تقدير موقفوطني

ملامح الخطاب السياسي المعارض والمقاوم.. المشهد المصري نموذجاً

  • المفهوم

الخطاب السياسي كما يعرفه د. مازن الوعر: “هو تركيب من الجمل موجه عن قصد إلى المتلقي بقصد التأثير فيه وإقناعه بمضمون الخطاب، عن طريق الشرح والتحليل والإثارة، ويتضمن هذا المضمون أفكارًا سياسيةً، أو يكون موضوع هذا الخطاب سياسيًّا”[1].

وبتعريف أدق هو “منظومة من الأفكار، تشكلت عبر تراكم معرفي، نابع من استقراء للواقع بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية، وتمحورت عبر أنساق أيديولوجية مستمدة من التصورات السياسية المنبثقة من التراث أو من الحداثة، التي تختلف في آلياتها ونظمها حسب مستوى النضج الفكري والوعي بمتطلبات المجتمع، ومدى ارتباطها بمستوى الأداء الحركي في عملية التغيير والتنمية والحضور الوجودي”[2].

فيطلق الخطاب السياسي على ما يلقيه المنشغلون بالعمل السياسي على مسامع الجماهير، سواء كان مكتوبًا أو منطوقاً؛ لإقناعهم بمشروعهم السياسي وتحقيق برامجهم، التي من شأنها أن تغير المجتمع إلى الأفضل، من وجهة نظرهم. وبالتالي فعناصر الخطاب ثلاثة: مرسِل، ومستقبِل، ورسالة. والخطاب السياسي مركزه السلطة، ومنه ما هو رسمي صادر من الدولة، أو من مؤيديها، أو من معارضيها/ مقاوميها.

  • خريطة الخطاب السياسي المعارض والمقاوم في مصر

تتنوع الخطابات السياسية  في مصر تبعاً لأيديولوجية حامليها، وإذا قسمنا الخطابات السياسية إلى قسمين أساسيين، سنجد أن القسم الأول والأكبر هو خطاب التيارات الإسلامية[3] المقاومة/المعارضة. وبقيد “المعارضة والمقاومة” تخرج التيارات الإسلامية المؤيدة للسلطة والحاثة على طاعتها، كالتيار المدخلي وجمعية أنصار السنة المحمدية على سبيل المثال، وكذلك حزب النور الذي يتدثر بالاستقلالية لكن سياساته لا تخرج عن المعارضة المستأنسة التي تستقر في النهاية على اختيار رأي النظام وانتخابه وتأييده، وتخرج كذلك بالطبع التيارت الإسلامية التي أعلنت أنها لا تنشغل بالسياسة ولا تخوض غمارها، كالجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، وجماعة التبليغ والدعوة.

والقسم الثاني هو التيارات العلمانية المقاومة والمعارضة، وبذلك لا يدخل في هذا التعريف التيارات المدنية التي تتمركز حول نظام الدولة السائد وتؤيده كحزب المصريين الأحرار والوفد والمؤتمر وبقية الأحزاب التي تسمى بـ”الأحزاب الكرتونية”. والتي يستخدمها النظام لتحقيق أجندته وقتما يريد (ترشح مصطفى موسى رئيس حزب الغد أمام السيسي في انتخابات الرئاسة، نموذجاً)

  • الخطاب السياسي للتيار الإسلامي

داخل هذين القسمين (الخطاب السياسي الإسلامي والعلماني) تتنوع أيضاً الخطابات، فالتيارات الإسلامية يصدر عنها خطابات عدة، فخطاب جماعة الإخوان المسلمين الذي في القلب منه مقاومة السلطة القائمة لفسادها وانتهاكها للحقوق مع ترديد أحياناً “مشروع” الجماعة الذي ينبني على “دولة مدنية بمرجعية إسلامية”؛ ويستحضر هذا الخطاب السياسي المفردات الدينية بين الفينة والأخرى، ولكن يحرص الخطاب الإخواني على عدم الوضوح -إذا صح التعبير- في استعماله للإرث الديني ومفرداته، وذلك سعياً إلى الحفاظ على علاقته بالتيارات المدنية التي أثبتت أنها لا تعير لهذا الخطاب أي مصداقية أو اهتمام، وحتى لا يوصم بالتشدد والرجعية، ولذلك ينحو في صورة دفاعية نحو التأكيد على احترام كافة أطياف الوطن، ويؤكد على دور المرأة وحب الأقباط ودعم الحرية… إلخ تلك الملفات التي يستحضرها باستمرار في غير سياقها وكأنه متهم بإحداث خروقات بها فيدافع عن نفسه. ومؤخراً وبعد انقلاب 3 يوليو العسكري، أضيف للخطاب السياسي للإخوان “عودة الشرعية” كنقطة ارتكاز أساسية، إضافة إلى نقد سلطات الانقلاب لفسادها وانتهاكاتها الحقوقية. إضافة إلى خطاب التغيير بالقوة الذي تبناه قطاع من الإخوان المنشقين عن الجماعة الأم بعد انقلاب 3 يوليو.

أما خطاب التيار السلفي المعارض فيرتكز إلى المخالفات الدينية  وتنحية الشريعة الإسلاميةكمنطلق أساسي لمقاومة السلطة، مع التأكيد على “مشروع” التيار الذي ينادي به من تطبيق الشريعة الإسلامية، لكن بلا برامج مقترحة أو نظرة صالحة للتطبيق ولو في صورة طرح أولي كالذي طرحته جماعة الإخوان من “مشروع النهضة” أو البرامج السابقة عليه على سبيل المثال. وبعد انقلاب يوليو برز بالخطاب عودة الشرعية واتهام النظام بالعمالة وسفك الدماء بصورة أكبر من الحديث السابق عن تحكيم الشريعة الإسلامية كمرتكز أساسي سابق.

يتشابه الخطاب السياسي الجهادي مع التيار السلفي في المناداة الواضحة والصريحة بتطبيق الشريعة، ولكنه يزيد على ذلك حشد الناس ودعوتهم لقتال النظام كوسيلة وحيدة من وجهة نظره لإسقاطه وتطبيق الشريعة في تصور غاية في الطوباوية. وقد خلا الخطاب السياسي للتيار الجهادي من أي مشروع عملي نتيجة دخوله في صراع مسلح بإمكانيات قليلة لا تذكر مقارنة بإمكانيات النظام القائم، مما جعله يلقي بجميع ما يملك من إمكانيات في مقاتلة الدولة، دون اهتمام بمخاطبة الناس وإصدار خطاب سياسي متوازن.

وهناك خطاب المشروع الإسلامي الحضاري، الذي ينطلق من كون المشروع الإسلامي غير قابل للاستئصال؛ لأنه ليس مشروعاً سياسياً فحسب، وإنما ثورة شاملة وإصلاح واسع ومشروع أمة وليس مشروع دولة قومية أو قُطرية، وليس مشروع حركة ما أو شخص ما، والرؤية الكلية دون اختزال. ويدعو إلى الحركة الوطنية الجامعة المتصالحة مع التراث الإسلامي غير المعادية له.

وقد تشكل بعد الثورة ما يمكن أن نعرفه بالتيار الإسلامي الثوري، وهو ليس تنظيما بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما تيار عام اشترك المنضوون تحته في تبنيهم لخطاب يقوم على تبني الشريعة الإسلامية كمرجعية وللثورة كطريق للتغيير، وقد ضم هذا التيار شخصيات ومجموعات أبرزها حازم صلاح أبو إسماعيل، ومجموعات التيار الإسلامي الحر، والجبهة السلفية، وبعض المنشقين عن جماعة الدعوة السلفية وغيرهم من الإسلاميين. وقد انتقد التيار الإسلامي الثوري الإسلاميين الذين لم يتعاملوا مع المجلس العسكري نفس معاملة نظام مبارك، في نفس الوقت لم يعمل التيار الإسلامي الثوري على إسقاط حكم الرئيس محمد مرسي بل عمل على التقويم والترشيد والنقد له ولجماعة الإخوان وحزبها الحرية والعدالة، وكذلك السلفيون الذين ساروا وفق سياسات الإخوان، فكان النقد الموجه لهم يندرج تحت معارضة منهجهم الإصلاحي في التعامل مع المجلس العسكري، ولعدم انتباههم من وجهة نظر التيار الإسلامي الثوري لمحاولات المجلس العسكري الحثيثة لإجهاض الثورة.

  • الخطاب السياسي للتيار العلماني

أما خطاب التيارات العلمانية السياسي فيبنى على نقد فساد السلطات وانتهاكاتها الحقوقية، والمناداة بفصل الدين عن الدولة وتنحية الدين جانباً، والدعوة إلى الحرية المطلقة والمساواة بين الجنسين، على اختلاف بين التيار العلماني الذي من الممكن أن نسميه “الشرقي” المراعي للعادات والتقاليد المصرية، وبين “المنسحق” حضاريا للغرب والذي يتنامى في الصعود منذ قيام انقلاب 2013 وتصاعد موجة الإلحاد، فيدعو إلى الحرية غير المنضبطة بدين أو أخلاق، والمساواة المجردة غير المقيدة بالعدل الإلهي المراعي لخلقه “ألا يعلم من خلق”. يشترك التيار اليساري في الوصف السابق مع العلمانيين الليبراليين، إلا أنه يولي اهتماما أكبر لقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق العمال والفلاحين والموظفين والكادحين عموماً، مما يميزه عن بقية الخطابات بما فيهم الخطاب الإسلامي الذي يكاد يغفل تماماً هذه القضايا، بعكس مفكريه السابقين كسيد قطب الذي ألف كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام وقرر فيه أن الإسلام يفرض قواعد العدالة الاجتماعية، ويضمن حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، ويضع للحكم وللمال سياسة عادلة، ولا يحتاج لتخدير المشاعر، ولا دعوة الناس لترك حقوقهم على الأرض، ومن قُتل دون مظلمة فهو شهيد[4].

والخطاب السياسي العلماني مقارنة بالخطاب السياسي الإسلامي، هو خطاب منظم رغم عدم شعبيته الواسعة بين المصريين، ولكنه يكسب أرضاً جديدة يوماً بعد يوم، في ظل تشرذم التيارات الإسلامية من ناحية، والقمع الذي تلاقيه من سلطات الانقلاب العسكري من ناحية أخرى.

  • تحديات الخطاب السياسي المعارض والمقاوم

واجه الخطاب السياسي المعارض والمقاوم تحديات جديدة منذ اندلاع ثورة 25 يناير، بدأت هذه التحديات بالثورة نفسها والموقف من المشاركة فيها، فقد اضطرب الخطاب ما بين مانع من المشاركة منعاً للفتنة، وما بين معلن للمشاركة بقرار مهزوز وبشكل فردي وليس على المستوى الرسمي، وما بين مؤيد للمشاركة بكل قوة.

  • المرحلة الانتقالية

وشكلت المرحلة الانتقالية التي حكم مصر فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحدياً ثانياً، ووقع خطاب الأكثرية في خطأ تاريخي فادح بدعم المجلس العسكري وبالاعتراف بفضله في “حماية الثورة” -كما يزعمون- ورأى الخطاب السياسي الإسلامي في دعم المجلس العسكري مكسباً لهم أمام التيار العلماني الذي تقرب هو الآخر من المجلس العسكري في خطابه السياسي، في حين كان الخطاب السياسي الأقل هو ضرورة إسقاط المجلس العسكري بصفته مشاركاً أساسياً في “دولة مبارك”؛ بل ومن أهم أركان دولة مبارك العميقة، ومن أشهر من تبنوا هذا في ذلك التوقيت حازم أبو إسماعيل.

  • الاستقطاب

وكانت حالة الاستقطاب التي سادت المجتمع المصري هي التحدي الثالث الذي واجه الخطاب السياسي المعارض والمقاوم، وقد بلغ الاستقطاب السياسي أوجه في الانتخابات الرئاسية عام 2012، ثم زادت حدة الاستقطاب فوق حدتها أثناء فترة حكم الرئيس محمد مرسي القصيرة والتي لم تزد على عام، قبل أن ينقلب عليه وزير دفاعه عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو 2013.

  • انقلاب 3 يوليو

أما أكثر التحديات التي واجهت ولا تزال تواجه الخطاب السياسي المعارض والمقاوم على الإطلاق، فكان انقلاب 3 يوليو العسكري، إذ أصبح الخطاب بحكم الواقع هو السلاح الوحيد الذي تمتلكه التيارات المعارضة/ المقاومة في ظل عدم تكافؤ القوى بينها وبين سلطات الانقلاب، والتي تواجه الكلمة بالدبابة، مما يستلزم أكثر من أي وقت مضى أهمية ضبط هذا الخطاب وتطويره ليحقق أكثر فوائد مرجوة للمعارضة/ المقاومة؛ فالخطاب أحياناً قد يجزئ عن الفعل. وقد نزعت التيارات المعارضة/ المقاومة بعد انقلاب يوليو كثيراً إلى الخطاب الغاضب العشوائي، أكثر من بنائها خطاباً سياسياً له استراتيجية محددة.

  • ملامح الخطاب السياسي المعارض والمقاوم

’’ أية حركة فكرية وسياسية يجب أن تتوقف من آونة لأخرى؛ لتتأمل ذاتها وتجرد بعض الملامح والخطوط العامة لحركتها، حتى يمكنها أن تطور نفسها وأن تعمق أطروحاتها’’.

المسيري

ينطلق الخطاب السياسي المعارض والمقاوم من معرفة جيدة بالذات.. الذات الإسلامية التي تدرك جيدًا تفرد حضارتها واستقلالها، وامتلاكها لمشروعها السياسي الخاص، والذي لا ينحصر في مجرد أسلمة منتجات الحضارة الغربية، أو أخذها كما هي مع إضافة لفظ “الإسلامية” في آخرها.

وهو يرتكز على عقيدة راسخة في أفئدة حامليه بضرورة التغيير والإصلاح ووجوب ذلك على الأمة، داخل إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو ليس خطابا فارغا يعمل حاملوه بالسياسة للانتفاع المادي البحت، أو للبقاء تحت الأضواء، ولكنه رسالة وقول فصْل.

فهو بهذا الصدد يسير على ساقين، ساق السياسة، وساق الثورة، بل الثورة تقع في القلب منه؛ فهو ليس خطاباً كرتونياً أو بارداً أو بمعنى أصح منعزلاً عن تحريك الجماهير لنيل حقوقها وانتزاعها، وإنما خطاب وعي، سواء الوعي الآني المرتبط بالمستجدات السريعة والتعليق عليه وتوظيفها للاستفادة منها وتوعية الجماهير، أو الوعي الممتد الذي يهدف إلى ترسيخ القناعات وغرس عقيدة  التغيير بالخطب والمؤلفات والممارسات. فهما مساران يسيران سويا: الوعي الآني والوعي الممتد.

ومهمته في مرحلة المقاومة إيجاد المناخ الثوري العام في البلاد، وجس نبض الثورة في الشارع وفي وجدان المواطنين باستمرار؛ لإعلان التحرك في الوقت المناسب والتنبؤ بالتوقيت الصحيح لإشعال فتيل الثورة، أو لفعل ما يلزم وتكميل ما ينقص لتقريب انتفاضة الأمة.

وهو خطاب يقوم على النقد الذاتي، والتصحيح المستمر، والتقويم، وتطبيع سياسة الاعتراف بالخطأ؛ حتى تصير حالة مجتمعية وسياسية عامة.

  • مستويات الخطاب السياسي المعارض والمقاوم ومراحل الثورة

توجد ثلاثة مستويات من الخطاب السياسي بالنظر إلى موقعه من الثورة والحكم، فعند وجوده في المقاومة وفي سعيه الثوري لإسقاط السلطة المستبدة، يكون خطاب الثورة حاضراً ومسيطراً على المشهد، على أن يكون برؤية ومطالب وخطط. وعند بلوغه الحكم يتجه الخطاب إلى مسارين إضافيين..

أولهما دفع الثورة المضادة التي ستواجه أي ثورة سعياً إلى إجهاضها، فيقوم الخطاب السياسي المقاوم بتكملة الثورة إلى نهايتها بالقضاء على فلول النظام السابق وتطهير البلاد منهم تماماً، فأنصاف الثورات مقبرة الثوار كما قيل.

والثانية هي مواجهة “ثورة التوقعات”، أي توقعات الجماهير من النظام الجديد عبر مطالبة كل فئة بمطالبها الخاصة التي أجحف بها النظام القديم، وهذه المطالب الفئوية إذا لم يتعامل معها الخطاب السياسي برشد ستؤدي إلى إجهاد الثورة وانضمام فئات شعبية إلى صف الثورة المضادة. فيصدر الخطاب السياسي ما يشبه “وعد الثورة”، والذي يحتوي على خطة صادقة مؤقتة بتوقيتات محددة لتنفيذ هذه المطالب.

وكذلك الخطاب النوعي يكون حاضراً في الخطاب السياسي، مثل خطاب المعاش والعدالة الاجتماعية، وخطاب الحريات، وخطاب التوافق السياسي مع الفصائل الوطنية الصادقة، دون تنازلات غير ضرورية وبلا مداهنة غير مشروعة. ويدخل في الخطاب النوعي أيضاً مخاطبة الفئات الشعبية المتنوعة، كالشباب، والمرأة، والموظفين، والعمال، والفلاحين، والأطباء، والمدرسين… إلخ

  • معايير الخطاب السياسي المعارض والمقاوم

1/ النقد الشامل:

يُعنى الخطاب السياسي المقاوم بانتقاد السلطات في كل ما يصدر عنها من ممارسات سلبية في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والحقوقية والخدمية… إلخ، مما يصب في هدف نزع الشرعية عن النظام السائد، فشمولية النقد تلاحق النظام القائم دائماً وبصورة مستمرة ويومية.

2/ مصداقية المعلومات:

يتضمن الخطاب السياسي بث الأخبار والمعلومات من وجهة نظر معارضة، لا كما يقدمها النظام السائد بهدف تجميل وجهه، وذلك لاستخدامها كمادة لنقد النظام وإسقاط شرعيته؛ ويحرص على مهنية الأخبار المقدمة والمعلومات، حتى لا تفقد الجماهير الثقة في المقاومة نتيجة نشرها أخبار غير دقيقة، مع تسليط الضوء على الأخبار والمعلومات السلبية التي تتعلق بالنظام، وغض الطرف عن الإيجابيات التي لابد وأن تصدر من أي نظام قائم في إدارته الدولة، والتي يركز على إبرازها إعلام النظام والخطاب السياسي الصادر عنه وكذلك المؤيد له.

3/ تقديم الحلول:

طرح الخطاب السياسي المقاوم لخطط وحلول وبرامج مع إظهار أوجه تميزها وإثبات قدرتها على النجاح.. من شأنه أن يُكسب المعارضة ثقة الجماهير؛ كونها لديها أجندة ووعي بكيفية حل المشكلات، وليس فقط حركة معارضة لا تملك مشروعًا سوى الاعتراض والنقد. أو مجموعة شعارات فضفاضة كشعار “تطبيق الشريعة” دون تصورات مكتوبة وبرامج واقعية مستمدة من الخبرات الإدارية.

4/ غرس اليقين في قلوب الجماهير

الخطاب السياسي ليكون فعالاً يغرس في وجدان جماهيره اليقين بالقدرة على التغيير وضرورة الصبر في السعي إليه، حتى تظل الجماهير ملتفة حول المعارضة/ المقاومة ولا تمل من تأخر التغيير وصعوبته فتعرض عن الخطاب، وذلك بذكر نماذج نجاح المقاومة في التاريخ وفي الدول الأخرى، وما وصلت إليه شعوب من نجاح بعد تغييرها لنظم مشابهة.

5) مناسبة الخطاب للفئة المستهدفة

تحديد الفئة المستهدفة من الخطاب السياسي ينبني عليه اختيار الأسلوب المناسب لهذه الفئة؛ فقد تكون الفئة المستهدفة نظام الدولة، أو حزباً سياسياً مختلف التوجهات، أو قد يكون المستهدف الجماهير التابعة، أو شريحة عمرية معينة، أو خليطاً بين هؤلاء جميعاً؛ كما هو حال جمهور مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال.

6) تجلية المضمون

وذلك بالتركيز على الهدف من الخطاب وليس مجرد الحديث العام الخالي من الأهداف المعدة مسبقاً، والتأكيد على هدف الخطاب بعبارات مختلفة بنفس المعنى العام، وأن تكون هذه العبارات مصحوبة بالحجج والبراهين، وتضرب الأمثال ليظهر المعنى. فيحدد مُلقي الخطاب محاوره الرئيسية والرسالة التي يريد إيصالها إلى المستقبِل، وكذلك الأمور التي يريد تجنب الحديث عنها، والتي يمكن الحديث عنها ولكن تُغفل لثانويتها.

7) قوة اللغة

الخطاب السياسي شيء والتحليل السياسي شيء آخر، الخطاب السياسي يهدف إلى أن تستشعر مضمونه الجماهير، وذلك باستخدام اللغة القوية ذات الألفاظ الحاسمة، وبجمل بليغة ومبتكرة تؤثر في المستمعين وتحشدهم حول الأفكار؛ كأن يحوي الخطاب السياسي تسمية جديدة لحزب ما كتسمية حزب النور بحزب “الزور”، أو وصف سياسة ما كأن يقال النظام يدخل مع المعارضة في معركة “تكسير عظام”، وكاستخدام المصطلحات الحربية عند الحديث عن أحد السياسيين بأنه “رأس الحربة”، وآخر بأنه “الدفاع الجوي”، وهكذا. مع انتقاء عبارات تعلق بذهن الجماهير، مثل كلمة مارتن لوثر كينج عندما قال: “أنا لدى حلم”؛ فقد ذاعت الكلمة وأصبح السود جميعا يرددونها، وكذلك قول عبد العزيز الرنتيسى في إحدى خطبه رافعاً السلاح: “هذا هو الطريق” فقد انتشرت على لسان المقاومة وأصبح شعارهم “هذا هو الطريق”. وكشعار حملة حازم أبو إسماعيل في مصر “سنحيا كراماً”. وقوله لجماهيره: “عاهدوني ألا نرجع غنما نساق بالعصا”.

8) جاذبية الخطاب

أن يكون المحتوى مصحوباً بالصور اللافتة للانتباه، والإيقاع المؤثر في النفس، والمواد المتلفزة التي تقوّي الحجة وتكشف الحقائق، وذلك على مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات المجلات والكتب وغيرها من الوسائل، أو من خلال جهاز عرض الصور أثناء الخطاب في الندوات والمؤتمرات وغيرها.

9/ الاهتمام بمشكلات المواطنين

الخطاب السياسي الفعال يكون متضمناً لمشكلات المواطنين بما يليق بمقام الخطاب، وذلك ليلمس وجدان المستمع، ولئلا يشعر أن الخطاب بعيد عنه وغير متعلق به وأنه غير معني بالاستجابة له، أو يحس أنه صادر من شخص لا يعرف عن التحديات التي يواجهها الشعب شيئاً. فأحد أسباب الفاعلية إدخال مشكلات الفقر والبطالة وسوء التعليم والخدمات الصحية والمرور والغلاء والعنوسة، وأزمات المياه والغاز والكهرباء، ومشكلات الموظفين والفلاحين والعمال والصيادين، ومشكلات المحافظات كالصعيد وسيناء والنوبة… إلخ إدخالها في مضمون الخطاب السياسي.

11/ عدم المبالغة

يفقد الخطاب السياسي مصداقيته إذا تحدث بعيداً عن الواقع وبإمكانيات تفوق طاقته، فعندما تؤكد المقاومة الفلسطينية على إمكانية صمودها في وجه العدوان الصهيوني فهي تكتسب ثقة الشعوب، بخلاف لو تحدثت عن قدرتها الاسترداد الفوري لـ “تل أبيب” مثلاً. فيوجد فرق بين الأمنية والواقع الآني؛ فيُقدّم كل منهما في سياقه الموضوعي.

12/ الاعتراف بالأخطاء

إلى جانب التقويم المستمر، يجعل في قلوب المتابعين استقراراً بأن هناك خطاباً يسعى إلى التصحيح والتطوير، وأنه لا مكان للأخطاء وستقابل بالنقد الذاتي، فتكون النتيجة الوثوق بالخطاب ومضمونه ومرسِله.

13/ الوضوح الأيديولوجي

بعض الخطابات السياسية تستحي من الحديث عن الإسلام وترديد مصطلحاته ومفرداته حتى لا يقال عنهم رجعيون، وهذا أول طريق الفشل، فكيف يتصور أن يحمل حزب أو حركة أو تيار مشروعاً ويستحي أن يتحدث عنه ويذكر مفرداته على وجل، بعكس ما نرى من جرأة للعلمانيين والليبراليين، جرأة وصلت لمنادتهم بالاعتراف بالشذوذ الجنسي ومراعاة حقوق الشواذ، وحرية الزنا برضى الطرفين، وما شابه ذلك، فأصحاب الحق والعدل أولى بتبني قوي لشريعتهم ودينهم. وفي نفس الوقت دون تقديم خطاب أهوج غير منضبط ولا يراعي الزمان والمكان والحال.

خاتمة

الخطاب السياسي المعارض أو المقاوم، أي ما يلقيه المنشغلون بالعمل السياسي على مسامع الجماهير لإقناعهم بمشروعهم السياسي، يُعد أداة مهمة لاكتساب الشرعية ونزعها من النظام السائد. وبالنظر إلى مصر نجد خطابين بارزين للمعارضة، الخطاب الإسلامي والعلماني، بعد استبعاد من يقف خلف السلطة في صفوفهما، وقد واجه الخطاب السياسي المعارض والمقاوم تحديات بداية من ثورة 25 يناير ثم المرحلة الانتقالية ووصولا إلى انقلاب 3 يوليو.

ينطلق الخطاب السياسي المعارض والمقاوم من معرفة جيدة بالذات، وهو يرتكز على عقيدة راسخة في أفئدة حامليه بضرورة التغيير والإصلاح، وهو خطاب وعي، مهمته في مرحلة المعارضة/ المقاومة إيجاد المناخ الثوري العام في البلاد، وهو خطاب يقوم على النقد الذاتي.

توجد مستويات للخطاب السياسي، فعند وجوده في المقاومة وفي سعيه الثوري لإسقاط السلطة المستبدة، يكون خطاب الثورة حاضراً، وعند بلوغه الحكم يتجه الخطاب إلى دفع الثورة المضادة، ومواجهة “ثورة التوقعات”، أي توقعات الناس من النظام الجديد.

وللخطاب السياسي المعارض والمقاوم معايير، منها النقد الشامل، ومصداقية المعلومات، وتقديم الحلول، غرس اليقين في قلوب الجماهير، مناسبة الخطاب للفئة المستهدفة، تجلية المضمون، قوة اللغة، جاذبية الخطاب، الاهتمام بمشكلات المواطنين، عدم المبالغة، الاعتراف بالأخطاء، والوضوح الأيديولوجي.

يحتاج الخطاب السياسي المعارض والمقاوم -كما يرى مراقبون- إلى مزيد من التنظير والتطوير والتفعيل، وتنظيم وتوزيع أدوار بين المنضوين تحته، حتى لا يكون خطاباً عشوائياً رغم صدوره من مشكاة واحدة؛ فأزمة الفرقة والتشتت والتشظي التي تعيشها الأمة تنعكس على الخطاب السياسي الصادر عن مجموعها، بخلاف لو حدث تنسيق وتجميع وترتيب بين فصائل المعارضة والمقاومة، التي تواجه نظاماً مستبداً متماسكاً رغم ما يحدث بداخله من اختلافات، ولكنه يحرص على الترابط وألا يبدو منقسما؛ وهنا أستحضر مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “عجبت لجلد الفاجر وعجز الثقة”!

فالمطلوب -في نظر عدة خبراء- ليس الانصهار في بوتقة واحدة بقيادة واحدة، فهذا الأمر قد تجاوزه الواقع بخطوات واسعة حتى أصبح من الأمنيات بعيدة المنال، لكن على الأقل يسعى العاملون إلى توزيع الأدوار في خطابهم السياسي، والتنسيق فيما بينهم.. إنه تحدي الساعة أمام المعارضة/ المقاومة.. حينها من الممكن أن ننتظر خطاباً سياسياً راشداً، ويكون مؤثراً وقوياً وله الدور العظيم في تحريك الأمة لنيل حريتها والتصالح مع حضارتها.

[1] أمجد أبو العلا، الخطاب السياسي وأثره في تحريك الشعوب، مركز الوفاق الإنمائي، 2014م.

[2] الزواوى بغورة، مفهوم الخطاب عند ميشيل فوكو، ص٢48، ط. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٠.

[3] يعرف المسيري الخطاب السياسي الإسلامي بأنه “خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة من المهنيين والأكاديميين وطلبة الجامعات والتجار، ممن شعروا أيضاً بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة، وقد أدركوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف، تتبعها تنظيمات شبابية ومؤسسات تربوية، ويميل بعض حملة الخطاب السياسي إلى محاولة الاستيلاء على الحكم بالقوة، أما بعد عام 1965فيلاحظ أن ثمة اتجاهاً عاماً نحو العمل من خلال القنوات الشرعية القائمة، واهتمام حملة هذا الخطاب يكاد ينحصر في المجال السياسي والتربوي”. [معالم الخطاب الإسلامي الجديد، مجلة المسلم المعاصر، عدد ٨٦، 1998، لبنان] وذلك التعريف الذي كتبه د. عبد الوهاب المسيري في الثمانينيات من القرن المنصرم لا يجدّ عليه إلا بروز الحركات التي تريد الاستيلاء على الحكم بالقوة مرة أخرى، وتقديمهم لخطاب سياسي نذكر لمحة عنه فيما يأتي.

[4] العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص17.

زر الذهاب إلى الأعلى