حدث ورؤية

بايدن: خطاب الوداع وتهديدات لافتة!

من الطبيعي أن يهتم الناس في أيام ترامب الأولى بتصريحاته وسيل القرارات التنفيذية التي يوقعها، ولكن ربما نحتاج لالتفاتة مهمة لخطاب الوداع الذي ألقاه بايدن قبيل مغادرته للبيت الأبيض، وذلك لسببين:

الأول: أن رجلًا أمضى نصف قرن في الحياة العامة، منها اثنتا عشرة سنة في البيت الأبيض، عنده ما يقوله، وعنده ما قد يفلت منه من أفكار أو معلومات.

والثاني: أنه كما يصدق الكذاب عند الموت، فربما يصدق رجل سيأوي إلى الظل والنسيان بعد خمسين عامًا في دائرة الضوء.

ألقى جو بايدن، مساء 15 يناير 2025، خطاب الوداع من المكتب البيضاوي العتيق، واستغرق حوالي ربع ساعة، وحذر من ثلاثة مخاطر قد تُغرق البلاد في فوضى عارمة:

الخطر الأول: على غرار إزنهاور في خطاب وداعه عام ١٩٦١، الذي حذر فيه من احتمال الصعود الكارثي للسلطة في غير مكانها، ووقوعها بيد المجمع العسكري الصناعي الذي يتألف من المؤسسة العسكرية الضخمة والصناعات العسكرية الكبيرة، قدم بايدن صورة مخيفة لما يمكن أن تؤول إليه بلاده إذا آلت مقاليد السلطة والنفوذ إلى ما أسماه “المجمع الصناعي التقني”، قائلًا: إن “الأمريكيين يُدفنون الآن تحت انهيار ثلجي من المعلومات المضللة والكاذبة التي تمكن من إساءة استخدام السلطة”.

وهو بهذا يشير إلى وقع الدور المرتقب لإيلون ماسك في إدارة ترامب الثانية والتصريحات المتتالية من مديري شركات التقنية تجاه ترامب، ومنهم مارك زوكربيرج رئيس ميتا وچيف بيزوس رئيس أمازون، إضافة إلى إلغاء برنامج تدقيق الحقائق في فيسبوك.

وقال بايدن: إن من تداعيات هذا النفوذ المتصاعد، أن الصحافة الحرة تنهار، والمحررين يختفون، ووسائل التواصل الاجتماعي تتخلى عن التحقُّق من الحقائق، والحقيقة تختنق بالأكاذيب التي تُروى من أجل السلطة والربح. وقال: “يجب أن نُحمل منصات التواصل الاجتماعية المسؤولية عن حماية أطفالنا وأسرنا وديمقراطيتنا ذاتها من إساءة استخدام السلطة”.

الخطر الثاني: حذر بايدن من استيلاء الأقلية (الأوليجارشية) على الحكم، وسلبها للديمقراطية والحقوق الأساسية والحريات والفرص العادلة لجميع أفراد الشعب.

وقال: إن هذا أصبح بالفعل مشاهدًا وعواقبه ظاهرة في مختلف أنحاء أميركا. وقال: إن ذلك وقع من قبل منذ أكثر من قرن من الزمان، ولكن الشعب الأميركي وقف حينها في وجه بارونات اللصوص، وأجبروا الأثرياء على الالتزام بالقواعد التي كان الجميع مضطرين إلى الالتزام بها.

وضرب مثلًا بالتهديد الوجودي المتمثل في تغير المناخ من كاليفورنيا إلى كارولينا الشمالية، بينما تسعى الأقلية القوية الثرية المتنفذة لممارسة نفوذها غير المقيد للقضاء على أي خطوات لمعالجة أزمة المناخ، لخدمة مصالحها الخاصة من أجل السلطة والربح.

وقال بايدن: لا ينبغي لنا أن نستسلم للتنمر للتضحية بالمستقبل، ومستقبل أطفالنا وأحفادنا، ولسنا مضطرين للاختيار بين حماية البيئة وتنمية الاقتصاد.

الخطر الثالث: رأى بايدن أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هي الأكثر أهمية في عصرنا، وربما في كل العصور، ولا شيء مثلها يقدم إمكانيات ومخاطر أعمق لاقتصاد أميركا وأمنها ومجتمعها.

وقال: ما لم يتم وضع الضمانات التشريعية اللازمة، فقد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى ظهور تهديدات جديدة لحقوقنا وطريقة حياتنا وكيفية عملنا وكيفية حماية أمتنا، ولذلك يجب أن نتأكد من أن الذكاء الاصطناعي آمن وجدير بالثقة.

وقال: يجب على أمريكا، وليس الصين، أن تقود العالم في تطوير الذكاء الاصطناعي، وفي السنوات القادمة سيساعد الذكاء الاصطناعي في مواجهة هذه القوى العالمية القوية.

وبالنظر إلى هذه التهديدات التي حددها بايدن، فيمكن ببساطة اعتبارها تهديدًا واحدًا فقط وهو: أن يصبح الأثرياء من أصحاب شركات التقنية الحكام الحقيقيين لأميركا. وهذا التهديد المروع له شواهد كثيرة، منها:

  • المشاركة القوية الفعالة لإيلون ماسك في دعم حملة ترامب، مغامرًا أو مقامرًا بتهديد ثروته الهائلة في حالة خسارة ترامب، وهي مغامرة لافتة – من رجل أعمال ناجح – تشي بمعلومات قوية عن نبض الناخب الأميركي.
  • شركات التقنية لديها من المعلومات والملفات والبيانات ما لا يتوفر لأي حكومة، بما فيها الحكومة الأميركية، وتتضمن الإحصاءات الدقيقة التفصيلية عن الدوائر الانتخابية، وتوجهات الناخبين، ونقاط الضعف أو التخويف التي يمكن ممارستها عبر خوارزميات منصات التواصل، وقياس تأثيرها لحظة بلحظة، علاوة على كل مراسلات ودردشات وخصوصيات النخب السياسية والعسكرية والأمنية في أميركا ومعظم دول العالم.
  • شركات التقنية تمتلك زمام توجيه الرأي العام في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتمتلك بذلك ترويج السردية التي تريدها، وهذا من شأنه إحكام السيطرة الفكرية والثقافية بطريقة ناعمة لا خشونة فيها.

لقد أثبتت الانتخابات الأميركية الأخيرة، تراجع – أو تهاوي – تأثير الإعلام التقليدي، والذي كان بأكمله تقريبًا خلف بايدن، لكن تأثيره في اضمحلال شديد أمام سطوة الإعلام البديل وآلياته ورموزه ومؤثريه.

  • شركات التقنية عابرة للحدود، ولها مصالح وأسواق عالمية لا يمكنها التفريط فيها أو التأثير على حصتها فيها، وبالتالي لا يسعها الالتزام بالتشريعات الأميركية المُقيدة، والمخرج من هذا هو القفز على السلطات التنفيذية والقضائية، لضمان مصالحها وأسواقها.
  • شركات التقنية تملك فرص التعامل المبكر مع الأجيال الناشئة، وبالتالي تستطيع التشكيل المبكر للعقول والأمزجة والميول للأطفال والمراهقين، مما يمنحها أدوات سيطرة عاتية على المجتمعات تفوق أدوات المؤسسات الأسرية والتعليمية التقليدية. هذا الرصيد الهائل يصعب توقع تشكيلاته وآثاره، لكنه يصب في نفوذ هذه الشركات وأدوات سيطرتها.
  • شركات التقنية تمتلك ملفات شخصية لأفراد الشعب، فيها تفاصيل فكرية ونفسية وصحية ومجالات علاقات أوسع وأكثر دقة من أجهزة الاستخبارات التقليدية، وليس من الضروري أن تشاركها مع غيرها من السلطات الرسمية، ما يمنحها مزايا تنافسية سياسية أشبه بالاحتكار.
  • تسارع وتيرة تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، ستوفر لهذه الشركات قدرة أكبر على التعامل مع معضلة “البيانات الضخمة”، بل والبناء عليها لتحسين أدوات قياس الواقع، واستشراف المآلات القريبة للأحداث.

كأني أرى بايدن وهو جالس قريبًا من ترامب يلقي خطاب تنصيبه، وحوله ثلة من أكابر أصحاب صناعة التقنية، كأني به ينظر إلى التهديدات التي تكلم عنها ماثلة شاخصة هازئة ضاحكة أمام عينيه الباهتتين البائستين!

 

زر الذهاب إلى الأعلى