حدث ورؤية

الوحش الصيني (البحث العميق)

يثير موجات ذعر سياسية ومالية في الولايات المتحدة

تسببت الشعبية الجارفة المفاجئة لنموذج الذكاء الاصطناعي الصيني (المسمى البحث العميق  Deep Seek) في هبوط حاد في الأسهم الأمريكية، وخسرت شركة نيفيديا وحدها ٦٠٠ مليار دولار من قيمتها السوقية (أي ما يعادل سدس قيمتها التي تزيد عن ٣ تريليون دولار)، بينما انخفضت منافستها شركة برودكوم بنسبة أكبر، وتهاوت أسهم جوجل وميتا وأوراكل

هذه التداعيات الضحمة ليست بسبب تفوق النموذج الصيني – وهذا لم يثبت بعد على كل حال بشكل مؤكد– وإنما بسبب التكاليف المنخفضة جدًّا للنموذج الصيني عن نظائره الأمريكية

ومايكروسوفت، وخرج الرئيس ترامب يحذر من جرس الإنذار الصيني، بينما شبه بعض المراقبين النموذج الصيني الجديد بأنه “سبوتنيك عصر الذكاء الاصطناعي”، في إشارة إلى القمر الصناعي الذي أطلقه الاتحاد السوفييتي في عام 1957، وكان يُنظر إلى الولايات المتحدة حينها على أنها فوجئت بالإنجاز التكنولوجي لمنافستها. نفس المشهد ترددت أصداؤه في أوروبا، حيث تراجعت أسهم شركة ASML الهولندية لتصنيع معدات الرقائق، بينما انخفضت أسهم شركة سيمنز للطاقة الألمانية، التي تصنع أجهزة مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، بمقدار الخمس.

هذه التداعيات الضحمة ليست بسبب تفوق النموذج الصيني – وهذا لم يثبت بعد على كل حال بشكل مؤكد– وإنما بسبب التكاليف المنخفضة جدًّا للنموذج الصيني عن نظائره الأمريكية، وحيث إن استثمارات هائلة تم ضخها في قلب سباق الذكاء الاصطناعي، والرقائق المتخصصة ومراكز البيانات والبنية التحتية للطاقة ذات الصلة، مما دفع أعدادًا كبيرة من المستثمرين إلى عمليات بيع تؤكد مخاوفهم بشأن ما إذا كان الإنفاق الضخم على الذكاء الاصطناعي مسوَّغًا، وتؤكد أيضًا  تساؤلات حول مدى سرعة ترجمة هذه الاستثمارات إلى حالات استخدام مباشرة لكسب المال للشركات الأمريكية. إن ظهور منافس صيني منخفض التكلفة يزيد من الشكوك حول هذه الاستثمارات بمليارات الدولارات.

لقد أدى ظهور النموذج من الصين إلى تصعيد المخاوف بشأن براعة الخصم الأمريكي في مجال التكنولوجيا وسط سباق عالمي لتطوير الذكاء الاصطناعي المتقدم.

يُنظر إلى التقدم الذي أحرزته الصين في التكنولوجيا على أنه تهديد مباشر للأمن القومي للولايات المتحدة، وقد أدى نجاح DeepSeek إلى تفاقم هذه المخاوف.

 

خلفية الحدث:

هز النموذج الصيني السوق لأنه يحتاج إلى شرائح أقل عددًا وأقل تقدمًا من نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى، بينما يعمل بشكل جيد مثل منافسيه في الولايات المتحدة – مما ينقض – أو على الأقل يُشكِّك في – الفرضية القائلة بأن الشركات الكبيرة ذات رأس المال الكبير فقط هي التي يمكنها تحقيق اختراقات في هذا القطاع

DeepSeek شركة ناشئة مقرها الصين أطلقت منذ أيام مساعدًا مجانيًّا للذكاء الاصطناعي، تقول: إنه يمكن تشغيله بتكلفة أقل من نماذج الذكاء الاصطناعي الأمريكية مثل ChatGPT. وقد تأسست هذه الشركة في عام 2023 بواسطة ليانج وينفينج، المؤسس المشارك لصندوق التحوطHigh-Flyer.، وبعد مضي أسبوع واحد، ارتفع النموذج الجديد إلى قمة التنزيلات في متجر Apple واضطرت الشركة إلى إيقاف مؤقت لعمليات التسجيل والتحميل، نظرًا للضغط غير المتوقع، بالإضافة إلى انقطاعات محدودة بسبب “هجمات خبيثة واسعة النطاق”.

 

هز النموذج الصيني السوق لأنه يحتاج إلى شرائح أقل عددًا وأقل تقدمًا من نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى، بينما يعمل بشكل جيد مثل منافسيه في الولايات المتحدة – مما ينقض – أو على الأقل يُشكِّك في – الفرضية القائلة بأن الشركات الكبيرة ذات رأس المال الكبير فقط هي التي يمكنها تحقيق اختراقات في هذا القطاع، وكانت إدارة بايدن قبيل نهاية ولايتها قد سنَّت ضوابط تصدير تهدف إلى الحدِّ من وصول الصين إلى الرقائق القوية المعروفة باسم وحدات معالجة الرسومات، والتي تدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي المتقدمة.

وكان من اللافت أن يشير بايدن إلى هذا في خطاب وداعه، وأن يتناوله ترامب في خطاب تنصيبه.

وقال ترامب لصحفيين منذ أيام: إن الولايات المتحدة بحاجة إلى البقاء قادرة على المنافسة مع الصين في تطوير الذكاء الاصطناعي، وبدا أنه يركز على التكنولوجيا خلال أسبوعه الأول في منصبه، وقال أيضًا: إنه يفكر في استخدام سلطات الطوارئ لتوفير “الطاقة الهائلة” التي تحتاجها الشركات الأمريكية لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي.

 

استشراف أمريكي وردود فعل عصبية:

في منشور على منصة X، وصف المستثمر التكنولوجي مارك أندريسن، وهو حليف لترامب، نموذج الذكاء الاصطناعي الصينيDeepSeek  بأنه “أحد أكثر الاختراقات المذهلة التي رأيتها على الإطلاق” و”هدية عميقة للعالم”.

وقد أشادت شخصيات مبرزة أخرى بتكنولوجيا DeepSeek بما في ذلك رئيس OpenAI سام ألتمان الذي وصفها بأنها “نموذج مثير للإعجاب، وخاصة فيما يتعلق بما يمكنهم تقديمه مقابل السعر”، على الرغم من أنه أضاف أن OpenAI “ستقدم بوضوح نماذج أفضل بكثير” في المستقبل.

 

قالت مارينا تشانج، الأستاذة المساعدة في جامعة التكنولوجيا في سيدني، والتي تركز على الصناعات التكنولوجية الفائقة في الصين: “إن قدرة DeepSeek  على منافسة النماذج الأمريكية على الرغم من الوصول المحدود إلى الأجهزة المتقدمة تثبت أن براعة البرمجيات وكفاءة البيانات يمكن أن تعوض عن قيود الأجهزة”.

ولفت أيون ستويكا، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة برمجيات الذكاء الاصطناعي Databricks الأنظار إلى نقطة مهمة، بأن التكلفة المنخفضة لـ DeepSeek يمكن أن تحفز المزيد من الشركات على تبني الذكاء الاصطناعي في أعمالها، وإذا حدث ذلك، فإن هذا الانخفاض في التكلفة يمكن أن يسرع من تقدم الذكاء الاصطناعي”.

تأتي هذه الانطباعات المخيفة أمريكيًّا وسط مشروعات طموحة جدًّا لدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي، حيث أعلن رئيس ميتا مارك زوكربيرج في منشور على فيسبوك الأسبوع الماضي أن شركته تخطط لاستثمار ما بين 60 مليار دولار و65 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي وبناء مركز بيانات ضخم.

كما أعلن تحالف يضم OpenAI  وOracle  وSoftBank  مؤخرًا عن مشروع مشترك مدعوم من الرئيس ترامب يسمى  Stargate، والذي يسعى إلى إنفاق ما يصل إلى 500 مليار دولار لبناء مراكز بيانات تدعم مشروعات الذكاء الاصطناعي، وهو المشروع الذي وصفه ترامب، في أحد إعلاناته الأولى منذ عودته إلى الرئاسة، بأنه “أكبر مشروع للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي في التاريخ”!

 

تفوق مباغت:

بعد إطلاق DeepSeek-R1 في يناير ٢٠٢٥، تباهت الشركة بـ “الأداء على قدم المساواة” مع أحد أحدث نماذج شات جي بي تي من OpenAI عند استخدامه لمهام مثل الرياضيات والترميز والمنطق اللغوي الطبيعي.

والمذهل أن الشركة الصينية زعمت أن نموذجها يمكن تدريبه على 2000 شريحة متخصصة مقارنة بنحو 16000 شريحة للنماذج الأمريكية الرائدة. الشركة إذن تقدم جناحين للتفوق: الأداء التقني والتكلفة الزهيدة.

وقد ادعت الشركة أن نموذجها تم تدريبه مقابل حوالي 6 ملايين دولار – أقل بكثير جدًّا من المليارات التي أنفقها المنافسون، لكن هذا الادعاء تم التشكيك فيه من قبل متخصصين في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة إيلون ماسك، وبرغم الحظر الأمريكي على بيع تكنولوجيا الرقائق المتقدمة التي تدعم الذكاء الاصطناعي إلى الصين، فإنه يبدو أن المطورين الصينيين مستمرون في عملهم دون إمدادات ثابتة من الرقائق المتقدمة المستوردة، حيث شارك مطورو الذكاء الاصطناعي الصينيون أعمالهم مع بعضهم البعض مما أدى إلى نماذج الذكاء الاصطناعي التي تتطلب قوة حوسبة أقل بكثير من ذي قبل. وهذا يعني أيضًا أن تكلفتها أقل بكثير مما كان يُعتقد سابقًا، وهو ما قد يقلب هذه الصناعة رأسًا على عقب.

أما حظر التصدير الأمريكي والذي ينتظر أن يتوسع في عهد ترامب، فإنه سيتعرض لانتقادات واسعة، إذ يرى كثيرون أن الحظر ساعد الصين في البناء على قدراتها التقنية، ومثل لها تحديًا وجدت فيه فرصة لمقاربات جديدة أحدثت الفارق الذي نراه.

الخطوة الصينية لم تكن غير متوقعة، لكنها وقعت مبكرًا جدًّا عما ظنه الكثيرون حول العالم!

 

الخلاصة:

تمضي الصين بخطى ثابتة نحو دور عالمي بارز، وتلاحق الولايات المتحدة، وتحاول التحرك في المساحات الفارغة لتملأها، وفي هذا الحدث دليل مزدوج، فقد تمدَّدت التكنولوجيا الصينية على منصات المصادر المفتوحة (open source) التي تزهد فيها الشركات الأمريكية الكبرى، واستهدفت في نفس الوقت موانع التمويل المرتفعة، ما يغري بانضمام طاقات وعقول إلى طرفها.

هذه المقاربة ينبغي أن تغري بلادنا للاستفادة منها على صعيدين:

الأول: في توجيه الاستثمارات إلى هذا المجال الحيوي المؤثر، خاصة وأن استثمارات هذه الشركة الصينية الناشئة هي أقل بكثير من استثمارات في مجالات لا قيمة لها البتة في بلادنا.

والثاني: أن الرصيد البشري المعطل في عالمنا العربي، يمكن أن تتفجر منه طاقات هائلة للأمة في هذا الميدان، قبل أن نتأخر إلى نقطة اللا عودة!

 

د. محمد هشام راغب

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى