تداعيات استشهاد قيادات القسام على مسار الصراع مع الاحتلال ومستقبله

يمثل استشهاد قادة كتائب القسام، وعلى رأسهم القائد العام محمد الضيف ونائبه مروان عيسى، لحظة فارقة في مسار الصراع الفلسطيني، فلطالما شكلت القيادات المستهدفة عصب العمل المقاوم في فلسطين، وكانت ملاحقتها هدفًا استراتيجيًّا للاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات، إذ يُعدُّ محمد الضيف وإخوانه نموذجًا للقيادات التي استطاعت الجمع بين التخطيط العسكري المحكم والإدارة الميدانية الفاعلة، مما جعل استهدافهم أولوية قصوى، إلا أن التجارب السابقة أثبتت أن المقاومة ليست مرهونة بأفراد، بل تمتلك منظومة مؤسسية قادرة على استيعاب الضربات والتكيف مع المتغيرات.
التوقيت والدلالات السياسية للإعلان:
جاء الإعلان عن استشهاد القادة عقب الوصول إلى مرحلة توقُّف إطلاق النار وبداية عمليات تبادل الأسرى، مما يؤكد أن المقاومة واصلت إدارة الصراع بكفاءة حتى اللحظة الأخيرة، ولم يؤثر استهداف قياداتها على سير المواجهة، ويعكس هذا التوقيت دلالات سياسية وتنظيمية مهمة، حيث يُظهر مدى التماسك البنيوي للمقاومة وقدرتها على الصمود دون وقوع اختلال هيكلي، كما يشير إلى تبنيها استراتيجية قائمة على توزيع الأدوار واستمرارية القيادة، مما مكَّنها من الحفاظ على زخم المعركة حتى نهايتها، حيث تعمل وفق نظام تراتبي يُتيح استمرار القيادة في جميع الظروف، حيث يتمتع كل قائد بنائب أو أكثر يحلُّ محلَّه في حال غيابه، مما يضمن إعادة ضبط التنظيم وإدارة المعركة بكفاءة، هذا النهج التنظيمي ظهر جليًّا في استمرار الفاعلية العسكرية رغم استهداف القادة الميدانيين، دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار منظومتها.
على الصعيد السياسي، أثبتت هذه المعركة أن المقاومة قادرة على التكيُّف مع الأحداث، حيث لم يؤد استهداف قادتها إلى تراجع ريادتها السياسية في غزة، بل عزز من حضورها وشرعيتها الشعبية، مما يعكس قدرة كبيرة على إدارة المعركة وفق رؤية سياسية محكمة.
الانعكاسات على الصراع مع الاحتلال:
يؤكد استشهاد هذه القيادات أن سياسة “قطع الرأس” التي يتبعها الاحتلال لم تفلح في تحييد المقاومة أو إضعاف فاعليتها القتالية، فاستمرار العمليات العسكرية بعد الإعلان عن استشهاد القادة يعكس فشل الاحتلال في فرض معادلته، إذ لم تؤدِّ عمليات الاغتيال إلى حسم الصراع، بل ظلّت المواجهة مرهونة بتطورات الميدان وإرادة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، فإن اعتماد المقاومة في بنيتها على منظومة متماسكة تُوزَّع فيها المسؤوليات، قد ضمن استمرارية العمل العسكري والسياسي بفاعلية، وهذه الديناميكية جعلت الاحتلال عاجزًا عن تحقيق أهدافه من الاغتيالات، حيث تتعامل الحركة برؤية بعيدة المدى توازن بين استمرار المواجهة وتطوير الهيكل القيادي، وهو ما أثبت أن المقاومة مشروع استراتيجي قوي قادر على التكيف مع المتغيرات وإدارة الصراع بكفاءة تضمن بقاءه واستمراره.
احتفاء الاحتلال باغتيال القادة السياسيين والعسكريين:
من اللافت في السياق، ما أظهرته تصريحات قادة الاحتلال من احتفاء كبير باغتيال يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة، مقارنةً بالاهتمام باغتيال القادة العسكريين مثل محمد الضيف، فقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأن مقتل السنوار ” يمهِّد الطريق لتغيير عميق في غزة: من دون حماس” معتبراً أن استهدافه يضرب مركز القيادة السياسية لحماس، كما أكد بنيامين نتنياهو أن ” القضاء على السنوار، يمثل مرحلة مهمة في الحملة العسكرية ضد حركة حماس“، مما يُبرز أهمية القادة السياسيين لدى الاحتلال لأنهم صُنّاع القرار، بينما يُنظر إلى القادة العسكريين باعتبارهم منفّذين لتلك القرارات، وفي هذا الإطار لعله من المرجح أن تستمر حركة المقاومة حماس في تطوير وتصعيد قيادات سياسية جديدة ذات كفاءة، كما كانت عادتها منذ تأسيسها، فالحركة تملك قدرة تنظيمية على إعادة بناء هيكلها القيادي خاصة وأنها تعمل تحت إدارة مجلس قيادة سياسي تشكل منذ اغتيال إسماعيل هنية، مما يدلل على قدرة الحركة على التعافي السياسي السريع، عبر شبكتها الواسعة من الكوادر المدربة، التي يجري إعدادها على مدار سنوات طويلة في المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية.
الحاضنة الشعبية وتأثير الحدث عليها:
لم يكن لهذا الإعلان أن يمر دون تأثير على المزاج الشعبي الفلسطيني، فقد أظهر التفاعل مع خبر استشهاد شخصيات بحجم محمد الضيف اتساع تلاحم الشعب مع المقاومة، وجاء هذا الحدث ليؤكد أن العلاقة بين المقاومة والجماهير هي امتداد طبيعي لحالة الصمود الفلسطيني العام، حيث يرى الفلسطينيون في هؤلاء القادة رموزًا لنضالهم، وليسوا مجرد شخصيات عسكرية، فلطالما سعى الاحتلال وحلفاؤه إلى تصوير المقاومة كيانًا منفصلًا عن المجتمع الفلسطيني، محاولين الترويج لفكرة أن قادتها بمعزل عن واقع الشعب، إلا أن هذا الحدث أثبت زيف هذه الادعاءات، فالقادة الذين استشهدوا لم يكونوا بعيدين عن ميادين المواجهة، بل كانوا جزءًا من الصفوف الأولى، يُديرون المعركة ميدانيًّا، ويتحملون المخاطر جنبًا إلى جنب مع أبناء شعبهم.
انعكس هذا الفهم على الحاضنة الشعبية، حيث عزز الاستشهاد حالة الالتفاف حول المقاومة، وأعاد التأكيد على أن قياداتها تتحمل العبء الأكبر في الصراع، مما أسقط مزاعم الاحتلال حول تخفيهم أو انسحابهم من المواجهة، ويبدو إن هذا الحدث قد رسّخ في وجدان الفلسطينيين أن مشروع المقاومة هو مشروع يمثلهم جميعًا، وأنه يجب دعمه والحفاظ عليه.
مستقبل المقاومة بعد استشهاد القادة:
السؤال المطروح الآن هو: كيف ستتعامل المقاومة في المستقبل مع هذا الحدث؟ من المعروف أن حماس تعتمد على بنية تنظيمية قوية تسمح بانتقال القيادة دون أن يتسبب ذلك في خلخلة بنيتها، غير أن الأسماء التي استشهدت كانت في مواقع متقدمة، فهل الحركة قادرة على الاستمرار بنفس النهج بعد هذه الحصيلة من القادة الشهداء؟
إن استشهاد محمد الضيف ومروان عيسى وقادة آخرين هو حدث مفصلي في تاريخ المقاومة الفلسطينية، لكنه ليس من المرجح أن يؤدي إلى فقدان قدرتها على الاستمرار، فقوة عمليات المقاومة الأخيرة حتى توقف القتال، تثبت أن الاحتلال لا يستطيع إنهاء المقاومة عبر الاغتيالات، وهو ما يضعه أمام معضلة مستمرة في التعامل مع غزة.
إن التداعيات المستقبلية لهذا الحدث ستعتمد بالتأكيد على تطورات المشهد السياسي والعسكري في الفترة المقبلة، لكن من الواضح أن قوة بناء حركة المقاومة” حماس” سيجعلها قادرة على تجاوز هذه المرحلة، والاستمرار في مشروعها المقاوم، ومن اللافت في هذا السياق أنه لا يوجد في المؤسسة العسكرية للاحتلال من يستطيع الادعاء بأن الحرب قد حُسمت عسكريًّا لصالحه، هذه الحقيقة قد تشكل مدخلًا لارتدادات داخل الجيش الإسرائيلي، حيث من المرجح أن تتعمق أزمة الثقة بين القيادة السياسية والعسكرية حول جدوى الاستمرار في حرب لم تحقق أهدافها الاستراتيجية، بل أفرزت واقعًا جديدًا يهدد وجود الاحتلال ذاته على المدى البعيد!
من المتوقع كذلك، إنه رغم فشل الاحتلال في تحقيق الحسم العسكري، إلا إن هذا لن يغير من طبيعة الدعم الذي يتلقاه الاحتلال من الولايات المتحدة وحلفائها، حيث ستواصل هذه القوى تقديم العون العسكري والسياسي والاقتصادي، غير أن هذا الدعم، على ضخامته، لن يكون كافيًا لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، لأن الحدث قد تجاوز كونه معركة عسكرية إلى كونه زلزالًا جيوسياسيًّا قلب المعادلات وسيعيد تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.
لقد بات واضحًا أن “طوفان الأقصى”، رغم التضحيات العظيمة التي قدمتها المقاومة، قد أوجد تحولًا عميقًا في ميزان القوى، وهو تحول لن يكون مؤقتًا أو محدود التأثير، بل ستكون تداعياته طويلة الأمد وممتدة جغرافيًّا، فقد انكشفت هشاشة المشروع الصهيوني أمام قوة الإرادة الجهادية، وأصبح الاحتلال، الذي كان يسعى إلى فرض معادلات أمنية جديدة، هو ذاته الذي يواجه تهديدًا كبيرًا غير مسبوق.
من هنا، فإن ما بدأ في السابع من أكتوبر هو نقطة تحوُّل مفصلية قد تكون بداية إنهاء المشروع الصهيوني برمَّته، خاصة مع تصاعد الوعي المقاوم واتساع رقعة التأييد الشعبي له، ليس فقط في فلسطين، بل في عموم الأمة الإسلامية، التي ترى قطاعات كبيرة منها اليوم أن خيار المقاومة هو الخيار الصحيح لتحرير الأرض واستعادة الحقوق.