
المشادة الكلامية بين ترامب ونائبه فانس من جهة وزيلينسكي من جهة، أمام الصحفيين وعدساتهم، لم تكن فقط حدثا غير مسبوق في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، ولكنها حملت معها إشارات مهمة على تراجع الدور والمكانة الدولية للولايات المتحدة كشريك موثوق. لم يكن اتفاق أوكرانيا في السنوات الثلاث السابقة مع جو بايدن، ولكنه كان مع دولة الولايات المتحدة بتعهدات وتفاهمات واضحة، وسيثير انقلاب ترامب على تلك الاتفاقات وتحميله الذي لا يتوقف “للبائس” بايدن عن هذا الفشل، سيثير موجات ذعر وتشكك عند كثير من الأطراف الدولية.
لقد انفجر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي داخل ما أسماه “مساحة التضليل” التي صنعتها روسيا حول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكنه ربما عرّض المزيد من الدعم الأمريكي لبلاده للخطر. لم يكن ترامب متأثرا فقط بكراهيته
لقد كشف ترامب وفانس للأميركيين وحلفاء أميركا عن انحيازهما الكبير إلى روسيا، وعدائهما لأوكرانيا بشكل عام ورئيسها بشكل خاص.
الشخصية لزيلينسكي، وضغينته القديمة ضده لأنه لم يذعن لضغوط ترامب لإطلاق تحقيق في قضية جو وهنتر بايدن، وهي القضية التي كانت محور محاكمة ترامب الأولى، بعد اتهامه بحجب المساعدات عن أوكرانيا والضغط على الأوكرانيين لبدء تحقيق في بايدن ونجله. ولأن ترامب عادة ما ينظر إلى الأمور من منظور شخصي، فمن المنطقي أن يعتبر هذا إهانة لا تمحى. تأثر ترامب بهذا، لكنه ربما لم يتوقع رد فعل من زيلينسكي وظن أنه سيجلس يستمع بأدب لمحاضرة التوبيخ التي وجهها هو ونائبه، وربما حتى توقع شيئا مشابها للإطراء الذي لقيه منذ أيام من زعيمي فرنسا وبريطانيا في البيت الأبيض، حيث استذكر ماكرون زيارة ترامب “الرائعة” إلى كنيسة نوتردام بعد ترميمها، وقام ستارمر بتسليم رسالة شخصية من الملك تشارلز، لكن شيئا من هذا كله لم يحدث. يبدو أن زيلينسكي لم يستطع تحمل تاريخ مزيف لا يُنظر فيه إلى بوتن باعتباره شريرًا، في الوقت الذي جلس يستمع إلى اتهام ترامب له بـ “المقامرة بالحرب العالمية الثالثة”.
ليس مستبعدا أيضا أن يكون زيلينسكي قد تعرض لضغوط أوروبية ملفوفة بوعود المساعدة، حتى يقف ويواجه ترامب. لقد بدا زيلينسكي منزعجا، لكنه لم يظهر مندهشا مما دار.
بعد المشادة الصارخة، تلاحقت تداعيات تؤكد المسار الذي ظهر على السطح:
- طرد ترامب زيلينسكي لاحقًا من البيت الأبيض وأصدر بيانًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
- كتب ترامب بعدها على وسائل التواصل الاجتماعي: “الرئيس زيلينسكي ليس مستعدًا للسلام إذا شاركت أمريكا، لأنه يشعر أن مشاركتنا تمنحه ميزة كبيرة في المفاوضات”. “لا أريد ميزة، أريد السلام. لقد أهان الولايات المتحدة الأمريكية في مكتبها البيضاوي العزيز. يمكنه العودة عندما يكون مستعدًا للسلام”.
- كتب دميتري ميدفيديف الرئيس الروسي السابق ومسئول الأمن القومي الحالي على منصة X: “أخيرًا، تلقى الخنزير الوقح صفعة مناسبة في المكتب البيضاوي، وكان ترامب محقًا: نظام كييف يقامر على الحرب العالمية الثالثة”.
- في اليوم التالي استقبل الزعيم البريطاني ستارمر الرئيس الأوكراني بحفاوة بالغة، ورتب لقاء بعدها له مع الملك تشارلز، واجتماعا مع قادة أوروبيين في لندن، في سابقة جديدة من مخالفة بريطانيا للنهج الأمريكي في السياسة الخارجية في قضية كبرى كالحرب الأوكرانية.
وبعيدا عن الاستغراق في تفاصيل الملاسنة العلنية بين ترامب وزيلينسكي، فإنه يمكن تحديد ستة مؤشرات حقيقية كشفها الحدث:
- لقد كشف ترامب وفانس للأميركيين وحلفاء أميركا عن انحيازهما الكبير إلى روسيا، وعدائهما لأوكرانيا بشكل عام ورئيسها بشكل خاص.
- إن تأثير الحدث سوف يتردد صداه إلى ما هو أبعد من أوكرانيا، التي قد تواجه طبعا الاختيار الرهيب بين: إما الموافقة على وقف إطلاق نار معيب أو الصمود بأفضل ما يمكنها مع ما يمكن لجيرانها حشده من دعم.
- إن مشهد اجتماع اليوم يهدد بإثارة المزيد من التوتر بين أصدقاء وحلفاء أمريكا في جميع أنحاء العالم، بما فيها الشرق الأوسط الذين سيكون درسهم الرئيسي هو أن هذا الرئيس المتقلب هو شخص قد يسحب البساط من تحت أقدامهم في أي لحظة!
- بناء على ذلك، سيختار البعض استرضاء جيرانهم الأكثر قوة، بينما سينظر آخرون باهتمام وجدية في خياراتهم لتحقيق الاكتفاء الذاتي، بما في ذلك تطوير الأسلحة النووية.
- ربما ترى روسيا والصين وحتى إيران، فرصة للتصرف بمزيد من العدوان.
- مصالح الولايات المتحدة على الساحة الدولية تضررت.
- أوروبا في أخطر مأزق لها منذ الحرب العالمية، ولا تبدو ألمانيا من القوة والسيطرة والخيال السياسي الذي يؤهلها لقيادة القارة في هذا الوقت العصيب، كما أن الاعتماد على بريطانيا مستقلة عن الحليف الأمريكي محفوف بالشكوك.