، فإنه مع هذا يعد من أكثر المفاهيم عرضة لمحاولات الاختطاف[5].
ومرجع ذلك المكانة التي يتبوؤها الجهاد في المنظومة الحضارية الإسلامية، بمقتضى الوظيفة الحضارية التي يقوم بها الجهاد، ذلك أن حضور الأمة بعد وجودها التكويني وتفعيل دورها في السعي لإقامة مشروعية إسلامية عليا، قوامها أن تكون كلمة الله هي العليا والقيام بالوظيفة الرسالية قد يستلزم هذا كله استدعاء القوة في تحقيق مقاصد حضورها في تفاعلها الخارجي.
وبحكم كون الجهاد من المفاهيم الحركية في المنظومة الإسلامية وله الدور الفاعل في حركة الامتداد العقيدي للأمة وشهودها الحضاري، فقد نال هذا المفهوم كشأن أمثاله من المفاهيم الإسلامية تشويهاً ظاهراً، طاله في ذاكرته التاريخية منذ العهد الأول حتى يومنا هذا.
ومن الأمثلة السافرة لهذا التشويه ما ذكره مونتغمري وات في قراءته لمفهوم الجهاد في سياق ما أسماه: (الدوافع وراء التوسع العربي)، وإن كان في نفس السياق حاول أن يظهر إنصافاً في التحليل والتوجيه، إلا أنه لا يعدو كونه حيلة قصد بها تضليل القارئ ومحاولة التأثير فيه عقله وفهمه، فيقول: “أما بالنسبة للمسلمين، فقد كان الغزو استمراراً طبيعياً لنشاط عرفوه منذ حياة محمد النبي، وقد جاء هذا النشاط نتيجة تحول طرأ على طبيعة غزوات البدو في الجاهلية .. ومن الجائز إزاء تطور غارات البدو الجاهلية إلى جهاد إسلامي، أن يكون الحافز لدى الكثيرين من المشتركين فيه حافزاً مادياً أكثر منه حافزاً دينياً.
وبحكم كون الجهاد من المفاهيم الحركية في المنظومة الإسلامية وله الدور الفاعل في حركة الامتداد العقيدي للأمة وشهودها الحضاري، فقد نال هذا المفهوم كشأن أمثاله من المفاهيم الإسلامية تشويهاً ظاهراً، طاله في ذاكرته التاريخية منذ العهد الأول حتى يومنا هذا
غير أن المميز الرئيسي للجهاد عن الغارة البدوية هو المدلول الاستراتيجي .. فقد بات من الضروري توجيه طاقات قبائل البدو التي كانت في الماضي تجد في الغارات متنفساً لها، وجهة أهداف جديدة للغزو، مما استلزم بالتالي توسعاً يعقبه توسع. ومن ثم فإنه طالما كان النصر حليف المسلمين، أدت ممارسة الجهاد إلى نمو مستمر للتحالف الإسلامي، وإلى توسع إقليمي دائب”[6].
ومن مقتضيات التأصيل والتأسيس بيان الجهاد بوصفه مفهوم منظومة لها مفتتح ومختتم، ولها علائق وضمائم، وهو مفهوم يتجلى بحسب السياقات التي يوجد فيها، ولئن كان الجامع بين الحالات كلها التي يرد فيها مفهوم الجهاد هو المجاهدة وحمل النفس على ما تكره كما يثيره معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت: آية 69]، فإن جملة من التكييفات التعريفية تفرض نفسها بحسب سياقات الورود[7]، ومن استعراض ورود الألفاظ في الخطاب القرآني وبيانه النبوي المشتملة على مادة (جاهد يجاهد مجاهدة وجهاداً) يتبين لنا أن المراد من الجهاد في سبيل الله أن يبذل المسلم في سبيل الله مما يملك من جهد أو طاعة أو مال أو نفس، ويكون هذا البذل في سبيل الله حقاً حين يكون بهدف نشر دين الله، والدعوة إليه وتبليغه للناس، وتأليف القلوب عليه، أو نصرته وتأييده، أو الدفاع عنه، أو إعلاء كلمة الله في الأرض، أو إقامة شريعة الله ومنهاجه الذي رسمه لعباده وحدد حدوده، مع ابتغاء رضوان الله في كل ذلك[8].
ولعل أقرب القراءات الجامعة للمفهوم من سياقاته النصية والموضوعية ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: “الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحب الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان”[9]، وبالنظر إلى مضامين منظومة الجهاد بحسب ما يثيره هذا التعريف يتبين لنا أن مفهوم الجهاد وهو يتحرك في سياق منظومي فإنه من خلال كونه قيمة وأداة في ذات الوقت يستدعي مفاهيم أخرى يشكل معها -بالتساند والتواقف الذي يحدث معها- سياقاً ومساراً كلياً بشرط استحضار البعد المقاصدي للجهاد ذاته.
ولا ينبغي ونحن في سياق ربط الجهاد بالاجتهاد كما ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية إغفال الرؤية والتنظير الذي ساقه مارسيل بوازار في أثناء تعرضه لمفهوم الجهاد، فإنه فيما يظهر توافق مع ابن تيمية على سبيل الاتفاق لا القصد، فأصَّل المفهوم تأصيلاً ضافياً يحسب لأمثاله، فقال: “وأصل لفظ الجهاد يعني الجهد .. ولا يمكن فهم المعنى الصحيح للجهاد دون وضع اللفظة في موضعها من البنية الإجمالية للإسلام والفلسفة الإسلامية الخاصة بالعلاقات الدولية.
فالجهاد هو بالفعل الوسيلة التي يجب أن تفرض عند الاقتضاء حكم الإسلام أي السلام والعدل في ظل الشريعة المنزلة على دار للحرب معاندة وعدوانية. والجماعة الإسلامية الخاضعة للشريعة الإلهية معادية حتماً للزلل والظلم. وينبغي أن تتجسد هذه المعارضة المتصلبة في جهد ذي طابع متنوع تقرره وتتحكم به طبيعة الخلل الواجب تقويمه: جهاد الإنسان لنوازعه السيئة، وجهاد خلقي من أجل التقيد بالإرشادات القرآنية، وجهاد للتبشير بالدين بالدعوة السلمية، وقتال في حرب عادلة في سبيل الله لحماية الجماعة وتخليص المسلمين المعزولين من الاضطهاد ..
لقد أنشأت العقيدة الإسلامية نظام تسلسل في القيم. فأكثر أنواع الجهاد استحقاقاً هو في الواقع الجهاد الذي يقوم به الإنسان لكبح رغباته، حسبما تفيده السنة النبوية. وهذا الجهد الشخصي الذي يمارسه الإنسان على نفسه هو الجهاد الأكبر. فالجهاد المسلح إذن ثانوي نسبياً ولا يمثل إلا أشد مظاهر الجهد بروزاً”[10].
وهذا البيان للمفهوم يستجلي لنا مفاهيم ومضامين من أمثال العقيدة والتوحيد، والمعاملة والسلوك، والتزكية والمجاهدة، والقيم والأخلاق … في غيرها، فنجد في سياقه وحدة موضوعية جامعة لكل السياقات التي ورد فيها المفهوم، ولعل ما ساقه ابن القيم في بيانه للمفهوم يجعلنا نتصور جامعيته وحركيته في سياق العلاقة بين الإنسان وخالقه والكون المخلوق المسخر، فيقول رحمه الله: “لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب، والجنان، والدعوة، والبيان، والسيف والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده … إذا عرف هذا، فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين”[11].
قوى الاختطاف
المنظومة الغربية | الكيان الصهيوني | أهل الغلو | الحكومات الوظيفية |
الاستشراق.
التغريب. الفرق المصطنعة. |
الصهاينة العرب.
التطبيع. |
القراءات المتعسفة.
الغلو بالفعل. |
التوظيف السياسي.
تشويه التاريخ. اختطاف الرموز. |
المبحث الأول
الجهاد وبواعث الاختطاف المفاهيمي
تتغاير البواعث والأسباب التي أفضت إلى خطف مفهوم الجهاد بحسب ما تمليه الطبيعة التكوينية للخاطفين والأطر المرجعية التي ينتمون إليها، وكذلك بحسب تباين الرؤى في قراءة المفهوم من حيث ذاكرته التاريخية ونماذجه الحركية ومؤثراته في حركة التفعيل الحضاري عند حضور الأمة في تفاعلاتها الخارجية، وعند تأمل هُوية الخاطفين فإن عندنا جملة من الهُويات الخاطفة التي بالرغم من تغايرها في النهج والمسار، إلا أن مقصود الاختطاف جعلها تتقاطع في سبيله والبحث عن وسائل تحقيقه.
ولا يخفى تنبيهاً وتذكيراً أن منهجية الاختطاف لم تطل مفهوم الجهاد بوصفها مفهوماً فرداً وجهت له سهام الاختطاف، بل طالت أيضاً المفاهيم الإسلامية الحيوية التي ساهمت من خلال منظومتها الجامعة والشاملة في بناء الرؤية الكونية الحضارية، ولهذا فإن التعرض لبحث اختطاف مفهوم الجهاد، فإنما يستدعي التنبيه كذلك على منهجية اختطاف الإسلام نفسه ومفاهيمه الحيوية الكبرى، وهو ما انبرى له هذا المشروع الذي جعل مقصوده الأساس مواجهة اختطاف الإسلام.
منهجية الاختطاف لم تطل مفهوم الجهاد بوصفها مفهوماً فرداً وجهت له سهام الاختطاف، بل طالت أيضاً المفاهيم الإسلامية الحيوية التي ساهمت من خلال منظومتها الجامعة والشاملة في بناء الرؤية الكونية الحضارية
وتأسيساً على ما سبق يمكن الإشارة إلى أبرز الأسباب والبواعث الداعية لاختطاف مفهوم الجهاد:
أولاً: تكمن أهم البواعث والأسباب التي دعت إلى خطف مفهوم الجهاد وتفريغه من مقاصده وأهدافه -وخاصة في نسقها الغربي- في خوفهم ورهبتهم من الوظيفة الحضارية التي يتبوؤها الجهاد نفسه سواء على مستوى كونه وسيلة من وسائل إحكام البناء الداخلي في البنية الإسلامية بمقتضى مفهومه الشامل، أو على مستوى التفاعلات الحضارية بين الأمة المسلمة وغيرها من الأمم، فكان عاملاً رئيساً من عوامل تحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وفتحت به القلوب قبل البلدان، “إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد؛ لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، يواجه دائماً طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد، ويواجه دائماً أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد، تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور، وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية؛ كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل .. وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله .. ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف يحطم هذه الأنظمة، ويدمر هذه القوى التي تحميها .. ثم ماذا؟ ثم يترك الناس بعد ذلك أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها”[12].
تكمن أهم البواعث والأسباب التي دعت إلى خطف مفهوم الجهاد وتفريغه من مقاصده وأهدافه -وخاصة في نسقها الغربي- في خوفهم ورهبتهم من الوظيفة الحضارية التي يتبوؤها الجهاد
ثانياً: وفي السياق الغربي تحديداً وبسبب تمركزه حول نظرية الصراع، فإن من بواعث الاختطاف لمفهوم الجهاد بغية تغيير دلالاته ثم إبطاله، الاتجاه نحو تأجيج الصراع مع الحضارة الإسلامية؛ لكونها الحضارة الوحيدة التي لها القابلية من خلال مفاهيمها الحيوية ونظمها المحكمة وقيمها التأسيسية على استيعاب حاجات البشرية في أبعادها المختلفة، مستهدفاً -أي الغرب- بتأجيجه الصراع جعلَ الأمة في دائرة الاستتباع التي تجعل الغرب قبلة في بعده الثقافي والسياسي[13].
وتقريراتهم دليل ظاهر في هذا السياق، ويكفي مثالاً ونموذجاً ما قاله لورنس براون: “الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع[14]، وفي حيويته. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي”[15]، ومقالة براون وأمثالها تكمن فيها الطبيعة الصراعية والصدامية التي يستبطنها البعد الثقافي الغربي وانعكاساته في الفعل والحركة، وأكثر الأطروحات التي تجسد هذه الرؤية والطبيعة الصراعية هي أطروحة صدام الحضارات التي وضعها صموئيل هانتجتون، وقد كانت نظريته متكئاً يستند عليه صانعو السياسة الأمريكية كما يقرر روبرت جرين؛ ذلك لأنهم كانوا حسب رأيه تائهين في البحث عن معالم نظام جديد بعد الحرب الباردة من دون العثور على مؤشرات ملموسة لها، بل فوجئوا بلطمة الأحداث في كثير من مناطق العالم، ولم يتمكن هؤلاء من وضع استراتيجية يمكن اتباعها عند التعامل مع الأحداث، ولهذا لجؤوا إلى التحذير من حقبة حالكة، إلا أنهم وجدوا ضالتهم في نظرية هانتجتون[16]، التي كان أول ظهور لها على شكل مقالة في صيف عام 1993م.
وقد استندت هذه الأطروحة على أن الصراع العالمي هو صراع ثقافات وأديان وليس صراع مصالح، وعلى أن تفسير تقدم الدول وتأخرها يكون بحسب الحالة الثقافية والانتماء الديني، ويرى أن الثقافة تشكل مصدراً للصراعات الرئيسة بين البشر، ولذلك يقول: “الصراعات الأكثر ترجيحاً أن تمتد إلى حروب أوسع هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول من حضارات مختلفة. وأشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة لأخرى. القضايا الرئيسية على أجندة العالم تتضمن الاختلافات بين الحضارات. القوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً إلى الحضارات غير الغربية. السياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات”[17].
ولكن النظرية التي بناها هانتغتون على فكرة التعددية الصراعية لو دقق النظر فيها كما يرى المسيري لوجد أن التعددية التي يطرحها هانتجتون واهية زائفة، ففيها تطل الثنائية الصلبة بوجهها، والعالم في سياقها ينقسم على قسمين اثنين: الغرب من ناحية وبقية العالم من ناحية أخرى، ولوجد أن العالم بأسره يتحرك في واقع الأمر نحو الغرب.
وعند التأمل سيكتشف أن كلمة الغرب تعني في واقع الأمر الحداثة، فثمة ترادف بين هاتين الكلمتين عنده، ولذلك يقول: إن الحضارة الغربية حديثة وغربية. أي أن التحديث هو التغريب، ومن ثم فإن من يود أن يحدث فليغرب. وهو يقتبس بإستحسان بالغ كلمات نايبول الكاتب الجامايكي الذي تخصص في تأليه الغرب وتجريح العالم الثالث والهجوم على الإسلام: إن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية التي تناسب كل الناس. ومعنى ذلك أن الحضارة الغربية حالة طبيعة، صفة لصيقة بطبيعة الإنسان، ومن ينحرف عنها فهو إنسان غير طبيعي وشاذ! وهذا يعني أن التاريخ يتبع مساراً واحداً وأن هانتجتون يؤمن بالنموذج أحادي الخط، برغم كل حديثه عن التعددية[18].
ثالثاً: ومن البواعث الرئيسة في السياقين الغربي والصهيوني في محاربة الجهاد واختطافه تلكم الروح التي يحدثها الجهاد في النفسية والشخصية المسلمة، فيجعلها فاعلة في مسارين، الأول مسار البناء والعمران، فالجهاد بما أنه من المفاهيم الجامعة يبث في النفس المسلمة تلكم الحركة البانية التي تظهر طبيعة الجهاد من طبيعة الدين نفسه، فما الجهاد إلا لبنة من لبنات هذا الدين وجزء من أجزائه، وهذه الحركة ومقاصدها هي التي جعلت ربعي بن عامر يقول لكسرى حين سأله عن سبب مجيئهم، فقال له: “الله ابتعثنا لنخرج لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”[19]، بما يظهر فهمه وفهم جيل الصحابة لطبيعة الرسالة ومحددات خطابها، والمسار الثاني مسار المدافعة والممانعة من أجل حفظ بيضة الإسلام وأهله، وتلكم الروح هي التي قصد الخاطفون إضعافها بل وأدها في النفسية المسلمة.
فالجهاد بما أنه من المفاهيم الجامعة يبث في النفس المسلمة تلكم الحركة البانية التي تظهر طبيعة الجهاد من طبيعة الدين نفسه
رابعاً: ومن البواعث التي يستثمرها الخاطفون كذلك ذلكم البناء الاختزالي لمفهوم الجهاد؛ لأنه من الممكن أن يشكل حالة من حالات القابلية للاختطاف، وزاوية الاختطاف المستمثرة تكمن في جعل المفهوم منظوراً إليه في دائرة العنف والقتل دون النظر إلى محدداته ومقاصده، فيكون الاختزال مضعفاً للمفهوم من جهة؛ لكونه متجاوزاً الرؤية الشاملة التي يتضمنها سياقه في الخطاب والقرآني وبيانه النبوي، وأيضاً يعد مجالاً للطعن من قبل الأنساق الخاطفة حين ينظر إليه بمعزل عن منظومته المفاهيمية والمقاصدية الكلية، ويمكن هنا استدعاء سياقين مختلفين اجتمعا في نقد فكرة البناء الاختزالي للمفهوم وأثره في تحريف معناه ما يمهد لنقده واختطافه ثم نقضه في المآل.
ومن البواعث التي يستثمرها الخاطفون كذلك ذلكم البناء الاختزالي لمفهوم الجهاد
الأول خارج عن النسق الإسلامي، يمثله نص مارسيل بوازار الذي سبق أن تعرضنا له في إطار المفهوم، فيقول في دائرة صناعة الاختزال للمفهوم من نسقين متغايرين: “وأصل لفظ الجهاد يعني الجهد، وقد يكون عنيفاً لكنه ليس عسكرياً بشكل خاص على الإطلاق. ويبدو أن الرأي العام الغربي غير المطلع لم يحفظ منه إلا مفهومه الحربي. والحق أن هناك أسباباً نفسانية وتاريخية تفسر ذلك. أضف إلى هذا أن هناك نزعة غوغائية دفعت بعض المسؤولين السياسيين المسلمين المعاصرين إلى التذرع بالجهاد بمعناه العسكري الحصري، ليخفوا بالضبط الجهد الفكري والإداري الذي كان عليهم تحقيقه”[20].
وأما الثاني، فقد جاء من داخل البنية الإسلامية، منطلقاً من دائرة الرؤية الكلية لمفهوم الإسلام العام رداً على محاولتين:
الأولى محاولة تجزيئه لنقده ونقضه، ومنوهاً بفداحة الخطأ الذي يرتكبه الدارسون للإسلام حين يسلكون المنهج التجزيئي في دراسته، فيلاحظ من أسلوب أغلب منتقدي الإسلام أنهم يسددون سهامهم إليه جزءاً جزءاً، فيأخذون هذا الجزء أو ذاك منفرداً وحده، ثم يعمدون إلى نقده وتجريحه، خصوصاً، حين يحاكمونه على أساس منظور آخر يقوم على منطق غير منطق الإسلام أو حين يتم تصور فعل ذلك الجزء ضمن كل آخر غير الكل الإسلامي، وبهذا يستطيع أصحاب المستوى الأول أن يسجلوا نصراً سهلاً، ويضعوا المدافع عن الإسلام في مواقع ضعيفة وهو يدافع عن ذلك الجزء، خصوصاً حين يجر إلى مناقشة كجزء قائم بذاته معزولاً عن كله الإسلامي.
ولهذا فإن الإنزلاق في مناقشة أي جزء من الأجزاء على حدة لا يجعل من الممكن الدفاع عن الإسلام، وهنا قد ينبري البعض إلى القول إذا لم يكن من الممكن مناقشة أي جزء من أجزاء الإسلام على حدة فما هو هذا الإسلام؟ وكيف يمكن أن يجري النقاش حوله أو أن يفهم؟ والإجابة على هذا السؤال تعد مدخلاً لأحد الردود التي يرد بها على الخاطفين، ذلك أن الإسلام يشكل منظومة متكاملة تتماسك أجزاؤها وتتفاعل فيما بينها لتشكل وحدة عضوية متحركة حيوية لا تجعل من الممكن أن يفهم أي جزء على حدة، وإنما ضمن وضعه في الإطار العام أو من خلال علاقته بالوحدة الكلية أي بالأجزاء الأخرى مجتمعة وفي آن واحد، وهذا ما يفهم من القرآن الكريم حين يدين الذين يأخذون بعض الكتاب ويتركون بعضه، حيث يقول تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[البقرة: آية 85]، أو حين يؤكد المسلمون على القاعدة التي تقول: بأخذ الإسلام كله أو تركه كله.
إن هذه جميعاً تثبت منهج الفهم الذي يلزم اعتماده، وهو التعامل معه كوحدة متكاملة تتماسك أجزاؤها بعلاقة عضوية حية متفاعلة. وتساعد هذه النظر الكلية الكلية على الوصول إلى فهم عميق للإسلام، وامتلاك معيار في التعامل مع الأجزاء، ومن ثم امتلاك معيار عدم السماح بالهجوم على الإسلام من خلال عزل أي جزء من أجزائه، أو من خلال إبراز أجزاء وتجاهل أجزاء أخرى[21].
والثانية استخدام ما يسمى بالحجة والنقيض في دراسة الإسلام، حيث تشترك هذه الكتابات في الغالب الأعم في سمة أساسية هي عرض الحجة ونقيضها في دراسة الإسلام والمسلمين، ومن ثم تشير إلى مجموعة الحجج ونقيضها في دراسة الإسلام وعدم قدرته على مواجهة قضايا العصر؛ بقصد قتل الفاعلية الإسلامية حيناً، وتشويه الرؤية الإسلامية حيناً آخر، وتحاول أن تلصق بها ما ليس منها، ضمن حركة الصراع والسير في محاولة إذكائه في السياسات الدولية واستحداث المبررات للعداء مع الإسلام، وعده العدو الأخطر والأخضر تمييزاً له عن الخطر الأحمر الذي سقط وتهاوى.
فلم تترك هذه الدراسات بابًا إلا وطرقته من أجل تحقيق مقاصدها، وهذا الوضع ربما استدعى موقف الدفاع من جانب الباحثين المسلمين دون الفطنة إلى أن الاستغراق في هذا الموقف ليس إلا تبديدًا للطاقة الذهنية، والتى تجعل من رد الفعل محور حركتها الفكرية.
ويتخذ هذا الموقف الدفاعي أكثر من شكل: اتجاه التفاخر والذي يحاول إثبات أن الغرب بنى أصول حضارته على أسس المعرفة الإسلامية آنذاك. واتجاه التبرير والاعتذار، والذي يجهد في الدفاع عن شبهة هنا أو هناك، دون أن يدرى أن هذا هو أحد أهداف منهاجية التغريب والاستشراق. واتجاه افتراض التشابه بين عناصر أو مفاهيم في الفكر الغربي والرؤية الإسلامية، وهو توجه يجهد فكره في إحداث عملية تلفيق قد لا تقوم على أساس منهجي.
وهذه الاتجاهات قد يكون لها ما يبرر قيامها بهذا العمل، وقد تكون أدت أهدافها في حينها، لكنها ظلت الطرف السلبي، القابل والمفعول به لا الفاعل، وقد آن لها ألا تغفل عن الخطورة وتنتقل من موقف ردود الأفعال إلى عملية البناء الفكري والمعرفي والمنهجي[22].
خامساً: ولعل من البواعث أيضاً أن يكون الواقع المنهزم والمنبطح حالة من حالات الضغوط الحضارية -المانعة من الفعل-[23] على البعض من مكونات البنية الإسلامية أفراداً أو مؤسسات، بحيث تفضي بهم إلى إضعاف مفهوم الجهاد أو تواريه ضمن المنظومة الإسلامية من المفاهيم الكبرى التي تشكل جوهر مفهوم الإسلام، فيكون والحالة هذه صورة من صور الاختطاف، ومرجع ذلك خوفهم من تبعات ما يؤول إليه إحياء المفهوم فكراً وحركة، وفي هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “الفئة التي تريد إماتة الجهاد: فئة تهيل التراب على الجهاد، وأن تسقطه من حياة الأمة، وأن تجعل أكبر همها ومبلغ علمها أن تربي الأمة كما تقول على القيم الروحية، والفضائل السلوكية، وتعتبر هذا هو الجهاد الأكبر: جهاد النفس والشيطان.
ومن الغريب أن يتفق في هذا الاتجاه: دعاة التصوف السلبي الموروث من عهود من عهود التراجع والتخلف، (على خلاف دعاة التصوف السني الإيجابي الذين ساهموا في الجهاد بنصيب وافر، مثل: الأمير عبدالقادر في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا والسنوسيين …)، ودعاة العلمانية الدخيلة، المتغربون، يشاركهم عملاء الاستعمار الغربي والشرقي، من اليمين واليسار، الذين يريدون أن يجردوا الأمة من أسلحتها؛ لتبقى عارية مكشوفة أمام أعدائها، فهاجموا فكرة الجهاد، وحركة الجهاد قديماً وحديثاً، واتهموا الجهاد الإسلامي بالعدوانية، ويرحب بهؤلاء وأولئك جميعاً: الاستعمار قديمه وحديثه”[24].
سادساً: ومن البواعث أيضاً ومن خلال اطلاع الخاطفين -وخاصة في النسق الغربي- على ما تؤول إليه التربية الجهادية ومساراتها الفكرية والحركية كما يثيره مفهوم الجهاد كمنظومة في تعميق روح الانتماء العقدي في الشخصية المسلمة، وذلك أن الجهاد بوصفه مفهوم منظومة يتساند ويتوافق مع مفاهيم أخرى يمثل في حقيقته باعثاً من بواعث قوة الإيمان والتمسك بالعقيدة في النفسية المسلمة سواء على مستوى بنائها الذاتي أو مستوى كونها لبنة من لبنات هذه الأمة، والشعور بأهمية دورها في تحقيق الشهود الحضاري.
وهذا ما يثيره قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: آية 110]، فارتباط الخيرية بالأمة ومكوناتها له علة وشرط يلزم تحقيقه لوصف الخيرية؛ باعتبار الخيرية وصف تفعيل وتأصيل وتحصيل لا وصف تأبيد[25]، فتكون العلاقة بين الأمة والخيرية في إطار الارتباط بين السبب والمسبب.
ومن محاسن التأويل في ظننا ما قاله الإمام الرازي في تفسيره لهذه الآية حين تعرض في سياق سؤال عن وجه الخيرية التي اقترنت به الأمة، فقال -سؤالاً وجواباً-: “من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟. والجواب: قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف والنهي عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات: الكفر، فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضاد لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع، لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم”[26].
المبحث الثاني
الجهاد وأنساق الاختطاف وقواه الفاعلة وأدواتها
تبرز في هذا السياق عدة أنساق في اختطاف مفهوم الجهاد:
–نسق خارجي، يتمثل في المنظومة الغربية من خلال أذرعها وأدواتها المصنوعة، ويدخل في هذا النسق الصنيعة الغربية المتمثلة بالفرق المارقة: القاديانية، والبهائية.
–نسق مزروع في قلب الأمة، وهو الكيان الصهيوني، وما يتبعه من ظاهرة المتصهينين العرب.
–نسق من داخل البنية الإسلامية تبنى الجهاد مفهوماً ونهجاً وحركة، ولكن بفعل القراءات والممارسات المشوهة ساهم إلى حد كبير في اختطاف مفهوم الجهاد، وهنا يمكن الإشارة إلى وصف جامع لكل ذلك، وهم أهل الغلو والتطرف.
–نسق من داخل البنية الإسلامية كذلك، ولكن قرأ الجهاد في سياق معاكس متأثراً بأطروحات الأنساق الأخرى وإن كانت في اتجاهات متغايرة وينساق معها في دائرة الاستتباع، ويمثل هذا النسق الحكومات الوظيفية والمستبدة بوصفها قوى فاعلة تحاول اختطاف المفهوم بنقضه من خلال جملة من الوسائل والأدوات سيتطرق إليها البحث فيما بعد.
أولاً: النسق الغربي وأدواته ومظاهره:
يصلح مقدمة لهذا النسق تلكم اللوعة التي أطلقها وعانى منها المفكر الإسلامي محمد الغزالي رحمه الله وهو يبحث في أثناء العلل التي أصابت الأمة، فمكنت عدوها من غزوها، فأراد أن ينفس عن مكنونه بكلمات جاءت آنَّة كصاحبها، لعلها توافق عقلاً وفهماً وعزماً، قاصداً بها حارثاً وهمَّاماً، فيقول وهو يتعرض لحديث حذيفة في سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر: “المحزن أنه في غيبة الفقه الذكي، انتشر الدخن المخوف، وامتد أذاه، وأصاب الإسلام الصحيح منه شر مستطير .. الإسلام الصحيح يقدم لأتباعه الخير، ويهب لهم النصر .. وهذا التدين المغشوش يقدم الهزيمة ويصنع التخلف، ويحس الناس معه بالحرج ..
فلما هجم الاستعمار العالمي على بلادهم أحرجهم إحراجاً شديداً، وأرغمهم على ترك كثير مما لديهم، قال بعض الجهلة: انهزمت التعاليم الإسلامية. فقلت: بل انهزم الدخن الذي حرصتم عليه وتشبثتهم به وزعمتموه ديناً، وما هو بدين. كيف يهزم الإسلام في معركة لم يدخلها؟ إن الهزيمة لحقت بالبدع الذميمة، والأفهام السقيمة، والأوضاع الجامدة، والعادات الفاسدة التي أتى الناس بها من عند أنفسهم، وأوهنوا بها الفرد والمجتمع والدولة، وشوهوا به وجه الحق، وأضاعوا بها الكتاب والسنة ..”[27].
دائرة الوعي عند المسلم المعاصر لا ينبغي أن تصاب بالاضطراب المفضي إلى العطب، من جراء ما يلقيه الغرب وأدواته من رسائل يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل العقلية المسلمة بقيم وأفكار لا تمت إلى الإسلام بصلة
إن حديثنا عن هذا النسق وأدواته في سياق الاختطاف لمفهوم الجهاد وأمثاله لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن سياقه التاريخي ومنظومته الفكرية التي يتأسس عليها والحقائق التي تحيط به منذ بزوغ الإسلام ديناً خاتماً ومصدقاً ومهيمناً على غيره من الأديان التي سبقته، وأولى القضايا التي يلزم بيانها في سياق هذا النسق، أنه نسق ذو رؤية ومفهوم ومنظومة بجميع أبعادها التاريخية والفكرية، كما أن أولى الحقائق التي يتلبس بها هذا النسق امتدت في الزمان ولا زالت، هي إدراك جذوره العميقة في العداء للإسلام والمسلمين.
وهذا ليس ضرباً من التخييل، بل هو حقيقة سافرة، أثبتها الخطاب القرآني، قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة: آية 109]، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾[البقرة: آية 217]، واعترف بها كثير من الغربيين، حتى قال القائد والكاتب الإنجليزي جلوب باشا: “إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط -أي مشكلة الغرب مع الشرق الإسلامي- إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد”، أي إلى ظهور الإسلام[28].
ومن هنا فإن دائرة الوعي عند المسلم المعاصر لا ينبغي أن تصاب بالاضطراب المفضي إلى العطب، من جراء ما يلقيه الغرب وأدواته من رسائل يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل العقلية المسلمة بقيم وأفكار لا تمت إلى الإسلام بصلة، لقد رأى الغرب-والموقف هنا ليس في دائرة بث الكراهية للغرب- في الإسلام عدواً عقائدياً وحضارياً، فجاء عمله إلا قليلاً في سياق هذه العداوة، فأجلب بخيله ورجله لأجل محاربة الاسلام وأهله على مختلف الأصعدة، تقول الدكتورة كارين آرمسترونج: “علينا أن نتذكر أن الاتجاه العدائي ضد الإسلام في الغرب هو جزء من منظومة القيم الغربية ..”[29].
وإزاء هذه القضايا والحقائق التي اكتفينا منها بالمثال، ولأجل بيان مظاهر النسق الغربي في محاربته للجهاد ومحاولة اختطافه، ينبغي الوقوف عند تجلياتها في كيفية تحقيق هذا النسق مقاصده وأهدافه، وليس مقصودنا التتبع والاستقصاء، وإنما التنبيه بالمثال والأنموذج الذي يسع قسيمه ونظيره في الدائرة ذاتها، ويظهر لنا أن هناك ثلاثة مظاهر لهذا النسق حاول جاهداً من خلالها الاختطاف، وهي:
-الاستشراق:
الاستشراق من حيث مفهومه يصعب تحديده في سياق المحددات المنطقية ذات البعد الجامع والمانع؛ لكونه يُؤخذ في مضمونه بعدة مفاهيم متداخلة، فأحياناً يراد به ذلك العلم الذي تناول المجتمعات الشرقية بالدراسة والتحليل من قبل علماء الغرب، وأحياناً يقصد به أسلوب للتفكير يرتكز على التمييز المعرفي والعرقي والأيديولوجي بين الشرق والغرب، وأحياناً أخرى يحدد مفهومه بالذين يقومون به ونعني به المستشرقين، وهم الكتاب الغربيون الذين كتبوا عن الفكر والحضارة الإسلامية[30].
وإذا تجاوزنا الصرامة المنطقية في التعريف، فإن هناك من تعرض للاستشراق تعريفاً، فعرفت الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة الاستشراق بأنه: “ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته”[31]، وعكف إدوارد سعيد على تشريح المفهوم قبل أن يصل في النهاية إلى الحكم عليه من حيث سياقاته التاريخية وامتدادها في العصر الحديث والمعاصر بوصفه أسلوباً غربياً للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه[32].
ويرى رضوان السيد أن الاستشراق يتناثر ويدخل في تخصصات متباينة كالتاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة، ولم يعد هناك عالم واحد اسمه الاستشراق، بل هناك عوالم متباينة يحمل كل منها عنوان المجال الذي يهتم به، فإذا كانت مفاهيم الشرق والعالم الثالث والشرق الأوسط متباينة وغير علمية، فإن مفهوم الاستشراق صار اليوم كذلك[33].
وعلى مستوى جذر الاستشراق ونشأته لا ينبغي التغافل عن الأساس النصراني والكنسي الذي نشأ فيه وترعرع وشهد أوائل ظهوره التاريخي، ودون الوقوف طويلاً عند التحديد التاريخي لنشأة الاستشراق؛ بحكم الصعوبة التي تكتنف هذا التحديد والخلاف الكبير حوله، إلا أن أكثر المهتمين بالظاهرة الاستشراقية والمتخصصين فيها يرون أن بداية النشأة لها تعود إلى عام 1312م حينما عقد مؤتمر مجمع فيينا الكنسي، ونادى بإنشاء كراسي للعبرية والعربية والسريانية في روما على نفقة الفاتيكان، وفي باريس على نفقة ملك فرنسا، وفي أكسفورد على نفقة ملك إنجلترا، وفي بولونيا على نفقة رجال الدين فيها. وأنشئت هذه الكراسي ونشطت الدراسات الاستشراقية، فدرست اللغة العربية وعلوم المسلمين، وترجمت الكتب من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية[34].
وعلى مستوى جذر الاستشراق ونشأته لا ينبغي التغافل عن الأساس النصراني والكنسي الذي نشأ فيه وترعرع وشهد أوائل ظهوره التاريخي
وأما على مستوى أهداف الاستشراق من حيث عمومها والدور الذي لعبه في تشكيل العقلية المسلمة ومناهج التنزيل في الواقع الإسلامي، فإن هناك نظراً إليها في سياق تاريخ ظاهرة الاستشراق وما آلت إليه من تطورات على مستوى بنيته الفكرية ووجهتها، وفي هذا يقول عمر حسنة: “حين كان العقل المسلم في مستوى الإسلام، هدفاً ومقصداً، وفي مستوى العصر، وسيلة ودعوة، يمتلك القراءة الواعية، والإدراك الكامل، والمنهج القرآني السنني، كان في موضع الإرشاد والعطاء للعقل البشري .. حرك العقول الإنسانية كلها في الاتجاه الصحيح، صوب أهداف الإسلام، فجاء العطاء إسلامياً، وتشكلت الحضارة بجهد إنساني مشترك.
لكنه عندما أغلق باب الاجتهاد[35]، وتوقف عن المجاهدة الفكرية، بآفاقها المتنوعة، ورضي بهذا الأدنى، كان من الطبيعي أن تتحرك ثقافات الآخرين باتجاه هذا الأدنى .. وبذلك انتقل من موقع العطاء والتوجيه، إلى موقع الأخذ والتوجه .. وبدل أن يحمل رسالته، وثقافته، ومعارفه، إلى الآخرين، بدأ ينقل ثقافات الآخرين إليه .. ومن ثم بدأت المرحلة الأخطر، وهي: التعرف على ثقافته، ومعارفه، من الآخرين، ونشدانها في أوعيتهم، فكان الاستشراق الذي خرج من مناخ اللاهوت النصراني الغربي، بكل نواياه، وأسلحته الفكرية، والثقافية، والعلمية، أحد مصادر الفكر الإسلامي.
وبذلك لم يقتصر الأمر على الارتهان الثقافي، والاستلاب الحضاري للغرب، وإنما تجاوز إلى التحكم بثقافتنا الإسلامية وإعادة قراءتها بمناهج وأبجديات، وآليات فهم غريبة عن طبيعتها، وخصائصها، ومنطلقاتها، وأهدافها ..
ولا شك أن الاستشراق كان ولا يزال يشكل الجذور الحقيقية، التي تقدم المدد للتنصير والاستعمار، والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم لغرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي، وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هو المنجم، والمصنع الفكري، الذي يمد المنصرين والمستعمرين، وأدوات الغزو الفكري، بالمواد التي يسوقونها في العالم الإسلامي؛ لتحطيم عقيدته، وتخريب عالم أفكاره، والقضاء على شخصية الحضارة التاريخية”[36].
ولا شك أن الاستشراق كان ولا يزال يشكل الجذور الحقيقية، التي تقدم المدد للتنصير والاستعمار، والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم لغرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي، وإخضاع شعوبه
على أن الاستشراق لم يكن ليصل إلى هذه المرحلة من مراحل التوجيه والتلقين وبناء الأفكار الداعمة للسياسات بنوعيها الفكري والسياسي وما يلحقها من مشاريع استلابية في بعدها العسكري والمادي، إلا بعد حالة التراكم التي استثمرها المستشرقون وساستهم من الواقع الإسلامي.
ولذلك يثير مالك بن نبي إشكالية النظر والاهتمام بالاستشراق عبر التعرض إلى نسقه التاريخي وما أفضى إليه، فيقول: “إن أوربا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها فكانت في مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد طوماس الأكويني، تريد اكتشاف هذا الفكر وترجمته من أجل إثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر.
وفي المرحلة العصرية والاستعمارية فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة أخرى لا من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها ..
ولكن تجب هنا الملاحظة بأن هذا اللقاء الجديد وقع في ملابسات تاريخية .. العالم الإسلامي أصبح في هذه الملابسات يعاني الصدمة التي أصابته بها الثقافة الغربية، ويعاني بسببها على وجه الخصوص أثرين: مواجهة مركب نقص محسوس من ناحية، ومحاولة التغلب عليه من ناحية أخرى حتى بالوسائل التافهة”[37].
والإشارة الفكرية والمنهجية الخطيرة هنا التي نبه عليها بن نبي وحسنة، أن الاستشراق بعد أن كانت وظيفته توجيه ساسته في كيفية مواجهة العالم الإسلامي وأدواته الفكرية، أضحى موجهاً للفكر الإسلامي نفسه في زمن تراجعه وتقهقره الحضاري، بل وتبني أهله له على أنه من مصادر الفكر والمعرفة الموثوقة.
والإشارة الفكرية والمنهجية الخطيرة هنا التي نبه عليها بن نبي وحسنة، أن الاستشراق بعد أن كانت وظيفته توجيه ساسته في كيفية مواجهة العالم الإسلامي وأدواته الفكرية، أضحى موجهاً للفكر الإسلامي نفسه في زمن تراجعه وتقهقره الحضاري، بل وتبني أهله له على أنه من مصادر الفكر والمعرفة الموثوقة
في الاستشراق المجدد:
نتيجة للتفاعلات التاريخية في الغرب الأوربي ثم الأمريكي، والمعطيات السياسية، والمستجدات على صعيد العلوم الطبيعية والإنسانية أخذ المفهوم التقليدي للاستشراق بالتراجع، ذلك أن الممارسات العلمية المتجمعة تحت اسم الاستشراق في المرحلة الكلاسيكية ترتكز على المعرفة المعمقة باللغات الكلاسيكية كالعربية، والتركية، والفارسية، وغيرها، كما ترتكز على فك رموز المصادر الأولية، ولذلك فالمستشرقون الكلاسيكيون فقهاء لغة بالأساس.
وتزامناً مع هذا التراجع الطارئ الذي أصاب هذا الحقل، أخذ البعض يطرح مفاهيم جديدة للاستشراق، بل تخلى أكثر المستشرقين عن هذه التسمية مفضلين ألقاباً أخرى من قبيل: مستعرب، أو مختص بالإسلاميات، أو غير ذلك؛ لكون مصطلح الاستشراق بات متخماً ببعد أيديولوجي غير مرغوب فيه، وأصبح بفعل عوامل عدة يمثل المرادف الذهني للصورة البغيضة عن الاحتلال وعدم الموضوعية، والعدائية، وغير ذلك. أو لكون المصطلح فقد دلالته بتحول الاستشراق إلى تخصصات علمية محددة، في موضوعها، وإشكاليتها الخاصة.
وأما على مستوى موضوعه؛ فهناك رأي بات منتشراً في أوساط الاستشراق الجديد ينطلق من نفي التعاطي مع الشرق بوصفه كتلة مصمتة واحدة، كما هو تصور الاستشراقي الكلاسيكي، وإنما هو شعوب، وثقافات، وبلدان مختلفة ذات عدد كبير ومتنوع، وبناء على ذلك فإن التسمية التقليدية -المستشرق- نتيجة لكل ذلك باتت مهددة بالزوال[38].
ومهما يكن من أمر؛ فإن الاستشراق بوصفه مفهوماً يشير إلى مجمل الاهتمام العلمي بشؤون الشرق، والعرب والإسلام لم يتوقف، بل ما زال في نشاط وفاعلية، وإنما أخذ أبعاداً أخرى للتغير الذي طرأ عليه، ويتمثل هذا التغير في مستويين[39]:
المستوى الأول: المنهج العلمي، فبعد أن كان تأهيل المستشرق يتمحور حول التهئية اللغوية، بإتقان لغة شرقية؛ بغية القدرة على التعامل مع مصادر تلك اللغة، أضحى الاهتمام منصباً على الانخراط في دراسة متخصصة لعلم الاقتصاد، أو علم الاجتماع، أو العلوم السياسية .. في غيرها، فيتم في سياق هذه العلوم تناول الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات الشرقية، أو ما تعلق بعلم اجتماع الإسلام على وجه التحديد، وبشكل عام تكاثرت الدراسات غير الأحداثية/الوقائعية، والتي تمثل الطابع السوسيولوجي تقريباً، وكذلك المؤلفات التي تتخطى مجرد وصف المواقف، وتبلور من الظاهرات الإسلامية نتائج في مستوى النظريات العامة.
المستوى الثاني: النظريات المستبطنة أو المعلنة أحياناً، فالاستشراق في ثوبه الجديد ظاهرة واسعة النطاق، تشير إلى منظومة فكرية وآيديولوجية ديناميكية متفاعلة، وتستجيب للظروف المختلفة، وتتابين في مدى ارتباطاتها السياسية، والعقائدية، وأهدافها المعلنة والخفية، ولذا يشير أوليفييه مووس إلى أن الاستشراق الجديد هو في حقيقته إعادة إنتاج مضامين الاستشراق الكلاسيكي في قوالب سوسيولوجية، وأنثروبولوجية معاصرة.
ويرى مووس أن التيار الاستشراقي الجديد يتهيكل حول أربعة افتراضات: الأول: المجال الإسلامي كل متجانس في إشارة إلى التعددية داخل المجال الإسلامي نفسه بعيداً عن القدرة في استيعاب تعددية خارج مجالها. الثاني: أن الإسلام يشكل استثناء، ويفترض الاستشراق الجديد أن المجال الإسلامي عاجز من وجهة نظر تاريخية ودينية أمام الحداثة بسبب نقائص تتعلق بالهُوية: وهي الثقافة والدين والتاريخ. الثالث: جمود العالم الإسلامي. الرابع: العنف الإسلامي هو نتاج ثقافي.
ولا يخلو النظر إلى الاستشراق الجديد من رؤية تفاؤلية، ترى فيه تغايراً في الوجهة والأهداف، فالاستشراق الجديد وفقاً لهذه الرؤية قد تأسس على جملة من المراجعات التي تعكس رفض المثل القديمة للهيمنة الغربية، وادعاءاتها الكونية، والاعتراف باستحقاقات التعدد والاختلاف، ونبذ النزعات القديمة المؤسطرة للتقاليد الشرقية، وتبني أسس فلسفية، واجتماعية، وثقافية رمزية وفعالة على حساب التصورات الغرائبية عنها، وهي رؤية تقترب من المثال والطوباوية في بعدها الإيجابي.
والحق أن الاستشراق الجديد في واقعه الحالي على مستوى النظريات المستبطنة مزيج من هذين التصورين، فبرغم طروء بعض التحولات الإيجابية، في تناول الشرق والعرب والإسلام، إلا أن هذا لا يعني اندثار المضامين التقليدية، بل لا زال لها رواج لا سيما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وما زالت تلوث الفضاء الأكاديمي والإعلامي على حد سواء بتصورات متطرفة، مجترة من أزمنة الاحتلال، وكان للرغبات السياسية لدى الإدارة الأمريكية تأثير كبير في تسويق الرؤى المتطرفة، لتبرير الدعم المطلق للاحتلال الصهيوني، وسعياً لمكافحة تقدم الحركة الإسلامية في العالم العربي[40].
والدليل على هذا شدة الارتباط بالإرث السلبي في الاستشراق القديم، وتجلى هذا في العلاقة الوثيقة مع الدوائر السياسية، وقوى الهيمنة العالمية، والاستمرار في تقديم وتثبيت الصور النمطية السلبية عن الإسلام، والاستمرار كذلك في مصادرة الإسلام برفض الاعتراف بكونه ديناً سماوياً، وكونه ثمرة جذور من اليهودية والنصرانية، بل كذلك جذور وثنية قديمة، هذا فضلاً عن الإشكاليات المنهجية التي يستبطنها الاستشراق الجديد، بوصفه أطروحات تتوسل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وهي تتمحور حول بيان تأثير القوى الغربية في صياغة التصميمات النظرية والتكوينات الداخلية لتلك العلوم، وما فيها من حجم التحيزات غير العلمية، وموقف هذه العلوم من الدين والتدين[41].
الاستشراق والجهاد:
وفي سياق الاختطاف المفاهيمي للجهاد من قبل المستشرقين، فقد حددوا نطاق بحثهم في سياقين: التاريخ الإسلامي، والتشريعات الإسلامية في حق غير المسلمين، وخاصة اليهود والنصارى، وكانت الموضوعات الأساسية التي شغلت المستشرقين في هذين السياقين تتمحور حول العلاقة بين الإسلام والقوة، وأن الإسلام بدأ ديانة داعية للحوار والسلام والجدال بالتي هي أحسن، ولكن سرعان ما غير مفاهيمه عندما أمسك بزمام السلطة، وهذا ما يراه المؤرخون من المستشرقين وعلماء القرآنيات منهم في تحليلهم لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، ويراه بالخصوص المختصون بالقرآنيات، ولا سيما في موضوع المكي والمدني، حيث وقفوا على تحولات كبرى حصلت على هذا الصعيد.
وهذه العلاقة بين الإسلام والقوة أو السلطة شكلت مركز تفكير المستشرقين في قضية الجهاد، فدرسوا باهتمام بالغ ظاهرة الفتوحات الإسلامية، وتوصلوا -حسب زعمهم- إلى نتيجة مؤداها أن الإسلام قد انتشر بالسيف، فبعد أن طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين تطور الموقف فيما بعد لينذر أم القرى ومن حولها، ثم ليتطور فيما بعد ليؤمر بإنذار العرب، ثم بعد ذلك ليعلن أن الرسالة كانت رحمة للعالمين، هذا التطور في الخطاب هو الذي أسس بفعل العلاقة مع القوة لثقافة نشر الإسلام بالسيف، وهو الذي شكل شرعية الغزو، واحتلال الأراضي، وإبادة ثقافات وشعوب ولغات، بفعل الفتوحات الإسلامية.
كما أن طريقة تعامل المسلمين مع غيرهم تسامحاً وتشدداً -كما يرونها- شكلت محوراً آخر، فسياسة فرض الرأي، والقمع، والتقتيل، والغارة شكلت مادة نقدية دسمة للمستشرقين، ولهذا اهتموا بفكرة الجهاد الابتدائي، وتخيير الناس بين الإسلام والقتل أو إلى جانبهما الجزية، وهو النظام الذي حمل صورة سيئة في الوعي لدى غير المسلم، وظهر هنا البحث الاستشراقي في ملفات مثل: حادثة بني قريظة التي اعتبروها جرائم حرب وإبادة، وكذلك إعدام أو اغتيال الأسرى والشعراء في مناسبات متفرقة.
من هنا نرى في طليعة هؤلاء المستشرقين كلاً من: كارل بروكلمان، ودومينيك سورديل، ووليام منتجمري واط، وإجناس جولدتسيهر، ويوليوس فلهاوزن، وماكدونالد، وبرنارد لويس، وبلاشير، وثيودور نولدكه، وهنري لامانس، ومكسيم رودنسون، وكارين آرمسترونج .. في غيرهم ممن ساهم في دراسة القرآن، وقضايا السيرة، والتاريخ، والتشريع[42].
وتبرز عدة قضايا ينبغي الوقوف عندها في سياق الجهاد في نظر المستشرقين من خلال ما يثيره هذا العرض الموجز لصنيع المستشرقين:
الأولى: في إطار تعريف الجهاد عمدوا إلى أمرين، الأول قصرهم في المفهوم على الحرب والقتال، والثاني تعريفهم له بأنه الحرب المقدسة أو الحرب العادلة، ويظهر هذا مثالاً في رؤية برنارد لويس لمفهوم الجهاد حين يعرفه بأنه: “الحرب المقدسة للإسلام، وهو فريضة دينية، وهو واجب اجتماعي، ولكنه يصبح واجب كل مسلم في مناطق الحدود وساحات المعارك، أو حينما يقرر الحاكم أو السلطان أن الوقت قد حان للقيام به، وهو أيضاً واجب دائم لا يسقط إلا حين يدخل العالم كله في الإسلام”[43].
وهذه مغالطة من لويس استبداله لمفهوم الحرب بمفهوم الجهاد؛ ليساوي بين الجهاد والحروب التي عرفتها الأمم الأخرى قديماً وحديثاً، بما يفضي إلى تفريغ الجهاد من معانيه ودلالاته الإسلامي، وجعله نوعاً من الحرب الدينية التي يشنها المسلمون على غيرهم من الأمم[44]، بقصد إجبارهم وإكراههم على الدخول في الإسلام، هذا فضلاً عن توصيفهم الجهاد بأنه الحرب المقدسة يثير في التصور الغربي تداعيات وممارسات جرت في عهود لم تجن من ورائها البشرية إلا شراسة الطبع والخلق، والهمجية وسفك الدماء[45]، فقصدوا استدعاء هذه الصورة وهذا التصور؛ بغية تشويه مفهوم الجهاد بما يفضي إلى اختطافه ثم نقضه وإبطاله.
الثانية: وفي السياق ذاته أتت دعوى انتشار الإسلام بالسيف، وهي دعوى قديمة جددها المستشرقون المعادون للإسلام، وفي هذا يقول بيكر في موسوعة تاريخ كمبردج عن العصور الوسطى: “خرجت جموع العرب تحت تأثير الحماسة التي بعثها فيهم نبيهم؛ لينقضوا على الشعوب المسيحية، ويفرضوا عليها الدخول في الإسلام بحد السيف”[46]، وقال مكدونالد في دائرة المعارف الإسلامية في مادة (الجهاد): “الجهاد: نشر الإسلام بالسيف فرض كفاية على المسلمين كافة”[47].
ومرجع الإشكال الذي استمسك به المستشرقون وأتباعهم من أصحاب الموقف الدفاعي يكمن في ذلكم المنهج الانتقائي الاستظهاري الذي يتجاوز منهجية التكامل والتكافل بين المكونات والعناصر، سواء في سياق المنظومة الخطابية للشرع، أو سياقها التاريخي الذي تجلى في حضورها وتحركها على مستوى الامتداد الحضاري تفعيلاً وتشغيلاً وتنزيلاً، وهنا يظهر بشكل سافر أثر هذا المنهج الانتقائي في التعامل مع آيات الجهاد في النظم القرآني، فإن انتزاعها من سياقاتها النصية والموضوعية يفضي إلى قراءات تعسفية ليست مقصودة في الخطاب ذاته منطوقاً ومفهوماً، نظماً ومقاصد، وهذا المنهج الانتقائي هو الذي يجتر تلك المقولة الاستشراقية (انتشار الإسلام بالسيف)، واتخذت أثواباً وظفت في سياقاتها الواقعية في كيفية التعامل مع وقائع التعامل الخاريجي في العالم الإسلامي.
ومرجع الإشكال الذي استمسك به المستشرقون وأتباعهم من أصحاب الموقف الدفاعي يكمن في ذلكم المنهج الانتقائي الاستظهاري الذي يتجاوز منهجية التكامل والتكافل بين المكونات والعناصر، سواء في سياق المنظومة الخطابية للشرع، أو سياقها التاريخي
وبالرغم من أن الآية الواحدة تشكل وحدة تحليلية قابلة للتفسير بحسب الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، إلا أنها لا تقف عند هذا الحد، إذ تجعل من عناصر السياق ومتابعتها منهجاً مأموناً، يتأكد من خلاله عدم اقتطاع الآية من سياق السورة، فينظر إلى سور القرآن كوحدة موضوعية وإن تنوعت أساليبها وقضاياها، كما أن الحرص في هذا السياق على متابعة أجواء السورة الواحدة أمر من الأهمية بمكان يحقق عناصر الضبط في الرؤية ويبحث في تناسب الآيات الواحدة، وربما في تناسب سور القرآن واحدة بعد الأخرى[48]، وهذا النهج التكاملي التكافلي بين عناصر الموضوع يسع كذلك البيان النبوي ونصوصه الحديثية.
وهذه القضية -انتشار الإسلام بالسيف- تستدعي من ضمن أفرادها أيضاً إشكالية تأسيس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فالطبيعة العلاقية التي تربط الأمة المسلمة بمحيطها الخارجي تفرض قيام علاقات بينها وبين غيرها من الأمم التي تتغاير معها في عقيدتها ومنهاجها، وهو أمر تقتضيه مقومات إخراجها وعوامل تفعيلها الخارجي، وتنبني على هذه الحقيقة المنهجية مسلمة رئيسة فيما يتصل بإرادة وتنظيم علاقات الأمة بغيرها، قوامها أن هناك أساساً شرعياً تنطلق منه هذه العلاقات، وتنبني عليه دعائم حركتها واتجاهات بنائها وتطورها[49].
ولكن يلزم ابتداءً تسكين هذه العلاقة في سياق منظومي قيمي كلي نستطيع من خلاله معرفة المقومات الكلية التي تقوم عليها المنهجية المعرفية التي يستبطنها خطاب الوحي قرآناً وسنة، وبناء على ذلك برزت ثلاثة اتجاهات تنظيرية حاولت رسم العلاقة مع غير المسلم في ضوء قراءاتها المنهجية.
أما الاتجاه الأول، فيرى أن علاقة المسلمين بغيرهم تختزل في إطار الحرب، وأقوال الأئمة دالة عليها بظهور واضح لا مرية فيه، قال الشافعي: “حكم الله عز وجل في المشركين حكمين، فحكم أن يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا، وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية إن لم يسلموا”[50]، وقال ابن عبدالبر: “وكل من أبى من الدخول في الإسلام أو أبى إعطاء الجزية قوتل، فيقتل الرجال المقاتلة وغير المقاتلة إذا كانوا بالغين”[51]، وقال النووي: “أذن الله سبحانه تعالى في القتال للمسلمين إذا ابتدأهم الكفار بقتال، ثم أباح القتال ابتداء، لكن في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به من غير تقييد بشرط ولا زمان”[52].
وقال الشوكاني: “أما غزو الكفار، ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام، أو تسليم الجزية، أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله رسله، وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلاً هذا الأمر من أعظم مقاصده، ومن أهم شؤونه، وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها، وما ورد في موادعتهم، أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة، فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال، مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم، وقصدهم إلى ديارهم”[53].
وبصفة عامة، فإن أصحاب هذا الاتجاه يذهبون إلى القول بأن آخر ما نزل من القرآن، بصدد تنظيم علاقات المسلمين بالدول والجماعات غير الإسلامية وهي الآيات التي تأمر بقتال أهل الكفر قد جاءت مطلقة من أي تقييد برد عدوان أو دفع ضرر أو أي سبب آخر سوى أن غير المسلمين لا يدينون دين الحق ولا يلتزمون أحكامه، مما يدل في صراحة ووضوح تامين على أن الأصل في هذه العلاقات هو أن الإصرار على الكفر والشرك ينهض في ذاته سبباً لمقاتلة أهله، وإلى جانب ما سبق، فإن الاتجاه المذكور يذهب إلى أن ما تتصف به آيات القرآن التي تأمر بقتال أهل الكفر والشرك حتى يسلموا، من عموم وإطلاق، يتعزز ويتقوى بما ثبت في السنة من أحاديث عدة تشير في وضوح كذلك إلى مقاتلة أهل الكفر حتى يسلموا[54].
وفيما يأتي قراءة مجملة في أبرز أدلتهم:
–قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾[البقرة: آية 193]، وجه الاستدلال بالآية أن الله أمر بقتال الكفار حتى يتركوا كفرهم، والفتنة هنا هي الكفر والشرك كما قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع بن أنس[55]، والمعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام[56].
–قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾[التوبة: آية 5]، وجه الاستدلال بالآية أنها تقتضي قتل سائل المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه يستثنى من ذلك أهل الكتاب فقد خصوا بإقرارهم على الجزية[57].
–وفي السنة النبوية ما يؤيد حق الدولة الإسلامية بالتعرض لدار الحرب بالقتال إذا رفضت تغيير كيانها ونظامها عن طريق اختيارها الإسلام أو رفضت الخضوع الاختياري لسلطان الدولة الإسلامية، فقد وردت أحاديث كثيرة وفيها يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجند عند توجههم إلى المشركين من أهل دار الحرب أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فإلى الجزية وما تتضمنه من الخضوع لسلطان الدولة الإسلامية فإن أبوا قاتلوهم حتى يخضعوهم قهراً لسلطان الدولة الإسلامية[58]، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله”[59]، وهذا نص على أن الأمر بقتال الناس هو للدخول في الإسلام أي أنه طريق الدعوة إليه[60].
–فعل الخلفاء الراشدين، فإنهم فتحوا البلاد المجاورة، وأبطلوا أنظمتها الباطلة، ونفذوا فيها القانون الإسلامي، وأدخلوها في سلطان الدولة الإسلامية وصارت جزءاً منها، ولم ينكر عليهم أحد مطلقاً، فيكون هذا النهج مجمعاً عليه من قبل الجميع، وهو أعظم إجماع قام على مسألة شرعية[61].
ويرى اتجاه آخر أن العلاقات الخارجية في الإسلام تتأصل على السلم، ومقتضى هذه الرؤية أن تأصيل العلاقة في إطار الحرب مؤداه الخروج على القاعدة القرآنية في اللاإكراه؛ إذ جعل العلاقة مؤسسة على الحرب من حيث الأصل يفضي إلى إدخال الناس في الإسلام، وإن كان ذلك على خلاف مقاصدهم، بل هذا يتنافى مع الهدي النبوي في التعامل مع الآخر -بحسب رأيهم-، وفي هذا يقول العلامة أبو زهرة: “ولا شك في أن الحرب في الإسلام ليست هي الأصل في العلاقات؛ لأن المبادئ التي قررناها في قواعد العلاقات لا تسمح بابتداء المسلمين بالحرب من غير باعث من هذه القواعد نفسها يبعث عليها .. فالأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم، حتى يكون الاعتداء على الدولة الإسلامية فعلاً أو بفتنة المسلمين عن دينهم. فالحرب حينئذ تكون ضرورة”[62].
وأبرز أدلتهم ما يأتي:
–نصوص القرآن الداعية إلى السلم، كقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[الأنفال: آية 61]، وقوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾[محمد: آية 4]، ففيهما النص على أن السلم هو أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم حتى يكون اعتداء، فتكون الحرب حينئذ ضرورة؛ دفاعاً عن النفس وحق البقاء، أو اتقاء لهجوم تكون المبادرة فيه ضرباً من الدفاع، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾[البقرة: آية 208]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾[النساء: آية 94]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[النساء: آية 90]، وقوله تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: آية 8]، وفيها هذه الآيات إقرار لمبدأ السلام العالمي وإعلان مبدأ التزام المسلمين بالسلام والأمن والود والطمأنينة[63].
–الأحاديث النبوية الداعية إلى السلم، كقوله عليه الصلاة والسلام: “يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا”[64]، والحديث دال على أن الإسلام لا يتشوق للحرب كتشوقه للسلام[65].
–الحروب الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانت مشروعة لأسمى الغايات، فلم تشرع إلا دفعاً للظلم والعدوان، ودفاعاً عن بلاد الإسلام وتحقيقاً لحرية التدين، فإذا تحقق السلم بأن يسلم العدو، أو يدفع الجزية، أو يلتزم الحياد انتهت الحرب، فلم تكن الحروب الإسلامية للتشفي، والانتقام، والاستعلاء في الأرض وبسط السلطان والنفوذ، فضلاً عن اتفاق جمهور المسلمين على أنه لا يحل قتل النساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير ونحوهم؛ لأهم ليسوا من المقاتلة، ولو أن القتال كان للحمل على إجابة الدعوة وطريقاً من طرقها حتى لا يوجد مخالف في الدين ما ساغ استثناء هؤلاء، فاستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعاً لعدوانه[66].
وهناك اتجاه ثالث يرى أن سيادة النظام الإسلامي وشرعه ومنهجه هي المعول عليه في تحديد العلاقة بين المسلمين وغيرهم، ومقتضى هذا الاتجاه أنه من لم يمنع المسلمين من الكفار والمشركين من إقامة دين الله في الأرض لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، أما من تصدى لهذه الغاية ووقف عقبة دون بلوغها كان جزاؤه القتل والهلاك[67].
وبعبارة أخرى، فإن الدعوة إلى الله تعالى والعمل على ضمان سيادة النظام الإسلامي تتم حسبما يرى أنصار هذا الاتجاه بطريقين: طريق لين وطريق قسوة، أما الطريق اللين، فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والقول اللين، فإن نجحت هذه الطريقة فبها ونعمت، وإلا تحتم اللجوء إلى طريق القسوة حتى يسود منهج الله في الأرض، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾[الحديد: آية 25]، ففي الآية إشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب فإعمال الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما أن قوله صلى الله عليه وسلم: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله”[68]، يوضح الهدف الأساسي والمقصد النهائي للجهاد، وهو سيادة شرع الله[69].
وواقع الأمر أن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الاتجاه المذكور تكمن فيما يعرف بالحاكمية، أي تحقيق الخضوع التام لمنهج الله، وما يقتضيه ذلك من ضرورة العمل من قبل الدولة الإسلامية على التخلية بين الناس وبين العقيدة الإسلامية، بحيث يباشرون حرية الاعتقاد دونما قسر أو إكراه، وذلك في ظل غلبة الإسلام وظهوره كدعوة عالمية، وهذا معناه أن هذا الاتجاه في صدد تحديده للأصل العام في علاقات المسلمين بغيرهم يعول على ضرورة تحقيق السريان التام والفعلي للمبادئ العليا للشريعة الإسلامية بغض النظر عمن يعتنق الإسلام أو يظل على ما هو عليه[70].
ومن أدلتهم في ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[الأنفال: آية 39]، وقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: آية 29]، وهاتان الآيتان دالتان على أن الغاية التي تحكم علاقات المسلمين بغيرهم تكمن في ضرورة أن تكون الغلبة والظهور والسيادة للدين الإسلامي؛ حتى لا يكون ثمة أدنى وسيلة أو ذريعة لفتنة المسلمين في دينهم وصرفهم عنه. ولا يختلف هذا الحكم في علاقة المسلمين بالمشركين عنه في صدد علاقتهم بأهل الكتاب، فالغاية من مقاتلة هؤلاء أيضاً هي خضوعهم لسيادة الإسلام وارتضائهم الامتثال لمقتضى أحكامه العامة[71].
وخلاصة القول في عرض آراء هذا الاتجاه أنه يعول في صدد مواجهته للدول والجماعات غير الإسلامية على كون النظم القائمة فيها تشكل رموزاً أو عوائق مادية يترتب على وجودها واستمرارها صرف الناس وفتنتهم في دينهم، ولهذا كانت الوسيلة العملية لضمان إزالة هذه العوائق المادية وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت ذاته، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق حتى تسلم أو تستسلم بقبول إعطاء الجزية فعلاً[72].
ولكن تأسيس العلاقة على الحرب أو السلم في حقيقته يفضي إلى الخلط بين أساليب الحركة وتأسيس العلاقة؛ ذلك أن السلم والحرب ليسا سوى أشكال وأساليب تدور في إطار أدوات الأمة، تستخدمها بحسب المواقف منها في مجالها الحركي الذي تؤديه في سياق فاعليتها الخارجية، ولا شك أن العلاقة القائمة على فرض القوة والهيمنة هي علاقة مضادة لقيمة الاستخلاف والعمران التي قصدها الشارع، وهي منافية أيضاً لقاعدة الاختيار الإنساني التي أناطها الشارع بالإنسان مراعاة لحريته الفكرية والعقائدية، فيكون هذا الاتجاه مؤكداً للرؤى الواقعية التي تؤصل للمنهجية الصدامية والصراعية، فيكون والحالة هذه تأسيس العلاقة قائماً على حالة استثنائية تكون على حساب الثوابت الحاكمة لمسار هذه العلاقات.
تأسيس العلاقة على الحرب أو السلم في حقيقته يفضي إلى الخلط بين أساليب الحركة وتأسيس العلاقة؛ ذلك أن السلم والحرب ليسا سوى أشكال وأساليب تدور في إطار أدوات الأمة، تستخدمها بحسب المواقف منها في مجالها الحركي الذي تؤديه في سياق فاعليتها الخارجية
كما أن اعتبار السلم أصل العلاقة يفضي إلى فعل الاسترخاء وعدم الفاعلية، والقعود عن القيام بمعاني الاستخلاف، والأمانة والرسالة التي أنيطت بها الأمة كمتطلبات للخيرية التي ينبغي تفعيلها، فلا يمكن إذاً جعل الحرب أو السلم أصلاً للعلاقات الخارجية، وهما لا يتعديان كونهما أشكالاً وأساليب توصف بهما هذه العلاقات بحسب أحوالها وعوارضها، وفيما يتعلق بالاتجاه الثالث، فإنه في حقيقة الأمر لا يختلف كثيراً عن الاتجاه الذي يرى أن الأصل في العلاقة هي الحرب، إلا أنه وقف عند إشكالية التعامل مع النظم الحاكمة المانعة من الدعوة، وهي قضية نرى أنها جزئية لا تقف عند الأصل في العلاقة الذي هو إقامة الشهود العالمي بنشر الإسلام بين الخلق، فترجع المسألة وفقاً لهذه الرؤية في هذا الاتجاه إلى تأصيل القضية في سياق الأشكال وليس في سياق الرؤية الكلية.
وعلى هذا فإن الأساس الشرعي للعلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم هو الدعوة، وتأسيس العلاقة على الدعوة هي الحالة التي تكون فيها الحرب مجالاً يحافظ على المقصود الكوني استخلافاً وإعماراً، ويكون فيها السلم مجالاً يحافظ على هذا المقصود وبذات الأهداف، وبهذا يكون تأسيس العلاقة على الدعوة متوافقاً مع الرؤية الكلية التوحيدية التي تنسجم فيها أصول العقيدة مع حقائق الشريعة وفضائل القيم وحركة الأمة هادفة إلى عمارة الحضارة، تعي السنن وفعلها، وتحدد المقاصد وأولوياتها، في إطار فعل حضاري متناسق يحرك كل عناصر الفاعلية والإنجاز والإمكان والتمكن الحضاري وصولاً وبلوغاً إلى كل عناصر عملية شهود حضارية ممتدة، تستعيد وصف الخيرية للأمة[73].
الأساس الشرعي للعلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم هو الدعوة، وتأسيس العلاقة على الدعوة هي الحالة التي تكون فيها الحرب مجالاً يحافظ على المقصود الكوني استخلافاً وإعماراً، ويكون فيها السلم مجالاً يحافظ على هذا المقصود وبذات الأهداف، وبهذا يكون تأسيس العلاقة على الدعوة متوافقاً مع الرؤية الكلية التوحيدية التي تنسجم فيها أصول العقيدة مع حقائق الشريعة وفضائل القيم وحركة الأمة هادفة إلى عمارة الحضارة
إن مسوغات ترجيح كون العلاقة مؤسسة على الدعوة قائمة على جملة من الحقائق ذات الأبعاد المنهجية والحضارية والمقاصدية:
1-أولى هذه الحقائق: الرؤية العقيدية التوحيدية المبنية على العلاقة الجدلية بين الغيب والإنسان والكون، فالإنسان بما تقتضيه الرسالة الخاتمة ومنهجها القرآني يتحمل -بعد تكريمه بالخلق- أمانة التكليف بما أوتي من قدرات التخلق بالعلم والمعرفة، ولا شك أن قدرة الإنسان على الإدراك والعلم هي أصل قدرته الحضارية والعمرانية[74]، وقد جعل الكون مجالاً له في إطار تسخير إلهي يستطيع من خلاله استعمار الأرض بما يحقق المقاصد الإلهية باستخلاف الإنسان، ويثبت ضرورة أن الحياة البشرية دائرة في المجال الاختباري الابتلائي.
فهذه المنظومة العقدية التوحيدية الجامعة لأمانة التكليف، ومجالي التسخير والابتلاء تدفع باتجاه تحمل الوظيفة الدعوية، في إطار أساليب وأشكال تترتب عليها حالات ومواقف تقتضي الدوران في حالات السلم تارة والحرب تارة أخرى، كلها تصب في إطار مقصود الدعوة وهو التوحيد، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ . فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: آية 29-39].
2-حقائق الشرعة والمنهاج التي ينطوي عليها مفهوم الأمة المسلمة بما أوتيت من هدى منهاجي، وهي ذات أبعاد كلية ثلاثة: فمن جهة تتمتع بخصائص كلية عامة تصب في عالمية الرسالة من جهة شمولها، وعمومها، وصلاحيتها المتجاوزة للزمان والمكان، وحاكمية كتابها، بما يؤهلها للاتصاف بالوسطية الجامعة واستحقاق شهودها الحضاري[75]، وإذا كان القرآن قد على عالمية الرسالة مما تعلق بوظيفة النبوة، فإنه قد نص كذلك على الوظيفة الرسالية التي تتحملها الأمة الخاتمة بآية الوسطية والشهود، فقال: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: آية 143].
ومن جهة ما تقوم عليها هذه الحقائق من نظريات تكليفية وحكمية دائرة مع التكليف، والمسؤولية الاستخلافية، والأمانة، والحركة في المجال، والالتزام بالشرعة، والحاكمية، وقد تجلى ذلك في إطار منظومة من الأوامر والنواهي القرآنية منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾[ البقرة: آية 104]، وقوله: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾[الأعراف: آية 3] .. في آيات أخر.
ومن جهة ثالثة ما تؤسسه من قواعد كلية وتأسيسية كبرى: الأمور بمقاصدها، والتصرف منوط بالمصلحة، ولا ضرر ولا ضرار، واليسر ورفع الحرج، والضرورة الشرعية .. إلخ، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[البقرة: آية 173]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة: آية 185]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج: آية 78]، فالشرعة والمنهاج تفرض الدعوة بما تتميز به من خصائص متعلقة بعالمية الخطاب، وعناصر التكليف والحكم الشرعي في محتواها تتحرك صوب الدعوة في إطار التفعيل الخارجي للأمة الخاتمة، وأخيراً القواعد الكلية بما فيها من التعميم والموافقة لروح الشرعة في كل تعامل تؤسس لفاعلية الأمة في علاقاتها الخارجية المؤسسة على الدعوة.
3-منظومة القيم القرآنية المؤسسة على العدل، والاختيار، والمساواة، والعهد، والولاء تؤسس العلاقة على قاعدة من الدعوة، وتهيئ المناخ لأصول الدعوة القائمة على قاعدة منظومة القيم المتنوعة والمتفاعلة، ثم الانطلاق إلى الأساليب المقيمة للدعوة الهادفة إلى حركة القيم تأسيساً وتفعيلاً، حماية ووعياً، ممارسة وتطبيقاً، وهذه الحركة تدور في إطار تدافع حضاري بين الأمة وغيرها، يستوعب ويتجاوز في آن واحد ثنائية السلم والحرب.
وهذا يعني أن تأسيس العلاقة على مفهوم الدعوة يعطيها إطاراً معرفياً يحل معظم الإشكالات، كما يضع الحدود على فهم قضية العلاقة بالآخر، والأخذ بالاعتبار أن العلاقة مع غير المسلمين أحوال وحالات، تخضع للتغير الدائم وسننه، مما يؤدي إلى ترجيح مفهوم الدعوة كأساس للعلاقات الخارجية[76]، وبحركة القيم في إطار التدافع وبموجب ما يترتب عليها من مواقف وحالات يتحقق المقصود من وضع الشريعة، وهو إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: آية 56].
4-المنظومة التفاعلية للأمة المسلمة في ضوء رسالتها وخيريتها وشهودها الحضاري، وما تتسع له منهجيتها القرآنية من أطر الاختلاف والتعدد والتعايش، وما تؤديه من وظائف وأدوار في إطارها التفاعلي ما بينها وبين أمة الدعوة، كلها تؤسس لحركة التعامل الخارجي الدعوي، وما يترتب عليها من مواقف وحالات، وما تمارسه من أساليب تصب في المقصد الكلي التوحيدي.
5-المنظومة الحضارية السننية المقاصدية بما تحتويه من عناصر المفهوم الحضاري في البنية المنهجية الإسلامية، وما تؤديه الأمة من سنن حضارية في إطار المقاصد القرآنية العليا، وما يتفرع منها من المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية، كلها تدفع باتجاه حركة الأمة المؤسسة على الدعوة في علاقاتها الخارجية.
إن النظر الكلي في السياقات النصية التي توحيها المنهجية المعرفية التي تنطوي عليها نصوص الكتاب والسنة تدفع باتجاه رؤية كونية تتأسس على علاقات الدعوة وحركة تفاعلية بين أمة الإجابة وأمة الدعوة، لتتحقق مقاصد القرآن الكلية.
الثالثة: متعلقة بالسياق التاريخي، ومن الأمثلة التي تعرض لها المستشرقون في هذا السياق بموجب المنهج الانتقائي وصورته المتعسفة في التوجيه ولي السياق، حادثة بني قريظة التي استغلها المستشرقون، وفي ذلك يقول وات: “وكذلك مسألة معاقبة قريظة على خيانتها، لم يغامر محمد في إصدار حكم بنفسه، فلو أنه قرر سفك دماء قريظة لدعا الشرف بعض حلفاء اليهود ولو كانوا مسلمين إلى الثأر لهم، ولهذا ترك تقرير العقوبة إلى زعيم القبيلة التي كانت قريظة حليفة لها”[77]، ولا شك أن اختيار سعد بن معاذ الحكم على يهود بني قريظة بقتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم دون بقية الأحكام الشرعية، إنما كان سببه هو أن هؤلاء اليهود كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معاهدة سلام وحسن جوار، فنقضوا هذه المعاهدة في أحلك الظروف التي كان يمر بها المسلمون، وأظهروا الخيانة والغدر، وعزموا على الاشتراك مع قريش وأحلافها من الأحزاب في الإطباق على المدينة، والقضاء على من فيها من المسلمين، فكان الحكم العادل الذي تقضي به المصلحة في هذه الحال بحسب تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه، هو ذلك الحكم الذي أصدره فيهم، وكان أن وافق حكم السماء أيضاً كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم[78].
-التغريب:
محور أزمتنا الفكرية يكمن في أن واقعنا الإسلامي يفتقد ذاتيته الثقافية وخصوصيته الحضارية، هذه الذاتية حددتها قيم عقيدية وأخلاقية وعملية شكلت الأسس الفكرية لحضارة الإسلام، والقراءة الواعية لحركة الأحداث في الواقع تدرك بوضوح أن الذي يفصل ما بين الشعوب ليس المسافات الجغرافية، وإنما هي مسافات ذات طبيعة أخرى يمثل عالم الأفكار أهم معالمها، وينطبق هذا المعنى بوضوح على وضع التردي الحضاري الذي تحياه مجتمعاتنا الإسلامية[79].
ولكن هذا لا يعني ألا يكون للبعد الجغرافي دوره في تحقيق مقاصد الغرب في هيمنته على العالم الإسلامي، ولهذا يفكك العماري في أنموذجه المغربي حالة الغزو الاستعماري مبيناً دوره في استثمار البعد الجغرافي، فقد اهتم في مرحلته الأولى بعملية تفكيك وتغيير المرتكز الجغرافي بوصفه وحدة جيوسياسية مهمة وإطاراً مصدرياً للقوة، ولتوقيف معطيات القوة الاستراتيجية لهذا المرتكز الجغرافي عمل على التطويق الجغرافي للعالم الإسلامي وفصل أجزائه إلى وحدات جغرافية صغيرة، يمكنها معها تعطيل دورها وتأثيرها الحضاري، وهذا التطويق الجغرافي ساعد بشكل كبير على استكمال مراحله بتغيير العقلية المسلمة وجعلها في دائرة الاستتباع الغربي[80].
ولهذا ترى أن العالم الإسلامي قد اختل فيه الإنجاز الفكري الفاعل والناهض، ومرجع ذلك بشكل سافر كما بينا في بعده التاريخي الممتد حتى الواقع الراهن هو الاستعمار والهيمنة والتغريب والاغتراب عن ذاتية الأمة وثقافتها، وقد في ساعد ذلك كله معامل القابلية والاستعداد للاستعمار، فجنح العالم الإسلامي بهذا كله إلى تبديد إمكاناته وثرواته، وعجزت نظراته عن كل تحليل ذاتي لأي إشكالية أو معضلة في بنائه بمختلف مظاهره.
وإذا كان التقدم الحضاري يبدأ من خلال الأفكار، فإن التراجع الحضاري يبدأ أيضاً من خلالها، وتخلف العالم الإسلامي لا يكمن في فقره، ولكن في تبعيته الحضارية واغتصاب خيراته؛ ليكون في موقع الحاجة الدائمة، وذلك بتدمير خصوصيته العربية الإسلامية وإعادة صياغتها ضمن القوالب الغربية[81].
وإذا كان التقدم الحضاري يبدأ من خلال الأفكار، فإن التراجع الحضاري يبدأ أيضاً من خلالها، وتخلف العالم الإسلامي لا يكمن في فقره، ولكن في تبعيته الحضارية واغتصاب خيراته؛ ليكون في موقع الحاجة الدائمة، وذلك بتدمير خصوصيته العربية الإسلامية وإعادة صياغتها ضمن القوالب الغربية
وبهذا كان التغريب وأدواته من القوى الفاعلة والعاملة في تفكيك عقلية الأمة الفكرية وإعادة تشكيلها، ما جعله من أكثر العوامل فاعلية في اختطاف الإسلام ومحاولة تغيير بنيته الفكرية وتقديمه على أنه الإسلام المقصود حضارياً، وما هو في حقيقته سوى حالة من حالات الاستلاب للأمة ومؤهلاتها الحضارية، ينبغي ونحن في سياق التنبيه على حالات الاختطاف في المفاهيم أن نعرج أولاً على الدلالات المفهومية للتغريب (التقليد للغرب)، فإن بيان المفهوم يساهم في إحسان عملية التفكيك والوقوف على عناصر الظاهرة ومفاصل حركتها في الواقع.
وفي هذا يعرف الجندي التغريب بعيداً عن السياقات المنطقية بأنه “حركة كاملة لها نظمها وأهدافها ودعائمها، ولها قادتها الذين يقومون بالإشراف عليها، تستهدف احتواء الشخصية الإسلامية الفكرية، ومحو مقوماتها الذاتية، وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها”[82]، ويعرفه في سياق آخر بأنه: “حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الغرب وغرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين؛ حتى يشبوا مستغربين في حياتهم وتفكيرهم، وحتى تجف في نفوسهم موازين القيم الإسلامية”[83].
وبحكم كوننا في دائرة المفاهيم ومحاولة اختطافها، فإن من الأهمية بمكان الحديث عن دور التغريب أو التقليد للغرب في تنحية المفاهيم الإسلامية الأصيلة النابعة من التراث والمستندة إلى الأصول الإسلامية، وتقديم بدائل لها، أو فرض الأمر الواقع من حيث انتشارها واستخدامها ومن ثم تدولها في الدوائر المختلفة بحيث تسع مكونات البنية المجتمعية للعالم الإسلامي، ذلك أن برامج التغريب تحاول أن تخدم هدفاً مزدوجاً، فهي تحرس مصالح الاستعمار، بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين، نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم. وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين، وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية[84].
وقد لاحظ المستعمر الغربي هذا الخلاف الشديد بين المسلمين وبينه، في العقائد، وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة .. في غيرها، فاتخذ لأجل تجسير الهوة بين المسلمين والمستعمر الأوربي طريقين، الأول تربية جيل من العصريين، الذين ينشؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير.
ومن أمثلها ذلك ما قام به كرومر بتأسيس (كلية فكتوريا)، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي؛ ليكونوا من بعد هم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين، وليكونوا في الوقت نفسه على مضي الوقت أدواته في نشر الحضارة الغربية، وأما الطريقة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً، وهي تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره، بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة الغربية، أو قريبا منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً أو معارضاً لقيمها وأساليبها، وهذا لا يعني البتة سوى ظاهرة الاختطاف التي نحن بصددها[85].
ولا شك أن غزو منطقة المفاهيم واحتلال عالم الأفكار يعني ضمن ما يعني حمل المسلمين على قبول ذهنية الاستسلام والاحتواء والتحرك من داخل دائرة الفكر الوافد ومقاييسه ومعاييره ومفاهيمه … كما يستهدف ذلك إخراج المسلمين من دائرة فكرهم بما يحدث شعوراً بالنقص في نفوسهم، ومن باب أولى حيال فكرهم حيث يخرجون من مفاهيمهم ومواريثهم، وفرض أعراف ومفاهيم جديدة عليهم مخالفة لها في الأصل مباينة لها في الأساس والجذور.
وقد أفضى إشاعة هذا النهج في التغريب إلى سيادة المفاهيم الغربية بفعل شيوعها وانتشارها في الاستخدام إلى الانحياز لتلك المفاهيم في إطار من التقليد بلا بينة أو دليل أو برهان، وصار بهذا أن كل من أرخ للتراث الإنساني لم يكن إلا غربياً وانطلق من المفاهيم الغربية، سواء كان من بني قومه الغربيين، أو من بني العرب والمسلمين ممن توجه صوب الغرب عقيدة ونهجاً[86].
التغريب والجهاد:
لقد اقتضى إحياء الدور التفعيلي للأمة المسلمة في علاقاتها الخارجية توظيف شتى الوسائل، والقدرات، والأوضاع سعياً إلى إقامة مشروعية إسلامية عليا، قوامها أن تكون كلمة الله هي العليا، مؤسسة على العدل المستمد من التوحيد، ويستلزم ذلك تحقيق مبدأين: التضامن في تنفيذ ما أمر الله به، والتضامن في منع ما نهى الله عنه، وهما يستلزمان إعداد قوة إسلامية ذات مواصفات خاصة، تكون قادرة على المبادرة في ضوء حقيقة عموم الرسالة الإسلامية، التي تشمل عالم التكليف المخاطب به البشرية جمعاء، وهو ما يستدعي الاستعداد الدائم للدعوة إلى القيم القرآنية الحاكمة، وحمايتها، وهذا يستتبع بالضرورة حتمية أن تكون الأمة المسلمة في مركز القوة؛ لأن الضعيف لا يستطيع إقامة ميزان العدل، ولا يتأتى له أن يوصف بالسماحة المجسدة لقاعدة اللاإكراه في الدين[87].
وهذا المقصد المنهجي الذي استبطنه مفهوم الجهاد هو الذي نبه الغرب وأتباعه المقلدين له حول القيمة التي يتبوؤها الجهاد في المنظومة الإسلامية ودوره على مستوى الدعوة والحماية، وفي هذا السياق يقول الميداني: “من واجبات الإسلام لنشره وصيانته وحماية المسلمين وبلادهم من أي تسلط غير إسلامي، واجب الجهاد في سبيل الله بالقتال عند توافر أسبابه، الذي يغذيه في قلب المسلم إيمانه الراسخ بما أعد الله للمجاهدين في سبيله من أجر عظيم عنده.
ولذلك وجه الاستعماريون والمبشرون والمستشرقون واليهود وسائر أعداء الإسلام جهوداً عظيمة في خطة متعددة الشعب لغزو هذا الركن العملي الخطير من أركان الدعوة إلى الله ونشر الإسلام وإقامة العدل في الأرض، وإضعاف أثره في صفوف المسلمين، وهدم بواعثه في قلوبهم. وكان من مظاهر محاولاتهم لإلغاء هذا الركن العظيم .. تفريغ الجهاد في سبيل الله بالقتال من مضامينه، وذلك باصطناع البدائل، كالوطنية، والقومية، والأرض، والكرامة، والاشتراكية، والحرية، ونحو ذلك “[88]، وهي أبعاد -في كثير منها- لا تتعارض مع المنظومة الإسلامية من حيث الأصل، بحكم كونها جامعة ومستوعبة لدوائر الانتماء بما لا يعود على الأصل بالإبطال، فالانتماء الوطني والقومي، وقصد الكرامة والحرية، كلها في دائرة الاستيعاب الإسلامي، الذي يشهد له خطابه وتاريخه في أنموذج فريد لا يساميه غيره.
وجه الاستعماريون والمبشرون والمستشرقون واليهود وسائر أعداء الإسلام جهوداً عظيمة في خطة متعددة الشعب لغزو هذا الركن العملي الخطير من أركان الدعوة إلى الله ونشر الإسلام وإقامة العدل في الأرض، وإضعاف أثره في صفوف المسلمين، وهدم بواعثه في قلوبهم
-الفرق المصطنعة المنتحلة:
لا تقف حالة الاختطاف عند دائرة تحريف وتغيير الدلالات المفاهيمية التي يستبطنها المفهوم، وإنما يتجاوزها كذلك إلى دائرة الإلغاء والإبطال، وإنما يكون هذا بالنظر إلى منظومته الحاضنة التي يتحرك في سياقها العام ويتناغم من أفرادها وأجزائها بمقتضى الرؤية الكلية الجامعة، فيؤول اختطاف المنظومة الحاضنة إلى إلغاء وإبطال بعض أفرادها وأجزائها، ومن هنا يأتي اختطاف الجهاد في إطار الفِرَق التي صنعها الغرب على عينه؛ قاصداً بها غزو هذا المفهوم المكين من مفاهيم الإسلام الحركية، لإضعاف أثره في صفوف المسلمين، وهدم بواعثه في قلوبهم، فكانت القاديانية، والبابية، والبهائية .. في غيرها من الفرق.
فأما القاديانية التي أسسها غلام أحمد القادياني بوصفها أنموذجاً ينبه على سواه ممن هو قسيماً له في اختطاف الجهاد بقصد الإلغاء والإبطال، فقد ظهرت كما ذكر الندوي في آخر القرن التاسع عشر الميلادي في الهند بعد استقرار الحكم الانجليزي فيها، وهي ثورة على النبوة المحمدية، وعلى الإسلام، ومؤامرة دينية وسياسية، وتبنتها الحكومة الانجليزية واحتضنتها، وساعدتها العوامل الاجتماعية، والسياسية، والفكرية الكثيرة التي توفرت في عصر ظهورها فانتشرت على بعدها من الإسلام وأصبحت طائفة كبيرة[89].
وموقفهم من الجهاد كان واضحاً إلى درجة السذاجة وعدم الاتزان الذي كان يتسم بها مؤسسهم الأول، وقد ذكر إحسان إلهي ظهير موقفهم من الجهاد قائلاً: “فالآن ونحن نذكر من الأحكامات التي نزلت على المتنبي القادياني من ربه الانكليز لتوهين قوى المسلمين واستسلامهم للاستعمار، إلغاء الجهاد، لأن الاستعمار أكثر ما يخاف في الإسلام هو عقيدة الجهاد، لأنه يعرف تعلق المسلمين وشغفهم به، وقد ذاق الأمرين من هذه العقيدة في الحروب الصليبية، فلذا أمر الاستعمار الانكليزي المسيحي متنبئه باستئصال هذه العقيدة من قلوب المسلمين، وإيداع العقيدة الجديدة بأن لا جهاد في الإسلام بعد الآن.
فيقول المتنبي الكذاب (أن الله خفف شدة الجهاد أي القتال في سبيل الله بالتدريج، فكان يقتل الأطفال في عهد موسى، وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم ألغى قتل الأطفال، والشيوخ، والنسوان، ثم وفي عهدي ألغى حكم الجهاد أصلاً)، ويقول: (اليوم ألغي حكم الجهاد بالسيف، ولا جهاد بعد اليوم، فمن يرفع بعد ذلك السلاح على الكفار ويسمي نفسه غازياً، يكون مخالفاً لرسول الله الذي أعلن قبل ثلاثة عشر قرناً بإلغاء الجهاد في زمن المسيح الموعود)”[90].
بل صرح هو نفسه بأن الجهاد إنما ألغي من قبله خدمة للإنجليز، فيقول: “لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر (الإنجليز) من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح، والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد وتفسد قلوب الحمقى”[91].
-الأوساط السياسية والإعلامية:
وتعد هذه الأوساط من أكثر الوسائل والأدوات التي وظفت في تشويه مفهوم الجهاد وتحريفه؛ بدوافع مختلفة، منها بطبيعة الحال حالة الوهم بالخوف والهلع عند إشاعة وسماع هذا المفهوم على المستوى الإعلامي والسياسي، والتمهيد بذلك إلى نقضه وإلغائه من واقع المسلمين، فيتم بذلك نزع سر قوته الحقيقية، ووضع كما ذكر الميداني قوى خلبية باردة مكانها، يسهل عليهم أن يوجهوا ضدها ضرباتهم القاصمة[92].
وقد ساعدهم في هذا مسلكان: الأول: مسلك التوريط والإحباط، ويتحقق ذلك بدس مجموعة من الماكرين بين صفوف المسلمين المتحمسين لإسلامهم[93]، فيقومون بدورهم في تأجيج الحماسة في نفوس الشباب التواق إلى الجهاد، والتزيين لهم بضرورة التحرك السريع للقتال في سبيل الله، فيندفعون إلى ساحات جهادية موهومة مع قصر نظر وقلة فقه، فيؤول أمرهم إلى مآلات غير محمودة وورطات غير مدروسة، توظف في خطابات إعلامية وسياسية هنا وهناك، بغية النيل من مفهوم الجهاد وقيمته وحقيقته في الإسلام.
والمسلك الثاني: مسلك اصطناع البدائل، وهو سياسة إعلامية وفكرية تسوق من خلالها جملة من المفاهيم التي يقصد بها تفريغ مفهوم الجهاد من مضامينه ومن معانيه السامية، ومن أسسه وبواعثه التي تمد المسلمين بطاقة كبرى من الإقدام والصمود والصبر والمصابرة، والبدائل تكمن في تغيير الوجهة والغاية في ممارسة المسلمين لهذا الجهاد والقتال وتوجيههم نحو غايات مختلفة أخرى، بعيدة كل البعد عن معاني الإسلام وغاياته، فظهرت بإزاء ذلك ما يسمى بالوطنية والقومية والقبلية والطائفية والمصلحية والحزبية والمناطقية …[94]، وهي -كما أشرنا سابقاً- أطر كثير منها يتسع له الإسلام ويستوعبه كما دل عليه منهاجه وممارسته وتاريخه.
واللافت للنظر إذا أردنا أن نتعرض إلى مضامين ما يساق إعلامياً وسياسياً حول مفهوم الجهاد والمفاهيم المقاربة له، أن استخدام مفهوم الجهاد على نطاق واسع كان استخداماً يفتقر إلى الدقة في كثير من الأحيان؛ بغية جعل دلالاته دائرة مع التعصب وعداء الإسلام تجاه الغرب.
ذلك أن جزءاً كبيراً من الأخبار التي تساق في هذه الأوساط وتقدم إلى المجتمع الغربي تتحدث عن الجهاد في الولايات المتحدة وأوربا، ولكن في سياق ما يسمى بالإرهاب، ولا شك أن مثل هذا التسويق الإعلامي يفضي بالضرورة إلى التأثير على نمط الحياة التي يعتادها الناس، وبذلك تعد هذه الأوساط من الوسائل المؤثرة في تشكيل العقلية الغربية.
وباستعراض بعض مضامين الصحف الأمريكية والأوربية مما تعلق بما يسمى بالإرهاب يتضح أن ثمة تغطية انتقائية يتم من خلالها صناعة لصورة مشوهة باستخدام بيانات حقيقية، وبالضرورة تفضي هذه البيانات الانتقائية إلى استنتاجات سيئة توظف غربياً في قرارات تدور فيما يسمى بمحاربة الإرهاب، وبذلك يكون أثر هذه الحقائق المشوهة المنتقاة أسوأ من أي أخبار وهمية كاذبة؛ لأنها تساعد بشكل كبير في إحداث شعور زائف بالثقة أو التهديد[95].
وأما على مستوى الخطابات السياسية المرافقة للحملات الإعلامية، فإنها في الحقيقة تظهر استهدافاً واضحاً للإسلام والمسلمين سواء ظهر ذلك تصريحاً وتلميحاً، وغالباً ما يشهد له لحن القول الذي يساق فيه الخطاب، ومن أمثلة ذلك خطابات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، فقد دلت سقطات لسانه في تصريحاته عقب أحداث سبتمبر على أن الحملة التي تشنها الولايات المتحدة على الإرهاب هي في سياق حملة صليبية، وهذه ليست في رأي الكثيرين زلة لسان، بل هي تعبير دقيق عن موقف وعن تصور ينطلق منه قائله والمؤسسات التي يديرها[96].
-الأوساط العلمية الأكاديمية:
على مستوى الخطاب المعرفي والعلمي الذي يسوق في الأوساط الجامعية والأكاديمية في الغرب، يتعرض كثير من الأكاديميين والباحثين في دراساتهم وأطروحاتهم الجامعية لمفهوم الجهاد، ويغلب على هذا التعرض كما هو ظاهر المنهج الانتقائي الذي يسود الأوساط الأخرى، ومن أمثلة ذلك ما أقدمت عليه هيئة التدريس في كلية هارفرد بالولايات المتحدة، حيث اختارت طالباً متخرجاً مسلماً لإلقاء كلمة التخرج، وكانت كلمته تحت عنوان: (جهادي الأمريكي)، وكان من مضامين كلمته توجيهه إلى ضرورة استعادة مفهوم الجهاد إلى معناه الحقيقي وهو الصراع الداخلي، فهو يراه كما أشار في كلمته كفاح فردي من أجل السلوك الأخلاقي الشخصي.
وهذا المعنى على الرغم من كونه في ذاته حقاً، إلا أنه في حقيقته اختطاف لمفهوم الجهاد الذي يعبر عن منظومة مفاهيمية واسعة تأخذ هذا النوع من الجهاد في سياق أنواع، ومنها الجهاد القتالي المسلح بوجهه المشروع، والدليل على استهداف الجهاد بالاختطاف أن أساتذة كلية هارفرد أنفسهم كانوا منساقين في صناعة المفهوم وفق هذا المعنى الذي ساقه الطالب المتخرج، فعميد الكلية مثلاً مايكل شيناغل أكد في كلمته في حفل التخرج تعليقاً على الكلمة السابقة أن الجهاد هو نضال شخصي لتعزيز العدالة والتفاهم في أنفسنا وفي مجتمعنا، وهذه الرؤية في حقيقتها تتساوق معها مناهج التعليم الغربي[97].
وفي هذا يقول دانيال بايبس: “لقد قمت بمسح لما يزيد عن أربعة وعشرين خبيراً، نشأ عنه العديد من القضايا والمواضيع المرتبطة ببعضها البعض. حيث اعترف أربعة منهم بأن الجهاد يتضمن عنصراً عسكرياً، بل إنهم باستثناء واحد فقط، يصرون على أن هذا العنصر دفاعي بحت”[98]، وهذا معناه أن الغالبية العظمى من الأكاديميين الغربيين يوظفون في دراساتهم لمفهوم الجهاد وفقاً للنهج الانتقائي أحد معانيه وهو جهاد النفس على حساب بقية أنواع الجهاد.
ولا يقف الأمر عند هذا القدر، بل ينصرف كذلك إلى القراءات التنظيرية للمفهوم في سياق المصادر والمراجع التي تُعتمد في الدراسات والبحوث، وخاصة تلكم المتعلقة بالمعاجم والقواميس، فعلى الرغم من إشارة بعض هذه المعاجم إلى المعاني المختلفة للجهاد بمعناه اللغوي ومدلولاته الشرعية، إلا أن بعضها الآخر يكتفي أحياناً بالإشارة إلى المعنى الشائع غربياً، وهو ما يمثل امتداداً مؤثراً في الأوساط التعليمية للانتقائية التي تهيمن على الخطاب السياسي والإعلامي، ويعد قاموس كامبردج مثالاً على هذه الانتقائية، إذ يعرف الجهادي بقوله: “هو المسلم الذي يقاتل من أجل الإسلام، لا سيما الشخص الراديكالي الذي يؤمن باستخدام العنف لتحقيق أهداف دينية وسياسية”[99].
ثانياً: اليهود والكيان الصهيوني وأدواته:
هذا النسق المركزي من الأنساق التي جعلت الجهاد هدفاً للاختطاف سواء كان في منظومته الحاضنة أو في سياق حركته الفاعلة، لا يمكن النظر إليه في الدائرة المعاصرة التي تتعلق بالكيان المزروع في قلب الأمة المسلمة، بل ينظر إليه أيضاً في بعده التاريخي الممتد، ولهذا في هذا السياق الكلي الجامع تعد الرؤية القرآنية للظاهرة اليهودية وما تجسده من تمثلات على مستوى الحركة والفعل، أنموذجاً قياسياً لكيفية التعامل مع هذه الظاهرة وكيانها السياسي الراهن، فقصة بني إسرائيل في القرآن، والمساحة التعبيرية الكبيرة التي يفردها لهم، هي بالنسبة للمسلم دين يلتزم، ويقين يعتمد، لا بد من استمرار حضوره، واليقين بخلوده، الذي يعني تعديته إلى كل عصر.
لقد خاطب القرآن يهود عصر النزول بما فعل آباؤهم وأجدادهم من جرائم ومواقف، وبين علاقاتهم بالنبوة تاريخياً، ليسقطها على واقع تعاملهم مع النبوة الخاتمة، وكأن تلك الخصائص والصفات تنحدر من الآباء إلى الأبناء بحيث أصبحت جبلة تورث، وهي ماضية في الأحفاد أيضاً في كل عصر وجيل .. وخلود القرآن، وتجرده عن حدود الزمان، يعني أن تلك القوانين الاجتماعية، والصفات النفسية، مستمرة استمرار الحياة، وإلا كان القرآن قصصاً تاريخياً للمتعة والتسلية فحسب.
ومن أهم الصفات والخصائص التي اتصف بها اليهود وأجيالهم المتعاقبة ما نبه عليه القرآن في سياقاته النصية والموضوعية خاصية التسلل إلى الأديان، والأفكار، والأحزاب، والعقائد، والتنظيمات، والجماعات، والتنظير لها، والحماسة لأهدافها، وتوزع المواقع والأدوار، والمراهنة عليها جميعاً في وقت واحد.
وهذا لا يحتاج إلى دليل حسي وشاهد، فإن التاريخ يشهد تخريبهم للنصرانية، وتغييرهم لكثير من عقائدها بما يجعلنا ندرك البعد الديني الذي يتحرك فيه اليهود عالمياً، كما أن المسلمين لم يكونوا بمنأى عنهم سواء على مستوى موقفهم من الدين الإسلامي، أو على المستوى السياسي، فإن منهجية التسلل كانت هي الغالبة في تاريخ اليهود، ومن خلالها نجحوا في تحقيق أهدافهم في إضعاف الأمة ودولة الخلافة فيها ثم إسقاطها[100]، وعلى هذا الأساس فحين نتطرق إلى الكيان الصهيوني ونسقه في اختطاف مفهوم الجهاد والمفاهيم المقاربة له، يلزم أن نستحضر هذا البعد عند تناولنا له بالبحث والنظر.
ولو تأملنا السياق القرآني في وصف النفسية اليهودية عند المواجهة والمدافعة، لرأينا تصويراً غاية في الدقة، بحيث يكشف حقيقة القوم الواقعة، ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة التي تثبت تلكم القرابة بين اليهود وصنعائهم من المنافقين والمتصهينين، وتظهر في الوقت ذاته خشيتهم التي لا تنفك عنهم حتى قيام الساعة من الجهاد والقتال والمقاومة، فيقول الله عز وجل في وصفهم وأتباعهم من المنافقين: ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ . لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾[الحشر: آية 13-14].
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة اليهود وأذنابهم حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان، ولقد شهدت ساحات الأرض المقدسة ملاحم المجاهدين ضد اليهود مصداق هذا التوصيف القرآني بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين، فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار لا يلوون على أحد، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء، وتبقى الملامح النفسية الأخرى تظهر هشاشة بنائهم الاجتماعي، بحيث يظهر تجمعهم الظاهر كأنهم لحمة واحدة، والخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع[101].
ومن هنا جاء دور الكيان الصهيوني وسياساته وأدواته في صراعه مع الأمة المسلمة حول قضيتها الكبرى فلسطين ليدور حول إضعاف وقتل الروح الجهادية في النفسية المسلمة المدافعة، ودفعاً كذلك لتلكم الخشية التي يتلبسون بها حالة إحياء مفهوم الجهاد فكراً وحركة في البنية الإسلامية
ومن هنا جاء دور الكيان الصهيوني وسياساته وأدواته في صراعه مع الأمة المسلمة حول قضيتها الكبرى فلسطين ليدور حول إضعاف وقتل الروح الجهادية في النفسية المسلمة المدافعة، ودفعاً كذلك لتلكم الخشية التي يتلبسون بها حالة إحياء مفهوم الجهاد فكراً وحركة في البنية الإسلامية، ولذلك شن اليهود وكيانهم وما زالوا حرباً نفسية ضد المسلمين بهدف إلقاء الخوف والهلع والرعب في قلوبهم، وإيصالهم إلى مرحلة من اليأس والقنوط وإقناعهم باستحالة مواجهة اليهود والانتصار عليه، وأن الواجب يقضي بقبول المسلمين للأمر الواقع، والتعامل مع اليهود بوصفهم دولة قوية لا تقهر، والقبول باحتلالهم لفلسطين كلها، ولكل قطعة من الأراضي التي تحتلها، والدخول في مفاوضات سلمية والاعتراف الكامل بهم.
ويرسلون الرسائل النفسية بأن هذا الموقف هو عين الحكمة والمنطق والحنكة والعقلانية وبعد النظر، ويوحون للأمة عن طريق هذه الحرب النفسية بأنه لا فائدة من المقاومة والحرب والقتال، وأن دعاة الحل السلمي في الأمة والاعتراف باليهود وقبول الأمر الواقع هم المخلصون لها، الحريصون على إنقاذها، الراغبون في تقدمها زرقيها وخيرها، وفي المقابل أيضاً يوحون بأن الإسلاميين دعاة الجهاد ومواجهة اليهود وكيانهم الذين لا يعترفون بهم ويطالبون بإعادة كل فلسطين للمسلمين، ينادون بالجهاد الشامل حلاً للقضية، هؤلاء متطرفون، لا فقه لهم بالسياسة ولا بالحرب ولا بالتعامل مع الآخرين، وأن هؤلاء أعداء الأمة لأنهم يدعونها إلى مواجهة حربية فاشلة مع اليهود[102].
ولعل من القضايا التي تصب كذلك في هذا السياق تلكم المواجهة الصهيونية لمفاهيم لا تبتعد كثيراً عن مفهوم الجهاد، فيحاولون من خلالها اختطافها وهي في سياقها ومنظومتها المفاهيمية، ومن هذه المفاهيم: مفهوم المقاومة الذي تبنته كثير من الحركات الثورية ضد الاحتلال، ويأتي مفهوم المقاومة محملاً بمضامين ومعاني متعددة يسع من خلالها على مستوى الفكر والحركة جملة من الوسائل والطرائق التي تمارس من خلالها المقاومة، فيشير هذا المفهوم بموجبها إلى عدة صورة من المواجهات: عسكرية، وفكرية، ومنهجية، وإعلامية، واقتصادية، وسياسية .. في غيرها.
من القضايا التي تصب كذلك في هذا السياق تلكم المواجهة الصهيونية لمفاهيم لا تبتعد كثيراً عن مفهوم الجهاد، فيحاولون من خلالها اختطافها وهي في سياقها ومنظومتها المفاهيمية، ومن هذه المفاهيم: مفهوم المقاومة الذي تبنته كثير من الحركات الثورية ضد الاحتلال
ولئن كان الأوفق من حيث الشرع والنظر تبني الجهاد مفهوماً واصطلاحاً بحكم سياقه الشرعي، فإن مفهوم المقاومة يمكن استيعابه ما دام يعكس ويستحضر في سياقاته مضمون الجهاد الذي أصله وقرره خطاب الشريعة وأصولها، ثم لا ينبغي التغافل أيضاً عن مسوغات تبني هذا المفهوم بحسب ما تمليه حالة المقاومة نفسها من أبعاد فكرية وسياسية تملي عليها تبني مفهوم المقاومة أخذاً بقاعدة البدائل التي يثيرها النظر السياسي وهو يستحضر ضغوط الواقع الداخلي والدولي، ثم لا نتناسى معها كون الحرب مع المحتل قد تستلزم -وهو الغالب- ممارسة أنواع من الخداع، ومنها الخداع المتعلق بالدائرة المفاهيمية، والحرب خدعة كما جاء في الحديث النبوي[103].
ويأتي في هذا الإطار مفهوم المقاومة في الأنموذج الفلسطيني الذي مثله المقاومة الفلسطينية بعد الاحتلال، وتمثله اليوم عدة فصائل أبرزها حركة المقاومة الإسلامية حماس، والناظر في أدبيات الحركة وأسسها الفكرية والمنهجية يقف على جملة من الركائز التي يلتقي فيها مفهوم المقاومة بمفهوم الجهاد، ولذلك جاء في ميثاقها في المادة السابعة: “وحركة المقاومة الإسلامية حلقة من حلقات الجهاد في مواجهة الغزوة الصهيونية”[104]، وفي المادة الخامسة عشرة: “يوم يغتصب الأعداء بعض أرض المسلمين، فالجهاد فرض عين على كل مسلم، وفي مواجهة اغتصاب اليهود لفلسطين لا بد من رفع راية الجهاد، وذلك يتطلب نشر الوعي الإسلامي في أوساط الجماهير محلياً وعربياً وإسلامياً، ولا بد من بث روح الجهاد في الأمة”[105].
فظهر من ميثاق الحركة أن مفهوم الجهاد الشرعي مستحضر في عقلية وذهنية قادة المقاومة، وهو مفهوم كذلك لم يغب عن بقية الفصائل الفلسطينية، فقد جاء في ديباجة ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية (فتح): “نحن الشعب العربي الفلسطيني الذي آمن بعروبته وبحقه في استخلاص وطنه وتحقيق حريته وكرامته وصمم على حشد قواه وتعبئة كل جهوده وطاقاته من أجل متابعة نضاله والسير قدماً على طريق الجهاد المقدس حتى يتحقق له النصر النهائي الكامل”[106].
وبهذا الاعتبار فإن لمفهوم المقاومة مع استدعاء مضمون قسيمه الجهاد أثراً في اختطاف المنظومة الجهادية، فناله والحالة هذه مما نال الجهاد وطاله، إلا أن الفارق بينهما في السياق الفلسطيني، أن الفاعل الرئيس في اختطاف مفهوم المقاومة يكمن في الكيان الصهيوني وأذنابه وأتباعه ومعه الداعمون له، وها هو المسيري يبين لنا حقيقة الاختطاف لمفهوم المقاومة بصورة جلية لا تحتاج معها إلى مزيد بيان، فيقول: “قد استخدم الصهاينة والإعلام الغربي لفظ الإرهاب للإشارة لأعمال المقاومة ولفظ الانتحار للإشارة إلى عمليات الاستشهاد، وتبنت وسائل الإعلام، فضلاً عن معظم النخب الحاكمة هذين المصطلحين.
وفي هذا الإطار الإدراكي لم تعد القضية هي تحرير الأرض السليبة، أو استعادة الحقوق الضائعة، أو التصدي للعدو وهزيمته، أو دعم الانتفاضة سياسياً ومالياً وعسكرياً وعدم الاكتفاء بالدعم اللفظي الرتيب، أو الضغط من أجل تحويل مكاسب الانتفاضة الميدانية والعسكرية إلى مكاسب سياسية .. بدلاً من هذا كله تصبح القضية رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني، وإيقاف العنف، وفي رواية أخرى الإرهاب، ووقف العمليات الانتحارية، بل والعودة إلى مائدة المفاوضات، والتنازل عن حق العودة حقناً للدماء، واذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”[107].
الصهاينة العرب واختطاف مفهوم المقاومة:
ولكن هل دار بخلد المسيري أن هناك تياراً تنامى في الآونة الأخيرة كفى الصهاينةَ القتالَ في جبهاته الإعلامية والسياسية، بل والعسكرية كذلك في مواجهته للأمة المسلمة؟ إنه تيار المتصهينين العرب الذي جاء ثمرة لمحاولات تدجين العقل العربي المسلم -كما يراها البعض زمنياً- منذ أكثر من عقدين، وجاء مستهدفاً بالأساس نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، والاعتراف بالكيان الصهيوني مقابل لا شيء. وهو المسار الذي تبنته بعض الحكومات العربية، وسعت إلى تسويقه وترويجه رسمياً وشعبياً، واعتمدت في ذلك على آليتين: أولاهما دبلوماسية، من خلال تقوية علاقاتها منفردة بالكيان الصهيوني، سواء بفتح سفارات أو قنصليات ومكاتب تجارية معه. وثانيتهما ثقافية وإعلامية، بتشجيع بعض مثقفيها ونخبتها لترويج فكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقبول التعايش معها، وكانت من صوره زيارات لبعض المثقفين إلى تل أبيب، واللقاء ببعض المسؤولين الصهاينة[108].
هل دار بخلد المسيري أن هناك تياراً تنامى في الآونة الأخيرة كفى الصهاينةَ القتالَ في جبهاته الإعلامية والسياسية، بل والعسكرية كذلك في مواجهته للأمة المسلمة؟ إنه تيار المتصهينين العرب الذي جاء ثمرة لمحاولات تدجين العقل العربي المسلم
لقد ولدت من رحم تلك الحالة ظاهرة المتصهينة العرب الذي استثمروا وسيلة الخطاب؛ من أجل تمكين هذه الظاهرة وتأسيس علاقات تطبيعية مع الكيان الصهيوني، وفق مقترحات تطلق بوصفها معامل اختبار لمقولات من الخطورة بمكان، لا تعترف فحسب بالأمر الواقع الذي فرضه الصهانية، ولكن تروجه إطاراً وتتبنى وجهة النظر الصهيونية بحذافيرها، فيخرج ذلك كله علينا، وعلى أسماعنا، يستخدم كل مصطلحات العدو، ويمررها في خطاب شديد التسميم، ويجعل تلك التنازلات واقعاً يمكن على الأرض، ويقدم له الأسانيد الواهية من كل طريق[109].
وليجسد هذا التيار بمساره هذا إحدى القوى الفاعلة في اختطاف مفهوم المقاومة بتوصيفه بالإرهاب والعنف المسلح غير المشروع بقصد نقضه وإبطاله، فيكون هذا التيار أسوة بسيده سواء بسواء، ولا غرو في ذلك، فقد صور لنا القرآن الكريم تلكم العلاقة الحميمة التي تربط بين المنافقين واليهود في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾[البقرة: آية 14]، كما ألمح لذلك بعض المفسرين.
وفي هذا يقول الأستاذ عزة دروزة: “ولقد ذكر المفسرون أن كلمة شياطينهم مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾[النساء: آية 138-139] ..”[110].
وفي هذا إشارة واضحة المعالم إلى أن الدور اليهودي الصهيوني في عملية احتواء العقل العربي المسلم لم يكن وليد اللحظة، بل هو لصيق به منذ ولادة حضارته الإسلامية الخاتمة، ولكن في صورته الحالية أضحى أكثر تأثيراً ونجاعة، ففي هذه الأيام يقف الكيان الصهيوني كالعروس المجلوة يخطب ودها وينشد رضاها هؤلاء الذين اعتادوا التعيش على ادعاء عداوتها؛ إذ تظهر الأنظمة التي شهدت الانقلاب على الثورات العربية موقفاً صهيونياً جديداً يقر الكيان الصهيوني على ما وصل إليه، ويبرر عدوانه الدائم على الفلسطينيين، ويهاجم المقاومة الفلسطينية ويقمع التعاطف العربي والإسلامي والقومي معها، وتمارس تلك الأنظمة تصهيناً متعدد الأبعاد: سياسياً وأمنياً وعسكرياً وإعلامياً وقضائياً وقانونياً واقتصادياً وثقافياً[111].
ولم يقف الأمر على الأنظمة السياسية في ممارستها لهذا التصهين، بل كان هذا على مستوى النخب الفكرية والإعلامية تجييشاً وتجنيداً، وكان جهدهم في الغالب موجهاً إلى وأد روح المقاومة والجهاد في النفسية العربية والمسلمة ولكن في سياق عام، ذلك أن كتابات المتصهينين العرب تركز على جملة من القضايا، أبرزها الطعن في الإسلام عقيدة وفقهاً وحضارة وتاريخاً، سواء كان ذلك بشكل مباشر بالتصريح قولاً بأنه لا يوجد شيء مقدس خارج سياق النقد والتصحيح والتخطئة، وأن النص القرآني يجوز التعامل معها بوصفه نصاً تاريخياً، أو كان ذلك بشكل غير مباشر عند بعضهم بالالتفاف حول التفسيرات، أو بالهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص للآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو بقوامة الرجل على المرأة .. وهكذا، ثم الطعن في فكرة الأمة الواحدة، مستهدفين بهذا الطرح والتنظير حركة المقاومة الجهادية المرتكزة على الإسلام عقيدة ومنهجاً[112].
والأمثلة على ذلك تجعل البيان أكثر وضوحاً وجلاء، ثم هي من البينات والشهود التي يقف عندها الخاصة والعامة، وإلا فإن أربابها قد تلبسوا بما يجعلهم في دائرة الانسلاخ من الحياء ومما هو أكبر وأجل منه، ويكفيهم البيان النبوي الذي يتجاوز الزمان والمكان، “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستحيِ فاصنع ما شئت”[113]، ومن هذه الأمثلة تغريدة خالد الأشاعرة في موقعه على تويتر قال فيها: “(اللهم انصر بني إسرائيل على عدوهم وعدونا، اللهم إن كان من الفلسطينيين قد باعوا أرضهم ثم نقضوا بيعهم وخانوا المسلمين وظاهروا عليهم تحت راية المجوس ثم قذفوا المسلمات وبهتوا المسلمين وقتلوا المسلمين بسوريا واستكبروا فشتتهم واخذلهم، وانصر بني إسرائيل عليهم). هذا دعائي برمضان هذا العام”[114].
ومثله صنيع عبدالحميد الحكيم الذي غرد على موقعه في تويتر بقوله: “أهنىء المجتمع الإسرائيلي بعيد الاستقلال ورسالتي لهم أن السياسات الإيرانية هي نفس السياسات النازية التي استهدفت إبادة شعبكم، فليس من الوفاء لمعاناة أجدادكم وحق دولتكم أن يكون موقفكم لا يتعدى المشاهدة في مواجهة محمد بن سلمان لعدونا الإيراني، بل يجب تحقيق السلام ونكون صفاً واحدا لمواجهة هذا الشر”[115].
التطبيع وتغييب مفهوم الجهاد والمقاومة:
يشير التطبيع من حيث مفهومه في الوضع اللغوي إلى العودة إلى وضع طبيعي أو ظرف عادي كما يدل أيضاً على التطويع والتعويد أو التعود والانقياد، وهو ما يعني بالضرورة حالة الاستمراء بعد مرحلة الإنكار، وفي المجال السياسي الذي ساد فيه هذا المفهوم ينصرف إلى قرار إعادة العلاقات بين دولتين بعد مرحلة قطع بينهما، ويستخدم مصطلح التطبيع في إطار الصراع العربي الصهيوني في الإشارة إلى إقامة بعض النظم الحاكمة علاقات طبيعة مع الكيان الصهيوني رغم احتلاله لفلسطين واعتدائه على حقوق أهلها، بل وانتهاكه سيادة بعض تلك الدول أحياناً.
وقد استخدم الصهاينة والإعلام الغربي لفظ الإرهاب للإشارة لأعمال المقاومة ولفظ الانتحار للإشارة إلى عمليات الاستشهاد، وتبنت وسائل الإعلام، فضلاً عن معظم النخب الحاكمة هذين المصطلحين
ومن مقتضى هذا التطبيع قيام هذه الدول أو مؤسساتها أو أشخاصها بتنفيذ مشاريع تعاونية ومبادلات تجارية واقتصادية، وذلك إخلالاً بالموقف السياسي التاريخي لتلك الدول الموجب لمقاطعة الكيان الصهيوني، فالتطبيع بهذا الاعتبار يعني ليس فقط السماح بتطوير علاقات طبيعية بين المعتدي والمعتدى عليه، بل والسماح أيضاً بالإضرار في تلك الأداة -أي المقاطعة- التي هي إحدى أدوات تحقيق تلك العدالة المنشودة[116].
إن جوهر التطبيع يكمن إحداث تغيير في البنية العربية والإسلامبية وذهنيتها وعقلية مكوناتها يبدأ بالتسليم بوجود الكيان الصهيوني، ويمتد إلى تقييد قدرات العالم العربي والإسلامي العسكرية وتغيير معتقداته السياسية وإعادة صياغة شبكة علاقاته، إضافة إلى تحقيق مطالب أمنية وإقليمية، وصولاً إلى تغيير المواقف تجاه هذا الكيان بصورة جذرية، وبقدر ما يبدو التطبيع في ذاته هدفاً من أهداف الاستراتيجية الصهيونية لتحقيق أهداف العدو في المنطقة، فإنه أيضاً يعد أداة من أدواتها في العمل، بحيث يتكامل مع أدوات العمل الأخرى من عسكرية ودبلوماسية، خاصة بعد إدراك الإدارة الصهيونية أن العمل العسكري مهما كانت طاقاته وقدراته يبقى عاجزاً عن تحقيق جزء هام من الأهداف الحيوية للحركة الصهيونية، وهو الاعتراف بها وبكيانها المزروع[117].
وهذا البعد السياسي وتأثيراته في الأبعاد المختلفة الأخرى يجرنا إلى قضية يلزم بيانها في إطار ما يمكن تسميته بالبعد العقدي للتطبيع وانعكاساته على مفهوم الجهاد والمقاومة الذي نحن بصدده، فعلى الرغم من خطورة الأبعاد الأخرى للتطبيع، فإن البعد العقدي في حقيقته يأخذ بمجامعها؛ كونه يعد القلب والأساس منها، والعمل رهن بالقصد، وإنما الأعمال بالنيات، ولعل من أخطر ما يفضي به البعد العقدي للتطبيع هو الاعتراف الصريح بملكية اليهود لأراضي المسلمين في فلسطين، وإقرارهم عليها.
ولعل من أخطر ما يفضي به البعد العقدي للتطبيع هو الاعتراف الصريح بملكية اليهود لأراضي المسلمين في فلسطين، وإقرارهم عليها
وهذا يفضي بالضرورة إلى إبطال الجهاد والمقاومة مع وجود المسوغ لها وهو الاحتلال والاغتصاب، ولهذا جاء في العقيدة المقدسية: “يعتقد المسلمون أنه لا حق لليهود المحاربين المغتصبين في فلسطين عامة، ولا في القدس خاصة، ولا في الأقصى مطلقاً، فهي أرض نزلها الكنعانيون العرب وعاش عليها الشعب الفلسطيني من قبل ومن بعد، وعلى مدار قرون متعاقبة من حكم الإسلام لبيت المقدس عاش يهود مع نصارى مع مسلمين، فلم يُظلم أحد أو يتعدى على حرمته، فلما اغتصبه المعتدون عاثوا فيه فساداً، فصار قتال المغتصبين حقاً تثبته الشريعة الإلهية والمواثيق الدولية”[118].
ثالثاً: الجهاد ونسق القراءات المتعسفة (مسلك الغلاة):
بحكم كوننا في سياق الحديث عن مفهوم الجهاد بوصفه أحد المفاهيم الأساسية التي تؤطر تأسيس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فإن من المسلمات أن الأمة وهي تؤدي دورها الخارجي، ووظيفتها الرسالية الدعوية لا شك أنها ستواجه بخصوم لا يمكنونها من تحقيق مقاصدها، وبخاصة رؤيتها التوحيدية، وتزكية النفس الإنسانية، وإقامة العدل بين الناس، فيكون مآل منعها من تحقيق مقاصدها الرسالية فتنة في الأرض وفساداً كبيراً.
ومقتضى ذلك كله أن الأمة وهي في سياق تفعيلها الخارجي ستكون إزاء مواقف متباينة من قبل أطراف أممية أخرى في محيطها الخارجي، وهذا يدفع غالباً باتجاه التوافق تارة والتأزم تارة أخرى، ففي مرحلة التوافق يلزم الأمة السعي إلى المبادرة في نشر منظورها الحضاري التوحيدي في إطار منهجية دعوية شاملة، والعمل على تحقيق عزتها الإسلامية في علاقاتها الخارجية، وأما مرحلة التأزم، فإنها تقضي بأن تكون الأمة على قدر عال من القوة التي يتحقق بها منع الفتنة وحماية الدعوة والاعتقاد.
إلا أن هناك إشكاليات تعرض في مسار التعرض لهذا المفهوم سواء على مستوى التنظير أو مستوى الممارسة، تتعلق تارة بمنهجية التعامل مع الإطار المرجعي الناظم والضابط للمفهوم، وتارة أخرى تتعلق بمنهجية التنزيل في الواقع المعيش، انعكست بالضرورة على الأمة في واقعها المعاصر، فأضحت والحالة هذه دائرة مع ما يسميه البعض بالوَرَطات المنهجية والفكرية ومخلفاتها على المستوى العملي، تجعل هذه الإشكاليات ومساراتها الحركية وفاعليها وإن كانوا في سياق ممارسة الجهاد الفعلي وتبنيه عقيدة ومنهجاً تدور بالفعل في دائرة الاختطاف للمفهوم؛ بوصفها تمارسه على الوجه الذي لم يقصده واضعه في خطابه المنزل.
ولهذا ونحن نعرض لهذا النسق وكيفية تعاطيه مع مفهوم الجهاد، من الضروري البيان بأن هناك رؤيتين تتنازع مفهوم الجهاد كان لهما أثرهما المنهجي والمجالي بالرغم من كونهما متداخلتين في دائرة العموم والخصوص، الأولى تنظر إلى الجهاد في سياق وحدة موضوعية متكاملة جامعة، فللجهاد بمقتضى هذه الرؤية معانيه ودلالاته المنهجية، فهو بوصفه مفهوماً شاملاً يستغرق كل حركة حضارية ملتزمة ومهتدية من قبل الإنسان المؤمن أو الجماعة أو الأمة المهتدية، كما أن الجهاد قد يصطلح عليه بأنه قتال الكفار، وتعريفات المعاني هذه في تفسير الجهاد لا أن تكون مؤثرة من الناحية المنهجية في تحديد المقصود ووجهته وتأسيس العلاقة[119].
وهناك رؤية أخرى اقتصرت على أحد أفراد المفهوم، حتى أضحى غالباً على المفهوم نفسه من حيث التداول عند الإطلاق، إذ جعلت المفهوم دائراً مع جهاد الكفار، وهو ما غلب على المدرسة الفقهية في مصنفاتها ومؤلفاتها، ولا شك أن قصر المفهوم على بعض أفراده قد يدخله أربابه بقصد أو بغير قصد في دائرة ما يسمى بالتقويض المفاهيمي الذي يعد صورة من صورة اختطاف المفاهيم، والتقويض المفاهيمي مقصود به إخضاع المفهوم لعملية من التلبيس والتشويه وطمس الدلالات بصورة تؤدي إلى تحول المفهوم إلى صفة ذات أبعاد قيمية أو غير قيمية يفتقد بها وحدته الجامعة لأفراده وأجزائه أو بتعبير المناطقة الماهية والماصدقات[120]، فنكون بقصر المفهوم على بعض أفراده في دائرة التهويل للبعض والتهوين للبعض الآخر.
ومن الإشكاليات المنهجية التي يلزم التنبيه والتأكيد عليها عند عرضنا لهذا النسق وكيفية تعاطيه مع مفهوم الجهاد مفهوماً وفكراً وحركة، إشكالية النظر التجزيئي التي قد تجعل المفهوم خارج سياقاته النصية والموضوعية والتنزيلية، وتجعله أيضاً يبتعد عن بعده المقاصدي الذي وضع له أصلاً، إن لم نحسن النظر في تلكم السياقات.
ولهذا من القواعد المنهجية في كيفية التعامل مع الخطاب القرآني والسنة النبوية بوصفها بياناً له، بناء منهجية للتعامل الداخلي تستدعي إحكام دلالة الألفاظ وتراكيبها من جهة العربية وإمعان النظر فيها، ثم النظر إلى خارج اللفظ بما يرتبط به في إطار دلالة الالتزام، وذلك باستحضار سياقها وما يحتف بها من القرائن المنفصلة، واعتبار الظروف العامة لنزولها وسياقها الزمني، ومعنى ذلك أن ترديد الفكر والنظر بين الآية والمعجم اللغوي وقواعد اللغة العربية لا يكفي لبيان مراد الله تعالى من كلامه[121]، وإنما يكون مقدمة تستدعي بقية القواعد المتعلقة باللغة والبيان والأصول مما تعلق بمراعاة السياق العام ذي الأبعاد الثلاثة: السياق النص، السياق الموضوعي، سياق النزول.
ويظهر أن من الإشكاليات المنهجية التي تلبس بها المقوضون عند تعاملهم مع المصادر المرجعية لمفهوم الجهاد ومفاهيم تأسيس العلاقة، ما هو متعلق بثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قضية النسخ: بما أن الجهاد هو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله عز وجل، فإن الرؤية حول تطور مفهومه في السياق الشرعي قد شهدت مرحلية كما يراها كثير من الفقهاء قديماً وحديثاً؛ ذلك أن الجهاد لم يكن مشروعاً بمكة قبل الهجرة إلى المدينة، ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾[النساء: آية 77]، وقوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾[الحجر: آية 94]، في غيرهما من الآيات المصرحة بالكف على القتال، ثم كان الإذن الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[الحج: 39]، ويشهد لهذا ما رواه أحمد في المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن، فنزلت: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، قال: فعرف أنه سيكون قتال. قال ابن عباس: هي أول آية نزلت في القتال”[122].
ثم كان أمر المسلمين بقتال من قاتلهم حماية للدعوة، ودفاعاً عن حوزة الدين، والنهي عن القتال في الحرم إلا إذا قاتل المشركون فيه، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة: آية 190-191].
ثم كان نزول سورة براءة سنة تسع من الهجرة، وفيها الإعلام بانتهاء كل قوم إلى عهدهم، وقتال المشركين حيث وجدوا، وضرب الجزية على أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة: آية 5]، وقال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: آية 29][123].
وفي السياق المرحلي لتطور مفهوم الجهاد لعبت قضية النسخ دوراً بارزاً في تفعيل الخلاف بين الفقهاء أولاً، وانعكست سلباً على واقع الأمة من خلال بعض الممارسات الخاطئة في سياق واقعها المعاصر، ولا شك أن هذه المرحلية في التعامل مع مفهوم الجهاد لا خلاف فيها من حيث سياقاتها النصية، ولكن الإشكال في توظيف قضية النسخ، ذلك أن النسخ حده عند الأصوليين أنه خطاب دال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه[124].
وفي السياق المرحلي لتطور مفهوم الجهاد لعبت قضية النسخ دوراً بارزاً في تفعيل الخلاف بين الفقهاء أولاً، وانعكست سلباً على واقع الأمة من خلال بعض الممارسات الخاطئة في سياق واقعها المعاصر
ولكن هذا المعنى للنسخ كان حاضراً عند الفقهاء في تعاملهم مع مرحلية الجهاد كما دلت عليها نصوص الخطاب القرآني، ذلك أن التدرج في اعتقادهم الذي كان عليه تشريع الجهاد بموجب القاعدة السائدة أن التدرج وصولاً إلى آخر مرحلة دليل على نسخ هذه المرحلة لغيرها من المراحل السابقة؛ لاختلاف أحوالها عن حال المرحلة الأخيرة.
وفي هذا السياق ظهر ما يسمى عند المفسرين والفقهاء بآية السيف التي قضت بالتعطيل والتوقيف على إحكام عشرات من الآيات القرآنية الدالة على مواقف أخرى غير القتال تتبلس بها الأمة في علاقاتها الخارجية مع غيرها، ولو تأملنا ماهية آية السيف، لوجدنا أنها موضع خلاف كبير بين العلماء من حيث تحديدها وبيانها[125]، والخلاف الكبير حول تحديدها يجعلها في دائرة الضعف، فلا قدرة لهذه المسألة من حيث أدلتها ودلالاتها على إيقاف إحكام وأحكام عشرات من الأدلة التي تدور مع الصفح والسلم والعهد وغيرها من المعاني؛ وذلك لأن شروط النسخ في الآيات التي استُند عليها في تقرير مسألة السيف معدومة كما قال ابن العربي المالكي .
وعلى هذا الأساس، فإن قضية النسخ لا ينبغي أن تؤخذ وفقاً لمعهود المتأخرين في تعريف النسخ، وإنما المقصود به ما قاله الزركشي: “ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاهد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء كما قال تعالى: (أو ننسئها).
فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حالة الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى. وبهذا التحقيق يتبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ”[126]، وقريب من هذا من حيث لفظه ومعناه تقرير ابن تيمية[127] والسيوطي[128].
المسألة الثانية: المنهجية الوظيفية والبعد المصلحي: دوران مفهوم الجهاد في إطار منهج وظيفي يحدد البنية السياسية للمفهوم من خلال الوظيفة التي يؤديها دون اعتبار للمقاصد التي توجه الفعل السياسي يعد بحد ذاته بعداً إشكالياً، ولا شك أن تجاهل الأساس المقصدي للفعل السياسي، والاقتصار على تحليل وظيفته، يؤدي إلى انحرافات فاحشة في فهم العلاقة بين المبدأ الإيماني وتطبيقاته التاريخية، وإلى تخليط بين القاعدة العامة الثاوية في التنزيل، والمستبطنة في بيانه من ناحية، والتجليات السياسية للقاعدة المخصوصة بالظرف الاجتماعي ووسائله في مرحلة معينة من تطور الأمة التاريخي من ناحية أخرى، وهذا الإشكال يفضي بطبيعة الحال إلى قبول ممارسات سياسية أفرزتها أوضاع تاريخية خاصة، وإعطائها صفة العموم واللزوم على الرغم من تعارضها مع مبادئ كلية[129].
ومن أبرز تجليات هذا الإشكال تنصيص الفقهاء على ضرورة استمرار حملات الجهاد ضد الأعداء، وأنه لا يجوز أن تخلو سنة عن جهاد؛ معللين ذلك بعدم تعطيل الجهاد، وهي قضية يبدو أن الفقهاء لم يستطيعوا قراءة المفهوم في إطار قواعده العامة ومنهجيته المقاصدية الكلية.
وهو خطأ معرفي وقع فيه المتأخرون في اقتصارهم عند قراءتهم للمفهوم على المنهجية الوظيفية، وكان يسعهم الانطلاق من رؤية قرآنية كلية في إطار وحدتها البنائية، تجمع بين اعتبار المبادئ والقواعد العامة ومقاصدها الكلية، واعتبار المصالح في ضوئها وفي ضوء قواعد التنزيل التي تراعي فقه الواقع ومآلاته.
المسألة الثالثة: المعيار الوسائلي: ذلك أن الجهاد في شقه القتالي تتداخل فيه المنظومة المقاصدية ووسائلها، ولكن الإشكال يكمن في عدم ضبط معايير العلاقة بين المقاصد والوسائل، ومن أمثلة ما قاله بعض المتأخرين، قول ابن حجر الهيتمي: “وكان الجهاد مقصوداً لا وسيلة كما هو ظاهر كلامهم”[130]، والذي دفعهم إلى اعتبار الجهاد مقصداً لذاته ظواهر نصوص الخطاب القرآني والسنة النبوية، ومعلوم في منهجية أصول التفسير وقواعده أن اعتبار الظواهر هو الأصل في قراءة الخطاب.
إلا أن ذلك لا يكفي ما لم يكن هناك اعتبار للبعد المقاصدي الذي تغياه صاحب الخطاب نفسه، فتكتمل منهجية القراءة النصية، ثم لا بد مع ذلك كله من مراعاة السياقات الموضوعية للمفهوم في أصل الخطاب، وعلى هذا تحمل النصوص المتعلقة بمفهوم الجهاد حينما تحث أو تحض عليه؛ فإن ذلك عند تعلقه بقتال الكفار ليس من جهة كونه مقصداً وإنما بوصفه وسيلة لمقصد.
وهو أمر معهود في عرف الشرع، أن يكون الأمر المعني وسيلة ويترتب عليه الثواب في الآجل، وقد فهم بعض المتأخرين هذا حين قال: “وجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد؛ إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد”[131].
تضخم أفضى إلى اختطاف الجهاد:
لقد كان لهذه الإشكاليات في غيرها أثر ظاهر في اختلال كثير من الرؤى والمواقف التي أفضت إلى إخراج مفهوم الجهاد من دائرته المفاهيمية والمقاصدية التي ضبطها الشارع وتغياها، وفي هذا تبرز تنظيرات وممارسات بعض الذين تبنوا الجهاد مسلكاً في الواقع المعاصر محملة بجملة من التأويلات والفهوم لم تراع فيها السياقات الضابطة للاستنباط والتنزيل في الواقع، فأفضت بالضرورة إلى ظاهرة تضخيم المفهوم بما لا يحتمله؛ فالمفهوم بحكم كونه في سياقات الخطاب القرآني والسنة النبوية بما أنها بيان له يلزم التعامل معه وفق منهجية أخذ الأدلة وكيفية إعمالها كما هو مضبوط في كتب الأصول عند المحققين.
وفى هذا تبرز تنظيرات وممارسات بعض الذين تبنوا الجهاد مسلكاً في الواقع المعاصر محملة بجملة من التأويلات والفهوم لم تراع فيها السياقات الضابطة للاستنباط والتنزيل في الواقع، فأفضت بالضرورة إلى ظاهرة تضخيم المفهوم بما لا يحتمله
وفي هذا يقول الشاطبي: “اعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين: أحدهما: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها؛ فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها؛ فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة. والثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة”[132].
ويأتي في سياق الاستظهار في ظننا تلكم التنظيرات الجهادية التي أدخلت الأمة في ساحات مزعومة، رفعت فيها لافتات شرعية لا غبار عليها من حيث أصلها وألفاظها، ولكنها جاءت محملة بممارسات وتخلطات سادها عدم التقدير، وفقدان الفهم، وتسيد الأصاغر، علماً أن صحة القصد منفكة عن سداد المنهج، ولكنها تستلزمه وتستدعيه في مسارها، وبهذا تكتمل الرؤية والصورة، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: آية 2]، قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى (أحسن عملاً): “أخلصه وأصوبه .. والخالص أي يكون لله، والصواب أن يكون على السنة”[133].
ومن أمثلة هذه التنظيرات قول فرج في فريضته الغائبة: “فإن الجهاد في سبيل الله، بالرغم من أهميته القصوى وخطورته العظمى على مستقبل هذا الدين، فقد أهمله علماء العصر، وتجاهلوه بالرغم من علمهم بأنه السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد، آثر كل مسلم ما يهوى من أفكاره وفلسفاته على خير طريق رسمه الله سبحانه وتعالى لعزة العباد. والذي لا شك فيه هو أن طواغيت هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف”[134]، ثم بسط القول في نقد أطروحات العمل الإسلامي وإبطال مقولاتها التي لا تعتمد الجهاد مسلكا ًومساراً وفق رؤيته التي يتبناها، واصفاً أصحابها بالجهل أو الجبن[135].
وقد جاء في كتاب حتمية المواجهة للجماعة الإسلامية نص طويل، يجمع مكونات العمل الإسلامي ونظرياتها، وموقف الجماعة الإسلامية منها، والأدلة الحجاجية التي استعملتها لتسفيه أساليب هذه الحركات، وتثبيت الخيار الجهادي، كطريق واحد ممثل للحق، وجاء في النص: “هذه الجماعات الإسلامية، التي تملأ الساحة، ابتعدت عن الحق الذي أمرنا به، فضلت السبيل، وحادت عن الجادة .. إن أياً من هذه الجماعات لم تستطع الوقوف أمام التحديات الشديدة التي يواجهها المسلمون اليوم، ولم يحالفها التوفيق في إزالة واقع الهزيمة الأليمة، وما ذلك إلا أنها تجاهلت وتنكرت لآيات الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[البقرة: آية 208] .. وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾[البقرة: آية 216]، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[الأنفال: آية 39]“[136].
إن هذا النسق وهو يحاول جاهداً تأسيس شرعية له في الواقع لتبرير وظائفه ومهماته الجهادية بالصورة التي يراها، كان ديدنه إلصاق نفسه بمنهج السلف فهماً ومسلكاً، ولذلك كان يرى أن الدليل رائده، حيث يحشد النصوص القرآنية والنبوية في تسويغ هذه المهام والوظائف، ثم يشفع ذلك كله بمنهجية انتقائية لاجتهادات العلماء وتكييفها بما يدعم مساره.
إن هذا النسق وهو يحاول جاهداً تأسيس شرعية له في الواقع لتبرير وظائفه ومهماته الجهادية بالصورة التي يراها، كان ديدنه إلصاق نفسه بمنهج السلف فهماً ومسلكاً
والاتكاء يبرز في هذا المجال على مؤلفات ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية بشكل سافر، فقد قال فرج في الفريضة الغائبة: “مجموعة فتاوى لابن تيمية تفيد في هذا العصر”[137]، ولكن مآزق هذا النسق جعلت كثيراً ممن تبنى أطروحاته الجهادية يراجعونه مفهوماً وسلوكاً، ولهذا جاءت سلسلة تصحيح المفاهيم التي قامت بها الجماعة الإسلامية، ومنها كتاب: (تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء)، ومما جاء فيه: “إن طائفة من شباب هذه الأمة علم ما في الجهاد من أجر عظيم وفضل عميم، ورضوان من الله أكبر، لذا قاموا يبحثون عن الجهاد ويرغبون في الثواب مندفعين بحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، طلباً للجنة، فكان واجباً علينا أن نبصرهم أن الجهاد ليس هدفاً في ذاته ولا غاية، إنما هو وسيلة لرفع راية الدين وإعلاء لكلمة الله تعالى، فإذا لم يحقق الجهاد غايته كان ممنوعاً، لما فيه من إراقة الدماء وذهاب الأرواح والأموال، والجهاد مع عدم تحقيق الغاية منه: غلو وتشدد مذموم في الشريعة. ولقد رأينا طائفة من الناس تقول: إنه يجب على المسلمين الجهاد دون النظر إلى النتائج، حتى لو كان الإنسان بمفرده لوجب عليه الجهاد؛ لأن الجهاد فريضة لا تسقط عن المسلم بأي حال من الأحوال !! وأنه من أراد الجنة فعليه بالجهاد، وكيف يدخل الجنة من لم يقاتل أو يجاهد في سبيل الله؟! وهؤلاء غاب عنهم الهدف الأسمى الذي من أجله شرع الجهاد، ألا وهو إقامة الدين ورفع راية التوحيد ..”[138].
رابعاً: نسق الدول والحكومات الوظيفية أو المستبدة:
الدولة الوظيفية أو الجماعة الوظيفية هو مفهوم صناعي وضعه الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله وجعله موضوعاً لمؤلف بهذا الاسم، وهو إن كان متعلقاً بالظاهرة الصهيونية والجماعات اليهودية، إلا أنه يمكن تعميمه على ظواهر أخرى بالقياس عليها بحكم ما تجتمع فيها من أوصاف وقيود يقاس عليها ويترتب عليها إلحاق حكم الأصل، يقول المسيري في هذا الإطار: “من الظواهر التي تستحق الاهتمام، وبخاصة من الدارس العربي، ما نسميه (الدولة الوظيفية). ونحن نذهب إلى القول بأنه يمكن إعادة إنتاج نمط الجماعة الوظيفية على مستوى الدولة في أشكال مختلفة … يمكن تحويل اتجاه دولة ما بحيث تنحو منحى وظيفياً عن طريق تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار الغربي. وتنظر للجتمع الذي تنتمي إليه نظرة تعاقدية باردة فتنعزل عنه وتشعر بالغربة ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي بالمركز الإمبريالي”[139].
وتأثير هذا النسق في اختطاف مفهوم الجهاد يظهر جلياً في السياسة المتبعة على يد هذه الحكومات الوظيفية، قاصدة تثبيط الأمة عن الجهاد، وإشاعة روح الهزيمة والقعود فيها، بوسائل مختلفة، وأساليب شتى، كلها تصب في تخذيلها، وإماتة روح الجهاد فيها
ولعل هذا النموذج التفسيري الذي صاغة المسيري يظهر أثره واضحاً في الأمثلة العربية بشكل سافر، وهي أمثلة تتناغم أيضاً مع فكرة العنف وإدامة العنف التي أشار إليها منير شفيق، ذلك أن من الأمور الثابتة التي لا أحد يختلف فيها أن سياسة الغرب في تعاطيها مع العالم الإسلامي هي العنف وإدامة العنف، أما العنف، فقد كان الغرب متلبساً به في مرحلة الاستعمار، وأما إدامته، فقد كان بعد الاستقلال عن طريق وكلائه من الأنظمة والحكام بوصفه جزءاً من سياساتهم في إدارة البلاد.
وقد ظهرت هذه الوظيفية ومسلك إدامة العنف عقب ثورات الربيع العربي، حيث كشفت الأخيرة حجم التماهي في استتباع الأنظمة لغير شعوبها، وذلك بإظهار حقيقة العقد المبرم بينها وبين ساداتها، تقوم الأولى بإدامة العنف، وتقوم الثانية بحفظ كراسيها، وكان الخاسر الأكبر في ذلك الشعوب نفسها[140].
وتأثير هذا النسق في اختطاف مفهوم الجهاد يظهر جلياً في السياسة المتبعة على يد هذه الحكومات الوظيفية، قاصدة تثبيط الأمة عن الجهاد، وإشاعة روح الهزيمة والقعود فيها، بوسائل مختلفة، وأساليب شتى، كلها تصب في تخذيلها، وإماتة روح الجهاد فيها، ومن أخطر هذه الوسائل والأساليب: ما سموه سياسة تجفيف المنابع، ويعنون بها: مصادر التوجيه والتثقيف والتعليم للأمة، عن طريق مؤسسات التربية والتعليم، وعن طريق وسائل الثقافة والإعلام، بتفريغها من كل معاني الجهاد، وما يشير إليه من قريب أو بعيد، كمفهوم المقاومة.
ولهذا يعملون بجد ليفرغوا المناهج التربوية والإعلامية من آيات الجهاد، وأحاديث الجهاد، ومن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم والفتوحات الإسلامية، بل يفرغون المناهج من كل ما يتصل بغرس عزة النفس المؤمنة وقوة الشخصية المسلمة والتمسك بالحق ومقاومة الباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. إلى آخر هذه الفضائل.
ومن أبرز وسائلهم وأدواتهم في تحقيق ذلك مسلك التوظيف الإعلامي والعلمائي الذي ساعد في التعبئة الجماهيرية لهذه السياسات ضد مفاهيم الجهاد والمقاومة، بالإضافة إلى استدعاء وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت من أكثر الوسائل نجاعة في التأثير على الرأي العام وتغيير قناعاته أو التمويه بالتغيير من خلال رسائل التخييل التي ترسل إلى العامة بأن هناك كثرة غالبة تتبنى هذه السياسات وتدعو إليها.
ومن الأمثلة الصارخة ذلكم التماهي الذي انساقت معه تلكم الحكومات الوظيفية فيما يسمى بصفقة القرن التي أضحت قبلة ووجهة لها تستبقي بها ومعها عروشها وكراسي حكمها، فكان من أثمانها الباهضة التفريط بدينها وثرواتها والتخلي عن ثوابتها خدمة لهذا المشروع الصهيوني الأمريكي، فاندفعت باتجاه النيل من مشروع جهاد المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني عن طريق توصيفه بالإرهاب نزولاً عن رغبات التوصيف الأمريكي لحركات المقاومة في الأمة، وتزامن ذلك مع الاعتراف الأمريكي بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني وعزمه نقل سفارته إليها، ولا يخفى أن ذلكم التماهي مع التوصيف الأمريكي يكمن في إطار مشروع صفقة القرن الذي قصد تغيير معالم المنطقة من جديد.
تشويه الذاكرة التاريخية واختطاف الرموز:
إن من شأن الفعل التغييري الحضاري في البنية المجتمعية أن يكون له توغل في تاريخه، يهتدي به من خلال نماذجه التاريخية خارج إطار التأسي الشكلي، ويسترشد بها أسوة وقدوة في مجال البناء المنهجي والفكري والعمراني، ولذلك جاء القصص القرآني بسياقاته ليكون وحدة معيارية ينظر من خلالها في كيفية بناء الأسوات والقدوات، وليثير في ذات الوقت قضية غاية في الأهمية تعد في ذاتها بعداً إشكالياً ساد العقلية والذهنية المسلمة في القرون المتأخرة، وهي إشكالية البطل المخلص، ومن هنا تنبيهنا لمخاطر اختطاف الرموز لا يمنع من أن ننبه كذلك على أهمية المنهجية السننية والمقاصدية في دراسة الرموز في المسيرة التاريخية لأمتنا.
لقد كان من الوسائل التي تعمد إليها الحكومات الوظيفية أو المستبدة توظيف أذرعها بمختلف مظاهرها -الإعلامية والأكاديمية والسياسية والاجتماعية ..إلخ- في سياق الهجوم على ذاكرة الأمة وشخوصها الحضارية والتاريخية، فتساهم في إعادة صناعة الصورة لتغيير المسلمات والبدهيات في الذهنية المسلمة حول نماذج تاريخها المشرق، فتكون والحالة هذه في إطار صناعة المكر الكبار والكيد، ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[إبراهيم: آية 46].
لقد كان من الوسائل التي تعمد إليها الحكومات الوظيفية أو المستبدة توظيف أذرعها بمختلف مظاهرها -الإعلامية والأكاديمية والسياسية والاجتماعية ..إلخ- في سياق الهجوم على ذاكرة الأمة وشخوصها الحضارية والتاريخية، فتساهم في إعادة صناعة الصورة لتغيير المسلمات والبدهيات في الذهنية المسلمة حول نماذج تاريخها المشرق
ويبرز في هذا الإطار أنموذج الدكتور يوسف زيدان الذي تعرض لشخصية القائد صلاح الدين الأيوبي بالنيل منه ومن دوره في قيادة الأمة للنصر على الصليبيين وقضائه على الدولة الإسماعيلية بمصر التي أذاقت المسلمين الويلات، متهماً إياه بأنه من أحقر الشخصيات في التاريخ، وأنه قد أحرق مكتبة القصر الكبير، وعزل الرجال الدولة الفاطمية عن النساء بقصد قطع نسلهم، وهي صورة ليست منبتة عن النسق العام الذي ساد عقلية الخاطفين للأمة ودينها وحقوقها[141].
ولا شك أن ما قاله زيدان ليس بعيداً عن سياقات أخرى ينشط فيها إعلامياً لا تختلف عن حملته هذه، فقد كتبت صفحة إسرائيل في مصر التابعة للسفارة الصهيونية في القاهرة في حسابها الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي في الفيسبوك ما يأتي: “أسعدنا سماع أقوال الكاتب والمؤرخ يوسف زيدان في برنامج (كل يوم)، الذي قدمه عمرو أديب على قناة (ON TV) أول أمس الأحد ووصف زيدان للعلاقات الحميدة بين اليهود والمسلمين حتى قبل مجئ النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحتى أيامنا هذه، مشيرة إلى أن جذور الحروب بين الطرفين تعود إلى المتطرفين”[142].
وأضافت الصفحة: “ولا شك أن الرسالة التى يحملها تفسير الكاتب زيدان بضرورة نبذ ثقافة الكراهية بين الطرفين هى رسالة مهمة فى نظرنا وأن التعاون بين اليهود والمسلمين من شأنه أن يعود بالفائدة على المصريين والإسرائيليين على حد سواء، خدمة لأبناء الجيل الصاعد لدى الشعبين”[143].
وتهجمه لم يكن معزولاً عن هجمات أخرى نالت شخصية صلاح الدين الأيوبي، فقد شنت صحيفة المصري اليوم في إبريل من عام 2015م هجمة إعلامية كبيرة عليه تحت عنوان: “الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي”، جاء فيه: “استولى على أموال الأزهر ورفض تحرير فلسطين وأحرق مكتبات الفاطميين”[144].
ولا شك أن يوسف زيدان كما وصف البعض لم يتورع عن إنتاج خطاب تاريخي تدليسي يحقر ويقزم تاريخنا بشكل عام، وبشكل خاص تاريخ فلسطين، ويعزز هيمنة الرواية التوراتية والصهيونية عليه، ويجمل الوجه القبيح للعدو الصهيوني[145]، والأمر لا يقف عند المراجعة العلمية والنقد التاريخي؛ لأنه لو كان عند هذا القدر، فإنه من الممكن التنزل معه حوار ونقاش علمي في سياق الحجاج والبرهان، ولكن الحقيقة تكمن في مقاصد وأهداف جمة تقف وراء هذه الحملات بخبث للطعن في تاريخ الأمة ورموزها.
المبحث الثالث
استراتيجيات ووسائل المواجهة
تقتضي مواجهة الاختطاف لهذا المفهوم وغيره من المفاهيم الكبرى في البنية الإسلامية استدعاء مفهومي التحدي والاستجابة، ذلك أن إشكالية الاختطاف وما تترتب عليه من عواقب ومآلات تلزمنا أن نكون في دائرة الوعي بتحديات هذا الاختطاف وشخوصه ومكوناته ومضامينه ووسائله واستراتيجياته وأهدافه، ومن ثم يحق التساؤل عن ماهية هذه التحديات قبل الخوض في ميدان المواجهة استراتيجياتٍ ووسائلَ، وهذا يجعلنا أولاً في دائرة التفكير قبل التدبير، ومرجع ذلك أن مشكلة الأمة الأساسية هي في الأصل مشكلة ثقافية فكرية، فقد أصيب العقل المسلم بمشاكل الأفكار التي تستلزم مواجهة بإصلاح العقل وإعادة تشكيله وبرمجته.
إشكالية الاختطاف وما تترتب عليه من عواقب ومآلات تلزمنا أن نكون في دائرة الوعي بتحديات هذا الاختطاف وشخوصه ومكوناته ومضامينه ووسائله واستراتيجياته وأهدافه
وإذا كنا في دائرة التحديات ومراتب ودرجات الاستجابة لها، فإنه من الأهمية بمكان أن نثير تساؤلاً قد أثاره بعض علماء عصرنا ممن هم رجال أمة وعلماء أمة: هل التحديات التي تواجهها الأمة اليوم تعني القضايا المثارة الحالة الآنية التي تتطلب موقفاً أو تعاملاً؟ أم أنها تحديات أوسع وأكثر مدى من الأحداث العابرة أو المؤقتة، بما يعني أنها تحديات بنية ونشأة وأصل وعقل وفكر تراكمت في مراحل زمنية من تاريخها الحديث والمعاصر؟
وواقع الأمر أن هناك مستوى من التفكير يجعلنا نؤسس فقهاً للتحديات، نستطيع من خلاله التمييز بين الثابت والمتغير منها، وما هو مستمر وآني، وفقه التحديات وما يثيره من قضايا يعد بحق وسيلة من وسائل تحقيق المقاصد التي يرومها المسلم المعاصر في مواجهته لتلكم التحديات، ذلك أن فقه التحدي يجعلنا نقف عند الحوادث الكاشفة عن تلكم التحديات وطرائق مواجهتها والعوامل في بناء هذه التحديات وتواتر أنماط مواجهتها أو التعامل معها، وهذا يساعدنا في عدم الوقوف عند الظواهر والأعراض، بل يساهم بفاعلية في الوقوف عند الحقائق وجواهرها، ولذلك يعد نظم الظواهر والأعراض في فئات وأصناف دالات ومؤشرات وقرائن في فقه التحديات في عمقها واستمرارها، وتجعلنا نتعرف على العلاقات فيما بينها وشبكات التأثير والتأثر[146].
وفي السياق ذاته خوضنا في التحديات التي تواجه أمتنا فكراً ونهجاً وسياسات ومكونات لا يجعلنا نبتعد عن المستجدات التي تطرأ في واقعنا داخلياً وخارجياً، بل إن كثيراً من المستجدات ما هي في الحقيقة إلا مسبَبَات لعوامل سبقتها فأفضت إليها، وهذا يجعلنا ندرك أهمية المراجعات فيما أفضت إليه تراكمات التشكيل العقلي على أيدي الخاطفين بغض النظر عن مشاربهم وتوجهاتهم سواء كانوا من خارج البنية الإسلامية أو من داخلها.
ولهذا كان مهماً في مواجهة الاختطاف أن نكون ممتلكين لتاريخنا بحيث نستثمره في تجاوز إشكالياته ومطباته التي تلبس بها أسلافنا -بالمعنى اللغوي لا الشرعي-؛ لأننا إنما نبني فوق بنائهم، ولن يستقيم البناء على أساس معوج أو بلا أساس أصلاً، ولهذا لا يمكن أن نحسن بناء حاضرنا واستشراف مستقبلنا دون أن يكون تاريخنا بأيدينا، نحن نقرؤه ونمحصه ونهذبه وفقاً للمنهجية المعرفية السننية التي يستبطنها الإسلام بمرجعيته الحاكمة.
ولذا كان مهماً في مواجهة الاختطاف أن نكون ممتلكين لتاريخنا بحيث نستثمره في تجاوز إشكالياته ومطباته التي تلبس بها أسلافنا -بالمعنى اللغوي لا الشرعي-؛ لأننا إنما نبني فوق بنائهم، ولن يستقيم البناء على أساس معوج أو بلا أساس أصلاً، ولهذا لا يمكن أن نحسن بناء حاضرنا واستشراف مستقبلنا دون أن يكون تاريخنا بأيدينا
وبناء على ذلك وبحكم كوننا في التأكيد على أهمية امتلاك التاريخ، فإن من المسالك المعينة في مواجهة التحديات وإحسان التعامل معها بعيداً عن الاستجابات السلبية، ما يسمى بفقه العثرات الذاتية، فإن فهم هذا النوع من العراقيل الفكرية على وجهها الصحيح دون التهرب إلى البعيد من العوامل -والذي تكون نسبته بالمقارنة مع غيره أقل بكثير- هي التي يمكن أن يكون عندها دور لا يمكن أن يصل بحال إلى دور المرء نفسه في الصعود أو الانحدار، من حيث تجنب الموانع الحقيقية، دون الابتعاد إلى هذا السبب أو ذاك، ودون الخوف منها أو التقليل من شأنها، من هنا تبدأ الاستجابات الحقيقية.
إن فقه العثرات سيمكن من الاستبصار بقدرة الذات على التكيف مع الأحوال والظروف، والقدرة على تجاوز الصعاب بالقدر المطلوب والمرجو، وإدخال الأفكار في مراجعة أسباب الهزيمة وعدم استصغار شأنها، وبذل الجهد الفكري في قراءة التراجعات التي أصابت العقل المسلم وبنيته الحضارية واستثماره في البحث عن السبل والكيفيات المعينة على الوصول إلى النتائج المرجوة[147].
إن فقه العثرات سيمكن من الاستبصار بقدرة الذات على التكيف مع الأحوال والظروف، والقدرة على تجاوز الصعاب بالقدر المطلوب والمرجو، وإدخال الأفكار في مراجعة أسباب الهزيمة وعدم استصغار شأنها، وبذل الجهد الفكري في قراءة التراجعات التي أصابت العقل المسلم وبنيته الحضارية واستثماره في البحث عن السبل والكيفيات المعينة على الوصول إلى النتائج المرجوة
وإذا كان فقها التحدي والعثرة يساهمان بشكل أساسي في تشكيل الوعي بالتحديات الحضارية التي تواجهها الأمة اليوم، فإن هناك أنواعاً من الفقه لا تقل أهمية عنهما تأخذ بالاعتبار تفكيراً وتدبيراً وتغييراً القضايا والإشكاليات والأزمات التي تعصف بالأمة اليوم في مواجهة مشاريع الهيمنة والاستبداد والاستئثار، ذلك أن المتابعة الحية لهذه التحديات والتهديدات التي واجهتها الأمة ولا زالت أظهرت لنا بوضوح حجم التحشيد التي تواجهه الأمة من أعدائها في الداخل والخارج، ولئن كان العدو الخارجي ظاهراً في تربصه، فإن العدو في الداخل أشد خطراً وتأثيراً، وما كشف ظاهرة النفاق في القرآن إلا سياق منهجي يأخذ بيد المسلم في طريق الرشد والهداية، ولنعرفنهم في لحن القول.
وجود هذه التحديات يعني بالضرورة أن أنماط المقاومة لم تنقطع، قوية كانت أو واهية، ظاهرة كانت أو باطنة، فكرية أو حركية، سلمية أو عنيفة، وجميعها أنماط تستدعي النظر والتدبر والبحث في المآلات وفق قواعد أصول الفقه الحضاري.
إن فقه الواقع لا ينفصل عن فقه التاريخ، وفقه المنظور الحضاري، إن تحديد طبيعة اللقطة الراهنة من مشهد ما زال يتشكل، أي فقه وحالة ما يسمى حالة المشروع الإسلامي والمشاريع المضادة له لا ينفصل عن فقه الذاكرة التاريخية، فلا بد من تسكين مشاهد هذه اللقطة في سياق تاريخي ممتد تعاقبت عليه مراحل من تطور وضع الأمة في تفاعلها مع تواريخ الأمم الأخرى في إطار سياقات عالمية متغيرة وحالات متغيرة من القوة وأنماط التفاعل المتبادلة.
إن هذه الأنواع من الفقه تعني كيفية مواجهة النوازل على الأمة من خلال الربط بين فقه النص وفقه التاريخ وفقه الواقع وصولاً إلى فقه التنزيل اجتهاداً حول سبل وأدوات مقاومة هذه النوازل حماية لوجود الأمة المادي والمعنوي، وهو الأمر الذي يعني استمرار التجديد في مشروع حضاري إسلامي يترجم هذا الفقه الحضاري من مجرد رؤية إلى حركة وفعل بين مشروعات أخرى تداعت على الأمة منذ بداية انحدارها[148].
لقد أدركنا بجلاء من خلال تعرضنا لبحث مشروع اختطاف مفهوم الجهاد على مستوى بنيته المفاهيمية وتغيير معالمه نقداً ونقضاً وعلى مستوى ذاكرته التاريخية في سياق بنيته الحضارية التي تحرك في سياقها خطورة مشاريع الاختطاف التي تجعلنا نفكر بعمق في كيفية مواجهتها بعيداً عن المعالجات الوقتية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، بل تستدعي نفيراً من نخب الأمة وعقلائها على جميع الأصعدة في بناء استراتيجي يأخذ بالاعتبار التنشئة الهادية التي تضمن سلامة البناء وتحرس الحدود من الدواخل والغزاة.
لقد أدركنا بجلاء من خلال تعرضنا لبحث مشروع اختطاف مفهوم الجهاد على مستوى بنيته المفاهيمية وتغيير معالمه نقداً ونقضاً وعلى مستوى ذاكرته التاريخية في سياق بنيته الحضارية التي تحرك في سياقها خطورة مشاريع الاختطاف التي تجعلنا نفكر بعمق في كيفية مواجهتها بعيداً عن المعالجات الوقتية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، بل تستدعي نفيراً من نخب الأمة وعقلائها على جميع الأصعدة في بناء استراتيجي يأخذ بالاعتبار التنشئة الهادية التي تضمن سلامة البناء وتحرس الحدود من الدواخل والغزاة
ولهذا فإن هذا التطواف في مقدمات مفاهيمية يدفعنا باتجاه التأكيد على جملة من القضايا المتعلقة بوعي الأمة في مواجهة مشروع الاختطاف سواء على مستوى مفاهيمها وبنيتها الفكرية والمنهجية أو على مستوى فعلها الحضاري في الواقع المشهود، وهي قضايا يرتسم فيها البعد الاستراتيجي الذي يستدعي تنزيله في الواقع المعيش في سياق منهج التدبير:
أولاً: ضرورة تحقيق الوعي الثقافي وتشكيل العقلية المسلمة بإعادة بناء عالم الأفكار، وذلك بوضع استراتيجية ثقافية تتجاوز مرحلة الرسم بالفراغ التي ساهم في تكريسها الموروث الضار والغزو الثقافي، ويبقى المطلوب دائماً المزيد من التأكيد على المسألة الثقافية؛ لكونها تعد الأساس في الحفاظ على البنية الحضارية للأمة.
والدعوة إلى إعادة تشكيل العقل المسلم ذات بعدين نضمن أثنائهما الحفاظ على مفاهيمنا الكبرى من الاختطاف[149]:
–تصحيح التصور الذي يضمن رؤية متوازنة تمكن العقل المسلم من قراءة الظواهر الاجتماعية بإحكام وفق للمنهج السنني الذي تستبطنه المنهجية الإسلامية؛ كونها تصدر عن تصور شامل للكون والحياة والإنسان، فلا يقع المسلم فريسة للتفسيرات المنحرفة لمفاهيمه الحضارية، كما هو الشأن في مفهوم الجهاد.
–تخليص العقل من النظر الجزئي خارج سياق الرؤية الكلية، وإبعاده عن إشكالية التبعيض؛ وهذا يكفله البناء الكلي للثقافة الإسلامية في رؤيته الجامعة للكون والحياة والإنسان، ومن هنا كان من الضروري التأكيد على أهمية المنهج ودوره في حركة الإنسان الفكرية والحضارية، فليس ثمة طريق يوصل إلى الأهداف مهما بذل من جهد وقدم من عطاء إلا من خلال المنهج.
ثانياً: يتحقق هذا بالعودة إلى الأصول والثوابت التي تضمن وتؤمِّن مجابهة التخريب والإفساد بشقية المادي والمعنوي (عالم المفاهيم)، فالقرآن بما يثيره سياقه النصي والموضوعي يندد بكل عمل أو نشاط من شأنه أن يؤول إلى الفساد والإفساد في الأرض وإلى إبطال الإيمان والعمل الصالح. إن من شأن التمسك بالأصول والثوابت الحفاظَ على مسار الإصلاح في الأرض وإعمارها وتحقيق الاستخلاف الذي يضمن الفاعلية الحضاري والجهاد الحضاري، يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الأنعام: آية 153]، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[التوبة: آية 109].
ثالثاً: التأكيد على الحقائق التي تكشف زيوف الخاطفين وتزيل بهرجهم في تعاطيهم مع مفاهيم الإسلام الكبرى بوجه عام ومفهوم الجهاد بوجه خاص، فالقرآن بجميع سياقاته يثبت أن محاولات الاختطاف ومؤامرات واستراتيجيات التشويه والنقض لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنطلي على الأمة والأيقاظ من أبنائها، ما دامت متمسكة بأصولها وثوابتها على جادة الاستقامة فيها.
ومن أبرز هذه الحقائق القرآنية[150]: البغض للإسلام وأهله وإخراجهم من دينهم، فمنذ ظهور الإسلام بدأ العداء له، والتهجم عليه، والافتراء على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد سجل القرآن الكريم وسجلت السيرة النبوية هذه الحقيقة؛ بوصفها سنة من سنن التدافع بين الحق والباطل، قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾[البقرة: آية 109]، وقال تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾[آل عمران: آية 118]، وقال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة: آية 120]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾[الطارق: آية 15].
ولقد اعترف كثير من الغربيين بقدم العداء الغربي للإسلام، حتى قال القائد والكاتب الإنجليزي جلوب باشا -كما أشرنا سابقاً-: “إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط أي مشكلة الغرب مع المشرق الإسلامي إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد” أي إلى ظهور الإسلام، فنحن إذن أمام موقف ثابت وقديم، ولسنا أمام مقال هنا أو هناك، ومن ثم فنحن في حاجة إلى استراتيجية ثابتة ودائمة لمواجهة هذا العداء وهذه التهجمات[151].
رابعاً: أهمية النظر إلى مفهوم الجهاد في إطار الناظم المعرفي والضابط المنهجي ومقتضياته، وهذا يضمنه تسكين المفهوم في سياق أصول الفقه الحضاري، فإن عناصر هذه الأصول يجب أن ترى باعتبارها عناصر رؤية كلية وممتدة تشغل وتفعل العناصر، ضمن منظومة يجب الوعي بعناصرها، والوعي بأنماط علاقاتها، والوعي بحقائق تفعليها والوعي بعناصر تشغيلها، كما أن عناصر أصول الفقه الحضاري الممتدة إلى المدخل القيمي السباعي وحقيقة علاقاته وتفعيلاته لا تعني بأي حال إهمال عنصر الحكم الفقهي، ولكنها تعمل على تسكينه ضمن المنظومة التي تجعل من العلاقات بين المستويات المختلفة شبكات تفعيل وحركة دائبة[152].
وعلى هذا الأساس فإن مفهوم الجهاد يعد من أهم المفاهيم التأسيسية التي تؤكد معانيه اللغوية وامتدادات معانيه وتنوع أساليبه وأشكاله فضلاً عن بيان مشروعيته وحقيقته وحكمه ومراتبه وأنواعه، ومن دون هذا الفهم الكلي للنظر إلى الجهاد، فإنه يبدو للبعض أن الجهاد تعبير عن هذه الصورة الشائهة، ذلك أن عزل المفهوم عن منظومته المفاهيمية وعناصرها القيمية صوّر للبعض صورة ذهنية مشوهة عن الجهاد، وقد استثمرها المستشرقون في تشويهه؛ فأريد أن يرتسم في أذهان الناس أن الجهاد في الإسلام حرب مدمرة وقتال تسفك فيه الدماء وتزهق في ميادينه الأرواح وما يستتبعه من استرقاق وأسر وتخريب ودمار للعمران[153].
ولهذا كان مهماً فهم الجهاد ضمن عناصر المدخل القيمي وذلك على مستويين: الهدف الجهادي والأخلاق الجهادية، فإن الهدف الجهادي ليس خارجاً بأي حال من الأحوال عن أصول وغايات العمارة الحضارية الكونية التي تدور مع الصلاح والإصلاح، وبهذا يكون قاضياً بالإبطال على عناصر الاستئثار والهيمنة وعلاقات التخريب العمراني، فالجهاد وفق هذه الرؤية حركة تقويمية تغييرية وتصحيحية، كما أنه حركة عمرانية تحقق عناصر الحفظ في المجالات الخمس وتفاعلاتها وتوابعها وبما يؤصل عناصر الفاعلية.
ولهذا كان مهماً فهم الجهاد ضمن عناصر المدخل القيمي وذلك على مستويين: الهدف الجهادي والأخلاق الجهادية
وإذا كان هذا يتعلق بالهدف الجهادي، فإنه يمتد كذلك إلى الأخلاق الجهادية أثناء ممارسة القتال والحرب، فبالرغم من أن القتال يترتب عليه الضرر والهلاك، إلا أنه ليس خلواً من أي قواعد أخلاقية تحوط الإجراءات والعمليات، إن الحفاظ على النفس لا يزال ضمن منظومة لا تهدف إلى إزهاقها ولكن تهدف إلى الحفاظ عليها والحفاظ على غيرها، والحفاظ على النسل البشري من جملة الأهداف التي تظل نصب أعين الشريعة في حركتها، بحيث تجعل هذا الأمر في حده الأدنى، محوطاً بضمانات غاية في الأهمية، وكذلك حفظ المال والعقل … إن النظر إلى العناصر الأخلاقية التي ينطوي عليها الجهاد: القتال خيار استثنائي – تحريم العدوان والاعتداء – القتال ليس هدفه الاستئصال – الإبقاء على أصول استمرار العمران – القتال ضرورة – الإبقاء على عناصر الوجود والحياة – القتال وسيلة تحريرية لا وسيلة استعباد – القتال مانع من التهلكة .. في غيرها، كلها هذا يدل على أن الجهاد يتحرك في سياق منظومة الحفظ والصيانة والأمن[154].
خامساً: أهمية النظر والتأكيد على مفهوم الأمة كفاعل حضاري في تفعيل وتشغيل المنظومة الجهادية، فإن تشكل الأمة وتأسيسها بعقيدتها وجماعتها المؤمنة يجعل لها دوراً تكليفياً تلتزم به -بعد إخراجها الوجودي- على مستوى حضورها وشهودها، يكون مقصودها الذود على العقيدة والمنهج والتحرك الإيجابي لنشر الدعوة[155].
سادساً: ويرتبط بهذه الرؤية أهمية إحياء مفهوم النصرة في العلاقات الدولية والخارجية؛ بحكم دورانه في سياق الأمة الواحدة الجامعة، وبحكم كونه كذلك أحد المفاهيم التي تؤطرها المنظومة الجهادية، فالنصرة بهذا الاعتبار تعد من باب التمكين الإصلاحي في الأرض الذي يقضي بأن تتحرك الأمة لنصرة المظلوم ودفع الظلم والبغي عنه، والانتصار حال البغي يستوجبه ويستلزمه الأساس العقيدي الذي تتأسس عليه الأمة وبموجبه تقوم بوظيفتها العقيدية، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾[الشورى: آية 39]، وقال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾[الأنفال: آية 72]، ومن هنا تأتي نصرة قضايا العالم الإسلامي من مثل القضية الفلسطينية .. في غيرها.
ويرتبط بهذه الرؤية أهمية إحياء مفهوم النصرة في العلاقات الدولية والخارجية؛ بحكم دورانه في سياق الأمة الواحدة الجامعة، وبحكم كونه كذلك أحد المفاهيم التي تؤطرها المنظومة الجهادية، فالنصرة بهذا الاعتبار تعد من باب التمكين الإصلاحي في الأرض الذي يقضي بأن تتحرك الأمة لنصرة المظلوم ودفع الظلم والبغي عنه
سابعاً: التأكيد على الذاكرة التاريخية لمفهوم الجهاد ومساره التاريخي، ونماذج التفعيل والتشغيل سواء على مستوى مضامين الوحي وسياقاته النصية التي تضمنت قصصاً وأخباراً عن المجاهدين في سبيل الله، أو على مستوى تعاطي الأمة مع الجهاد في علاقاتها الخارجية منذ عصر الخلفاء الراشدين إلى اليوم، فإن هذا يعد بعد ربطه بمنظومته التنظيرية والمنهجية من مسالك مواجهة اختطاف المفهوم أو تشويه مساره، ولا يمكن كذلك في هذا السياق إغفال البعد الأخلاقي لممارسات الجهاد في الدائرة الإسلامية وإبرازه في دائرة المقارنة بغيرها من الدوائر.
ثامناً: أهمية التأكيد على التنشئة الفكرية والسياسية وفقاً للمنظور القرآني لمفهوم الجهاد في سياقه المنظومي، فإن الجهاد في المنهجية المعرفية القرآنية ذو دلالات متعددة لا تقف عند صورة القتال، بل يستوعب كذلك صوراً أخرى، فجهاد النفس، وجهاد المظالم والمنكرات، والجهاد بالقرآن بالدعوة والتبليغ، والسعي إلى تعزيز قدرات الأمة، ودعم الثغور، والسعي إلى المعيشة، جميعها وغيرها صور للجهاد في مضامينه القرآنية[156].
تاسعاً: هذه البنى الفكرية سواء على مستوى إعادة تشكيل العقل المسلم من حيث منظومته المعرفية والمنهجية أو على مستوى المنظومة الجهادية في سياق مواجهتها لمشروع الاختطاف المفاهيمي تستدعي أفكاراً عملية وبرامج تنفيذ وتطبيق بقدر ما يتيحه الإمكان المادي والزماني والمكاني، والبعد العملي في تبني هذه الأفكار لا ينبغي أن يكون في سياق ردود أفعال مؤقتة سرعان ما تنطفئ جذوتها بتقادم الزمن، وإنما يلزم أن يكون هذا في سياق بنائي إيجابي فاعل، يستهدف تحريك صناع القرار نحو تبني مسارات عملية تأخذ على عاتقها تنزيل البنى في الواقع المعيش.
ولعل مراكز بناء الأفكار وتطويرها في أطر ومشاريع بحثية تأخذ على عاتقها تحويل الأفكار إلى خطط ومناهج عمل من أهم الوسائل وأكثرها تأثيرها في عالم الأفكار اليوم، ومعظم المراكز البحثية تشترك في تحقيق ثلاث فئات من الأهداف، هي[157]:
–إنتاج المعرفة والأفكار لخدمة الجهة المستهدفة من خلال إجراء الدراسات والبحوث على يد الباحثين في المركز أو دعم من يقوم بها من الباحثين الآخرين.
–رفع كفاءة الباحثين في إجراء الدراسات والبحوث في مجالات اهتمام المراكز بالتدريب وتبادل الخبرات.
–تثقيف فئات معينة من المجتمع أو الجمهور العام فيه، والترويج لأفكار المركز وتوجهاته عن طريق وسائل النشر والتغطية الإعلامية.
يقع على عاتق النخب الفكرية والعلمية في الأمة في سياق مواجهة محاولات الاختطاف للمفاهيم الكبرى ومنها الجهاد ومنظومته المفاهيمية، بناء استراتيجيات وبرامج للمواجهة في سياقات متعددة ليس فقط في دائرة رد الشبهات، بل وكذلك يراعى من خلالها البعد البنائي في تحقيق الحصانة والحماية الحضارية والفكرية والمنهجية للعقلية المسلمة
عاشراً: وبناء على ذلك ومن خلال ما وقفنا عليه من صور الاختطاف ومظاهره وأدواته وبرامج، فإنه يقع على عاتق النخب الفكرية والعلمية في الأمة في سياق مواجهة محاولات الاختطاف للمفاهيم الكبرى ومنها الجهاد ومنظومته المفاهيمية، بناء استراتيجيات وبرامج للمواجهة في سياقات متعددة ليس فقط في دائرة رد الشبهات، بل وكذلك يراعى من خلالها البعد البنائي في تحقيق الحصانة والحماية الحضارية والفكرية والمنهجية للعقلية المسلمة، ومن ذلك:
أ.اختطاف الجهاد بتشكيل المفهوم والإدراك الذي يمارسه الخاطفون بمنهجية ما يسمى الإحلال المفاهيمي، أو منهجية اصطناع البدائل، أو إثارة الشبهات حول المفهوم أو المفاهيم الأخرى ذات العلاقة (المقاومة مثلاً).
ب.الاختطاف بتشويه الذاكرة التاريخية.
ج.الاختطاف بإسقاط الرموز.
د.الاختطاف بصناعة الصورة الذهنية المشوهة للجهاد.
هـ.الاختطاف بالتلبيس والخلط المفاهيمي، كالربط بين مفهومي الجهاد والإرهاب، واستخدام مفاهيم من مثل: الإسلام المسلح، الإسلام الراديكالي، التطرف.
وهذا كله يستدعي ويستلزم التنبيه على محاولات التشويه بالبيان والإظهار، وفق دلالة قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾[النساء: آية 55]، وعلى هذا الأساس يأتي فضح هذه المحاولات والمخططات في سياقات وآليات متعددة، منها:
-آلية مركزية للرصد ببيان وسائلهم من حيث: الكتلة الفاعلة، الأدوات المستخدمة، التدريب، التمويل، الترويج، التيارات المستقطَبة، قواعد البيانات المستخدمة في توظيف الاختطاف.
–امتلاك أدوات تفكيك خطاب الاختطاف، ومن أبرزها إيجاد منافذ لبث المعلومات عنه.
–كشف الشبكات الفاعلة والقنوات الإعلامية ومراكز الأبحاث وبيان مخاطرها (مؤسسة راند أنموذجاً).
–كشف الشبهات المثارة حول المفاهيم الإسلامية الكبرى ومفهوم الجهاد، مثلاً: (موسوعة بيان الإسلام: الرد على الافتراءات والشبهات).
وأما في سياق المواجهة بالبناء والتشكيل العقلي والمفاهيمي، على وفق ما يمكن تسميته بالهدى المنهاجي، فيمكن الإشارة إلى ما يأتي:
–الاهتمام بالتربية الإيمانية والجهادية، والتركيز على نشر العقيدة الصحيحة عن طريق المناشط الدعوية والبرامج الإعلامية، وضرورة التوعية بالقيمة والمقصد التي ينطوي عليها مفهوم الجهاد في سياق منظومته المفاهيمية، ومن ذلك الارتباط بين الجهاد ومفهوم العبادة والتنصيص عليه في سياق (سبيل الله).
–استثمار المناهج التربوية وتوجيهها إلى تربية الأمة على حماية مقدساتها ومفاهيمها العقيدية، وإشاعة الوعي الفكري والثقافي والسياسي بين المسلمين.
–ترشيد الحركات الجهادية العاملة وضرورة توعيتها بالمفهوم الشرعي للجهاد ومقاصده وأخلاقياته وسلوكياته، والوعي بفقه الأولويات والموازنات، واعتبار مصالح الأمة وإعزاز دينها.
–ضرورة استثمار واستخدام منافذ التعبير والخطاب في بناء العقلية المسلمة المحصنة ضد الاختطاف: المؤسسات الإعلامية، والثقافية، والتعليمية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومراكز الأبحاث، والمطبوعات والمنشورات (الكتب والقصص والروايات)، ووسائل الفنون المختلفة التي تعرض من خلالها الصفحات التاريخية للأمة ورموزها من العلماء والقادة والأفذاذ.
–استخدام الحوار المفتوح والمناظرات العلنية من خلال المنافذ المتاحة إعلامياً وثقافياً.
–استثمار المنافذ السياسية والدبلوماسية المتاحة في تغيير الصور الذهنية عن الإسلام ومفاهيمه الكبرى، وبناء علاقات مع المنصفين في الغرب.
–الاهتمام بدعوة غير المسلمين تبنياً لوظيفة الشهادة على الخلق التي حملتها الأمة المسلمة على غيرها الأمم، وهذا يستدعي إتقان اللغات العالمية الحية وتوظيفها في دعوتهم.
حادي عشر: نجاعة التنظير والتأصيل تكون بحسن الأداء والتوصيل، ومن عوامل التوفيق والسداد اقتران العلم بالعمل، ولذلك من محاسن الأقوال ما ينسب إلى بعض المفكرين من المعاصرين: “إن صواب الفكرة لا يكون سبباً كافياً لانتصارها، وصحة المنهج لا تعني وجوب النصر، وطبيعة الحق ليست بالضرورة دليلاً على التمكين له ما لم يصاحب كل ذلك: حملة أوفياء، وقادة أذكياء، وحراس أيقاظ، وأسلحة في مستوى التحدي الذي يواجهه؛ لأنه قد يكون الحق معك ولكنك لا تحسن الوصول به، ولا تجيد الدوران معه حول منعطفات الطريق لتتفادى المآزق وتتخطى العقبات وتبلغ به ما تريد، وقد يكون الباطل مع غيرك، ولكنه يلبسه ثوب الحق، ثم يجيد الانطلاق معه، ويبدع في استخدام الوسائل الملائمة لدفعه إلى الأمام حتى يصل به إلى حيث ينبغي أن يصل الحق”.
ولهذا يُستدعى الحديث عن وسائل الاتصال والتوصيل وضرورة بناء الخطاب الذي يستوعب العامة بعد الخاصة، وأهمية وضع استراتيجيات البناء الثقافي الدافعة والرافعة في مواجهة اختطاف الإسلام ومفاهيمه الكبرى، ومنها استراتيجيات الإقناع والاتصال الفعال، والاهتمام بالإعلام الاجتماعي، والحاجة الماسة إلى وضع برامج توعية الشباب من خلال مناشط ومخيمات ودورات تدريب .. إلخ.
ثاني عشر: وأخيراً ضرورة استثمار هدايا الغرباء كما عبر عنها بكار بقوله: “حين تغترب ببدنك أو بعقلك ومشاعرك فإنك تضع نفسك على رأس طريقين: أن تعيش على الهامش تجتر آلام الغربة، وتبكي من الوحدة .. أما الطريق الثاني: فهو أن تنطلق من نعمة الخروج من الصندوق والتحرر من قيود الاستكانة لما هو سائد وطاغ. وحينئذ فستشعر أنك تملك ما لا يملكه غيرك من ثقوب النظر والقدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة. وستشعر أن في إمكانك أن تكون صاحب رسالة، تعيش من أجلها، وتعيش بها ..”[158].
فهذه النفثة من فكر ثاقب حر استهدى بالوحي نحتاجها في مقام الغربة لبث هموم ساهم فيها إلى حد بعيد -كما يقوله البعض- شقاء الوعي، بل هو هناؤه في حقيقة الأمر، فأن تدرك حقائق الفتن وآثارها وعواقبها وخاصة فيما تعلق بمشروع كالاختطاف يستهدف دينك وعقيدتك ومفاهيمك، فإن هذا بحد ذاته يعد ملمحاً من ملامح الوعي، نحتاج معه إلى مشاريع للمواجهة يقوم عليها العدول من هذه الأمة ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
لقد كان من حكمة الله أن يكون للباطل وأهله صولات وجولات في تاريخ الأمة، استهدف بها دينها وعقيدتها وإفساد عقول أبنائها، فأجلب لتحقيق أهدافه ومقاصده بخيله ورجله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولكن سطوة الباطل واستئثاره في الواقع ليس شراً محضاً بحد ذاته، فلقد كانت حادثة الإفك من أشد الحوادث على المجتمع المسلم في عهد النبوة، ولكن كان لها من الدروس والعبر والعظات ما جعل القرآن ينزل مرشداً ومنبهاً على مآلاتها من حسنات الاتعاظ والخيرية، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾[النور: آية 11].
ولذلك قد يكون من الوسائل التي تعين على الحق والتوازن المطلوب وجود السوء في المجتمع ليس من أجل الغوص فيه بل معرفته ثم تهذيب المجتمع منه، وهذا الذي فهمه عمر رضي الله عنه بقوله: “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية”[159]، ومن لطائف السباعي مما تعلمه من الحياة قوله: “إن للحق جنوداً يخدمونه، منهم الباطل”[160].
ومن هنا، فإن استقواء الباطل وجلده لا ينبغي أن يقابله عجز من الثقة وخور وضعف وهوان منه، وإنما يستلزم همة وحرثاً، فإن أصدق الأسماء حارث وهمام، وواجب الوقت في دار الغربة اليوم هو استثمار الفرص وفقهها وتوظيفها في الدفع باتجاه حفظ الأمة ودينها والحفاظ على مقوماتها وخمائرها في وجه مشاريع الاختطاف الكبرى وصفقات القرن التي تحشدت لأجلها قوى الغرب والشرق وأتباعهم من الحكومات الوظيفية والمستبدة والمنافقين وغيرهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾[الأنفال: آية 36]، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الروم: آية 4-5].
الخاتمة
في هذه الدراسة تعرض الباحث إلى جملة من القضايا المتعلقة بمشروع اختطاف الإسلام في مسار مفاهيمه الكبرى، منبهاً في سياقها على مفهوم أنموذجي انطلق منه الخاطفون في استهداف الإسلام وثوابته؛ كونه من المفاهيم التي لها تأثيرها في البناء الحضاري فكراً وحركة، أعني به مفهوم الجهاد، وقد توافقت الدراسة في سياقها المنهجي مع المنهجية المرسومة في مواجهة هذا المشروع، من خلال الوقوف عند بواعث الاختطاف، وقواه الفاعلة، وأدواته واستراتيجياته التي من خلالها يحقق أهدافه، ثم بيان الوسائل التي تمكننا من مواجهة هذا الاختطاف وتأتي عليه بالنقض والإبطال.
إن أخطر ما تعرضت له الدراسة تلكم البواعث التي دفعت الخاطفين باتجاه رسم مناهج تعيد تشكيل العقلية المسلمة خارج سياق المقاصد الشرعية التي قصدها الشارع في مرجعيته الحاكمة، فاستهدفوا بها وضع إسلام ينساق مع البنية الفكرية لمنظومة الاستئثار والهيمنة العالمية، فتكون الأمة به منقادة في سياسات من الاستتباع والارتهان المفضيين إلى حالة من الركود بل التراجع الحضاري، فيسودها بهذه النسخ من الإسلام المصطنع الوهن المعجز والمقعد عن الفاعلية الحضارية التي عهدتها الأمة في مراحلها التاريخية.
وبما أن الجهاد كان من المفاهيم الحركية التي لها حضورها في تحقيق الفاعلية الحضارية للأمة وتدافعها على مستوى علاقاتها الخارجية، فقد توجهت إليه سهام الاختطاف قاصدة نقده ونقضه، ففكروا وقدروا من خلال تعرضهم للجهاد ومنظومته المفاهيمية، فأدركوا أن هناك بنية محكمة تحكم هذا المفهوم، تكمن في جملة من القواعد والأسس والقيم الحاكمة دارت ضمن رؤية كلية جامعة تفاعلت عناصرها لتقدم لنا أنموذجاً حضارياً تاريخياً يعد وحدة قياسية معيارية لا اختلال فيها ولا انحراف، يمكن معها أن تتفاعل مع أنواع أخرى من الواقعات في سياق منهجية الاستيعاب والتجاوز.
فعمد الخاطفون بإزائها إلى منهجية التفكيك والتجزيئ التي تفقد المنظومة الجهادية قوامها وعمودها الناظم، فحاكمت المفهوم بمسلك اختزالي تارة، وبمسلك تشويه تارة أخرى، فوقفت عند مساقات نصية أو حوادث فردية تحاكم بها المفهوم ومنظومته في مسار من التهويل والتضخيم يأتي على أفرادها ومكوناتها -عبر منهجية العزل والفصل- بالإبطال، فترى وهي منزوعة من سياقها في صورة شوهاء لا يمكن هضمها أو استيعابها.
ولم يكن الخاطفون كقوى وجهات فاعلة يجمعهم ناظم سوى تقاطعات من الرؤى والمصالح التي دارت حول اختطاف الإسلام وجهاده الحضاري، وبالتأمل القريب تقف عند جهات متعددة حاولت اختطاف الجهات ومارسته بوسائل وأدوات مختلفة، وتبرز منها المنظومة الغربية التي تتسيد المشهد العالمي بالهيمنة على السياسة العالمية في سياق علاقات بين المركز الذي تمثله والهامش الذي يدور حوله، وسخرت لذلك جملة من الأدوات، أبرزها الاستشراق، والتغريب، والفرق المصطنعة كالقاديانية والبهائية .. في غيرها.
ولئن كان الكيان الصهيوني نسقاً مستقلاً في القوى الفاعلة في الاختطاف، فإنه في الحقيقة لا يخرج عن كونه صنيعة غربية مزروعة في قلب الأمة، يمارس اختطاف الجهاد ووظيفته الحضارية من خلال الكر على مفاهيم أخرى تدور في منظومته، على شاكلة مفهوم المقاومة الفاعل الذي شكل ولا زال امتداداً حقيقياً لمفهوم الجهاد في تحقيق وظيفته في صد الهجمات على مقدسات الأمة، ولقد استطاع هذا الكيان المسخ أن يستثمر بعض اللبنات في الأمة ممن فقدت الصلابة والحصانة المنهجية بعد إصابتها بالرخاوة الجاذبة للأدواء الفكرية والحركية، فكان هناك ما يمكن تسميته بظاهرة النفاق الجديد التي جسدها الصهاينة العرب، ومارس من خلالهم -هذا الكيان- الدعوة إلى سياسات التطبيع معه وتجاوز خيار المقاومة.
وفي سياق آخر ساهمت بعض القراءات المتعسفة لمفهوم الجهاد بشكل سافر في الدفع باتجاه نقد المفهوم ونقضه من خلال هذه القراءات المشوهة وانعكاساتها على الواقع، فأعطت للخاطفين بينات وشهادات اتهام للمفهوم وحاضنته المفاهيمية، فأسرع الخاطفون بإزائها إلى وضع قراءات جديدة يقدمون من خلالها إسلاماً تتعدد نسخه أمريكياً أو أوربياً أو غيره، وانعكست على مناهج وبرامج تعليمية وتربوية، ينتزع منها الجهاد ومنظومته المفاهيمية.
وانبرى في تحقيق تلكم الأهداف المرجوة للخاطفين ما يسمى بالدول والحكومات الوظيفية التي جندت وسائلها الإعلامية وأذرعها التنفيذية من خلال تشويه الذاكرة التاريخية للجهاد وإسقاط رموزه التي هي في حقيقتها رموز الأمة، ومن هنا فإن مقتضى الحماية والحصانة للأمة ودينها ومفاهيمها الكبرى يقضي باتباع منهج يعيد للعقلية المسلمة تأهليها، بالتركيز على أزمات فكرها وثقافتها، وتجاوز مواطن الاختلال فيها، ومواضع الدخل والدخن من بنائها التي يستثمرها الخاطفون في إضعافها وزرع ما دخيل عليها.
وهذا يستدعي ضرورة وحاجة بناء استراتيجيات للمواجهة على مختلف الأصعدة، وتوظيف ما تيسر للأمة من وسائل وأدوات تتحقق بها النجاعة الوظيفية لها، فتعاد الروح إلى بنائها بتفعيل وجودها وحراسة حدودها، وتنطلق في فضاءات الآفاق العالمية حضوراً وشهوداً، وفي الصباح يحمد القوم السرى.
المراجع
-إبراهيم البيومي غانم وآخرون، بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة، دار السلام، ط1، 1429هـ/2008م.
-ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، الدمام، دار رمادي للنشر، ط1، 1417هـ/1997م.
-ابن تيمية، العبودية، بيروت، المكتب الإسلامي، ط7، 1426هـ/2005م.
-ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ/2004م.
-ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة المنورة، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1425هـ/2004م.
-ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1426هـ/2005م.
-ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط27، 1415هـ/1994م.
-أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، الخبر/السعودية، دار ابن عفان، ط1، 1417هـ/1997م.
-أبو الحسن علي الحسني الندوي، القادياني والقاديانية دراسة وتحليل، جدة، الدار السعودية للنشر، ط3، 1387هـ/1967م.
-أبو الفداء إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دمشق، دار ابن كثير، طبعة خاصة بوزارة الأوقاف القطرية، 1436هـ/2015م.
-أبو المظفر السمعاني، القواطع في أصول الفقه، عمان/الأردن، دار الفاروق، ط1، 1432هـ/2011م.
-أبو بكر ابن العربي، أحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ/2003م.
-إحسان إلهي ظهير، القاديانية دراسات وتحليل، باكستان، إدارة ترجمان السنة، ط16، 1404هـ/1984م.
-أحمد العماري، نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار: المغرب نموذجاً، هيرندن – فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1997م.
-أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1420هـ/1999م.
-أحمد عبادي، في تفكيك مفهوم الجهاد، سلسلة الإسلام والسياق المعاصر، المغرب، الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، كتاب منشور على موقع الرابطة.
-أحمد عبدالونيس شتا، العلاقات الدولية في الإسلام: الأساس الشرعي والمبادئ الحاكمة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، في: المقدمة العامة لمشروع العلاقات الدولية في الإسلام، ط1، 1417هـ/1996م.
-أحمد كافي، مشاريع الإصلاح السياسي بالمغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، القاهرة، دار الكلمة، ط1، 1434هـ/2013م.
-إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: د.محمد عناني، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006م.
-إسحاق بن عبدالله السعدي، دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، 1434هـ/2013م.
-الإمام محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، دار الفكر العربي، 1415هـ/1995م51.
-أماني صالح، توظيف المفاهيم الحضارية في التحليل السياسي: الأمة كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية، ضمن: العلاقات الدولية البعد الديني والحضاري، د.منى أبو الفضل ود.نادية محمود مصطفى (تحرير)، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م.
-أنور الجندي، أهداف التغريب في العالم الإسلامي، القاهرة، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، 1987م.
-أنور الجندي، تصحيح المفاهيم في ضوء الكتاب والسنة، القاهرة، دار الاعتصام، 1983م.
-أنور الجندي، شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق – بيروت، المكتب الإسلامي، 1398هـ/1978م.
-أنور محمود زناتي، زيارة جديدة للاستشراق، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، ط1، 2006م.
-بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، القاهرة، مكتبة دار التراث، ط3، 1404هـ/1984م.
-بلال التليدي، مراجعات الإسلاميين: دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي، بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2013م.
-توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1971م.
-جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، بيروت، دار الفكر، ط1، 1416هـ/1996م.
-حمدي عبدالرحمن عبد العظيم وآخرون، تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي، ط1، 1422هـ/2002م.
-حول إعادة تشكيل العقل المسلم للدكتور عماد الدين خليل، قطر، كتاب الأمة، ط1، 1403هـ.
-حيدر قاسم التميمي، الجهاد الإسلامي في الدراسات الاستشراقية: دراسة تحليلية نقدية، بحث منشور بمجلة دراسات استشراقية، يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد العاشر، 2017م.
-الخطيب الشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، بيروت، دار المعرفة، ط1، 1418هـ/1997م.
-زينب عبدالعظيم، الاستراتيجية الأمريكية العالمية واستمرار الحرب ضد الإرهاب، القاهرة، حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات السياسية، العدد الخامس، 2002م.
-ساسي سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط1، 2002م.
-سليمان الخطيب، أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب: دراسة حالة العلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمين، بحث منشور كتاب: الحوار مع الغرب: آلياته، أهدافه، دوافعه، د.منى أبو الفضل ود.نادية محمود مصطفى (تحرير)، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م.
-السيد عمر وآخرون، موسوعة التنشئة السياسية الإسلامية التأصيل والممارسات المعاصرة، القاهرة، دار السلام، ط1، 1434هـ/2013م.
-السيد عمر، الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م.
-سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423هـ/2003م.
-سيف الدين عبدالفتاح، التحديات والعقل الاستراتيجي للأمة، ورقة بحثية غير منشورة.
-سيف الدين عبدالفتاح، القرآن وتنظير العلاقات الدولية في الإسلام: خبرة بحثية، بحث منشور في: المداخل المنهاجية للبحث في العلاقات الدولية في الإسلام، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م.
-سيف الدين عبدالفتاح، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي: منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، عمان، المركز العلمي للدراسات السياسية، ط1، 2002م.
-سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1419هـ/1999م.
-صامويل هانتغتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة: طلعت الشايب من الطبعة الأمريكية، نيويورك، مركز سيمون وشستر روكفلر، ط2، 1999م.
-صلاح عبدالفتاح الخالدي، الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ، وسمات، ومصير، دمشق، دار القلم، ط1، 1419هـ/1998م.
-طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة: اجتهادات فقهية، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم، ط1، 1438هـ/2017م.
-ظافر القاسمي، الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1982م.
-عبدالحميد أحمد أبو سليمان، الإنسان بين شريعتين: رؤية قرآنية في معرفة الذات ومعرفة الآخر، القاهرة، دار السلام، ط1، 1423هـ/2003م.
-عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، دمشق، دار القلم، ط8، 1420هـ/2000م.
-عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، تصحيح مفاهيم حول التوكل والجهاد ووجوه النصر، كتاب دعوة الحق، العدد 64، 1407هـ/1987م.
-عبدالكريم بكار، المناعة الفكرية، الرياض، مؤسسة الإسلام اليوم، ط1، 1427هـ.
-عبدالكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1407هـ/1987م.
-عبدالكريم عكيوي، نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1429هـ/2008م.
-عبدالله بن عبدالرحمن الوهيبي، حول الاستشراق الجديد مقدمات أولية، الرياض، مركز البيان للبحوث والدراسات، ط1، 1435هـ.
-عبدالله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السنة النبوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1997م.
-عبدالله محمد الأمين النعيم، التمكين الحضاري في المنظور القرآني: دراسة معرفية، مدني – السودان، معهد إسلام المعرفة، ط1، 2004م.
-عبدالمجيد محمد السوسوة، أسس العلاقات الدولية في الإسلام، بيروت، دار ابن حزم، ط1، 1426هـ/2005م.
-عبدالوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2002.
-عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دمشق، دار الفكر، ط1 معادة، 1423هـ/2003م.
-عبدالوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية: أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني، نشر ألكتروني.
-عبدالوهاب خلاف، السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط5، 1413هـ/1993م.
-عثمان جمعة ضميرية، أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عمان-الأردن، دار المعالي، ط1، 1419هـ/1999م.
-علاء البشبيشي، الخوف الغربي من التهديد الجهادي، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، منشور بتاريخ 5 أكتوبر 2017م.
-علي بن إبراهيم النملة، كنه الاستشراق: المفهوم، الأهداف، الارتباطات، بيروت، بيسان للنشر والتوزيع، ط3، 1432هـ/2011م.
-علي بن نفيع العلياني، أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة فيه، الرياض، دار طيبة للنشر، ط2، 1416هـ/1995م.
-عمر عبيد حسنة، مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، بيروت، المكتب الإسلامي، ط3، 1419هـ/1998م.
-فتحي حسن ملكاوي، البناء الفكري مفهومه ومستوياته وخرائطه، هرندن – فرجينيا/الولايات المتحدة الأمريكية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1436هـ/2015م.
-فخر الدين الرازي، تفسير مفاتح الغيب، دمشق، دار الفكر، ط1، 1401هـ/1981م.
-لؤي صافي، العقيدة والسياسة: معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، دمشق، دار الفكر، ط1، 1422هـ/2001م.
-مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، بيروت، دار الآداب، ط1، 1980م.
-مازن صلاح مطبقاني، الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس، الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416هـ/1995م.
-مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، بيروت، دار الإرشاد، ط1، 1388هـ/1969م.
-مانع بن عواد الجهني (إشراف ومراجعة)، الموسوعة الميسيرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الرياض، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 1420هـ.
– محسن عبدالحميد، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، قطر، كتاب الأمة، العدد 6، 1405هـ/1985م.
-محمد الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، القاهرة، دار الشروق.
-محمد بن إدريس الشافعي، أحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، 1400هـ.
-محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/2002م.
-محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، هجر للطباعة والنشر، ط1، 1422هـ/2001م.
-محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1405هـ/1985م.
-محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، الأردن، دار البيارق.
-محمد سعدي، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006م.
-محمد عبدالسلام فرج، الفريضة الغائبة، نسخة ألكترونية.
-محمد عزة دروزة، التفسير الحديث، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط2، 1421ه/2000م.
-محمد علي السايس وآخرون، تفسير آيات الأحكام، دمشق وبيروت، دار ابن كثير ودار القادري، ط3، 1420هـ/1999م.
-محمد عمارة، الإسلام والغرب: افتراءات لها تاريخ، القاهرة، مركز الإعلام العربي، ط1، 1427هـ/2006م.
-محمد قطب، المستشرقون والإسلام، القاهرة، مكتبة وهبة، ط1، 1420هـ/1999م.
-محمد مجذوب محمد صالح، رؤية العالم في المفهوم الإسلامي: أسس نظرية في صنع السياسة الكونية المعاصرة، دراسة في فقه العلاقات الدولية، الخرطوم، مركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر، ط1، 1429هـ/2008م.
-محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، دار الفرقان.
-محمد يسري إبراهيم، التطاول الغربي على الثوابت الإسلامية: رؤية مستقبلية، القاهرة، دار اليسر، ط1، 1428هـ/2007م.
-محمد يسري إبراهيم، العقيدة المقدسية.
-محمد يسري إبراهيم، ولتستبين سبيل المجرمين: قراءة في الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م، القاهرة، دار اليسر، ط2، 1432هـ/2011م، ص194.
-مدحت ماهر، الدولة اليهودية من المشكلة إلى المكانة: مائة عام بين وعد بلفور وموعد التصهين العربي، قضايا ونظرات: تقرير ربع سنوي، مركز الحضارة للدراسات السياسية، العدد السابع، أكتوبر 2017م.
-مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، الرياض، دار السلام، ط2، 1421هـ/2000م.
-مصطفى السباعي، هكذا علمتني الحياة، بيروت، المكتب الإسلامي، ط4، 1418هـ/1997م.
-مصطفى محمود منجود، الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م.
-مناع القطان، تاريخ التشريع الإسلامي، القاهرة، مكتبة وهبة، ط5، 1422هـ/2001م.
-منير شفيق، الإسلام في معركة الحضارة، دار البراق للنشر.
-مونتجومري وات، فضل الإسلام على الحضارة الغربية، بيروت/القاهرة، دار الشروق، ط1، 1403هـ/1983م.
-ميثاق حركة المقاومة الإسلامية حماس، 1409هـ/1988م.
-نادية محمود مصطفى، الهجمات على الأمة وأنماط المقاومة الحضارية: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، بحث منشور في مركز الحضارة للبحوث والدراسات.
-نعمان عبدالرزاق السامرائي، اليهود والتحالف مع الأقوياء، قطر، سلسلة كتاب الأمة، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، ط1، 1412هـ/1992م.
-وهبة الزحيلي، العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1417هـ/1997م.
-يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين، بيروت، دار ابن حزم، ط1، 1423هـ/2002م.
-يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط6، 1409هـ/1988م.
-يوسف القرضاوي، فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة، القاهرة، مكتبة وهبة، ط3، 1431هـ/2010م.
-يوسف بن عبدالله بن عبدالبر، الكافي في فقه أهل المدينة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ.
[1] ينظر في المفاهيم الحضارية وأهميتها ومنهاجية بنائها: إبراهيم البيومي غانم وآخرون، بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة، دار السلام، ط1، 1429هـ/2008م، ج1ص27-107.
[2] عمر عبيد حسنة، من مقدمته لكتاب: المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري للدكتور محسن عبدالحميد، قطر، كتاب الأمة، العدد 6، 1405هـ/1985م، ص12.
[3] سيف الدين عبدالفتاح، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي: منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، عمان، المركز العلمي للدراسات السياسية، ط1، 2002م، ص61.
[4] أنور الجندي، تصحيح المفاهيم في ضوء الكتاب والسنة، القاهرة، دار الاعتصام، 1983م، ص6.
[5] مصطفى محمود منجود، الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م، ص578.
[6] مونتجومري وات، فضل الإسلام على الحضارة الغربية، بيروت/القاهرة، دار الشروق، ط1، 1403هـ/1983م، ص13، علماً أن عنوان الكتاب هو من تصرف المترجم؛ لأن عنوان الكتاب في الأصل هو: تأثير الإسلام في أوربا خلال العصر الوسيط.
[7] د.أحمد عبادي، في تفكيك مفهوم الجهاد، سلسلة الإسلام والسياق المعاصر، المغرب، الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، كتاب منشور على موقع الرابطة، ص5.
[8] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، تصحيح مفاهيم حول التوكل والجهاد ووجوه النصر، كتاب دعوة الحق، العدد 64، 1407هـ/1987م، ص59.
[9] شيخ الإسلام ابن تيمية، العبودية، بيروت، المكتب الإسلامي، ط7، 1426هـ/2005م، ص94.
[10] مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، بيروت، دار الآداب، ط1، 1980م، ص245 فما بعدها.
[11] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط27، 1415هـ/1994م، ج3ص5-9.
[12] سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423هـ/2003م، المجلد الثالث، ص1738.
[13] د.السيد عمر وآخرون، موسوعة التنشئة السياسية الإسلامية التأصيل والممارسات المعاصرة، القاهرة، دار السلام، ط1، 1434هـ/2013م، ج1ص310-311.
[14] لم يكن الانتشار الإسلامي في المعمورة هيمنة وإخضاعاً، بل هو فتح وانفتاح، ذلك أن النموذج الحضاري الإسلامي في بعده التاريخي لم يحاول البتة إخضاع أبناء البلاد المفتوحة، بل على العكس اتبع معهم منهجية الاستيعاب، التي قصد من خلالها إظهار قيمه وعدله وسماحته، ولهذا لم يعمد الإسلام إلى تغيير ثقافات الشعوب في البلاد المفتوحة أو لغاتها، بخلاف النماذج الاستعمارية كانت قاصدة الهيمنة، بل هي من علاماتها البارزة.
وفي هذا الإطار يقول تومارس أرنولد: “لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي. ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرود وإيزابلا دين الإسلام من أسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن انكلترا مدة خميسن وثلاثمائة سنة. وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف إلى جانبهم باعتبارهم طوائف خارجة عن الدين. ولهذا فإن مجرد بقاء هذه الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم”، انظر: توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1971م، ص98-99.
[15] محمد قطب، المستشرقون والإسلام، القاهرة، مكتبة وهبة، ط1، 1420هـ/1999م، ص36.
[16] د.محمد سعدي، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006م، ص88.
[17] صامويل هانتغتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة: طلعت الشايب من الطبعة الأمريكية، نيويورك، مركز سيمون وشستر روكفلر، ط2، 1999م، ص48.
[18] د.عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دمشق، دار الفكر، ط1 معادة، 1423هـ/2003م، ص163-164.
[19] أبو الفداء إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دمشق، دار ابن كثير، طبعة خاصة بوزارة الأوقاف القطرية، 1436هـ/2015م، ج7ص134.
[20] مارسيل بوازار، مرجع سابق، ص245.
[21] منير شفيق، الإسلام في معركة الحضارة، دار البراق للنشر، ص28.
[22] د.سيف الدين عبدالفتاح، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي، مرجع سابق، ص30-31.
[23] تتغاير وتتنوع تأثيرات الضغوط الحضارية بحسب الموقف منها، وتلفت النظر إليه مقولة مالك بن نبي (الاستعمار والقابلية للاستعمار)، والقابليات تكمن في عناصر التفكير وعمليات التغيير والتصور الإنساني لهذه العمليات وهذه القابليات، بحيث تولد أنماطاً سلوكية تشكل البيئة والوسط الملائم لعقليات متعددة تحرك الضغوط ضمن مساراتها السلبية، ولكن الوعي بالقابليات والسنن الكفيلة بالتحكم فيها، وتحريك القابليات نحو أصول الطاقات والقدرات إنما يؤصل مسارات التحريك الإيجابي والفاعلية، والضغوط الحضارية ضمن هذا المسار وقسيمه كثيرة ومتنوعة، منها في سياقها السلبي ضغوط مانعة، وضغوط مفجرة، وضغوط مفرغة، ومنها في سياقها الإيجابي ضغوط دافعة، وضغوط رابفعة، وضغوط جامعة. انظر: د.سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1419هـ/1999م، ص203-204.
[24] يوسف القرضاوي، فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة، القاهرة، مكتبة وهبة، ط3، 1431هـ/2010م، ج1ص25.
[25] د.سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم، مرجع سابق، ص350.
[26] فخر الدين الرازي، تفسير مفاتح الغيب، دمشق، دار الفكر، ط1، 1401هـ/1981م، ج8ص196.
[27] محمد الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، القاهرة، دار الشروق، ص5-6.
[28] د.محمد عمارة، الإسلام والغرب: افتراءات لها تاريخ، القاهرة، مركز الإعلام العربي، ط1، 1427هـ/2006م، ص8.
[29] د.محمد يسري إبراهيم، التطاول الغربي على الثوابت الإسلامية: رؤية مستقبلية، القاهرة، دار اليسر، ط1، 1428هـ/2007م، ص13.
[30] د.ساسي سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط1، 2002م، ص20.
[31] د.مانع بن عواد الجهني (إشراف ومراجعة)، الموسوعة الميسيرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الرياض، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 1420هـ، ج2ص687.
[32] إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: د.محمد عناني، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006م، ص45.
[33] أنور محمود زناتي، زيارة جديدة للاستشراق، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، ط1، 2006م، ص22، نقلاً عن رضوان السيد، ثقافة الاستشراق وعلاقات الشرق بالغرب، مجلة الفكر العربي، العدد 31، ص9.
[34] علي بن إبراهيم النملة، كنه الاستشراق: المفهوم، الأهداف، الارتباطات، بيروت، بيسان للنشر والتوزيع، ط3، 1432هـ/2011م، ص54.
[35] من القضايا التي سادت الخطاب الفكري المعاصر فتح باب الاجتهاد بعد إغلاقه منذ زمن بعيد، وثمة شبه إجماع بين أغلب أهل الفقه والفكر على كون الاجتهاد قد أغلق بعد المائة الرابعة للهجرة، وهناك من يرى خطأ هذه الرؤية، وهم قلة منهم المستشار طارق البشري؛ معللاً إياها بأن الاجتهاد في الفقه الإسلامي وتجديده لم يتوقف يوماً ما توقفاً تاماً، ولم يثبت علمياً أن أحداً أغلقه؛ حتى ولو شاع القول بإغلاقه نظرياً، وكان امتناع الفقهاء أحياناً -بحسب رأيه- عما يقسرهم عليه السلطان أو يغريهم؛ هو موقف محافظ، وأن المحافظة بهذا المعنى في ظروف معينة كانت تؤدي وظيفة مقاومة لضغوط الانحراف عن الأصول وتبديدها بدعوى التجديد. انظر: تقديم إبراهيم البيومي غانم لكتاب المستشار طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة: اجتهادات فقهية، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم، ط1، 1438هـ/2017م، ص7.
[36] عمر عبيد حسنة، مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، بيروت، المكتب الإسلامي، ط3، 1419هـ/1998م، ص34-36.
[37] مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، بيروت، دار الإرشاد، ط1، 1388هـ/1969م، ص8-10.
[38] عبدالله بن عبدالرحمن الوهيبي، حول الاستشراق الجديد مقدمات أولية، الرياض، مركز البيان للبحوث والدراسات، ط1، 1435هـ، ص80-83.
[39] المرجع السابق، ص88 فما بعدها.
[40] المرجع السابق، ص97.
[41] المرجع السابق، ص127 فما بعدها.
[42] د.حيدر قاسم التميمي، الجهاد الإسلامي في الدراسات الاستشراقية: دراسة تحليلية نقدية، بحث منشور بمجلة دراسات استشراقية، يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد العاشر، 2017م، ص89-90.
[43] مازن صلاح مطبقاني، الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس، الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416هـ/1995م، ص211.
[44] المرجع السابق، ص215.
[45] مصطفى محمود منجود، مرجع سابق، ص579.
[46] د.إسحاق بن عبدالله السعدي، دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، 1434هـ/2013م، ج2ص987.
[47] ظافر القاسمي، الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1982م، ص212.
[48] د.سيف الدين عبدالفتاح، القرآن وتنظير العلاقات الدولية في الإسلام: خبرة بحثية، بحث منشور في: المداخل المنهاجية للبحث في العلاقات الدولية في الإسلام، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م، ص20-35.
[49] د.أحمد عبدالونيس شتا، العلاقات الدولية في الإسلام: الأساس الشرعي والمبادئ الحاكمة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، في: المقدمة العامة لمشروع العلاقات الدولية في الإسلام، ط1، 1417هـ/1996م، ص133.
[50] محمد بن إدريس الشافعي، أحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، 1400هـ، ج2ص56.
[51] يوسف بن عبدالله بن عبدالبر، الكافي في فقه أهل المدينة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ، ص208.
[52] يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين، بيروت، دار ابن حزم، ط1، 1423هـ/2002م، ص1786.
[53] محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1405هـ/1985م، ج4ص518.
[54] د.أحمد عبدالونيس شتا، مرجع سابق، ص143.
[55] محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، هجر للطباعة والنشر، ط1، 1422هـ/2001م، ج3ص299.
[56] محمد علي السايس وآخرون، تفسير آيات الأحكام، دمشق وبيروت، دار ابن كثير ودار القادري، ط3، 1420هـ/1999م، ج1ص192.
[57] د.عثمان جمعة ضميرية، أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عمان-الأردن، دار المعالي، ط1، 1419هـ/1999م، ج1ص405.
[58] د.عبدالكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1407هـ/1987م، ص55.
[59] مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ..، الرياض، دار السلام، ط2، 1421هـ/2000م، ص33، ح: 126.
[60] عبدالوهاب خلاف، السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط5، 1413هـ/1993م، ص67.
[61] د.عبدالكريم زيدان، مرجع سابق، ص57.
[62] الإمام محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، دار الفكر العربي، 1415هـ/1995م، ص50-51.
[63] د.وهبة الزحيلي، العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4، 1417هـ/1997م، ص94-95.
[64] مسلم بن الحجاج القشيري، مرجع سابق، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء، ص771، ح: 4542.
[65] د.عبدالمجيد محمد السوسوة، أسس العلاقات الدولية في الإسلام، بيروت، دار ابن حزم، ط1، 1426هـ/2005م، ص41.
[66] عبدالوهاب خلاف، مرجع سابق، ص74.
[67] د.أحمد عبدالونيس شتا، مرجع سابق، ص152.
[68] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/2002م، ص44، ح: 123.
[69] د.أحمد عبدالونيس شتا، مرجع سابق، ص152-153.
[70] المرجع السابق، ص153.
[71] المرجع السابق، ص153-154.
[72] المرجع السابق، ص155.
[73] د.سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم، مرجع سابق، ص349-351.
[74] د.عبدالحميد أحمد أبو سليمان، الإنسان بين شريعتين: رؤية قرآنية في معرفة الذات ومعرفة الآخر، القاهرة، دار السلام، ط1، 1423هـ/2003م، ص9.
[75] لاستيعاب الخصائص العامة للشريعة انظر: د.يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط6، 1409هـ/1988م.
[76] د.محمد مجذوب محمد صالح، رؤية العالم في المفهوم الإسلامي: أسس نظرية في صنع السياسة الكونية المعاصرة، دراسة في فقه العلاقات الدولية، الخرطوم، مركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر، ط1، 1429هـ/2008م، ص135.
[77] عبدالله محمد الأمين النعيم، الاستشراق في السنة النبوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1997م، ص203.
[78] د.محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، الأردن، دار البيارق، ج3ص1560.
[79] د.سليمان الخطيب، أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب: دراسة حالة العلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمين، بحث منشور كتاب: الحوار مع الغرب: آلياته، أهدافه، دوافعه، د.منى أبو الفضل ود.نادية محمود مصطفى (تحرير)، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص130.
[80] أحمد العماري، نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار: المغرب نموذجاً، هيرندن – فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1997م، ص6.
[81] د.سليمان الخطيب، مرجع سابق، ص132-133.
[82] أنور الجندي، شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق – بيروت، المكتب الإسلامي، 1398هـ/1978م، ص4.
[83] أنور الجندي، أهداف التغريب في العالم الإسلامي، القاهرة، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، 1987م، ص13.
[84] د.محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، دار الفرقان، ص45.
[85] المرجع السابق، ص45-46.
[86] د.سيف الدين عبدالفتاح، بناء المفاهيم الإسلامية: ضرورة منهاجية، مرجع سابق، ج1ص84.
[87] السيد عمر، الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م، ص376، عبدالله محمد الأمين النعيم، التمكين الحضاري في المنظور القرآني: دراسة معرفية، مدني – السودان، معهد إسلام المعرفة، ط1، 2004م، ص251.
[88] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، دمشق، دار القلم، ط8، 1420هـ/2000م، ص270-271، وينظر أيضاً: أنور الجندي، أهداف التغريب في العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص41 فما بعدها.
[89] أبو الحسن علي الحسني الندوي، القادياني والقاديانية دراسة وتحليل، جدة، الدار السعودية للنشر، ط3، 1387هـ/1967م، ص7.
[90] إحسان إلهي ظهير، القاديانية دراسات وتحليل، باكستان، إدارة ترجمان السنة، ط16، 1404هـ/1984م، ص118.
[91] انظر: علي بن نفيع العلياني، أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة فيه، الرياض، دار طيبة للنشر، ط2، 1416هـ/1995م، ص501، نقلاً عن: ترياق القلوب للقادياني، ص25.
[92] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، تصحيح مفاهيم حول التوكل والجهاد ووجوه النصر، مرجع سابق، ص131.
[93] سيأتي الحديث عن هذا في سياق مستقل تحت عنوان: الجهاد ونسق القراءات المتعسفة، وهو متعلق بمسلك الغلاة في قراءة مفهوم الجهاد.
[94] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، تصحيح مفاهيم حول التوكل والجهاد ووجوه النصر، مرجع سابق، ص136-144.
[95] علاء البشبيشي، الخوف الغربي من التهديد الجهادي، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، منشور بتاريخ 5 أكتوبر 2017م، ص2.
[96] د.زينب عبدالعظيم، الاستراتيجية الأمريكية العالمية واستمرار الحرب ضد الإرهاب، القاهرة، حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات السياسية، العدد الخامس، 2002م، ج2ص852.
[97] دانيال بايبس، الجهاد وأساتذة الجامعة، الصفحة العربية لموقعه الشخصي، تاريخ النشر: نوفمبر 2002م.
[98] المرجع السابق.
[99] علاء البشبيشي، مرجع سابق، ص3.
[100] انظر: مقدمة عمر عبيد حسنة لكتاب: اليهود والتحالف مع الأقوياء للدكتور نعمان عبدالرزاق السامرائي، قطر، سلسلة كتاب الأمة، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، ط1، 1412هـ/1992م، ص15-22.
[101] سيد قطب، في ظلال القرآن، مرجع سابق، المجلد السادس، ص3529.
[102] د.صلاح عبدالفتاح الخالدي، الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ، وسمات، ومصير، دمشق، دار القلم، ط1، 1419هـ/1998م، ص295.
[103] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، ص745، ح: 3030.
[104] ميثاق حركة المقاومة الإسلامية حماس، 1409هـ/1988م، ص8.
[105] المرجع السابق، ص16.
[106] الميثاق القومي الفلسطيني، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص1، نقلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية: الميثاق، النظام الأساسي، 1384هـ/1964م، ص2.
[107] د.عبدالوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية: أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني، نشر ألكتروني، 2002م، ص3.
[108] خليل العناني، تفكيك تيار المتصهينين العرب، مقال منشور بموقع العربي الجديد، تاريخ 29/يوليو/2014م.
[109] سيف الدين عبدالفتاح، إنهم يتباهون بالخيانة، مقال منشور بموقع العربي الجديد، تاريخ 14/يوليو/2017م.
[110] محمد عزة دروزة، التفسير الحديث، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط2، 1421هـ/2000م، ج6ص134.
[111] مدحت ماهر، الدولة اليهودية من المشكلة إلى المكانة: مائة عام بين وعد بلفور وموعد التصهين العربي، قضايا ونظرات: تقرير ربع سنوي، مركز الحضارة للدراسات السياسية، العدد السابع، أكتوبر 2017م، ص62.
[112] طلعت رميح، المتصهينون العرب الجدد، شبكة فلسطين للحوار، 10/5/2005م.
[113] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، ص863، ح: 3484.
[114] تغريدته على موقعه في تويتر بتاريخ 15/5/2018م.
[115] تغريدته على موقعه في تويتر بتاريخ 20/4/2018م.
[116] سمية عبدالمحسن، التطبيع والمقاومة عبر مائة عام من وعد بلفور، مركز الحضارة للدراسات السياسية، نشر التقرير بتاريخ: 9 أكتوبر 2017م، ص1.
[117] عفاف الحكيم، التطبيع: مخاطره نتائجه ومقاومته، بحث منشور في موقع جماعة العدل والإحسان المغربية، تاريخ النشر: 16 أبريل 2005م.
[118] محمد يسري إبراهيم، العقيدة المقدسية، ص3.
[119] د.سيف الدين عبدالفتاح، القرآن وتنظير العلاقات الدولية في الإسلام، مرجع سابق، ص83.
[120] هشام أحمد جعفر، بناء المفهوم بين التقويض والتشغيل، بحث منشور في كتاب: بناء المفاهيم: دراسة معرفة ونماذج تطبيقية، مرجع سابق، ج1ص165.
[121] عبدالكريم عكيوي، نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1429هـ/2008م، ص177.
[122] أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1420هـ/1999م، ج3ص359، ح: 1865.
[123] مناع القطان، تاريخ التشريع الإسلامي، القاهرة، مكتبة وهبة، ط5، 1422هـ/2001م، ص173-179.
[124] أبو المظفر السمعاني، القواطع في أصول الفقه، عمان/الأردن، دار الفاروق، ط1، 1432هـ/2011م، ج2ص646.
[125] اختلف العلماء في تحديد آية السيف إلى خمسة أقوال: الأول: قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾[التوبة: آية5]، الثاني: قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: آية29]، الثالث: قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾[التوبة: آية 36]، الرابع: قوله تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[التوبة: آية 41]، الخامس: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[التوبة: آية 73].
[126] بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، القاهرة، مكتبة دار التراث، ط3، 1404هـ/1984م، ج2ص42.
[127] ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، الدمام، دار رمادي للنشر، ط1، 1417هـ/1997م، ج2ص413.
[128] جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، بيروت، دار الفكر، ط1، 1416هـ/1996م، ج2ص57.
[129] لؤي صافي، العقيدة والسياسة: معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، دمشق، دار الفكر، ط1، 1422هـ/2001م، ص23-28.
[130] ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1426هـ/2005م، ج4ص181.
[131] الخطيب الشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، بيروت، دار المعرفة، ط1، 1418هـ/1997م، ج4ص277.
[132] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، الخبر/السعودية، دار ابن عفان، ط1، 1417هـ/1997م، ج3ص290.
[133] ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة المنورة، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1425هـ/2004م، ج1ص333.
[134] محمد عبدالسلام فرج، الفريضة الغائبة، نسخة ألكترونية، ص2.
[135] المرجع السابق، ص12.
[136] بلال التليدي، مراجعات الإسلاميين: دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي، بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2013م، ص242.
[137] محمد عبدالسلام فرج، مرجع سابق، ص8.
[138] حمدي عبدالرحمن عبد العظيم وآخرون، تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي، ط1، 1422هـ/2002م، ص49-50.
[139] عبدالوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2002، ص39-40.
[140] عمر السطي، الدولة الوظيفية وإدامة العنف، مدونات الجزيرة، تاريخ النشر: 17/11/2017م.
[141] كل يوم: يوسف زيدان: صلاح الدين واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني، يوتيوب: https://goo.gl/rPHh6u، تاريخ: 10/5/2017م.
[142] وائل خورشيد، من إسرائيل ليوسف زيدان: نشكركم لحسن تعاونكم معنا، موقع صحيفة الدستور، تاريخ النشر: 26/12/2017م.
[143] المرجع السابق.
[144] غادة غالب ورضا غنيم، الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي، موقع المصري اليوم، تاريخ النشر: 5/3/2015م.
[145] أحمد الدبش، المثقف المثقوب يوسف زيدان نموذجاً، مدونات الجزيرة، تاريخ النشر: 3/1/2018م.
[146] د.سيف الدين عبدالفتاح، التحديات والعقل الاستراتيجي للأمة، ورقة بحثية غير منشورة، ص1.
[147] د.أحمد كافي، مشاريع الإصلاح السياسي بالمغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، القاهرة، دار الكلمة، ط1، 1434هـ/2013م، ص247.
[148] د.نادية محمود مصطفى، الهجمات على الأمة وأنماط المقاومة الحضارية: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، بحث منشور في مركز الحضارة للبحوث والدراسات، ص10.
[149] عمر عبيد حسنة، من مقدمته لكتاب: حول إعادة تشكيل العقل المسلم للدكتور عماد الدين خليل، قطر، كتاب الأمة، ط1، 1403هـ، ص10.
[150] د.محمد يسري إبراهيم، ولتستبين سبيل المجرمين: قراءة في الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م، القاهرة، دار اليسر، ط2، 1432هـ/2011م، ص194.
[151] د.محمد عمارة، الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ، مرجع سابق، ص7-8.
[152] د.سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم، مرجع سابق، ص400.
[153] المرجع السابق، ص410.
[154] المرجع السابق، ص413-415.
[155] د.أماني صالح، توظيف المفاهيم الحضارية في التحليل السياسي: الأمة كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية، ضمن: العلاقات الدولية البعد الديني والحضاري، د.منى أبو الفضل ود.نادية محمود مصطفى (تحرير)، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص38-40.
[156] د.السيد عمر، التنشئة السياسية في المنظور القرآني، ضمن: السيد عمر وآخرون، موسوعة التنشئة السياسية الإسلامية التأصيل والممارسات المعاصرة، القاهرة، مرجع سابق، ج2ص170.
[157] د.فتحي حسن ملكاوي، البناء الفكري مفهومه ومستوياته وخرائطه، هرندن – فرجينيا/الولايات المتحدة الأمريكية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1436هـ/2015م، ص264.
[158] د.عبدالكريم بكار، المناعة الفكرية، الرياض، مؤسسة الإسلام اليوم، ط1، 1427هـ، ص200.
[159] شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ/2004م، ج10ص301.
[160] د.مصطفى السباعي، هكذا علمتني الحياة، بيروت، المكتب الإسلامي، ط4، 1418هـ/1997م، ص30.