طوفان الاقصيمراجعات

قراءة في عقل السنوار: ‘الشوك والقرنفل’ ملحمة النضال الفلسطيني

عندما يكون الأديب مقاومًا والمقاوم أديبًا!

رواية المقاومة والصمود في زمن الأسر:

عندما أقدم يحيى السنوار على كتابة روايته “الشوك والقرنفل”، كان ذلك في فترة سجن طويلة وأفق ضبابي حول مستقبله، إذ كانت قد صدرت عليه عدة أحكام بالسجن مدى الحياة، هذا الواقع القاسي منح الرواية طابعًا فريدًا، خاليًّا من الضغوط السياسية، أو توظيف الواقع الذي قد يؤثر في الروايات، التي تُكتب بعيدًا عن الأسوار في ظروف أكثر ملاءمة!

كان السجن بالنسبة للسنوار بمثابة مساحة للتفكير العميق والنفاذ إلى أعماق التجربة الفلسطينية، ما جعل روايته تعكس رؤية أصيلة غير متأثرة بالضغوط الخارجية، فكانت تجسيدًا صادقًا لمشاعره وأفكاره الشخصية.

تُعدُّ الرواية مرآة للأدب المقاوم، إذ تعكس الأزمات والتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، ويتناول النصُّ مسيرة المقاومة عبر الزمن، من النكبة حتى انتفاضة الأقصى، مما يتيح فهمًا عميقًا للتطورات السياسية والاجتماعية.

تعكس الرواية تجارب حقيقية، مما يجعلها مصدرًا مهمًّا لفهم الأدب الفلسطيني المقاوم وتأثيره على الثقافة والسياسة.

تُعدُّ رواية “الشوك والقرنفل” كذلك مرآة تعكس حياة يحيى السنوار وتجربته في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إذ يُقدِّم لنا نظرة متعمِّقة على معاناة الأسرى الفلسطينيين وصمودهم.

“صوت الكفاح”، هو الأدب الذي ينبثق من قلوب الشعوب المناضلة ضد الاحتلال أو القمع، والذي يهدف إلى توثيق محطات النضال والصمود ويُغذي الروح الثورية

 

الشخصية المحورية في الرواية، أحمد هي شخصية السنوار، تُجسِّد روح المقاومة الفلسطينية، إذ يعرض الكاتب بوضوح في ثنايا هذه الرواية، طبيعة معاملة الأسرى الفلسطينيين، ويُبرز السنوار فيها التفاوت بين الصمود الفلسطيني والقسوة التي يُواجهونها، فالرواية، إذًا، ليست مجرَّد سردٍ للأحداث، بل هي شهادة واقعية على قوة الإرادة والقدرة على الصمود تحت أقسى الظروف.

في السطور التالية، سنعرض كيف تناولت الرواية هذه الأفكار بعمق، مُفصِّلةً الأبعاد الإيمانية في النضال الفلسطيني وتطورات الصراع من النكبة حتى الانتفاضة، مُظهِرةً القوة والإرادة التي تحفز الأجيال على الاستمرار في مسيرة المقاومة.

مدخل:

1– تعريف أدب المقاومة:

أدب المقاومة، أو ما يُعرف بـ “صوت الكفاح”، هو الأدب الذي ينبثق من قلوب الشعوب المناضلة ضد الاحتلال أو القمع، والذي يهدف إلى توثيق محطات النضال والصمود ويُغذي الروح الثورية، من أبرز ممثلي هذا الأدب الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اشتهر بأعماله التي تسلِّط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني، مثل روايته “رجال في الشمس” التي تكشف عن مأساة اللجوء والنضال الفلسطيني ضد الاحتلال.

وتُعدُّ مؤلفات السجون جزءًا مهمًّا من التراث الإسلامي، إذ عُرف تاريخنا الإسلامي بمؤلفات بارزة خرجت من خلف قضبان السجون، تُجسِّد معاناة العلماء تحت وطأة الظلم، ومن بين هذه المؤلفات، نجد كتاب (المبسوط) للإمام السرخسي في القرن الخامس الهجري، والذي يُعدُّ من أبرز المراجع في الفقه الإسلامي، وكذلك يبرز في المعاصرين كتاب (ترجمان القرآن) لأبي الأعلى المودودي، الذي أثرى المكتبة الإسلامية برؤاه العميقة، كما تشمل هذه الفئة العديد من أجزاء تفسير (في ظلال القرآن)، مما يجعل مدونات السجون مساحة مهمة لمقاومة الطغيان.

2- تعريف أدب السجون:

يُعد أدب السجون أحد أفرع الأدب الذي يكتب من داخل الزنازين أو عن تجربة الأسرى، إذ يعبِّر عن مشاعر الحرمان والألم في ظل العزلة والظروف غير الإنسانية، ويقدم هذا النوع الأدبي رؤى معمقة عن النفس البشرية تحت الضغط، ويُظهر كيف يتحدى الأسرى القهر بالصمود والصبر.

3- تعريف أدب السيرة الذاتية:

أدب السيرة الذاتية، أو “أدب الذات”، يركِّز على حياة الكاتب وسرد تجاربه الشخصية، من خلاله، يقدم الكاتب أفكاره وتأملاته حول لحظات فارقة في حياته، هذا النمط الأدبي يمنح القرَّاء نظرة شخصية وعميقة إلى التجارب التي شكَّلت هُوية الكاتب.

ولقد جاءت رواية “الشوك والقرنفل” في ظل هذه الأنساق الأدبية الثلاثة، فهي تمزج بين روح المقاومة، وتجربة الأسر، وحياة الكاتب الشخصية، مما يجعلها عملًا أدبيًا ملهمًا، يجمع بين القوة والصمود، خاصة وأن كاتب الرواية، يحيى السنوار، ليس مجرَّد روائي، بل هو قائد للمقاومة في غزَّة، مما يكسب الرواية أبعادًا بطولية ورمزية، إذ تعبر عن رؤية قيادية تنبثق من أعماق تجربة نضالية حقيقية، ما يجعل “الشوك والقرنفل” رمزًا لارتباط الأدب بالواقع النضالي الفلسطيني، وانعكاسًا لأفكار قائد عاش النضال داخل السجون وخارجها!

1- تأصيل لتاريخ النضال الفلسطيني:

تسبر رواية “الشوك والقرنفل” أغوار الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال، وتعرض بتفصيل مدهش طقوس أفراحهم وأتراحهم، وعلاقتهم بالمنظمات التي تُقدِّم لهم المساعدات، وكذلك مدارسهم وألعاب أطفالهم، ومعمار بيوتهم غير المتكلَّف وأثاثها المتواضع، ومجموعة متنوعة من طعامهم وشرابهم، تُشعرنا الرواية بعمق معاناة الأمَّهات وخوفهنَّ عندما يُعتقل أبناؤهن أو يُسجنون أو يُجرحون.

وفي سياق موازٍ، تُظهر الرواية الممارسات القسرية التي يتبعها الاحتلال، إذ نرى الرقابة الصارمة المفروضة على الفلسطينيين، سواء من خلال دوريات التفتيش العسكرية، أو بواسطة العملاء المزروعين بينهم، وتفتح الرواية لنا أبواب التحقيقات والمحاكمات التي تشمل التعذيب، المعروف بـ “المسالخ”، وتكشف لنا تفاصيل استباحة البيوت وهدمها، واستغلال الاحتلال للشعب الفلسطيني من خلال فرض عمالة رخيصة في المصانع والمزارع والأسواق.

بذلك كلِّه تُسلِّط الرواية الضوء على حياة الفلسطينيين بكل تفاصيلها، فتظهر الرواية لمحة واسعة عن حياة الشعب الفلسطيني وصراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، مستعرضةً أيضًا التفاصيل الدقيقة لمخيم الشاطئ في قطاع غزة ومخيم خان يونس.

يقول عنه السنوار:” في كل يوم كان إبراهيم يزداد في نظري سموًّا واحترامًا، فهو الذي تربَّى يتيمًا من أبيه الذي استشهد وهو في الرابعة من عمره، ثم تركته أمُّه وهو لا زال صغيرًا، وتربَّى بيننا، وقد أصبح رجلًا عصاميًّا، وقائدًا حقيقيًّا رغم صغر سِنِّه، وصعوبة الظروف تحت الاحتلال”.

 

كما يقدم الراوي سردًا تاريخيًّا دقيقًا يتناول الأحداث في الضفة الغربية، والخليل والقدس، وكذلك التحديات التي واجهها الفلسطينيون في الأردن ولبنان.

ويتميَّز الراوي بقدرته على تقديم صورة شاملة عن تأثير الاستيطان على الحرم الإبراهيمي ومحاولات اقتحام المسجد الأقصى، موضحًا تفاصيل النضال المستمر للشعب الفلسطيني، وبذلك يقدم الراوي صورة حيَّة للواقع الفلسطيني على مرِّ عدة عقود، في ظل جهاده المبارك للمحتل سعيًا للتحرير.

2- عصامية أبطال الرواية انعكاس لعصامية المقاومة:

تُظهر الرواية عصامية أبطال القصة وتميُّزَ شخصياتهم، مثل شخصية ابن عمه إبراهيم، الذي تربَّى يتيمًا في بيته، وقاد حركة النضال رغم صغر سنه وصعوبة الظروف، وكان له دور كبير في حياة ونشأة السنوار، تُجسِّد العصامية في إبراهيم مثالًا حيًّا على الإرادة والصمود في مواجهة الاحتلال، ويُبرز الراوي دور إبراهيم في العمل الطلابي والنشاط السياسي، وعلاقته بالتطورات الاجتماعية في غزَّة، وبالرواية شخصيات أخرى أيضًا عُرفت بعصاميتها، كحسن أخي البطل، مما يعكس قدرة الفلسطينيين على النضال حتى في أحلك الظروف.

يقول عنه السنوار:” في كل يوم كان إبراهيم يزداد في نظري سموًّا واحترامًا، فهو الذي تربَّى يتيمًا من أبيه الذي استشهد وهو في الرابعة من عمره، ثم تركته أمُّه وهو لا زال صغيرًا، وتربَّى بيننا، وقد أصبح رجلًا عصاميًّا، وقائدًا حقيقيًّا رغم صغر سِنِّه، وصعوبة الظروف تحت الاحتلال”.

هكذا يزداد إبراهيم في الرواية في كل يوم سموًّا واحترامًا في نظر الجميع، فقد استشهد والده في إحدى معارك المقاومة، ثمَّ فقد أمَّه في صغره؛ ليواجه مصاعب الحياة تحت الاحتلال بمفرده، ومع ذلك، لم ينكسر، بل تربَّى بين أفراد المقاومة، واستطاع رغم قسوة الظروف وقلَّة الموارد أن يصبح رجلًا عصاميًّا وقائدًا حقيقيًّا.

إبراهيم في الرواية لا يجسِّد فقط القائد الشجاع، بل الإنسان الذي صاغته المحن ليكون رمزًا لعصامية المقاومة، تلك الروح التي ترفض الانكسار أمام محاولات الاحتلال، يُبرز هذا الجانب في الرواية قوة الإرادة الفردية حين تتجلَّى عصامية هؤلاء الأبطال في قدرتهم على الحفاظ على التربية الإسلامية والعمل المقاوم، مما يجعل الرواية شهادة حية على قوة وعصامية المقاومة الإسلامية.

وفي مقطع آخر يقول الراوي ما يؤكد عصامية المقاومة في حوار بين إبراهيم وبعض إخوانه: ” يجب أن نصنع السلاح على بساطته، ويجب أن نسعى لتطويره، في كل يوم لنزيد قدرته التدميرية، ونزيد مداه ونضرب به العدو الذي يمتلك كلَّ تلك القدرات العسكرية، وعلى رغم بساطة سلاحنا، وقلة حيلتنا فسنخلق بعون الله معادلة جديدة في الصراع، سنخلق توازنًا في عملية الرعب والردع؛ يقصفوننا فنقصفهم، ورضي الله عن عمر بن الخطاب إذ قال: والله لو لم أجد إلا الذرَّ لحاربتهم به، ونحن والحمد لله لدينا الكثير مما هو أفضل من الذرِّ!“.

الكاتب يُجسد الصبر في سياق إيماني أصيل، يُبرز كيف أن الصبر هو سمة من سمات غالبية هذا الشعب، الذي يواجه المحن والشدائد بإيمان راسخ

 

بذلك تُظهِر الرواية جانبًا مهمًّا من عصامية المقاومة، من خلال تصوير مراحل تصنيع السلاح في بداياته الأولى، وتنقل الرواية هذا الحوار بين المقاومين بضرورة العمل الجادِّ والجهد المستمر في تطوير الأسلحة، حتى وإن كانت البداية بسيطة ومتواضعة، إصرارًا من المقاومين على تحسين مدى الأسلحة وقدرتها التدميرية، لتحقيق معادلة جديدة في الصراع مع العدو المتفوق عسكريًّا رغم القيود وقلة الإمكانات، متبنين روح مقولة عمر بن الخطاب: “والله لو لم أجد إلا الذرَّ لحاربتهم به.”.

3- الأبعاد الإيمانية في الرواية:

تُعبر رواية “الشوك والقرنفل” عن أبعاد إيمانية عميقة تُجسد صبر الفلسطينيين في مواجهة معاناتهم، مُظهِرةً كيف أن الإيمان والصبر يشكلان محورًا أساسيًّا في حياتهم، من خلال تصوير حياة الفلسطينيين في المخيمات، حيث يعيشون بؤس الفقر وشظف العيش، يعكس يحيى السنوار عاطفةً جياشة تجاه المأساة التي يعيشونها، مُظهرًا في ذات الوقت قوة الإيمان التي تُمكنهم من الصمود.

الكاتب يُجسد الصبر في سياق إيماني أصيل، يُبرز كيف أن الصبر هو سمة من سمات غالبية هذا الشعب، الذي يواجه المحن والشدائد بإيمان راسخ، فالرواية مثلًا تُسلِّط الضوء على كيف أن المؤمنين في المخيمات لا يسمحون للمعاناة أن تُثنيهم عن التمسُّك بقيمهم ومبادئهم، بل يعتبرونها اختبارًا من الله يُثري إيمانهم ويقوي عزيمتهم.

في ذات الوقت، تتناول الرواية مسألة التمسُّك بالهوية الإسلامية رغم التحديات، فتتضح في الرواية باعتبارها قيمة إيمانية أصيلة، إذ يُبرهن الفلسطينيون من خلال نضالهم أنهم لن يتخلوا عن هُويتهم الإسلامية، مهما كانت الصعوبات.

تُجسِّد الرواية إجمالًا هذه الأبعاد الإيمانية، وتؤكد أن النضال ليس مجرَّد مقاومة عسكرية للاحتلال، بل هو تجسيد لإيمان عميق وثبات عليه، مما يجعل الصبر والدفاع عن المقدسات جزءًا لا يتجزأ من الهُوية الإسلامية والإرث النضالي.

تظهر الأبعاد الإيمانية في رواية “الشوك والقرنفل” من خلال تصويرها لحياة الكفاح والصبر في ظل الظروف الصعبة، وتعكس هذه الأبعاد عبر مشاهد شظف العيش والاعتماد على الإيمان والصبر دافعًا للمقاومة والبقاء، في مشهد يعكس واقع الحياة تحت الاحتلال، يتطرَّق النصُّ إلى دور وكالة الغوث في الكشف على الطلاب وتقديم المساعدات الغذائية لمن تظهر عليهم علامات الفقر وسوء التغذية، والطلاب الذين تُسجل أسماؤهم يحصلون على بطاقات (كروت) تخولهم تناول وجبة واحدة يوميًّا في مركز التغذية التابع لوكالة الغوث.

يقول السنوار إن وكالة غوث تكشف على الطلاب ” ومن يجد أن عنده فقرًا واضحًا في التغذية، وأن بنيته الجسمية ضعيفة بصورة مميزة، فإنه يسجل اسمه لديه، وبعد أيام يتم إعطاء هؤلاء التلاميذ (كروتًا) بطاقات تسمح لهم بتناول مرة واحدة في مركز التغذية (الصحة) التابعة لوكالة الغوث، في كلِّ يوم بين الحصص أو بعد انتهاء تلك الحصص ينطلق مئات الأولاد والبنات إلى الطعمة، نقف في طابور طويل ندخل واحدًا تلو الآخر، بعد المزاحمة والمدافعات“.

هذا المشهد يعكس الصراع اليومي في التكيُّف مع قسوة العيش، حيث يقف مئات الطلاب والطالبات في طوابير طويلة، يتزاحمون وينتظرون دورهم للحصول على وجبة يسيرة، تعينهم على مواصلة يومهم الدراسي!

في هذه الظروف نشأ السنوار وكثير من أبطال المقاومة؛ فزادتهم هذه المحن صلابة وقوة إيمان، كان ملازمًا لهم طوال رحلة النضال!

4- تحولات القضية الفلسطينية من النكسة إلى الانتفاضة:

يتناول هذا المحور كيف تطورت القضية الفلسطينية عبر العقود، من نكسة 1967 إلى انتفاضة الأقصى عام 2000. يركِّز السنوار على التغيرات في الأيديولوجيات السياسية، من القومية إلى الإسلامية، فالقومية الفلسطينية بدأت تعاني من الفجوات والصراعات الداخلية.

والرواية تُسلِّط الضوء على التحديات التي واجهتها الفصائل القومية مثل منظمة التحرير الفلسطينية، وكيف أن هذه التحديات ساهمت في ظهور فصائل جديدة،  وكيف أثَّرت هذه التحوُّلات على مسيرة المقاومة الفلسطينية مع بروز الفصائل الإسلامية المجاهدة على الساحة وعلى رأسها حركة حماس، والتي كانت انطلاقتها مع الانتفاضة الأولى نقطة تحوُّل في تعبير الفلسطينيين عن مقاومتهم في صورتها الجديدة، إذ تبرز الرواية انتفاضة 1987، وكيف أسهمت في تشكيل الوعي في غزَّة، كما تروي الأحداث المتعلقة بالانتفاضة والأثر الذي تركته على المجتمع الفلسطيني، مبينةً كيف أن المقاومة لم تكن مجرَّد ردِّ فعل على الظلم؛ بل هي جزءٌ أصيل من مسعى مستمر لاسترداد الحقوق وتحرير الأرض المقدسة.

وقد أظهر الكاتب كيف تمكن الفلسطينيون من تحويل هذه المكونات الإسلامية الجديدة لفواعل مؤثرة في المشهد الفلسطيني، وأثرها الواضح على المستوى الإقليمي والدولي.

في سياق التحوُّلات من القومية إلى الإسلامية، يأتي دور شيخ الزاوية المحوري في دعوة الشباب وربط الكفاح بقيم الإسلام في المسجد، يصف السنوار شيخهم قائلًا:

انطلق مستشهدًا بآيات من القرآن الكريم والحديث الشريف محذرًا من إضاعة الوقت في اللهو غير المفيد، والحث على الطاعة، وعبادة الله، وأداء الفرائض مذكرًا بنعم الله علينا محذرًا من الخسارة في الآخرة ومن عذاب جهنم رابطًا ذلك كلَّه بصورة لطيفة بمستقبل الإسلام، الذي يجب أن تعلو رايته في أرض فلسطين؛ أرض الإسراء والمعراج؛ حتى تتحرَّر الأرض وينعتق الخلق، وتنجح المساعي المبذولة..”

بذلك، يُظهر الشيخ كيف أن الدِّين الإسلامي ليس مجرَّد خلفية ثقافية فقط، بل هو المحرك الرئيس للكفاح والجهاد، مذكرًا الشباب بضرورة التزامهم به وسعيًا لتحقيق الهدف الأسمى بالتحرير الكامل.

في رواية “الشوك والقرنفل”، يكشف يحيى السنوار عن التأثير العميق للانفتاح الثقافي، من خلال تصوير التباين بين الفلسطينيين الذين بقوا في الأراضي المحتلة بعد عام 1948، وأولئك الذين هاجروا إلى غزَّة وغيرها من المدن الفلسطينية.

 

وفي مشهد يعكس التحوُّلات الجذرية في الوعي والمشاركة، يَظهر في أحد مقاطع الرواية رجل عجوز يُوقظ ابنه للمشاركة في مظاهرات تأبين الشهداء رغم وجود جنود الاحتلال.

يدخل الرجل العجوز إلى المنزل مهرولًا، ويقتحم غرفة ابنه الذي لا يزال نائمًا حتى بعد العاشرة صباحًا. بلهجة حازمة، ينادي عليه: “أنت لا تزال نائمًا! قم!”

ينظر الشاب إلى والده بدهشة، يفرك عينيه متسائلًا: “من هذا الذي يوقظني؟ أ. .. أبي؟! أبي الذي كان منذ أيام يرتعد هلعًا عندما يسمع أي حديث ضد الاحتلال، ويغلق علينا الباب ويمنعنا من الخروج؟ ماذا جرى في هذا الكون حتى يحدث هذا التحوُّل الخطير؟”

هذا المشهد يعكس التغيير العميق في القيم والمواقف الذي قد حدث داخل الشارع الفلسطيني تحت تأثير الأحداث الكبيرة، حيث يتغير موقف الناس من الخوف والجمود إلى الشجاعة والتصميم على مواجهة الاحتلال والمشاركة الفاعلة في النضال.

5- الانفتاح الثقافي وتداعياته على المجتمع الفلسطيني:

في رواية “الشوك والقرنفل”، يكشف يحيى السنوار عن التأثير العميق للانفتاح الثقافي، من خلال تصوير التباين بين الفلسطينيين الذين بقوا في الأراضي المحتلة بعد عام 1948، وأولئك الذين هاجروا إلى غزَّة وغيرها من المدن الفلسطينية.

يعكس التصوير الأدبي للقصة كيف أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة تأثَّروا بالثقافات المحيطة، مما أدَّى إلى ظهور انفتاح نسبي، مقارنة بأقرانهم في الضفة الغربية وقطاع غزَّة.

“الشوك والقرنفل” تُلقي الضوء على هذا الجانب، وكيف أن التفاعل مع ثقافات متنوعة وأطراف متباينة يمكن أن يؤدي إلى تغييرات في الشخصيات والأيديولوجيات لدى فئة من الناس، وتجعلنا نتأمل في التحديات التي تواجه الهُوية الفلسطينية.

أثر الانحرافات الأخلاقية في سياق الصراع:

في سياق عرض الرواية وتناول سلبيات المجتمع وتأثيرها على الشخصية، يظهر بوضوح التأثير السلبي الذي تتركه الانحرافات الأخلاقية على الأفراد والمجتمع، ففي ظل الظروف الصعبة، لا تتوقَّف الأمور عند مجرَّد مظاهر التغيير، بل تتعدَّاها إلى أن يصبح بعض الأفراد جواسيس يستغلُّون نفوذهم لتحقيق مصالحهم الشخصية.

فمثلًا، يظهر في المجتمع أفراد قد تحوَّلوا إلى شخصيات مشبوهة، حاملين المسدسات ويتجوَّلون بها في الشوارع، ويستخدمون موقعهم في مكتب المخابرات الإسرائيلية لابتزاز الناس من أجل قضاء مصالحهم، هؤلاء الأفراد يفرضون عمولات مقابل خدماتهم، مما يُعزِّز من استغلالهم لضعف الناس وحاجاتهم.

على الصعيد الأُسري، تظهر المشكلة بوضوح أكبر، حين يعود حسن ابن عم البطل إلى المخيم بعد انهيار شركته مع عشيقته اليهودية التي طردته، يعود وهو يحمل معه عبء الخيانة والانحراف، ليصبح أكثر شبهًا باليهود من أبناء وطنه، مما يجعله غير مرحَّب به، ويؤدي إلى نفور عائلته منه!

هذه السلبيات تُسلِّط الضوء على التأثير السلبي للتحوُّلات الأخلاقية والفردية في سياق الصراع، وتُبرز كيف يمكن أن تؤدي الظروف الاجتماعية والسياسية إلى تفشِّي الفساد والانحراف، مما يستدعى بذلَ جهدٍ تربويٍّ موازٍ للعمل المسلَّح المقاوم.

في الرواية يُعالج الكاتب تداعيات هذا الانفتاح على المجتمع الفلسطيني بأسلوب أدبي عميق، يعكس الصراع الداخلي الذي يعيشه الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال، ويرسم الكاتب صورة واقعية لأثر الانفتاح على العمال الفلسطينيين الذين يجبرون على العمل داخل الأراضي المحتلة، حيث يتعرَّضون لعالم جديد يختلف جذريًّا عن عاداتهم وقيمهم.

يقول الراوي: “هناك في داخل الأرض المحتلة يلتقي العمال الفلسطينيون بعالم جديد له عاداته وأعرافه وقيمه المختلفة تمامًا عن عادات وأعراف وقيم شعبنا. الغالبية العظمى من هؤلاء العمال لا تتأثر بذلك بل تنظر إليه بازدراء واحتقار، ولكن بعض الشبان المتفلِّتين يتأثرون بذلك؛ فتجد أن أحدهم قد بدأ بشرب الخمر، وتردَّد على أوكار الزانيات والملاهي والمراقص. وفي حالات نادرة تجد أن أحدهم قد صادف فتاة يهودية وتطورت علاقته بها وأصبح يحبُّها ويعيش معها وفقًا لقيم وعادات مجتمعها“.

الكاتب هنا يُظهر أن الغالبية العظمى من هؤلاء العمال تتعامل مع هذا الانفتاح الثقافي بحذر وريبة، بل وحتى بازدراء، إذ يحافظون على هُويتهم في وجه العادات الغريبة والقيم الدخيلة، التي يحاول المجتمع المحتل فرضها، هذه الفئة من العمَّال ترفض الانصهار الثقافي وتتمسَّك بموروثها الثقافي والديني، باعتبار ذلك جزءًا من مقاومتهم اليومية ضد محاولات طمس الهُوية الفلسطينية.

ومع ذلك، لا يخلو المشهد من بعض حالات التأثُّر السلبي، خاصَّة بين الشباب المتفلِّتين الذين ينجرفون نحو الانحلال الأخلاقي تحت تأثير الانفتاح الثقافي المغري، يظهر في الرواية بوضوح كيف أن بعض هؤلاء الشبان يبدأون بتبني عادات المجتمع المحتلِّ، مثل شرب الخمر والتردُّد على أماكن الفساد واللهو، مما يعكس ضعفًا أخلاقيًّا وانفصالًا عن القيم الدينية.

وفي حالات أكثر تطرفًا، يصور الكاتب بعض الشبان الذين يصل بهم الانجراف إلى إقامة علاقات مع فتيات من المجتمع المحتلِّ في بيئة تختلف كليًّا عن البيئة الفلسطينية.

لقد كان هؤلاء الجنود يُجسِّدون في سلوكهم حبَّ الشعب المصري لفلسطين وقضيتها، إنها يد شعب مصر الداعمة والمُحبَّة التي تُشعر الفلسطينيين بالأمان والاحتواء، لقد منحه الجنود المصريون نوعًا من الطمأنينة والرعاية في ظلِّ واقع المخيم الصعب

 

بذلك تتجلَّى تداعيات الانفتاح الثقافي؛ فالرواية مرآة تعكس التحوُّلات التي يمرُّ بها المجتمع الفلسطيني، بين الصمود في وجه التغريب وبين حالات الضعف والانجرار إلى مسالك تخالف قيمه الدينية وأعرافه.

وفي النهاية تبقى مشاهد الرواية الخاصة بهذا السياق، دعوةً للتأمل في كيفية مواجهة الانفتاح الثقافي بعقل واعٍ وإرادة قوية، للحفاظ على قيم المجتمع الفلسطيني وهُويته الإسلامية، إنها صورة صادقة لواقع لا يخلو من الأشواك، ولكنها أيضًا لا تخلو من أزهار القرنفل التي تنمو بين الشوك، رمزًا للأمل والمقاومة المستمرة!

6-حبُّ المصريين لفلسطين وقضيتها في “الشوك والقرنفل”:

في مشهد يعكس تأثير الجنود المصريين على تكوين شخصية الراوي يقول السنوار :

كان الجنود المصريون في ذلك المعسكر يحبوننا كثيرًا، أحدهم تعرَّف علينا وعرفنا بالأسماء، فإذا ما أطللنا نادى علينا .. محمد .. أحمد … تعالوا هنا … فنذهب إليه ونقف إلى جواره .. في انتظار ما سيعطينا كالعادة؛ فيمد يده إلى جيب بنطاله العسكري ويخرج لكلِّ واحد منا قطعة من حلوى الفستقية، يلتقط كل واحد منا قطعته ويبدأ بقضمها بنهم شديد، يُربت ذلك الجندي على أكتافنا ويمسح على رؤوسنا ويأمرنا بالرجوع إلى البيت؛ فنبدأ بجرجرة أرجلنا عائدين في طرقات المخيم“.

لقد كان هؤلاء الجنود يُجسِّدون في سلوكهم حبَّ الشعب المصري لفلسطين وقضيتها، إنها يد شعب مصر الداعمة والمُحبَّة التي تُشعر الفلسطينيين بالأمان والاحتواء، لقد منحه الجنود المصريون نوعًا من الطمأنينة والرعاية في ظلِّ واقع المخيم الصعب، من خلال الحلوى اليسيرة ولمسات الحنان، بنى الراوي علاقة خاصَّة بمصر وشعبها، الذين مثَّلوا له صورة مؤقتة من الحماية والاحتواء، بعيدًا عن مشاهد الحرب والدمار التي أحاطت به.

هذه اللحظات لم تكن مجرَّد لقاءات عابرة، بل كانت أساسًا لنظرة الراوي المستقبلية تجاه المقاومة، إذ تعلم أن القوة ليست مجرَّد مواجهة مباشرة، بل أيضًا في تلك اللمسات اليسيرة التي تدفع الإنسان لمواصلة الطريق، حتى في أحلك الظروف.

هو مشهد على كلِّ حال مختلف تمامًا عما ظهر مؤخَّرًا مع بداية أحداث طوفان الأقصى من ضرب الجنود المصريين لفتى هارب عبر الحدود بلا رحمة! مما يعكس تحولًا مؤسفًا في سلوك الجنود، لا يخفى على متابع، لولا بقية من أهل الخير رأيناهم في الجنود المصريين؛ مثل  الجندي المصري البطل محمد صلاح.

بذور الصمود: كيف شكَّلت الحرب وعي الراوي منذ طفولته:

يصادفنا نصٌّ في بداية الرواية له دلالة عظيمة؛ قال فيه الراوي: “بدأت الشمس بالغياب وضوء النهار يتلاشى والظلام يزداد في الحفرة التي أوينا إليها، وبدأ الخوف يتسرَّب إلى نفوسنا نحن الصغار؛ فبدأنا نتصايح ونتدافع للخروج، وأمِّي وزوجة عمي تمنعاننا، ثم نحاول الخروج؛ فتصرخان: يا أولاد الدنيا حرب، ألا تعرفون معنى الحرب؟! حينها لم أكن أعرف معنى الحرب، ولكنني عرفت أنها شيء مخيفٌ غير عادي ومظلم وخانق“!

هنا يظهر من النَّصِّ ارتباطُ الراوي بالحرب منذ طفولته، حينما بدأت بوادر وعيه تتشكَّل في ظل تلك الظروف القاسية؛ فصرخات أمِّه وزوجة عمه: “يا أولاد، الدنيا حرب، ألا تعرفون معنى الحرب؟!”  كانت هذه الكلمات بمثابة جرس إنذار في عقل الراوي، ليس بمعنى الخوف، بل بصفته بداية لفهمه طبيعة الحرب ومعانيها.

لقد مثَّلت هذه التجربة أولى خطوات الراوي نحو اكتشاف قوَّته الداخلية، حيث بدأ بتعلُّم مواجهة المخاطر بروح ثبات وبعزم الناجين، حتى وإن لم يدرك في تلك اللحظة معنى الحرب، إلا أن احتكاكه المبكر بتلك الظروف أعدَّه للتعامل مع التحديات والصراعات بحسٍّ قوي وفطرة سليمة، تلك القوة التي سترافقه لاحقًا في معاركه القادمة، وتغذي فيه روح المثابرة والصمود أمام الصعاب.

إذن، يُظهر النصُّ كيف أن اللحظات الأولى مع الحرب لم تكن مجرَّد خوف عابر، بل كانت درسًا مبكرًا في بناء النفس وتجهيزها لمواجهة الواقع القاسي، لتصبح هذه التجربة الطفولية بمثابة أساس راسخ لروح التحدي والإصرار شحذت عزيمته وعمَّقت إدراكه للحرب.

الجَدُّ الحاني: زارع الصبر ومورث الأمل:

في عالم الشخصيات تُظهر الرواية أيضًا شخصية الجَدِّ الصلبة، يقول عنه السنوار: ” مرت الأيام وأبي وعمي لم يعودا ولم نسمع عنهما أي خبر جدي، وأمي وزوجة عمي لم يتركوا واحدًا أو واحدة يمكنهم أن يتوجَّهوا إليهم بالسؤال عنهما إلا وسألوهما دون جدوى، وهمُّنا كان مثل هم الكثير من الجيران؛ فالمفقودون من جنود جيش تحرير فلسطين أو من رجال المقاومة الشعبية كانوا كثرًا. والحيُّ ككلِّ المناطق في الضفة والقطاع كان في حالة من اليأس والإحباط والفوضى والناس لا يدرون ما يفعل بهم؟!

مع كل صباح كان جَدِّي يتناول عصاه (عكازه) ويخرج باحثًا عن ولديه سائلًا من يعرف ومن لا يعرف عنهما، حتى ينهكه الإرهاق والتعب، وأمي وزوجة عمي التي لم تغادر دارنا منذ انتهاء الحرب إلى بيتهم، تجلسان في جوار الباب في انتظار عودته بخبر جديد، وهما تحترقان من الخوف والقلق من المصير المجهول لزوجيهما، وأخوتي وأخواتي وأبناء عمي كانوا يدركون ما يحدث جيدًا“.

تبرز شخصية الجَدِّ في الرواية رمزًا للإيمان والصبر في خضم الأيام الحالكة التي مرَّ بها، إذ تُجسِّد ذلك الصبر في رحلة بحثه اليومية عن أبنائه، والذين اختفى أحدهما في ظروف غامضة، وهو أبو البطل، ففي كلِّ صباح جديد، ينهض الجَدُّ بمثابرة، مستندًا على عصاه التي تتجاوز كونها مجرَّد أداة دعم، لتصبح رمزًا لعزيمته التي لا تعرف الكلل، يتنقل في الشوارع المتربة، يطرق أبواب الجيران، ويسأل كلَّ مَن يمرُّ في طريقه، في تجسيد حقيقي لما يعنيه الإيمان الثابت في مواجهة المحن.

تلك الرحلة التي يقوم بها الجَدُّ تكشف عن عُمق صبره، حيث يستمرُّ في السعي بلا توقُّف، متحديًّا الفوضى والقلق الذي يعمُّ أرجاءَ الحي، كلُّ خطوة يخطوها، وكلُّ باب يطرقه، هو تجسيد لقوة الإيمان التي تدفعه للاستمرار رغم كلِّ الصعاب، إرهاقه وتعبه لا يعدوان كونهما شهادة على قوَّة روحه وصبره، وحبِّه العميق لأبنائه الذي يتجاوز حدود الشقاء.

وفي المقابل، تجلس زوجات أبنائه، لم تبرحا المنزل منذ انتهاء الحرب، يجلسان في جوار الباب في انتظار أي خبر جديد، هذا الانتظار المؤلم هو تجسيد لعمق إيمانهما وصبرهما، يتحملان القلق والخوف من مصير أحبائهما بصمت وصبر يحدوهنَّ أملٌ في العودة.

وفي قلب هذا المشهد، يأتي الصغير، الذي رغم قلة إدراكه للتفاصيل، إلا أنه يذكر هذه التفاصيل التي تنحت شخصيته القوية، فالجَدُّ وأفراد العائلة يقدمون مثالًا حيًّا لقوة الروح والإيمان والثبات والعزيمة، وهكذا يتجلَّى الجَدُّ في الرواية مثالًا وأنموذجًا للعزم الذي لا ينطفئ، ومورثًا للأمل الصامد، الذي يرثه السنوار والأجيال القادمة؛ من أجل مواصلة البحث عن سبل التحرُّر!

ويكمل السنوار مع الجَدِّ قائلًا: “كثيرًا ما استيقظت مع بزوغ الفجر على صوت جَدِّي، وهو يدعو بدعواته المعتادة أثناء وضوئه، كنت أستمتع بذلك الصوت وبتلك الدعوات العذبة، ثم أتمتَّع بصوته وهو يقرأ الفاتحة ثم شيئًا من القرآن الكريم في ركعتي فرض الفجر بصوت مسموع، ثم بدعاء القنوت، وبدأت مع تكرار الأيام أكاد أحفظ ما يُردِّده الجَدُّ: اللهم اهدني فيمن هديت“.

في هذا النصِّ، يظهر البعد الإيماني العميق الذي بثَّه الجدُّ في حياة السنوار، فعند استيقاظ السنوار مع بزوغ الفجر، يكون الجَدُّ في أوج تجليَّاته الإيمانية؛ فالعبادة مكوِّن رئيسٌ في شخصية الجدِّ يراه السنوار كلَّ صباح، إذ يبدأ يومه بدعواته المعتادة أثناء وضوئه.

هذا المشهد يُشكِّل بداية صباحية مركوزة في وجدان الراوي، وتجسيدًا لحالة الطمأنينة التي يبعثها هذا الإيمان في النفوس، والتي أحبَّها السنوار.

تكرار دعاء: “اللهم اهدني فيمن هديت”، يعكس عزيمة الجَدِّ على التمسُّك بالثقة بالله أن يهديه لما يحبُّه من الدِّين، ومن أمور الدنيا، التي صعُب أمرها خلال الحرب، ويبرز من خلالها كيف أن هذه العبادات اليومية قد أثَّرت بشكلٍ عميقٍ في تشكيل شخصية الراوي، لقد شهد السنوار في جَدِّه نموذجًا حيًّا لمثابرة الروح وعمق الإيمان، مما شكَّل أساسًا قويًّا لدعمه وتوجيهه في مسيرته المقبلة.

وما نراه في الواقع اليوم خلال معركة “طوفان الأقصى” هو امتداد لهذه الروح التي تجسدها الرواية، حيث ظهر جيل من الرجال الذين لم تثنهم ويلات الحروب ولا فقدان الأحبة عن الصمود، مثل هؤلاء الآباء والجدود الذين لا يزالون يقاومون، سواء على الثغور أو من بيوتهم، ويقاومون الاحتلال رغم اعتداءاته المستمرة، في لحظات المعركة، نرى الشيوخ يقفون كالجبال، لا يخشون القصف والقتل، محمولين بإيمانهم وعدالة قضيتهم، تمامًا كما كان الجَدُّ في الرواية مثالًا للأمل الذي لا ينكسر!

عُمق تضحيات الأمِّ الفلسطينية وميلها للنضال: 

في الرواية يتجلَّى دور الأمِّ الفلسطينية المكافحة بشكل بارزٍ من خلال النصِّ التالي:

بدأ محمود وحسن تولي مسئولية إعالة الاسرة، يعودان من المدرسة عند الظهر يضعان حقيبتيهما المصنوعتين من القماش، تضع لهما أمِّي الغداء مع باقي إخوتي وأخواتي وابني عمي، ثم تبدأ المحاضرة طويلة وهي توجههما كيف يسيران في الطريق، وكيف يشتغلان بإخلاص، وكيف ينظفان المكان وكيف وكيف … ثم تربت على كتفيهما وتودعهما بخطوات إضافية خارج الباب، وقبيل غروب الشمس تستقبلهما استقبال الفرسان الفاتحين، وهكذا جرت الأمور بدفع خالي لوالدتي ما كان يدفع لها من قبل، وكأنه أجرة عمل محمود وحسن اللذين لم يكونا يفعلان شيئاً يُذكر عند ذهابهما يوميًّا إلى مصنع خالهما!“.

يظهر من النصِّ كيف تولى محمود وحسن (إخوة البطل)، رغم صغر سنِّهما، مسؤولية إعالة الأسرة في ظل ظروف صعبة؛ فأطفال فلسطين ولدوا رجالًا، فعقب عودتهم من المدرسة يُكملون الكفاح بعمل يدرُّ دخلًا للأسرة.

ويبرز هنا دور الأمِّ في توجيههم وتربيتهم على تحمُّل المسؤولية، لقد كانت مصدرًا للإلهام والدعم والتوجيه، فهي لا تكتفي بإعداد الغداء لأبنائها فقط، بل تسعى أيضًا إلى تعليمهم القيم الأساسية للعمل الجاد.

تربت على كتفيهما وتوجههما إلى كيفية التعامل مع التحديات، مما يعكس قدرتها على تعليم أبنائها القيم اللازمة لتحمل المسؤولية منذ صغرهم، في ظل قسوة الحياة اليومية التي تواجهها الأسرة، ثم تستقبل الأم أبناءها عند غروب الشمس وكأنهم فرسان فاتحين، فرحة معتزة بجهودهم وتفانيهم في العمل.

من خلال النصِّ، يتضح أن الأم الفلسطينية في الرواية تتسم بالقوة والإيثار، تبثُّ في أبنائها روح الكفاح، إذ تحارب مِن أجل توفير حياة كريمة لأبنائها وتعليمهم وتربيهم على تحمل المسؤولية رغم الصعوبات التي يواجهونها.

وفي نصٍّ آخر معبِّر، يُظهر عمق تضحيات الأم الفلسطينية وميلها للنضال، في الموقف الذي تواجه فيه الأمُّ زوجَ ابنتها ابن عمه إبراهيم، أحد أبطال الرواية والمنخرط في صفوف المقاومة، عندما عثرت في أدراجه على مسدس، في موقف تجسيد للقلق العميق الذي تشعر به حيال سلامة زوج ابنتها، فيخبرها بوضوح أنه اختار هذا الطريق ولن يتنازل عنه، وبدلًا من التمسك بالخوف أو محاولة إيقافه، اختارت أن تُعبِّر عن دعمها بكلمات مؤثرة:

قالت وهي تغالب دموعها: أنت حرٌّ يا إبراهيم ولن يمنعك أحدٌ مِن فعل ما تريد، الله يحميك، الله يحميك، ثم أخذت بيده ونزلت معه السلالم وأعطته مسدسه ملفوفًا بقطعة قماش!“.

من خلال هذه الكلمات، تؤكِّد الأمُّ على احترامها لقرار نضاله والذي صادف في نفسها ميلًا، رغم القلق الذي يعتريها!

إنه موقف يعكس طبيعة النضال الذي لا ينفصل عن شخصية الأمِّ الفلسطينية، إذ تدمج بين التضحيات والدعم الكبير لأفراد أسرتها، فهي تتقبَّل اختياره بصدرٍ رحب، بل تدعمه! حتى وإن كانت هذه الاختيارات تتطلَّب تضحيات كبيرة!

فتسليمها للمسدس الملفوف بقطعة قماش هو تعبير رمزي عن استعدادها لدعمه ومساندته، في شجاعة غير مستغربة على الأم الفلسطينية!

ومن خلال هذا النصِّ، تُقدِّم الرواية صورة حيَّة للأم الفلسطينية مثالًا للنضال والتفاني، إذ تُوازن بين الحبِّ العميق لأبنائها وبين انتمائها لقضيتها واستعدادها للتضحية من أجلها، فهي تجسيد للروح النضالية العظيمة، التي تُعدُّ ركنًا أصيلًا في الشعب الفلسطيني، تجمع بين الحبِّ الفطري والتفاني في سبيل قضيتها!

إن كلماتها تصدر منها رغم الحزن والدموع، لتبرز مدى النبل والإيثار الذي يميزها، وهي تحتضن أحلام أبنائها وتشاركهم قضاياهم الكبرى مهما كانت ضريبة ذلك!

وفي نصٍّ بليغ يرويه السنوار عن الأمِّ الفلسطينية على لسان ابن عمِّه المقاوم، يتجلَّى الدور البطولي والثبات لديها في خضم الصراع المستمر، يقول: “إن أمهاتنا ونساءنا الذين يدفعون الثمن من أرواح أبنائهنَّ ومن بيوتهنَّ ومن أغلى ما يملكون، لم تنطق أحدهنَّ بكلمة تدلُّ على التعب، ألم ترَ في كلِّ مرة أن أمَّ الشهيد تهتف أنها مستعدة للتضحية بإخوته الآخرين في سبيل القدس والأقصى!“.

هذا النصُّ يُبرز الإيثار والثبات اللذين تتحلَّى بهما الأُمَّهات الفلسطينيات، فهنَّ يواجهن التحديات والآلام التي لا يطيقها غيرهنَّ بصبرٍ يفوق التصوُّر، إن تحملهنَّ للفقدان العظيم هو تعبير عن عمق إيمانهنَّ بالقضية، إذ يتحول ألم الفقد إلى شعلة من الثبات والإصرار والنضال.

الصورة التي يقدمها النصُّ تبرهن على أن الأمهات الفلسطينيات لا يلتزمن الحزن الفطري، بل يتحول هذا الحزن إلى قوة دفع نابعة من إيمان راسخ بعدالة  قضيتهنَّ وشرعيتها، فكلُّ أمٍّ شهدت غياب فلذة كبدها، تجد في تقديم المزيد من التضحيات تلبية لنداء الجهاد، ويُثبتن عبر مواقفهنَّ العظيمة أن صبرهنَّ ليس مجرَّد ردِّ فعل، بل هو جزءٌ لا يتجزأ من مشروع نضالي كبير، هنَّ فيه صاحبات دور أصيل لا يقل عن دور المجاهدين في الميدان، حين ترى الأم الفلسطينية وهي تودِّع ابنها الشهيد، تتحدث عن استعدادها للتضحية بإخوة الشهيد الآخرين إذا تطلَّب الأمر، في تجسيد حي لمعنى التضحية الكاملة.

إن الصمود الذي تجسده هذه الأمهات هو شهادة على عمق إيمان الأمِّ الفلسطينية وشدَّة صبرها التي تتجاوز حدود الاحتمال، في قوة يقين يعمر قلوبهنَّ، لقد أصبحن رموزًا للثبات والعزيمة التي لا يقهرها الاحتلال.

بهذا النصِّ، يثبت السنوار كيف أن الأمهات الفلسطينيات يشكلن العمود الفقري للنضال الفلسطيني، وبهنَّ يقوى صلب المقاومة، إذ تتحوَّل معاناتهنَّ إلى قوة إلهام للمجتمع الفلسطيني بأسره، وركيزة أساسية في معركة التحرُّر والفداء.

وفي مشهد آخر عميق المعاني، يتجسَّد حبُّ الجهاد والشهادة لدى الأمِّ الفلسطينية، وذلك من خلال وداعها المؤثِّر لابنها المتَّجه لتنفيذ عملية نضالية.

إنها أمُّ نضال المجاهدة الكبيرة المعروفة بخنساء فلسطين، تعبِّر بكلماتها المليئة بالدعاء والإلهام، عن استعدادها الكامل لتقبُّل أي تضحية من أجل قضيتها العادلة.

تبدأ الأمُّ كلماتها بالدعاء القلبي لابنها الذاهب لتنفيذ عملية: “وفقك الله يا ولدي، وفقك الله وسدَّد مراميك“، مما يعكس إيمانها العميق وثقتها في عون الله وخضوعها له. في تلك اللحظة، يتجلَّى إيمانها القوي؛ ليس فقط من خلال دعائها، بل أيضًا من خلال تسليمها الكامل لقدره، وهو ما يعبِّر عن رضاها التامِّ بقضاء الله وخضوعها العميق لإرادته سبحانه، هي تدرك تمامًا أن النصر والتوفيق بيد الله وحده، وأن كل خطوة يخطوها ابنها هي في سبيل الله.

تحتضن الأمُّ ابنها، وتقبِّلُه ويقبِّلُ يديها ورأسها، وتُضيف إلى ذلك قُبلة على بندقيته، في حركة رمزية لمساندتها وتأييدها الكامل، في هذه اللحظة الحانية، تتجلَّى الأمُّ ليس فقط رمزًا للحبِّ، بل رمزًا لدعمٍ لا يتزعزع، وتظهر جاهزيتها لمشاركة كلِّ لحظة من لحظات الفراق، بما في ذلك الأوقات التي قد تكون مليئة بالقلق والخوف خلال القتال.

توصي أمُّ نضال ابنها بعبارات مشحونة بالعزم والتصميم: “إذا اقتحمت فلا تتردَّد ولا تلتفت للوراء يا ولدي، ولا يأخذك بهم رأفةٌ في دين الله يا حبيبي“، هذه النصائح تعكس عمق إيمانها بقراره فهي جزءٌ منه، وتُعبِّر عن رغبتها في أن يواجه التحديات بشجاعة وثبات، دون أن يتأثر بالمشاعر أو الندم.

تضيف الأمُّ بعدًا روحيًّا إيمانيًّا إلى وداعها حين تقول: “وإلى اللقاء في جنة الخلد عند الحبيب المصطفى“، وهو أمل يُعزِّز من عزيمته.

ينحني الابن لتقبيل يد أمِّه، ثم ينطلق قائلًا: “أبقي الهاتف النقال مفتوحًا إلى جوارك فسأودِّعك الوداع الأخير من هناك“، إنها الرغبة في الوصال، حتى وهو يتَّجه نحو الموت، هو يقدِّر دعمها ويشعر بأهمية تواصلها في تلك اللحظات الحاسمة.

وفي نهاية المشهد، تجلس أمُّ نضال على سجادة صلاتها، ترفع دعاءها من أعماق قلبها، موجهةً طلباتها إلى الله لابنها بالتوفيق والقبول، إنها الأمُّ الفلسطينية التي تجمع بين الإيمان القوي، والدعاء المخلص، والدعم الكبير، لأبناء المقاومة، إنها جزءٌ من المسيرة الكبرى نحو النصر والتحرير.

أيَّ قلب تحمله هذه الأمُّ؟! إنه قلبٌ مشبع بالإيمان العميق، مضاءٌ بالحبِّ الخالص، ومشدودٌ إلى الصدق مع الله، إن قلبها يتدفق منه الصبر والعزم، في كلِّ دعاء تهبه لابنها في شجاعة لافتة وعزم لا يلين.

هذه التضحيات التي صورتها الرواية تجد صدًى حقيقيًّا في الواقع الفلسطيني اليوم، خاصة خلال معركة “طوفان الأقصى”، إذ نرى الأمَّ الفلسطينية، وأبناءها في ساحة الحرب أو يُعتقلون في سجون الاحتلال، ولكنها تبقى صامدة، تتحمَّل بين طيات قلبها أملًا، وكأن ما جاء في الرواية كان رؤية مستقبلية صادقة! إذ تكررت مشاهد التضحيات التي وصفها السنوار في كل بيت فلسطيني، فتُظهر الأمُّ الفلسطينية قوتها وهي تودع أبناءها الشهداء، صامدة صابرة محتسبة؛ لكونهم مضوا في سبيل الله تعالى، تمامًا كما لو أن الرواية تجسَّدت على أرض الواقع، ونشهد أحداثها رأي العين!

المجتمع المقاوم: صمود وتحديات في مواجهة الاحتلال:

في الرواية يظهر بوضوح المجتمع المقاوم بأبعاده المتعدِّدة من خلال تجسيد صورة قوية لمقاومته التي تتزايد قوة وثباتًا مع مرور الوقت، تبرز الرواية كيف أن المقاومة تأخذ طابعًا أكثر جرأة وإقدامًا، حيث يتحوَّل المخيم إلى ساحة من النضال المستمر، لا يقتصر على الأفعال الفردية بل يشمل تفاعلات جماعية وشجاعة ملهمة.

يقول السنوار:” المقاومة تزيد ويشتدُّ عودها وتصبح أكثر جرأة وإقدامًا، حتى أننا أصبحنا نرى بعض الرجال الملثَّمين بالكوفيات يحملون أسلحتهم من البنادق الإنجليزية أو بنادق الكارلوستاف، أو يحملون القنابل اليدوية ويتجوَّلون بها في أزقة المخيم خاصة قريبًا من فترة المساء. أصبح مألوفًا علينا حتى أننا بدأنا ندرك أن حظر التجول الليلي هو مجرَّد أكذوبة لا تنطلي علينا نحن الصغار وعلى أُمَّهاتنا وعلى الجزء البسيط من الناس المساكين، أما رجال المقاومة فكانوا يحتلُّون المخيم ليلًا، ودوريات الاحتلال لا تتمكن من دخول أزقته، وتظل على الشوارع العامة الرئيسية ومع طلوع النهار يختفي رجال المقاومة“.

يصف النصُّ كيف أن رجال المقاومة الملثَّمين يرتدون الكوفيات، حاملي البنادق الإنجليزية أو بنادق الكارلوستاف والقنابل اليدوية، ويتجولون بها في أزقة المخيم، خاصة في فترة المساء.

هذه الصورة تعكس الوعي المتزايد لدى السكان، الذين بدأوا يدركون أن حظر التجوُّل الليلي الذي تفرضه سلطات الاحتلال ليس سوى أكذوبة، إنهم يعلمون أن رجال المقاومة يستغلون ساعات الليل للتمركز والانتشار، بينما تظل دوريات الاحتلال عاجزة عن دخول الأزقة الضيقة للمخيم، مقتصرة على الشوارع العامة الرئيسة فقط.

تظهر الرواية بوضوح كيف أن المجتمع في المخيم لم يكن مجرَّد متفرج على الأحداث، بل كان جزءًا فاعلًا في المقاومة. يتضح ذلك من النصِّ؛ فالمقاومة لم تكن محصورة في الأفعال القتالية فقط، بل امتدَّت إلى مستوى الوعي الجماعي والقدرة على تجاوز التحديات، يتحوَّل حظر التجول إلى رمز زائف لا يُخيف هؤلاء الناس، الذين يتحدُّون الصعاب ويستمرون في النضال بشجاعة ووعي.

في نهاية المطاف، يُبرز النصُّ كيف أن رجال المقاومة يستغلون كل فرصة لتصعيد مقاومتهم ضد الاحتلال، بينما المجتمع المحلي يظل مستعدًا لدعمه والوقوف إلى جانبه، في مشهد يجمع بين الجرأة والتحدي، ويؤكد على قدرة المجتمع المقاوم على التصدي لكل محاولات الاحتلال للقضاء على إرادته وصموده.

وعن توسُّع المقاومة وتنوُّعها في المخيمات يقول السنوار: ” هذا لم يكن فقط في مخيمنا بل كان في كافة المخيمات في قطاع غزة، وفي كل شوارع المدن والقرى أو في الكثير منها، في الضفة الغربية وغزة بدأت المقاومة تتأرجح في أنحاء الوطن بعضها منتظم والكثير منها فردي ومبادرات محلية من أحرار الوطن ورجاله، وقد بدأنا نسمع أخبارًا خاصة عن عمل المقاومة المتميز في مخيم جباليا القريب“.

هكذا لم تقتصر مظاهر المقاومة على مخيَّم واحد بل اجتاحت المخيمات في قطاع غزة، وشملت شوارع المدن والقرى في الضفة الغربية وغزة، في كل زاوية من أرض فلسطين، بدأت المقاومة تتجذَّر وتزدهر، متخذة أشكالًا متنوعة تنبئ عن شدَّة الإرادة وتنوُّع الاستراتيجيات.

في مخيمات غزة، كان يظهر رجال المقاومة، ملثَّمين وبأسلحة متنوعة، يجوبون الأحياء والشوارع، معبِّرين عن صمودهم وجدِّيتهم في مواجهة الاحتلال، لم يكن المشهد يقتصر على مخيم واحد، بل كان يمتد إلى المخيمات كافة في قطاع غزة، حيث توحَّدت جهود المقاومين في تحدي الإملاءات المفروضة عليهم، ورفض الاستسلام للضغوط العسكرية والسياسية.

وفي الضفة الغربية، كانت المقاومة تبرز في المدن والقرى، سواء بشكل منظَّم أو عبر مبادرات فردية ومحلية من الأحرار الذين ضحوا بجهودهم في سبيل الوطن، هذا التوسُّع والتنوُّع في أشكال المقاومة أظهر حقيقة هي أن النضال الفلسطيني لم يكن محصورًا في إطار جغرافي محدَّد، بل كان حركة شعبية شاملة تشمل جميع المناطق.

كما بدأت الأخبار تتوالى عن تميز عمل المقاومة في مخيم جباليا القريب، مما يبرز دور المخيمات كحاضنات رئيسة للنضال والمبادرات الفردية والجماعية.

هذه الأخبار لم تكن مجرَّد معلومات عابرة، بل كانت تُجسِّد عمق تأثير المقاومة على الأرض، وكيف أن كل مخيم وقرية ومدينة كانت تقوم بدور فعَّال في المعركة.

بذلك يُظهر النصُّ أن المقاومة كانت حركة شعبية واسعة، تميَّزت بالقدرة على التكيُّف والتنوُّع في مواجهة الاحتلال، من المخيمات إلى المدن، ومن المبادرات الفردية إلى العمليات المنسَّقة، جميعها تُجسِّد صورة الحلم الفلسطيني الذي يقاوم أصحابه بصمود وعزيمة لا تلين.

وفي مشهد يعكس تجذُّر روح النضال وعزيمة المجتمع المقاوم، يقول الراوي: ” هذه المرة لم تفرض قوات الاحتلال حظر التجول على المخيم، خرج المخيم عن بكرة أبيه، رجاله ونساؤه، كباره وصغاره، من بيوتهم، وغالبيتهم كانوا يبكون على استشهاد أبي يوسف، وجرت للشهداء جنازة مهيبة شارك فيها كلُّ سكان المخيم وهم يهتفون: بالروح بالدم نفديك يا شهيد … بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، وطافت الجماهير بالنعوش أنحاء المخيم عدَّة مرات، ثم أخذوهم ليدفنوهم في المقبرة القريبة“.

لقد شهد المخيم تحولًا بارزًا في شكل المقاومة الجماعية، لم تفرض قوات الاحتلال حظر التجول كما هو معتاد، ما مهد الطريق لأهالي المخيم للظهور بجميع أطيافهم في تعبير جلي عن وحدة النضال وتقدير الشهداء.

خرج رجال المخيم ونساؤه، كبارهم وصغارهم، من بيوتهم، وقد ارتدى العديد منهم ثياب الحزن، بينما كانت الدموع تنهمر على وجوههم في مشهد مليء بالتأثُّر والفقدان، كانوا جميعًا يشاركون في الجنازة المهيبة لشهيدهم، أبي يوسف، الذي ارتقى شهيدًا.

الجنازة لم تكن مجرَّد مراسم تشييع، بل كانت تعبيرًا عن قوة الارتباط بالقضية والشهداء، حيث جرت في أجواء مليئة بالنضال وحبِّ الجهاد، حاملةً معها شعار: “بالروح بالدم نفديك يا شهيد … بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”، كانت هذه الهتافات صرخة مدوية في وجه الاحتلال، تدلُّ على عمق الروح الجماعية وروح التضحية، التي يمتلكها الشعب الفلسطيني.

طافت الجماهير بالنعوش أنحاء المخيم، مما جعل الحزن والفخر يتجسَّدان في مسيرة حاشدة تجوب أزِقَّة المخيم، وأبرزت كيف أن استشهاد فرد كان ينعكس على جميع أفراد المجتمع، وكيف أن الفقد كان يستدعي التفاف الجميع حول رموز المقاومة.

في ملحمة “طوفان الأقصى”، تجلى ما جاء في رواية السنوار واقعًا حيًّا، فقد رأينا جموع الشعب في الميدان، فشاهدنا دور الأطباء والإسعاف والدفاع المدني وغيرهم، بصورة بطولية لا مثيل لها، فكانوا حاضرين بين الدمار والنيران، يحملون الشهداء والمصابين كأنهم يحملون أمانة عظيمة، رأينا كيف يلتف المجتمع الفلسطيني حول نفسه، كل فرد يقدم جهده، كل يد تساهم في الدفاع عن الحقِّ، إنه مجتمع مترابط بروح واحدة، كأن جسد المقاومة ينبض في قلب كل فرد فيه.

هكذا تتكامل الأدوار بين من يحمل السلاح ومن يحمل ضمادة، بين من يُضحّي بحياته ومن ينقذ حياة الآخرين، ليعطينا المجتمع الفلسطيني أسمى صور التضحية والتلاحم الذي يصمد رغم أهوال الحرب وقسوة الظروف.

رؤية العالم وحضور مفهوم الأمة:

أظهرت الرواية بجلاء حضور مفهوم الأمَّة لدى السنوار بالحديث عن ذلك في مواضع عدة، منها حديثه عن تأثير الاجتياح الروسي، والذي تجلَّى بوضوح على مستوى الأنشطة الطلابية في الجامعات، حيث نشطت الحركة الإسلامية بشكل ملحوظ في هذه الفترة.

اجتياح أفغانستان لم يكن في تصوُّره مجرَّد نزاع إقليمي؛ بل كان عدوانًا على جزء من أرض المسلمين، مما أثَّر بشكل كبير على حركة الشباب الإسلامي واهتماماتهم.

يقول السنوار: “في هذه الفترة كان الاجتياح الروسي لأفغانستان، والذي كان له انعكاساته الكبيرة على مستوى الأنشطة الطلابية في الجامعة، حيث إن الإسلاميين أبرزوا الحديث وبدأوا ينظرون للثورة في أفغانستان والمجاهدين، وبات واضحًا أنهم يتبنون الثورة هناك ويعتبرون أنفسهم امتدادًا لها“.

لقد بدأ الإسلاميون الشباب يتناولون الثورة الأفغانية والمجاهدين الأفغان في خطبهم وندواتهم، مؤكدين على أهمية هذا الصراع ودوره في تعزيز القيم الإسلامية ومبادئ الجهاد، كان واضحًا أن هؤلاء الشباب لم يروا في الصراع في أفغانستان مجرَّد نزاع عسكري، بل اعتبروه تجسيدًا لنضال الأمَّة الإسلامية ضد قوى الاحتلال والتوسُّع، واعتبروه امتدادًا لقضيتهم وهدفًا نضاليًّا ينسجم مع رؤيتهم للعالم.

داخل أوساط الشباب الإسلامي، نمت الأحاديث حول الثورة الأفغانية كرمز للمقاومة والجهاد، وأصبح من الواضح أنهم يرون في المجاهدين الأفغان أبطالًا يُمثِّلون الجهاد في سبيل الله، ويُعبِّرون عن مقاومة الاحتلال بأسمى معانيها. هذا التأثير لم يكن مقتصرًا على دعم الثورة أفغانية فحسب، بل يُظهر امتداده في تعزيز روح الأمَّة الإسلامية التي تسعى لتحقيق أهدافها في مواجهة عدوان القوى العالمية الكبرى.

في الرواية يظهر أيضًا معنى ارتباط الجماهير العربية والإسلامية بالانتفاضة الفلسطينية؛ يقول السنوار: ” الجماهير العربية والإسلامية تفاعلت مع الواقع في فلسطين، وخرجت إلى الشوارع في عواصم أقطارها من الرباط إلى صنعاء إلى جاكرتا، الملايين خرجت للشوارع تهتف تأييدًا للانتفاضة في فلسطين، وضد جرائم الاحتلال ومجازره وصوتها يهدر خيبر خيبر يا يهود… جيش محمد سوف يعود، وهي تصرخ: الانتقام الانتقام… يا كتائب القسام“.

في هذا المشهد يتجلَّى بوضوح ارتباط القضية الفلسطينية بالأمَّة الإسلامية ككلٍّ، إذ تفاعل العرب والمسلمون مع انتفاضة فلسطين بشكل ملحوظ وملهم، وخرجت الجماهير العربية والإسلامية في مظاهرات حاشدة في مختلف العواصم، من الرباط إلى صنعاء وصولًا إلى جاكرتا، تجسيدًا لوحدة الأمَّة وإيمانها العميق بقضية فلسطين.

كانت الشوارع تعجُّ بالملايين من المتظاهرين، الذين رفعوا أصواتهم تنديدًا بجرائم الاحتلال ومجازره، وتظهر الهتافات التي ملأت الأفق، أن القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في حسِّ الشارع العربي والمسلم؛ فالجماهير صدحت بصيحات تؤكِّد على دعمهم الثابت للمقاومة والجهاد، مثل: “خيبر خيبر يا يهود… جيش محمد سوف يعود”،   ومثل: “الانتقام الانتقام… يا كتائب القسام”، هذه الاستجابة الجماهيرية هي تعبير عن إيمان عميق بفاعلية النضال والمقاومة ووحدة الهدف بين جميع المسلمين والعرب، وأظهرت حضور مفهوم الأمَّة في ذهن وعقلية السنوار.

ولقد كان مشهد تفاعل الأمة الإسلامية مع معركة “طوفان الأقصى” بمثابة ملحمة جماعية تجسِّد ما جاء في الرواية، إذ تكتلت فيها القلوب قبل السواعد، في كل الأقطار، رأينا الجماهير تهتف من أقاصي المغرب إلى مشرق إندونيسيا، وكأنها تُعيد للأقصى صدى تكبيرات النصر، كانت الأمَّة رغم بعدها الجغرافي، كتلةً واحدة تشدُّ على يد المقاومة، مستشعرةً أن المعركة ليست معركة شعب وحده، بل قضية الأمَّة بأسرها، وهو ما كان له أثره على تفاعل الفلسطينيين مع شعوب الأمَّة، وشعورهم بدفء نصرتهم، والذي تجلَّى في المظاهرات الغاضبة والوقفات التضامنية في العواصم العربية والإسلامية، وفي كل بيت رفع الدعاء لنصرة المقاومة، ولولا قيود البطش التي تحول بينهم وبين غزة لكانت الأمَّة حاضرة في الميدان بجانب المقاومة.

7- السنوار والحياة في السجون:

في تجربة السجون القاسية يعرض يحيى السنوار، مظاهر قسوة الاحتلال الإسرائيلي في استخدام أساليبه القمعية مع المعتقلين الفلسطينيين.

أُلقي القبض على أحد منفذي العمليات ضد الاحتلال جاء إثر حملة عسكرية كبيرة، إذ حاصرت قوات الاحتلال البيت وقامت باعتقاله واقتياده للتحقيق، وهناك بدأت رحلة الألم والمعاناة الكبيرة.

يقول السنوار: “قوة كبيرة من جيش الاحتلال حاصرت البيت وقامت باعتقاله، حيث أُخذ للتحقيق، وهناك لا تسل عما تعرَّض له من الشبح والضرب والتعذيب، وهو ينكر أي علاقة له بأي شيء“.

في “المسلخ”، القسم الشهير في سجن غزة، تبدأ رحلة من العذاب الجسدي والنفسي، حيث يُعامل المعتقل كمُدان حتى يثبت العكس. تعرَّض المعتقلون لأشكال من التعذيب تتضمَّن الشبح، والضرب المبرح، وأساليب وحشية من القهر، وكل ذلك بغية انتزاع اعترافات تحت الضغط والإكراه.

يصف الراوي ذلك قائلًا: “قسم التحقيق في سجن غزة كان يُسمى (المسلخ)؛ لما يمارس فيه من تعذيب وقهر وسلخ لمن يدخلونه، وهو عبارة عن مبنى فيه ممرٌّ يتوسَّط المكان، عرضه حوالي أربعة أمتار وطوله عشرون مترًا … على جانبيه تفتح أبواب غرف مختلفة الحجم يتم فيها التحقيق في هذا الممرِّ الطويل يتم إجلاس المعتقلين على الأرض أو إيقافهم ووجوههم إلى الجدار وقد غُطيت رؤوسهم بأكياس من القماش السميك حتى الأكتاف، ورُبطت أيديهم“.

وصف السنوار “المسلخ” بأنه مكان لا يمكن وصفه إلا بجحيم على الأرض؛ مبنى بطول عشرين مترًا وعرض أربعة أمتار، تصطف على جانبيه غرف مختلفة الأحجام، مخصصة للتحقيق والتعذيب، في هذا المكان، يجلس المعتقلون أو يُوقفون على الجدران، رؤوسهم مغطاة بأكياس قماشية سميكة تمتدُّ حتى الأكتاف، وأيديهم مربوطة خلف ظهورهم. كل هذه الممارسات تهدف إلى تحطيم الروح وإخضاع الجسد، في محاولة لكسر عزيمة المعتقلين وإجبارهم على الخضوع لسلطة الاحتلال.

وفي مقطع آخر يصف الحال عقب التعذيب: “لم تعد قدماي قادرتين على حملي فانسبت جالسًا على الأرض، جاء الجنود يضربون ويصرخون ويركلون طالبين مني الوقوف، كان التعب والإرهاق بلغ مني مبلغه فلم أعد أبالي بالضرب والركل، ضربوني وضربوني لأقف فلم أقف بطوع إرادتي، وكلما مسكوني من أكتافي وأوقفوني عدت إلى الانسياب والجلوس، فعاودوا الضرب وعاودوا”.

تجربة السجون، كما عايشها السنوار وغيره من المقاومين، ليست مجرَّد معاناة فردية، بل هي انعكاس لسياسات ممنهجة تستهدف كسر الإرادة الفلسطينية، وإطفاء جذوة المقاومة، ومع ذلك، ورغم الألم والجروح التي تتركها التجربة، تبقى هذه السجون شاهدة على الصمود والإصرار على الثبات في وجه الظلم، مما يُعزِّز فكرة أن الإرادة البشرية لا تُقهر بسهولة، وأن المقاومة لا تموت، حتى في أحلك الظروف وأصعبها!

في هذا الجانب، تُبرز الرواية قوة شخصية يحيى السنوار مقاومًا، وتعكس الرواية تفاصيل معاناته في السجون وكيف تحوَّلت إلى رسالة قوية عن صمود الشعب الفلسطيني.

وفي معركة “طوفان الأقصى”، رأينا آلاف الأسرى الذين عاشوا مأساة الأسر في سجون الاحتلال، أولئك الأبطال الذين خرجوا من ظلام الزنازين، بعد سنوات من الاعتقال، حملوا في قلوبهم حكايات الألم والصمود، عاشوا أبشع أنواع التعذيب والحرمان، لكنهم ظلوا ثابتين كالجبال، لا ينكسرون تحت قسوة السجَّان ولا تضيع عزيمتهم في ظلام السجون.

نقلوا معاناتهم بصوت متَّقد، موضِّحين ما قاسوه، وكيف واجهوا الظروف القاسية بشموخ لا يلين، خرجوا ليصبحوا رموزًا للصمود، وكأنهم لم يخرجوا من الأسر، بل من صلب المعركة نفسها، لتكون الرواية تعبيرًا حقيقيًّا عن واقع عاشه السنوار، وصوَّره في روايته تصويرًا حقيقيًّا!

 

خطر الجواسيس يلاقي وعيًا شعبيًّا:

كما يظهر السنوار في ظل حديثه عن السجون الموقف المناسب تجاه العملاء والجواسيس، وذلك على خلفية تأثير العملاء على المقاومة الفلسطينية وفئات من النسيج الاجتماعي للشعب الفلسطيني، فقد سلَّط الضوء على دور الخونة في إضعاف النضال الفلسطيني وتدمير الروح المعنوية للشباب من خلال تجنيدهم أو ابتزازهم، ففي الرواية رصد لخطر العملاء وأثرهم السلبي على المجتمع الفلسطيني، خاصة خلال الانتفاضة، لكن بدأ الناس يدركون أهمية التصدِّي لهؤلاء المتسلِّلين إلى صفوفهم، والذين يعملون على خدمة الاحتلال بنقل المعلومات عن النشطاء والمقاومين.

كان العملاء جزءًا من آلة الاحتلال، يستخدمون وسائل متقدِّمة مثل كاميرات صغيرة مموَّهة على شكل ولَّاعات، أو مسجِّلات صوتية دقيقة، لتوثيق تحركات الناس وخطب المساجد بهدف نقلها إلى المخابرات.

ويصوِّر السنوار كيف أن وعي الناس تصاعد، وبدأوا يتصرَّفون بحزم مع العملاء، خاصَّة عندما يُضبط أحدهم متلبسًا بتصوير المتظاهرين أو تسجيل خطب الجمعة، فكان العقاب سريعًا ومباشرًا؛ إذ لم يتردَّد الحشد في الانقضاض على العملاء وضربهم بالنعال، في مشهد يعكس الغضب الشعبي، والرغبة في الحفاظ على أمن المجتمع وسلامة حركته النضالية، هذا التعامل الشعبي مع العملاء لم يكن مجرَّد ردِّ فعل عفوي، بل كان رسالة قوية بأن الخيانة لن تمرَّ دون عقاب، وأن المجتمع بأسره يقف صفًّا واحدًا في مواجهة أي تهديد يمسُّ مقاومته ونضاله ضد الاحتلال.

مع تصاعد الانتفاضة وتفاقم خطر العملاء، امتدَّت ظاهرة مطاردتهم لتشمل شوارع البلد بأسره.

تشكَّلت مجموعات من الفصائل الفلسطينية كافة، متَّحدة في هدفها رغم اختلاف انتماءاتها، لتطارد العملاء المعروفين وتلاحقهم بلا هوادة. كانت هذه المجموعات تلجأ إلى اعتقال العملاء أو خطفهم، وتأخذهم إلى البيارات أو أماكن مهجورة نائية، حيث يُخضعون لتحقيقات مطولة قد تمتدُّ لأيام.

في تلك التحقيقات، لم تتردَّد هذه المجموعات في استخدام القوة لكشف المعلومات وفضح الأسرار التي كان العملاء يسعون لإخفائها، كان الهدف من هذه الإجراءات هو حماية المجتمع من الاختراقات الأمنية والحفاظ على سلامة المقاومة وأفرادها.

وفي العديد من الحالات، كان مصير العملاء القتل، إذ كانت تلك المجموعات ترى فيهم تهديدًا مباشرًا لا يمكن التغاضي عنه، خاصَّة في ظل الأضرار البالغة التي ألحقوها بالمجتمع وبالنضال الفلسطيني.

بذلك أوضحت الرواية كيف يمكن للعملاء أن يلعبوا دورًا في تقويض جهود المقاومة، هذه الممارسات ضد العملاء لم تكن مجرَّد عمليات أمنية، بل كانت بمثابة مدرسة نضالية ساهمت في تشكيل وعي يحيى.

السنوار الذي عاش تلك التجارب عن قرب، أدرك مبكرًا خطورة الاختراقات الأمنية، وكيف يمكن لعدد قليل من العملاء أن يُلحق أضرارًا جسيمة بالمجتمع والمقاومة.

رؤية العملاء يُلاحقون ويُحاسبون على خيانتهم، بل ويُقتلون في بعض الحالات، كانت كفيلة بتشكيل فهم أعمق لدى السنوار عن طبيعة الصراع، ليس فقط مع الاحتلال، بل مع كل من يسهم في ضرب النضال من الداخل.

هذا الوعي النضالي عزَّز لديه قناعة بأن المقاومة لا تقتصر على مواجهة الاحتلال بالسلاح فقط، بل تشمل أيضًا حماية الجبهة الداخلية، وتطهيرها من كلِّ ما يهدِّد أمن المجتمع وسلامة المقاومة.

لقد أسهمت تلك الأحداث في ترسيخ مفهوم الحزم في التعامل مع العملاء لدى السنوار، فالنضال الحقيقي يتطلَّب يقظة دائمة وعزيمة لا تلين في وجه كل أنواع الخيانة والتهديدات، سواء جاءت من العدو الخارجي أو من الخونة في الداخل، الأمر الذي أسهم في تشكيل وعي السنوار النضالي مما جعله واحدًا من أبرز القادة في الصفوف الأمامية.

8- رؤية الكاتب لعدد من القضايا الإسلامية:

يُعبِّر يحيى السنوار في روايته عن رؤيته للقضايا الإسلامية، يُظهر كيف أن الإيمان والقيم الإسلامية تشكِّل دافعًا قويًّا للثوار والمجاهدين، وكيف يمكن لهذه القيم أن تُعزِّز من روح الصمود والتضحية، تُبرز الرواية القضايا الإسلامية جزءًا لا يتجزأ من الهُوية الفلسطينية والنضال من أجل الاستقلال.

في رواية “الشوك والقرنفل”، ركَّز السنوار على قضايا رئيسة مثل القدس والتحرير ودور الشعوب الإسلامية.

تُصوَّر الرواية القدس معلمًا دينيًّا، هو قبلة المجاهدين وهدفهم المركزي في النضال، فالسنوار يُبرز كيف أن الدفاع عن القدس ليس مجرَّد مسعًى سياسيٍّ، بل هو جهاد نبيل يُجسِّد معاني الإيمان العميق، وأن التحرير يُنظر إليه باعتباره الغاية النبيلة المقدَّسة، محركها القيم الإسلامية، فالرواية تعرض الجهاد وسيلة مباشرة أصيلة لتحقيق تحرير القدس.

كما تُبرز الرواية دور الشعوب الإسلامية عاملًا أساسيًّا في دعم القضية الفلسطينية، وأن ذلك يحجم عدوان المحتل في أوقات كثيرة، وكيف أن التضامن والدعم من الأمَّة الإسلامية يُعزِّز من صمود الفلسطينيين ويُقوي عزيمتهم، فالشعوب الإسلامية، عبر دعمها الروحي والسياسي، تشكل عنصرًا حيويًّا في النضال الفلسطيني، مما يؤكد على أن القضية الفلسطينية هي قضية تشغل الأمَّة الإسلامية بأسرها.

بذلك تؤكد “الشوك والقرنفل” على أن النضال الفلسطيني يتشابك بشكل وثيق مع القضايا الإسلامية، وأن الإيمان بالقيم الدينية يُعزِّز من قوة الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال.

يقول السنوار: “إسرائيل تدرك أن وراءنا أمَّة عربية وإسلامية، صحيح أنها مفكَّكة، ولكنها لو استخدمت ضدنا القوة بصورة زائدة فإن موازين الكون ستنقلب، إسرائيل غير قادرة على سحقنا؛ لأنها تدرك أنها محكومة بمعادلات كثيرة، وكسر أي معادلة منها تعني أنها ستُسحق هي الأخرى كذلك”.

هكذا يرى الكاتب أن الاحتلال ليس مجرَّد تحدٍ يواجه الفلسطينيين وحدهم، بل هو تهديد ممتدٌّ لجسد الأمَّة الإسلامية برمَّتها، وأن إسرائيل، رغم قوتها العسكرية والسياسية، تدرك أنها تواجه خلف الفلسطينيين أمَّة عربية وإسلامية، قد تبدو مفكَّكة وضعيفة في أحيان كثيرة قد تتأخَّر في الإسناد، لكن قضية فلسطين حاضرة في وجدانها، وسيأتي وقت تقلب الأمَّة الموازين بصورة لا يتوقَّعها الاحتلال.

 

لكن مما يجدر التنبيه عليه عقب معركة طوفان الأقصى هو أن المقاومة تحتاج إلى مراجعة دقيقة لتقدير حجم وتأثير رد الفعل العربي والإسلامي، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي، باعتباره عنصرا فعلا في الصراع لا متعاطفا، إضافة إلى ذلك، فإن المقاومة لا بد أن تفكر في أن خوض صراع بهذا الحجم يتطلب منها الوجود في بيئة إقليمية محيطة داعمة، وخصوصًا في دول الطوق (مصر، الأردن، سوريا، لبنان)، إذ يُعدّ هذا الدعم عاملًا استراتيجيًا في مواجهة الاحتلال حتى لا تقف وحدها في مواجهة الاحتلال.

الصبر ركيزة أساسية للصمود والمواجهة:

تظهر لنا الرواية معاني الصبر في أبهى حُلَلها، فهذا مشهد يسطِّره السنوار يقول فيه: “يحبس زوج خالتي دمعته لكي لا يراها السجَّان فيزداد شماتة وفرحة، ويلمُّ مشاعره وعواطفه وهو يهتف مشجعًا زوجته بأن الفرج قريب، وكلُّها خمسة شهور، ويوصيها بعبد الرحيم خيرًا وبالبيت، وأن تهدي السلام للأهل والأقارب والجيران، وهي تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها الأبيض المطرَّز من أطرافه، صائحة: (ولا يهمَّك بس إنت شد حيلك ولا يكون لك فكر … مع السلامة“.

في هذا المقطع من الرواية يتجلَّى معنى الصبر الذي يتشبَّث به أبطال الرواية في مواجهة ظروف السجن القاسية المؤلمة.

زوج خالة البطل، رغم قسوة السجن وحضور السجَّان المستفز، يحاول جاهدًا أن يكبح دموعه ويخفي ضعفه؛ حتى لا يمنح السجَّان فرصة للتشفي في معاناته! هذا التحكُّم في المشاعر، الذي يعبِّر عنه برسم ابتسامة مشجِّعة على وجهه، هو تعبير عن إرادة لا تنكسر أمام الظلم ولا تستسلم للقهر، وهو إيمان يتجاوز حدود السجن ليصل إلى أعماق النفس الصامدة.

الكلمات التي يوجِّهها لزوجته، “كلُّها خمسة شهور والفرج قريب”، تعكس قوة الأمل والصبر الجميل، كما توضح ثقته بأن الصبر هو مفتاح الخروج من المحنة، وهذا مكوِّن مهمٌّ من مكونات شخصيات الرواية من أبناء المقاومة،  وقد قابلته زوجته التي تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها، وكأنها تحاول أن تبادله مشاعر الصبر، وتردَّ عليه بصوت يغلفه الحزن والمثابرة: “ولا يهمك بس إنت شد حيلك”، هذه الكلمات على قِصرها ويُسرها، تحمل في طيَّاتها قوة دعم لا تقلُّ عن أي عمل بطولي، فهي ترسل برسالة بأنه  ليس وحده في هذا الطريق الشاقِّ!

هذا المشهد يعكس تجسيدًا حيًّا للصبر باعتباره فعل مقاومة ونضال، إذ يتحدَّى السجينُ السجَّانَ بصلابة روحه، وتتحدَّى الزوجة واقعها ودموعها بكلماتها التي تفيض بالإصرار، إنها صورة مكثفة للصبر الذي لا يستسلم أمام الجدران، والأمل الذي لا يخبو أمام العيون القاسية، والرغبة العميقة في إدراك الحرية، مهما طالت الليالي الحالكة.

الرواية هنا تقدم الصبر قيمة جوهرية، وركيزة أساسية للصمود والمواجهة، وتتجلَّى فيها ثمرة من ثمرات الصبر؛ ألا وهي قيمة التضامن والمواساة في أحلك الأوقات، حيث يضطر أهلُ الحيِّ إلى لملمة جراحهم بعد أن هَدمت جرَّافات الاحتلال بيوت الناس، ولم يبقَ لهم مأوًى!

يقول السنوار: “مع حلول المساء كانت مئات المآسي قد فتحت من جديد، وكان على الناس لملمة جراح بعضهم، بيت عمي كان فارغًا منذ زواج زوجة عمي؛ حيث انتقل أبناء عمي حسن وإبراهيم مع جَدِّي في غرفته، فأذنت أمي لعائلتين من جيراننا السكن في البيت مؤقتًا؛ حتى يتدبَّروا أمورهم، ولا تسلْ عن كلمات الشكر والثناء التي انهالت علينا في اليوم التالي“.

هذه اللفتة الكريمة تعكس روح الصبر والكرم الذي ساد بين الناس في تلك اللحظات الصعبة، وكأنها رسالة بأن الصبر ليس مجرَّد تحمُّل للألم، بل هو أيضًا فعل يُترجَم إلى تقديم العون والمأوى لمن جار عليهم العدوُّ، وفي اليوم التالي لم تتوقَّف كلمات الشكر والثناء التي انهالت على الأسرة، مما يعكس كيف أن التضامن والوقوف إلى جانب بعضهم البعض كان بمثابة البلسم الذي يُخفِّف من قسوة الفقد والهدم، فالصبر لا يُختزل فقط في التحمُّل لمن أُصيب، بل هو أيضًا في العطاء والتضحية من الجار، وبمساندة المضارين من هذا الشعب الصامد.

إيمان راسخ يتدفَّق في قلوب الصامدين:

تواصل رواية “الشوك والقرنفل” رسم لوحاتها الأدبية بتفاصيل متشابكة، تستعرض بين السطور صمود المقاومة الفلسطينية وتحدياتها أمام العدو المحتل.

الراوي يوضح في كلمات معبرة هذا المعنى فيقول: “لا شكَّ أنهم نجحوا في ضرب المقاومة ضربًا قاسيًّا، وأنهم قد تغلغلوا في أوساط شعبنا بصورة مخيفة، ولكن هذه أرض مباركة، الله بارك فيها وفي أهلها، فإذا أزفت الساعة انطلق المارد من جديد، وسيعرف هؤلاء أيَّ منقلَب ينقلبون“.

هنا نجد تأكيدًا على الإيمان الراسخ بأن العون الإلهي لن يتخلَّف عن أهل الأرض المباركة، مهما اشتدت الصعاب وتعاظمت المكائد، على الرغم من نجاح الأعداء في توجيه ضربات قاسية للمقاومة، والتغلغل في صفوف الشعب بأساليبهم المخيفة، فإن النصَّ يبعث برسالة أمل قوية، تُذكِّر بأن الأرض التي باركها الله لا يمكن أن تخضع للأعداء طويلًا.

تصوير هذه الأرض المباركة على أنها حاضنة للمقاومة يتعدَّى كونه وصفًا أدبيًّا، ليصبح بيانًا روحيًّا وإيمانيًّا بأن الانتصار آتٍ لا محالة، فالفكرة تتعزَّز من خلال الإشارة إلى لحظة الانطلاق الجديدة للمارد المقاوم، الذي سيفاجئ الأعداء بقوته وبأسه، مؤكدًا على أن كل محاولات الإذلال والاضطهاد لن تثمر إلا عن صمود أكبر!

النصُّ هنا يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة المعركة، وأنها ليست فقط في ميادين القتال، بل في نفوس الناس، حيث الإيمان والأمل هما سلاحان لا يُهزمان.

التكرار في التأكيد على العون الإلهي يعكس إصرار الكاتب على تذكير القراء بضرورة الإيمان بالقدرة الإلهية، وأن النصر ليس مرهونًا فقط بجهود البشر، بل هو رهن توفيق الله وحده، هذه الثقة المطلقة بالله تزرع في النفوس الأمل، وتدفع بالمقاومة للاستمرار في نضالها دون خوف أو تردُّد، مستمدَّة قوتها- بعد الله- من الأرض التي لا تنبت إلا الأحرار.

الرواية بهذا الشكل، تدعو إلى الصبر والثبات، مشيرة إلى أن النصر قد يتأخَّر، لكنه لا يغيب أبدًا عن الساعين إليه بإخلاص وعزم.

في مقطع آخر من رواية “الشوك والقرنفل” تظهر قضية الأقصى ركيزة إيمانية في قلوب المناضلين، ويذكر السنوار حدثًا قرَّرت فيه جماعة أمناء الهيكل اقتحام المسجد الأقصى، مما يدفع البطل وابن عمِّه إبراهيم للسفر فورًا للاحتشاد في دفاع عن هذا المقدَّس الإسلامي العظيم.

في قلب هذا الحدث، تتبدَّى مركزية الأقصى الإيمانية، ويتناوب الأبطال على ورديات الحراسة، ممسكين بحجارة لحمايته، وسط معانٍ إيمانية حاضرة تتجلَّى في تذكُّرهم لإسراء ومعراج رسول الله ﷺ، واستحضارهم لذكرى الناصر صلاح الدين، في لحظات تمتلئ بالمشاعر الفياضة، وتغمرها دموعُ الحبِّ تعلُّقًا بالأقصى المبارك، ورغبةً في تحريره وتطهيره من دنس الاحتلال.

التفاصيل الدقيقة لهذا الحدث تتَّضح من خلال تبادل البطانيات بين المجموعات عند منتصف الليل، لتوفير الدفء والتهيؤ للمرابطة، تعكس ذلك روح الإخاء في الجهاد.

يتحرَّك البطل وابنُ عمِّه إلى صحن المسجد الأقصى، يفترشون بُسُطه ويتغطون بالبعض الآخر، في إشارة إلى معاناة مرابطي الأقصى وصمودهم في وجه الاحتلال، وعندما يرتفع أذان الفجر، يقومون للوضوء والصلاة مع المصلِّين، مجسِّدين رباطهم وارتباطهم باعتباره هدفًا من أهداف التحرير، لا ينفصل عن واقع المقاومة!

وفي الرواية أيضًا يتجلَّى مفهوم العفَّة باعتباره أحد جوانب الإيمان الراسخة في نفوس الشخصيات، يقول السنوار: “أمي كانت دومًا تحذِّر إخوتي وأخواتي من أي علاقات مع الجنس الآخر. وكثيرًا ما كانت تحذِّر إخوتي من النظر إلى بنات الجيران أو معاملتهنَّ، وتحذِّرنا من أن نتطاول على أعراض الناس، فلا بد أن الناس ستتطاول على أعراضنا، ولو ظنَّ البعض أنه أذكى“.

يظهر بوضوح من خلال توجيهات الأمِّ حِرصُ على غرس القيم الأخلاقية في أبنائها وبناتها، ففي مجتمع تتشابك فيه العلاقات الاجتماعية، كانت الأمُّ دائمة التحذير استنادًا على القاعدة الشرعية: “كما تدين تدان“.

تحذِّر الأبناء من النظر إلى بنات الجيران، أو معاملتهنَّ بطريقة قد تُفهم على أنها تطاول على الأعراض، مؤكدة أن الحفاظ على حرمات الآخرين هو ضمان للحفاظ على حرماتهم.

هذا السلوك يتجاوز كونه مجرَّد نصائح، ليصبح درسًا عمليًّا تربويًّا ثابتًا، يُجسِّد قيم العِفَّة والطهارة لكونها جزءًا لا يتجزأ من الإيمان الذي تربَّى عليه الراوي.

في الرواية يبرز ملمح إيماني آخر، يعرضه السنوار في دور أخيه محمد، والذي أصبح رمزًا للنشاط الإسلامي والقيادة الشبابية في جامعة بيرزيت، حيث تميَّز بقدرته على نشر المظاهر الإسلامية رغم التحديات التي كانت تواجهه.

بفضل جهوده البارزة في قيادة العمل الطلابي الإسلامي، كان محمد ملزمًا بالتنسيق مع الطالبات المؤيِّدات للكتلة الإسلامية، مما أتاح له فرصة للتأثير في المحيط، ومن أبرز هذه التغيُّرات كان ارتداء بعض الطالبات للحجاب، وهي خطوة اعتُبرت تحوُّلاً استراتيجيًّا ملحوظًا في الجامعة، خاصَّة في بيئة لم تكن تشهد مثل هذه المظاهر بوضوح من قبل.

هذه الخطوة لم تكن مجرَّد تغيير شكلي، بل كانت تعبيرًا عن التمسُّك بالهُوية الإسلامية، وسط مجتمع يعج بالأفكار المتنوعة والمتضاربة، مما يدلُّ على قوة الحضور الإيماني الذي امتدَّ ليصل إلى تغيير سلوكيات ومظاهر الأفراد، خصوصًا في أجواء جامعية متحرِّرة؛ كالتي كانت تسود جامعة بيرزيت!

هكذا تبرز الرواية قدرة الشباب المؤمن على قيادة التحوُّلات الاجتماعية بثبات، وتقديم نماذج تُحتذى في الالتزام بالدِّين والعزم على التغيير الإيجابي، مما يُبرز أهمية العمل الجماعي الهادف إلى نشر القيم والمبادئ الإسلامية في مناحي الحياة كافة.

في الرواية أيضًا يظهر معنى التضحية ركيزة إيمانية ثابتة في وجدان إبراهيم، إذ يواجه أحد الشباب المتفاجئين من كثرة القتلى في الانتفاضة فيرد إبراهيم: “إن قضية بمثل حجم وأهمية القضية الإسلامية، قضية المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، تتطلَّب الكثير من التضحيات والفداء“.

إبراهيم في هذا الموقف يُشدِّد على أن تزايد التضحيات والقتلى ليسا شيئًا عشوائيًّا، بل هو جزءٌ من ثمن كبير يتطلبه الدفاع عن مقدسات الأمَّة، هذه التضحيات ليست مجرَّد أرقام، بل هي تعبير عن الالتزام العميق بالقضية التي يتشابك، والرواية من خلال هذا الحوار، تُسلِّط الضوء على البُعد الإيماني الذي يُعزِّز قيمة الصبر والثبات في مواجهة المحن.

في الرواية أيضًا يُبرز الراوي معنى القدوة الصالحة في موقف معبِّر ظهر فيه ابنُ عمِّه إبراهيم قدوة مثالية في الالتزام الديني، حيث اصطحبه ومعه عدد من زملائه في المرحلة الثانوية في رحلة إلى بيت المقدس، وخلال هذه الرحلة كان صوت الدعاء الجماعي يتردَّد من حناجرهم، في مشهد يعمُّه الإيمان ويغمرهم بالروحانية: “أمسينا وأمسى الملك الله والحمد لله…”، كانت كلمات الأدعية المأثورة تتردَّد، وتكتسب معانٍ جديدة تتجاوز ما كانوا معتادين عليه، فالأماكن المقدَّسة كانت تضيف بُعدًا روحيًّا عميقًا لكل دعاء.

يقول السنوار: “بدأ الجميع يقرأون أدعية مأثورات المساء؛ أمسينا وأمسى الملك الله والحمد لله….ما كان من المشاركين كان صوت الدعاء الجماعي يتردَّد من حناجرنا، وقد غرق كلُّ واحد في مقعده، وبدت للكلمات التي نرددها معانٍ أخرى غير التي اعتدنا عليها حين يُذكر محمد ﷺ وأبونا إبراهيم عليه السلام بعد هذه الرحلة، في تلك الأماكن المقدسة يصبح للكلمات معنًى ووقعٌ آخر تمامًا، من هذا اليوم قرَّرت أن أواظب على الصلاة فلا أتركها قط، وقد كان علي أن أبدأ التجهيز الجادَّ لامتحانات إنهاء الثانوية العامة (التوجيهي)؛ فلم يبق للامتحانات سوى شهرين ونصف، وعلي أن أحصل على درجات معقولة“.

عقب هذه التجربة، أدرك الراوي كيف أن الإيمان والتزام إبراهيم أحدث تحولًا في فهمه لمفاهيم العبادة عن طريق القدوة.

هنا يتَّخذ الراوي قرارًا حازمًا بمواصلة الصلاة وعدم تركها، هذه اللحظات من الوعي العميق كانت دافعًا قويًّا للراوي، ليس فقط في حياته الدينية، بل في توجُّهه الجادِّ نحو التحضير لامتحانات التوجيهي، إذ كان عليه أن يستعدَّ بجدية، مُدركًا أن النجاح يتطلَّب جهدًا واستقامة.

إبراهيم، بصفته قدوة، لم يُلهِم الراوي فقط بالدعاء والعبادة، بل كذلك بالجدِّية والالتزام في دراسته؛ إذا كان طالبًا متفوِّقًا، مما يعكس كيف يمكن للقدوة الصالحة أن تؤثِّر بشكل إيجابي على مختلف جوانب حياة الفرد، مما يجعلها ركيزة أساسية في بناء شخصية قوية ومؤمنة.

الهوية ركيزة المقاومة والنضال:

في نفس الرحلة يرسخ إبراهيم الهُوية الإسلامية في نفوس زملائه، من خلال رحلته المدرسية، بينما كانوا في هذه الرحلة قام إبراهيم بتأكيد ارتباطهم العميق بالأرض والتاريخ، قائلًا: “هذا التراب ترابنا، وهذه الأرض أرضنا. جلبها صحابة رسول الله ﷺ بدمائهم الزكية، ولا بد أن تُجلب بدم زكي طاهر من أتباع الرسول ﷺ حتى تتحرَّر من جديد“.

من خلال هذه الكلمات، يُعزِّز إبراهيم مفهوم الهُوية الإسلامية، موضحًا أن الأرض التي يقدسونها قد طهرها الصحابة بدمائهم، وأنها ستُحرَّر بدماء جديدة مخلصة لرسالة الرسول ﷺ.

هذا التصوُّر يُجسِّد الرابطة الروحية والشرعية نحو الأقصى المبارك، ويُحفِّز الشباب على إدراك أن تحرير الأرض ليس مجرَّد هدف ماديٍّ، بل هو جزء من رسالة الإسلام، التي تتطلَّب الاستمرار في تقديم التضحيات، من أجل الحفاظ على الهُوية، إبراهيم يربط بين التاريخ والمستقبل، مما يجعل الرحلة المدرسية تجربة تعليمية تُعمِّق فيهم روح الانتماء والولاء للأرض المقدسة.

ثم يتناول النصُّ تحوُّلًا جوهريًّا في فهم الشخصيات للصراع الذي يواجهونه، يقول الراوي على لسان إبراهيم: “إنما هي معركة عقيدة ودين، معركة حضارة وتاريخ ووجود” ثم يُعلِّق قائلًا: ” قد نجح إبراهيم ومن نظموا هذه الرحلة في غرس هذا المعنى جيدًا في نفوسنا“.

إن المسألة ليست فقط مسألة أرض وشعب طُرد من هذه الأرض! لقد كانت هذه الرحلة تحوُّلًا في الوعي والتقدير لطبيعة الصراع، ليصبح معركة ذات أبعاد عقائدية وحضارية وتاريخية، هذا الفهم الجديد يُعمِّق إدراك الشخصيات لأهمية الصراع وتبعاته على هُويتهم ومقدَّساتهم.

في الرواية يتجلَّى معنى ثبوت الهُوية بجلاء في مقاطع متعدِّدة؛ منها ما ذكره الراوي عن موقف الأسرة من عمل أحد أبنائها بجانب دراسته يقول فيها: “فكرة العمل في داخل الأرض المحتلة عام ١٩٤٨ كانت مرفوضة تمامًا، لذا كان عليه أن يواصل العمل في مصنع خالي، وأن يبحث له عن أي عمل إضافي آخر“.

يظهر في موقف الأسرة الرافض لفكرة عمل أخيه داخل الأرض المحتلة عام 1948بشكل قاطع، في الوقت الذي كانت هذه الفكرة تعتبر خيارًا متاحًا لكثيرين، فهناك إصرار من أسرته على عدم قبولها، وأن عليه أن يستمرَّ في العمل في مصنع الخال، ويبحث عن أي فرصة عمل إضافية أخرى في الأراضي التي لم تحتلَّ بعد! مما يعكس ثباتًا في الحفاظ على الهُوية من أي عارض يُؤثِّر عليها مع حداثة سنِّ أخيه، ويُظهر أيضًا التشبث بالحقوق ورفض الانصياع للضغوط.

البناء الحججي لفلسفة المقاومة:

في رواية “الشوك والقرنفل”، يعرض السنوار بمنطقية حُجج المقاومة الإسلامية المسلحة، مسلِّطًا الضوء على مفهوم التدرُّج في البناء، وهو عنصر أساسي في نهج المقاومة، فالمقاومة لم تكن مجرَّد ردَّة فعل آنية، بل جاءت عبر مسار دقيق من التخطيط، ركَّز على اختيار الكوادر في مرحلة أولى، ثم إعدادهم، والاهتمام بتربيتهم الإيمانية وشحن قلوبهم بمعاني الجهاد وحتمية الدفاع عن القضية العادلة.

منهجية الإعداد والتربية:

من بين المشاهد المعبرة عن هذا المنطق الحججي في الرواية، عندما يسأل أحد الحضور في حلقة شيخهم السؤال الذي يتردَّد كثيرًا: “أين دور الإسلاميين في العمل والمقاومة؟”، يبتسم الشيخ أحمد، متفرِّسًا في وجوه الحاضرين، ثم يقول: “نحن الآن في مرحلة تربية وإعداد“، ويتابع بشرح أهمية التربية ودورها في صناعة مستقبل الأُمم والشعوب التي تطمح لتحقيق أهداف سامية، يبرز هنا مفهوم التربية لأنها اللبنة الأولى التي لا يمكن الاستغناء عنها، إذ هي التي تؤسِّس لروح الجهاد الحقِّ، وتثبِّت الأقدام على طريق المقاومة الطويل.

وفي مشهد آخر يظهر التباين في الرؤى عندما تتطرَّق الرواية إلى مقارنات بين اتفاقات السلام التي يتبنَّاها محمود أخو البطل التابع لمنظمة التحرير، وبين رؤية ابن عمِّه إبراهيم، القيادي الشاب في حماس، والذي أوضح الفرق بين خروج المحتل باتفاق أو بالمقاومة.

في هذا السياق، يعرض السنوار حجج المقاومة بعمق، مؤكدًا أن التحرير الذي يأتي عبر اتفاقات لا يُمثِّل إنجازًا حقيقيًا، بل هو ضرب من التفريط في الحقوق، واعتراف للمحتل بما أخذه من الأرض، بينما المقاومة المسلحة ترى أن طرد المحتل بقوة السلاح هو الطريق الوحيد لاسترداد الكرامة والسيادة، بعيدًا عن أي مساومة أو تنازل.

وبهذه الحُجج توضح الرواية أن المقاومة ليست مجرَّد فعل مادي مسلَّح، بل هي عملية شاملة، تبدأ من غرس القيم بالتربية، مرورًا بالتدريب والإعداد، وصولًا إلى المواجهة، هذا النهج يعكس رؤية السنوار، والذي يتبنَّى مفهوم التدرُّج في البناء، فليس الهدف فقط إخراج المحتل، بل بناء جيل قادر على الحفاظ على المكتسبات، واستمرار مسيرة الجهاد.

ومن هنا يتضح أن فلسفة المقاومة التي يتبنَّاها السنوار لا تقتصر على اللحظة الآنية، بل تسعى لتحقيق مستقبل يليق بتضحيات الأجيال.

في النهاية، تتجلَّى هذه الحوارات ليس فقط تعبيرًا عن رؤية الأبطال، بل هي تعبير عن واقع تاريخي ملموس، حُفر في وجدان المقاومة الإسلامية، والذي أظهرته الميادين، إذ يُصقل الأفراد عبر التربية أولًا، ومن ثم يُقادون إلى ميادين النزال بروح تفيض إيمانًا وعزيمة لا تلين.

دحض شبهة السلطة الفلسطينية بشأن اعتقال المقاومين:

في أحد مقاطع الرواية والتي تظهر قدرة حجاجية عظيمة لدى المقاومة، يُسلِّط الراوي الضوء على الجدل الدائر بين تيار المقاومة وتيار السلطة الفلسطينية حول مفهوم “المصالح الفلسطينية العليا”.

يقول الراوي: “محمود قائلًا: هذا ما تتصوره أنت وجماعتك هذا هو المهم، إنهم يريدون تخريب العملية السلمية، ويقامرون بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني ولا بد من وضع حدٍّ لذلك، فيصرخ حسن عن أي مصالح تتحدَّث يا رجل! مصالح الشعب الفلسطيني أن يعتقل الشرفاء ويذلوا في زنازين التحقيق؟! هل هذه المصالح للشعب الفلسطيني؟! فيقاطعه محمود قائلًا: المصالح الوطنية العليا هي قيام دولتنا الفلسطينية“.

محمود، الذي يُمثِّل وجهة نظر السلطة، يعبِّر عن اتهام شائع بين بعض أوساط السلطة تجاه المقاومين، إذ يُصوِّر المقاومة بأنها تسعى لتخريب العملية السلمية (اتفاقية أوسلو)، والمقامرة بمصالح الشعب الفلسطيني، في المقابل، يُقدِّم حسن أخو البطل صوت المقاومة، مفنِّدًا هذه الشبهة، متسائلًا عن نوع المصالح التي تسوِّغ اعتقال الشرفاء وإذلالهم في زنازين التحقيق؟!

هذه المواجهة الحوارية بين محمود وحسن تُظهر التباين العميق في فهم كل طرف لمفهوم المصالح العليا؛ فمحمود يرى أنه في سبيل بقاء الاتفاقية يمكن التضحية بالمقاومين، والتنازل عن بعض المبادئ الأساسية! بينما حسن يدحض هذه الشبهة بعنفوان، مُستنكرًا أن تُختزل المصالح العليا في أوهام إقامة دولة، وأن يكون الثمن هو كرامة الشعب وحريته، إذ يرى أن المقاومة هي السبيل الحقيقي للحفاظ على هذه المصالح، وأن المقاومة لا تخرب بل تحافظ على جوهر النضال الفلسطيني.

تعبير حسن عن استنكار اعتقال الشرفاء يعكس موقفًا أصيلًا في فكر المقاومة، التي ترى أن النضال ضد الاحتلال يجب أن يكون صافيًا من أي شوائب، فأي نوع من “المصالح” هذا الذي يُقبل معه أن يُعتقل المقاومون ويضيق عليهم؟! في حين أن الاحتلال ما يزال قائمًا ولا تزال معاناة الشعب مستمرة! بالنسبة لحسن ورفاقه، فإن المقاومة هي صمام الأمان للقضية، فهذا هو الطريق، وليس في إقامة دولة مبتورة تتنازل عن الحقوق!

وهكذا يُطرح السؤال الجوهري: هل يمكن أن تتحقق المصالح الوطنية العليا على حساب كرامة الشعب وإرادة مقاومته؟! وفي هذا الحوار، يظهر بوضوح أن رؤية السنوار تؤكد أن المصالح العليا لا تُقاس بالدول المبتورة، بل بحفظ الحقوق وصون الكرامة، وأن هذا هو طريق التحرُّر وإقامة دولة الحقِّ.

شبهة التضحيات وكثرة الشهداء بعد الانتفاضة الثانية 2000:

في جزء من حوار عميق بين أبطال الرواية تتناول القصة الشبهة المتعلِّقة بالتضحيات وكثرة الشهداء بعد الانتفاضة الثانية عام 2000.

يظهر إبراهيم في مواجهة رأي ينادي بضرورة وقف الانتفاضة لحفظ الدماء، إذ يعدُّها البعض إهدارًا للدماء دون تحقيق نتائج ملموسة، مطالبين بأن يمتلك أحد الجرأة ليقف ويصرخ: “كفى، هذا يذهب هدرًا“. هنا، يعكس إبراهيم الرؤية المقاومة بإصرار وإيمان عميق.

يردُّ إبراهيم بحزم وثقة قائلًا: “لا يا أخي، فإن هذا لا يذهب هدرًا“، مُدافعًا عن تضحيات الفتيان الذين يخوضون غمار المعركة بروح خالصة ونوايا صادقة، فهذه التضحيات ليست خسارة لأرواح، بل هي جزء من معركة متصلة، وضربة في جسد الاحتلال، الذي سيضطر في نهاية المطاف لدفع الثمن من دمه، وراحته، وأمنه، واستقراره، واقتصاده.

الردُّ على هذه الشبهة يرتكز على مفهوم أن كل قطرة دم تسفك تُسهم بشكل غير مباشر في إضعاف العدو، وأن هذه التضحيات ليست عبثية، بل هي جزء من دورة مقاومة طويلة الأمد، يتراكم فيها الوعي والغضب الشعبي، الذي سينفجر في وجه المحتلِّ.

فإبراهيم يؤمن بأن التضحيات هي زاد الشعوب، وأن الحلم بطرد المحتلِّ لا يُدفن بموت الأبطال، بل يُزهر بدمائهم، ويؤكد إبراهيم على أن المقاومة، رغم الثمن الباهظ، لها عائد يتجاوز الحصيلة المادية الفورية، وسيبرز من يحمل الراية ويشهر السيف في وجه الجلَّاد، ولن يضيع حقٌّ وراءه مطالب، فضلًا عما يناله الشهداء من الأجر العظيم.

في هذه الكلمات، يضع إبراهيم حجر الأساس لفلسفة المقاومة، التي ترى أن النصر قد لا يكون آنيًا، لكن العدو سيظل يدفع الثمن، سواء كان ذلك باضطرابه الأمني أو خسائره الاقتصادية، أو في نهاية المطاف بانهيار إرادته الاحتلالية أمام صمود وإرادة المقاومين.

هذا التوجُّه يتماشى مع رؤية السنوار في الرواية، إذ لا تُقاس النجاحات بالنتائج اللحظية، وبذلك يتبدَّى لنا أن قوة المقاومة تكمن في صبرها وإيمانها بقضيتها، وأن تضحياتها هي الوقود الذي يُحرِّك عجلة الصمود، فتظلّ القضية حيَّة حتى يتحقَّق النصر المنشود.

9- تصور السنوار للمقاومة:

تُقدم الرواية تصورًا عميقًا للمقاومة من خلال تجارب السنوار الشخصية، يُظهر السنوار خلال سطورها كيف أن المقاومة هي تعبير عن إيمان راسخ، ويُبرز أيضًا في رؤيته دور الفرد المقاوم، وكيف يمكن للإرادة الشخصية أن تسهم في تحقيق الأهداف الكبيرة، فالرواية تتناول مسألة الجهاد باعتباره مفهومًا إسلاميًّا نابعًا من الإيمان العميق، ويُظهر الكاتب كيف أن الجهاد عمل إيماني يُجسِّد القيم الإسلامية، كما يعكس التصوير الأدبي في الرواية العلاقة بين النضال والإيمان.

يقول السنوار: “تقدَّم محمد أحد الشبان الذين هربوا من سجن غزة قبل أسابيع، وحين وصل للسيارة سحب مسدسه وصوبه إلى رأس قائد الشرطة وقلبه، وأطلق عدة طلقات ثم اختفى بين الناس إلى جانب، حيث أخذته سيارة كانت بانتظاره وابتعدت من المكان“.

في تصوُّر السنوار، تُعدُّ المقاومة خيارًا ثابتًا واستراتيجيًّا لا يمكن التراجع عنه، بل إنها تُعتبر جوهر الصمود واستمرار النضال ضد الاحتلال، يتمثَّل ذلك في نموذج الشاب الهارب من سجن غزة، والذي لم يكتفِ بالفرار والاختباء، بل واصل نضاله بشجاعة وتصميم، دلالة على ثبات هذا الخيار.

هذا المشهد يعكس رؤية السنوار بأن المقاومة ليست مجرَّد نشاط ميداني، بل هي موقف ثابت، يتجلَّى حتى في الظروف الأكثر خطورة، ويُعبِّر عن عمق الإيمان بضرورة استمرار النضال ضد الاحتلال، فحتى عندما يجد المقاوم نفسه خلف القضبان، يبقى عقله وقلبه ملتزمين بخيار المقاومة، ويظل مستعدًا لاستئناف النضال فور تمكًّنه من التحرُّر، وهذا يمكن أن يفسِّر لنا سرعة اندماج السنوار في جسد المقاومة عقب خروجه من السجن.

إن هذه الحادثة تُعزِّز تصوُّر السنوار للمقاومة باعتبارها مبدأً راسخًا، وطريقًا لا عودة فيه، ليصبح جزءًا من الهُوية والرسالة التي يحملها كلُّ مقاوم في مسيرته الطويلة نحو التحرير.

تعلَّم السنوار هذا النهج مبكرًا على يد شيوخ الحركة، وفي ذلك يقول عن بعض حلقات شيخه: “بدأ الشيخ أحمد يشرح وجهة نظره بأن هذا الشعب شعب أصيل، وهو مستعد للتضحية والفداء بكل غالٍ ونفيسٍ، وقد أثبت من قبل وسيثبت أنه أكثر استعدادًا من كل ما هو متوقَّع منه بعشرات بل بمئات المرات، وأنه يطمع أن تتحوَّل حالة التمرُّد والانتفاضة هذه إلى حالة دائمة، بحيث تصبح ديدن الشعب الفلسطيني وحياته اليومية؛ فهي المحور الرئيسي في حياتنا، وكلُّ شيء آخر يتكيَّف مع هذا المحور الرئيسي“.

في رؤية الشيخ أحمد، يتجلَّى الإيمان العميق بأصالة الشعب الفلسطيني وقدرته الفائقة على التضحية والفداء، فالشعب الفلسطيني لا يعرف الاستكانة أو الخضوع، بل يحمل في داخله روحًا متمردة وعزيمة لا تلين، ومن خلال كلماته، يعبِّر عن تطلعه لأن تتحوَّل الانتفاضة والتمرُّد ضد الاحتلال إلى حالة دائمة ومستمرة، تصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للشعب الفلسطيني.

فهو يرى أن الانتفاضة يجب ألا تكون مجرَّد ردٍّ مؤقت، بل يجب أن تصبح المحور الرئيس لحياة الفلسطينيين، يدور حولها كلُّ شيء آخر ويتكيَّف معه، إنها دعوة صريحة لجعل المقاومة والنضال أساسًا لكلِّ نشاط يومي، ولإبقاء جذوة الصمود مشتعلة في كلِّ لحظة.

إنها رؤية تحثُّ على الاستمرارية في النضال، وتؤكد على أن التمرُّد ليس مجرَّد وسيلة لتحقيق هدف مؤقت، بل هو حياة تُعاش بكل تفاصيلها، تُبنى على التحدي والصمود، وتنبض بروح الإصرار على نيل الحرية والكرامة، مهما كلف ذلك من تضحيات.

في مقطع آخر يروي السنوار تفاصيل قرار العائلة بتعلية بناء الدار، متزامنًا مع تصاعد الانتفاضة، في رسالة رمزية عن تطوُّر المقاومة وعلوِّ بنائها رويدًا رويدًا، يقول السنوار:

نظرًا للاكتظاظ الكبير في الدار، قررت العائلة بناء طابق ثانٍ. وكانت المهمَّة بأساسها ملقاة على عاتق إبراهيم وعلي، وأنا وحسن نساعده، بينما تولَّى محمود الإرشاد والإشراف الهندسي، وإحضار ما يلزمنا من أدوات… وقد قرَّرنا العمل رويدًا رويدًا”.

إن مشهد البناء هذا يتجاوز مجرَّد كونه حلًّا لمشكلة الاكتظاظ داخل بيت العائلة، بل ليصبح رمزًا للصمود والقوة المتزايدة، هذا البناء ليس مجرَّد طابق إضافي يُضاف إلى الدار، بل هو تجسيد لتصاعد النضال إلى مرحلة جديدة، وهذا جزءٌ مهمٌّ من رؤية السنوار للمقاومة التي تتقدَّم بثبات، ويجب أن تتصاعد معاركها المباشرة مع الاحتلال، وأن تُسرع خطاها تجاه التحرير.

10- التحرير والمفاوضات:

في رواية “الشوك والقرنفل”، يظهر بوضوح أن التحرير الحقيقي لا يمكن أن يحدث دون مقاومة فعَّالة.

أحد أبطال الرواية، الذي يرى في مفاوضات أوسلو بدايةً محتملة للتحرير، كان يعبر عن ذلك الأمل إلا أن تلك الرؤية لاقت معارضة شديدة من قبل بعض أبطال الرواية من أبناء حركة حماس، الذين اعتبروا المفاوضات تفريطًا في حقوق وتطلُّعات الشعب الفلسطيني نحو التحرير الكامل، يقول السنوار مخبرًا محمود الذي يرى جدوى اتفاقية أوسلو: “لو لم تصنعوا لهم هذا السلم، كان سيخرج هاربًا من غزة والضفة دون اعترافات“.

فالسنوار يرى أن الاحتلال كان سيُجبر في نهاية المطاف على الهروب من غزة والضفة دون أي اعتراف رسمي أو اتفاق يعطيه شرعية في الأرض المحتلة، فالرواية تعكس بوضوح أن مقاومة الاحتلال تُشكِّل في وجدانه الأساس الذي يعتمد عليه لتحقيق الأهداف الكبرى، مما أسهم في تشكيل رؤية السنوار الحالية التي تركز على المقاومة وسيلةً أساسية لتحرير الأرض واستعادة الحقوق.

11- صفقة الأسرى في ظلِّ رواية الشوك والقرنفل:

فيما يتعلَّق بالأسرى، تعكس “الشوك والقرنفل” خيبة الأمل الكبيرة التي سادت بين الفلسطينيين بعد اتفاقية أوسلو، فقد كانت الأعداد المفرج عنها أقل بكثير من المتوقَّع، ولم تشمل كبار المناضلين الذين كانوا يتصدَّرون قائمة المطالب.

هذا الفشل في تحقيق نتائج ملموسة في ملف الأسرى له تأثير كبير على رؤية السنوار الحالية، فقد أصبح واضحًا أن أي صفقة أسرى مستقبلية يجب أن تكون كبيرة وشاملة دون تقديم تنازلات، وأن الطريق لزيادة تأثيرها يكمن في تعزيز المقاومة، فالسنوار يرى أن المقاومة الفعَّالة هي السبيل الوحيد لتحقيق صفقة أسرى تعكس القيمة الحقيقية للأسرى الفلسطينيين وتحقق انتصارًا حقيقيًا في معركة التحرير.

12- أجيال متعاقبة وحلم العودة:

يتجلَّى الفقدان بموت الجدِّ الذي رعى الأحفاد، وهو شخصية تحمل الأمل والحلم في زمن صعب، ويعكس هذا الموت كيف أن كل جيل يحمل عبء الماضي، مُثقلًا بتجارب الأسلاف وتطلُّعاتهم.

تستمر أمانة النضال والمقاومة عبر أجيال متعدِّدة، إذ يمرُّ حلم العودة من جيل إلى جيل، ويُظهر السنوار كيف أن هذا الحلم لا يتلاشى بمرور الزمن، بل يظل حيًّا في قلوب الأجيال الجديدة، مما يعزِّز من عزمهم على مواصلة النضال لتحقيق ما عجزت الأجيال السابقة عن تحقيقه، مدفوعةً بقيم الأمل والصمود التي زرعها الأسلاف.

هكذا تؤكِّد الرواية على أن حلم العودة هو إرث متواصل يتجاوز حدود الزمن، فالأجيال الجديدة، رغم تحدياتها الخاصة، تستلهم من تضحيات الأسلاف، مُعززةً إرث الأمل والصمود، فالموت ليس نهاية، بل هو انتقال للأمانة من جيل إلى جيل، ليواصل طريقه نحو المستقبل بإصرار لا يلين، كما هو الحال مع حلم العودة الذي جسَّده السنوار بهذا الحدث، مبينًا الأثر العميق للتاريخ والذاكرة على الهوية الفلسطينية، ومُبرهنًا أن حلم العودة هو جزء لا يتجزأ من النضال المستمر لتحقيق هذا الحلم العظيم.

مشاهد معبرة عن ملامح مهمة في عقلية السنوار:

رؤيته للتعامل مع الخونة والجواسيس:

في هذا مشهد قوي من مشاهد رواية “الشوك والقرنفل”، يتجلَّى أحد الجوانب المهمة في شخصية السنوار، بشأن موقفه الصارم تجاه الخونة والعملاء، وذلك من خلال شخصية “أبو حاتم” أحد رجال المخيم الكبار من ذوي الهيبة، فالسنوار تشكلت رؤيته عن الخيانة والخونة من خلال تجارب قاسية ومواقف لا تحتمل المهادنة مع من يختار الوقوف إلى جانب العدو ضد أبناء وطنه.

يقول الراوي: “رفع أبو حاتم عصاه مشيرًا للناس بالصمت، فساد السكون، فقال أبو حاتم: يا ناس هذول اليهود احتلوا أرضنا وطردونا من بلادنا، وقتلوا رجالنا، وهتكوا أعراضنا، وفينا ناس مستعدين يتعاونوا معهم ضد الفدائيين اللي حملوا أرواحهم على أيديهم، إيش جزاة الخاين اللي بشتغل مع اليهود يا ناس؟ فارتفع صوت الناس الموت… الموت …. فتناول أبو حاتم بندقيته من كتفه، ووجهها نحو رأس ذلك الجاسوس، وضعت أمي يدها على عيني فحاولت إزاحتها لأرى ما يحدث، ولكن سمعت صوت طلقات وهتف الناس الموت للخائنين، الموت للعميل“.

أبو حاتم، بكلماته الحازمة وإعدامه العلني للجاسوس، يُعبِّر عن المبدأ الجوهري الذي يحمله السنوار في قلبه: الخيانة هي جريمة عظمى لا ينبغي التهاون معها.

هذا المشهد يصوِّر كيف أن الخيانة ليست مجرَّد خطأ عابر، بل هي مشاركة في الجريمة النكراء ضد هذا الشعب، وإسهام مباشر في إطالة أمد المعاناة وإضعاف النضال، أبو حاتم، حين يسأل الجماهير عن جزاء الخائن، لا يتحدَّث بلسان شخص واحد، بل بلسان القضية بأكملها، حيث يعبر الهتاف: “الموت للخائنين” عن صوت الشعب الرافض للمساومة على دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين.

إطلاق النار على الجاسوس ليس عقوبة فردية فقط، بل هو درس يُدرس، ورسالة واضحة بأن المصير المحتوم لكل من يختار الخيانة هو الهلاك، هذه الصرامة تنعكس في شخصية السنوار الذي يرى أن الحفاظ على نقاء الصف الداخلي للمقاومة يتطلَّب الحزم المطلق في مواجهة الخونة، لأن وجودهم يُشكل خنجرًا مسمومًا يُهدِّد جسد النضال والمقاومة.

يكتسب السنوار من هذه اللحظات قناعة راسخة بأن الخيانة ليست فعلًا يمكن التغاضي عنه أو التسامح معه، فالخائن عدوٌّ خفيٌّ يتساوى في خطورته مع العدوِّ الظاهر، ولا بد من اجتثاثه بلا رحمة، إذ يرى السنوار أن الخونة والعملاء يهدِّدون أمن المقاومة وفعالية النضال، ولهذا فإن العدالة هنا تطبق عبر قوة القانون الثوري الذي لا يسمح بتسلُّل الخيانة إلى صفوف المدافعين عن أرض الإسراء المباركة.

وبهذا المشهد، تتعزَّز في شخصية السنوار قناعة بأن الصلابة والحزم في التعامل مع الخونة ليست قسوة، بل ضرورة حتمية للحفاظ على وحدة الصفِّ وصلابة الجبهة الداخلية، فلا يمكن لمشروع التحرير أن يمضي قدمًا إلا بإقصاء الخيانة ومحاسبة الخونة بأشد الطرق، هذا الفهم العميق يرسخ في وجدان السنوار، ليكون جزءًا لا يتجزأ من نهجه في قيادة المقاومة، إذ لا مكان لمن يخون الأمانة.

الاستفادة من وضع عرب 1948:

تعرض الرواية قصة شاب التحق بالعمل في الأراضي المحتلة منذ عام 1948، وكانت نواياه الثابتة في النضال ضد الاحتلال، ويوضح أحد المشاهد كيف كان الهدف من عمله هو الإعداد والتخطيط لعمليات فدائية، حيث كان يسعى لتوجيه ضربات قوية إلى قلب الكيان الصهيوني، من خلال استغلال وضع عرب 1948 بطريقة مبتكرة وغير متوقعة.

بعد أشهر من التكيُّف مع البيئة الجديدة وتهيئة الظروف، كان الشاب يقوم بتجهيز قنبلة ويخفيها في كيس طعامه. لقد كان يختار وجهته بعناية في كل مرة—سواء كانت حافلة، مقهى، أو ملهى ليلي في يافا—ويضع القنبلة في مكان خفي، ثم يعود إلى بيته بعد إنهاء عمله، لتنفجر القنبلة لاحقًا في الأماكن التي اختارها، مما يتسبب في إصابات وأضرار، وفي بعض الأحيان يُسفر عن قتلى.

هذه العمليات كانت تحمل رسالة قوية، بشأن إمكانية الاستفادة من وضعية عرب 1948 بطريقة استراتيجية، يُعتبر استخدام هذا الأسلوب في العمليات الفدائية بمثابة استغلال دقيق للأوضاع، وتأكيد على أن الفلسطينيين قادرون على مواجهة الاحتلال بأساليب متنوعة من المقاومة، يمكن من خلالها تحويل الوضع الصعب إلى فرصة لتحقيق أهداف النضال، ويعكس مرونة وإبداع المقاومين في مواجهة الاحتلال.

مصيبة التطبيع في أول أمرها:

تتناول رواية “الشوك والقرنفل” موضوع التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال لحظة محورية أثارت صدمة عارمة في العالم العربي، وهي زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس عام 1977، وخطابه أمام الكنيست الإسرائيلي.

تلك اللحظة، التي مثَّلت نقطة تحوُّل كبيرة في مسار الصراع، كانت بمثابة الزلزال الذي هزَّ أركان الوعي العربي، وخاصة الفلسطيني، إذ أحس الجميع أن هذه الخطوة غير المسبوقة هي بمثابة خيانة للتاريخ والنضال والتضحيات.

يقول السنوار: “وكم كانت صدمتنا عظيمة ونحن نسمعه_ الرئيس المصري السادات_ يعلن أنه مستعد لزيارة الكنيست الإسرائيلي، والمصيبة كانت قد ألجمتنا تمامًا ونحن نسمع المذياع وهو يغطي زيارة السادات للقدس، وخطابه في الكنيست أمام الحكومة الإسرائيلية وأعضاء الكنيست في إسرائيل، لم يكن عندنا في الدار جهاز تلفزيون، لذا لم نر تلك الصور ولكن التغطية للحدث في المذياع كانت كافية لصدمنا بصورة أفقدتنا القدرة على إدراك هل كان ذلك حقيقة أم مجرَّد خيال؟! ويبدو أن الصدمة أصابت العالم العربي بأسره أو في معظمه؛ حيث إن مستوى التناقضات والخلافات التي حدثت بين الأنظمة كانت خطيرة وبعيدة الأثر وبصورة طبيعية، فقد كنا كفلسطينيين نميل بكل جوارحنا إلى الصوت المعارض والمضاد والهجومي ضد السادات وضد اتفاقيات كامب ديفيد“.

يجسِّد هذا المقطع شعور الصدمة والذهول في قلب البيت الفلسطيني، الذي لم يمتلك جهاز تلفزيون ليشاهد الحدث، ولكن حتى عبر المذياع كانت الكلمات كافية لتثير مشاعر الحيرة والارتباك، وتدفع بالأفكار لتتأرجح بين التصديق والإنكار!

السادات، بموقفه ألقى بظلال من الشكِّ والخوف الكبير حول مستقبل التضامن العربي مع القضية الفلسطينية.

هذا الحدث التاريخي، كما تصفه الرواية كان مصيبة كبرى ألمَّت بالمجتمع العربي، فألجمت النفوس وأفقدتها القدرة على الاستيعاب الكامل لما يحدث، كان التطبيع في أول أمره بمثابة الخروج عن الصف العربي، وتجاوز للخطوط الحمراء التي رُسمت بالدماء والتضحيات على مدار عقود من النضال ضد الاحتلال، ولذا لم يكن غريبًا أن يشتعل السخط في الشارع العربي، في أرجاء الوطن العربي كافة، وخاصة بين الفلسطينيين، الذين رأوا في هذه الخطوة طعنة غائرة في قلب القضية الفلسطينية.

من بين هذا السخط، تبرز مشاعر الغضب والخيبة في الرواية، إذ يميل الفلسطينيون بكل جوارحهم إلى رفض هذا النهج الجديد، والتمسُّك بالموقف الثابت الذي يرى في الاحتلال عدوًا لا يمكن مهادنته أو التصالح معه، ويرون أن اتفاقيات كامب ديفيد في تلك اللحظة الأولى، لم تكن اتفاقًا سياسيًّا فقط، بل كانت تغييرًا جذريًّا في معادلة الصراع، قد جعل من المقاومة خيارًا لا رجعة فيه عند الكثيرين، الذين رأوا أن طريق التفاوض والسلام ليس إلا نفقًا مظلمًا يؤدي إلى التنازل عن الحقوق والكرامة، هكذا عبَّر النصُّ عن حتمية الصراع والاستمرار في المقاومة في مواجهة التغيُّرات المحبطة على الساحة العربية.

مشهد كاشف تستبين فيه السبل مع إعلان المفاوضات في أوسلو:

تظهر الرواية بوضوح الفارق الكبير بين طرفين داخل المخيم، مع إعلان مفاوضات أوسلو، حيث تنطلق مظاهرتان من المخيم كل واحدة تمثل تيارًا سياسيًّا مختلفًا؛ الأولى مؤيدة للمفاوضات وتابعة لحركة فتح، والثانية معارضة وتتبع حركة حماس.

كلتا المظاهرتين تسلكان اتجاهين متعارضين، ما يعكس بجلاء التباين الحادَّ في الرؤى والمواقف تجاه المسار السياسي للقضية الفلسطينية.

المظاهرة المؤيدة، تحمل غصون الزيتون رمزًا للسلام والتفاوض، تمرُّ بجوار دوريات جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأفرادها يلقون الأغصان على عربات الجيب العسكرية، فيما يقف جنود الاحتلال حذرين، بنادقهم موجهة نحو المتظاهرين.

على الجانب الآخر، تمرُّ المظاهرة الثانية، التي تقودها حماس، بجوار نفس الدوريات، لكن بأسلوب مختلف تمامًا، حيث تتصاعد الهتافات بقوة وعزم: “بالروح بالدم نفديك يا فلسطين… القدس لنا لا للظلمة… الويل لهم في الملحمة“، ويبدأ المتظاهرون برشق الجنود بالحجارة، ما يجسِّد تمسُّكهم بخيار المقاومة ورفضهم المطلق لأي شكل من أشكال التفاوض مع العدو، ورفضهم لأي تنازلات تُقدَّم باسم السلام.

يمثِّل هذا المشهد تذكيرًا بأن الصراع الفلسطيني ليس فقط مع الاحتلال، بل هو أيضًا مع الخيارات الاستسلامية الصعبة المتراجعة أمام المحتل.

رمزية شجر الزيتون بين المجاهدين والمطبعين:

يبرز النصُّ أيضًا مساحة رمزية لافتة، حيث يربط بين شجر الزيتون الأصيل، الذي يمثل الأرض والجذور والثبات، وبين عماد عقل، رمز الجهاد والمقاومة، ليؤكِّد على قيمة الجهاد وروح التضحية، وأنها الأصل المركوز في هذا الشعب.

ففي مشهد مؤثِّر، يجلس محمد أحد شخصيات الرواية، الشاب ذو الخمسة والعشرين عامًا، إلى جانب أمِّ نضال، ويأكل الزيتون بكثرة، مما يدفعها لسؤاله: “ما بالك يا محمد لا تأكل سوى الزيتون؟! ألا تحب الأصناف الأخرى يا ولدي؟” فيردّ محمد: “لا يا أمي، أحبها كلها، ولكني أحب الزيتون أكثر. أليس هذا الزيتون من زيتونتنا التي استشهد تحتها عماد؟”.

كلمات محمد تُخرج دمعة من عين أمِّ نضال، التي تردُّ بحنان وافتخار: “رحمه الله، نعم يا ولدي.” فيعقِّب محمد: “لذلك أحبها، أشعر أن هذا الزيتون ينبض بروح عماد، فأحبه حبًّا جمًّا لأنني أحب عماد”.

هنا، يتجسَّد الزيتون رمزًا للجهاد والتضحية، تذكيرًا بأبطال المقاومة، خلافًا لما يحاول المطبِّعون مع الاحتلال تصويره، إذ يروِّجون لشجرة الزيتون رمزًا للسلام أو الاستسلام، ويصبح غصن الزيتون علامة على قبول شروط المحتل الغاصب، فشتان بين رمزية الزيتون لدى المجاهدين، الذي يُمثل صمودًا وارتباطًا بالجهاد، وبين رمزيته الأخرى الاستسلامية، التي تهدف لتسويغ التنازلات وللقبول بشروط المحتل.

رباط في رحاب الأقصى:

في رحلته للدفاع عن الأقصى، يسافر الراوي ليشهد بنفسه حجم التحديات والتهديدات التي تواجه القدس والمسجد الأقصى، وسط تصاعد نوايا حركة أمناء الهيكل في اقتحامه والسيطرة عليه، حين يدخل قلب المدينة القديمة، التي تحوَّلت إلى ثكنة عسكرية، حيث ينتشر مئات الجنود في كل مكان، يحيطون بالمدينة ويشدِّدون قبضتهم على كل زاوية وموقع، سيارات عسكرية تجوب الطرقات الضيقة، تحاول فرض السيطرة، بينما الأسلاك الشائكة تمتد حول المواقع الحساسة، وكأنها تحاصر روح المدينة، وتحاول عزلها عن عمقها العربي والإسلامي.

منذ أواسط السبعينيات، ومع تنامي حركة الاستيطان المدعومة بقوة من قوات الاحتلال، بدأت تتكشف مخططات السيطرة على المدينة القديمة، إذ طُرد الفلسطينيين من منازلهم في سعي لتغيير وجه المدينة.

يحمي الجنود المستوطنين ويدعمونهم في عملياتهم، ليُشكلوا معًا آلة تغيير قسرية تهدف إلى اقتلاع الناس من جذورهم، وإحلال هوية دخيلة على المكان، في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والمقاومة، يصبح الدفاع عن الأقصى والرباط فيه خط دفاع خطير، إن الأقصى بات الآن رمزًا للصمود والمقاومة، هكذا تَشكَّل جزءٌ جديد من وعي السنوار في هذه الرحلة العظيمة.

لقد عبَّر يحيى السنوار بعمق عن مركزية المسجد الأقصى في وجدان الشعب الفلسطيني، وهو ما يتقاطع مع أحداث معركة “طوفان الأقصى”، فالرواية سلَّطت الضوء على أهمية الأقصى باعتباره مقدسًا إسلاميًّا، تتجسَّد فيه معاني المقاومة، وهو ما تجلَّى بوضوح في حسِّ الشعب الفلسطيني خلال شهور هذه المعركة، فقد رأينا اعتداءات صهيونية متكررة على الأقصى، واقتحامه بشكل يومي من قبل المستوطنين تحت حماية الجيش، في تحدٍّ صارخ لمشاعر الملايين من المسلمين حول العالم، إضافة إلى ممارسة الطقوس التلمودية في ساحاته، في محاولة لفرض واقع جديد في قلب الأقصى، فكانت الرواية كمرآة تعكس واقع هذه الاعتداءات، إذ استعرضت الرباط القوي بين الفلسطينيين والمسجد وأنه جزء لا يتجزأ من نضال الشعب وهويته.

عرب الداخل منا ونحن منهم:

في هذه الرحلة للدفاع عن الأقصى، تكشف الرواية عن حقيقة مغيبة في كثير من الأحيان، وهي مكانة عرب الداخل الفلسطينيين، الذين يعيشون داخل الخط الأخضر منذ عام 1948، بين أبناء شعبهم والذين أتوا أيضًا للدفاع عن الأقصى.

كان اللقاء بهم في المسجد الأقصى فرصة للتعرُّف على هذا الشطر الممزَّق من الشعب الفلسطيني، الذي لطالما جرى تشويهه من قبل البعض، ووصمهم بالخيانة أو التخاذل بحكم الظروف التي فرضها الاحتلال عليهم.

كانت الرحلة كاشفة للحقائق، حين التقى الراوي بعرب الداخل، رأى فيهم نموذجًا للثبات والمقاومة رغم كل الظروف، وجد فيهم خصالًا جميلة وقلوبًا طيبة، وغيرة تنبع من إيمان عميق بقضيتهم وانتمائهم لأمتهم.

كانوا رمزًا للشجاعة والصمود، وأثبتوا أن عيشهم تحت الاحتلال لم يزدهم إلا تمسكًا بدينهم وقضيتهم، فكانوا خط الدفاع الأول عن الأقصى في قلب مدينة تحت الحصار.

في مشهد يجسِّد التضامن والألفة، جلسوا معًا يتناولون طعام الغداء، ليعبِّروا بذلك عن مدى قربهم من إخوانهم، وعن الروح الأخوية التي تجمعهم، رغم الحدود والأسلاك الشائكة، خلال هذا اللقاء تعرَّف الراوي على شباب من أمِّ الفحم، وعلى آخرين من كفر قاسم، وغيرها من مدن الداخل الفلسطيني، ليجد فيهم شبابًا يتحلون بروح عالية من التديُّن، وبمستوًى عالٍ من الوعي والانتماء.

هؤلاء الشبان كانوا مرابطين يحملون عبء الدفاع عن الأقصى بقلوب صافية، يواجهون الاحتلال كل يوم بإيمانهم وعزيمتهم، يعيشون تحت ظلال الهوية الإسلامية.

لقد أزال هذا اللقاء كل الحواجز النفسية التي ربما كانت قائمة، وبدَّد كل الشكوك التي روج لها الاحتلال وسعى لترسيخها عبر سنوات من التفريق بين الفلسطينيين، فلا فرق بينهم وبين أي فلسطيني آخر، يعيشون نفس الألم، ويحلمون بنفس الأمل، ويمارسون ذات الثبات في وجه الاحتلال.

طبيعة الكيان الصهيوني:

يسطِّر السنوار رؤيته عن طبيعة الكيان الصهيوني في أحد مقاطع الرواية عبر حديث حسن، أحد أبناء حماس، قائلًا:

” أخبرنا الله عنهم، حين كشف لنا طبيعتهم الحقيقية؛ نفوسهم الملتوية وطريقتهم في التعامل مع الآخرين، هؤلاء القوم لا يعترفون بعهد ولا يلتزمون باتفاق، لا يقيمون وزنًا لأي ميثاق ولا يرعون إلًّا ولا ذمة“.

في هذا السياق، يؤكِّد حسن أن هؤلاء القوم لا يمكن أن يفوا بعهد؛ فتاريخهم ممتلئ بخيانة العهود حتى مع الأنبياء.

إن هذه الكلمات التي يسطرها السنوار على لسان حسن تعكس فهمًا عميقًا لطبيعة العدو، عدو لا يفهم إلا لغة القوة، هذا الفهم ليس مجرَّد تحليلات سياسية أو توقُّعات مستقبلية، بل هو يقين مستند إلى نصوص الكتاب والسنة وتجارب تاريخية متكررة، وذلك لأن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع وجود، ويتعيَّن على الجميع أن يدرك هذه الطبيعة، ويستعدَّ للمواجهة بأقصى درجات القوة والصلابة، مدركًا أن التنازل أو التهاون لن يؤدي إلا إلى المزيد من التراجع والخسارة، في معركة لا تقبل الحلول الوسطى، و لا مكان فيها للتسويات إلا على حساب الحقِّ.

الخاتمة:

في ختام استعراضنا لرواية “الشوك والقرنفل” ليحيى السنوار، نكتشف أنها تقدم سردًا معمقًا للنضال الفلسطيني، ليس فقط عبر تصوير حياة الأفراد تحت الاحتلال، بل هي شهادة حيّة على شجاعتهم وصمودهم في مواجهته بكل ما يقدرون عليه.

تعكس الرواية عمق التحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني وجمال الروح الشعبية، والإصرار الذي يتحلون به، من خلال تفاصيلها، تُظهر الرواية كذلك أن النضال الفلسطيني رحلة مليئة بالتحديات والأمل، وتؤكد أن الحرية تتحقَّق بالجهد والتضحية، وأن المقاومة هي انعكاس لقوة الإيمان، لتظل رواية “الشوك والقرنفل” علامة فارقة في الأدب الفلسطيني المقاوم، تُرسِّخ في وجداننا أن الجهاد هو طريق الحرية الحقيقية، وأن صمود الشعب الفلسطيني مستمر لا ينكسر، يخط بدماء الشهداء حروف النصر الموعود، وإن درب الحرية ليس سهلًا، ولكن الإصرار على المقاومة هو ما يعزِّز الإيمان بأن الغد يحمل في طياته النصر والتحرير.

تلك هي الرسالة الكبرى التي حملتها الرواية للأجيال القادمة، بأن النضال المستمر هو طريق التحرير الأكيد، وأن الشوك الذي يعترض طريق المجاهدين هو جزءٌ من طريق الشوك المحيط بالقرنفل، والذي يُفضي عقب اقتلاعه إلى النصر المنشود.

زر الذهاب إلى الأعلى