حدث ورؤية

الرسوم الجمركية: طلقة طائشة أم حلقة من خطة واسعة؟

هرعت وسائل الإعلام المختلفة إلى كبار رجال الاقتصاد والتاريخ يستطلعون آراءهم حول القرارات الكاسحة للرسوم الجمركية التي أعلنها الرئيس ترامب فيما سماه يوم التحرير الوطني. أكثر الخبراء بدت عليهم الحيرة الشديدة وضربوا أخماسًا في أسداس وتراوحت توقعاتهم بين وقوع حرب تجارية وشيكة قد تصل إلى ركود عالمي أشبه بالركود الذي وقع منذ حوالي 100 سنة، وبين من هوَّن من القرارات ورأى أن ترامب سيتراجع عنها قريبًا بعد أن يعقد بعض الصفقات الجانبية مع عدد من الدول المذعورة. وفي كلا الحالين فإن الفوضى السياسية التي أحدثتها تلك الرسوم ستلقي بظلال من عدم الاستقرار وضعف الثقة في النظام العالمي القائم.

لقد رسم ترامب صورة كاذبة للولايات المتحدة بأنها دولة ضحية يتم نهبها وسرقتها واستغلالها من جميع دول العالم! وبدلًا من أن يرسم سياسات محددة ويتخذ بناء عليها قرارات، فإنه يفعل العكس، فيُقدم على قرارات ضخمة، ثم يحاول أن يشكل بها سياسات، مما يجعل قراراته قابلة للنقض أو التراجع أو الاستثناءات!

الأسئلة الملحة في هذه القرارات:

لماذا أقدم ترامب على هذه الخطوة الضخمة؟

ما أقرب التوقعات التي ستؤدي إليها؟

أهذه خطوة منفردة مستقلة؟ أم جزء من سياق أكبر وأشمل؟

وما أسباب اختفاء أي موقف عربي؟

لقد رسم ترامب صورة كاذبة للولايات المتحدة بأنها دولة ضحية يتم نهبها وسرقتها واستغلالها من جميع دول العالم! وبدلًا من أن يرسم سياسات محددة ويتخذ بناء عليها قرارات، فإنه يفعل العكس

أولًا: الأسباب التي ساقها ترامب لقراراته، هي رغبته في استعادة القاعدة الصناعية إلى بلاده بعد أن تسببت أجواء العولمة في انتقالها إلى آسيا وغيرها، بما في ذلك صناعات السيارات والأدوية والمنسوجات والرقائق الإليكترونية، واستعادة التوازن التجاري مع دول العالم حيث تعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري كبير مع كل دول العالم تقريبًا، كما أن صادراتها تتعرض لإجراءات حمائية من كل تلك الدول بفرض رسوم جمركية. هذا بالإضافة إلى ما يراه بأن فرض الرسوم الجديدة ستجني منه الولايات المتحدة أموالًا طائلة يساعدها في تقليص الدين الداخلي المتصاعد منذ عقود.

هذه الأسباب بعضها حقيقي، وقد يكون موجعًا للتوجه الشعبوي لترامب ومريديه الذين يرون في استيراد كل شيء تقريبًا (ما عدا السلاح وتقنية المعلومات) يرونه جرحًا للكرامة والسيادة الوطنية. لكن حقيقة الأمر أن هذه “الظواهر” لم تضعف الاقتصاد الأمريكي، بل ربما دعمته وجعلت له السيادة المالية والعسكرية والتقنية، مما انعكس بدوره على حالة الاقتصاد والرفاه الأمريكي. إن مراجعة حالة الاقتصاد العالمي للخمسين سنة الأخيرة، يتضح منها نمو الاقتصاد الأمريكي كلما زادت العولمة وأُزيلت الحواجز من أمامها. الرسم البياني المرفق يكشف الفرق بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الكلي في الولايات المتحدة وأكبر دولتين حليفتين: اليابان وألمانيا. إن مقارنة غِنى الفرد بين عامي 1995 والآن يقول:

في 1995: كان الياباني أغنى 157٪ من الأمريكي، والألماني أغنى 112٪ من الأمريكي.

في 2024: أصبح الأمريكي أغنى 244٪ من الياباني، والأمريكي أغنى 154٪ من الألماني. وهي أرقام كاشفة للتحول في الثلاثين سنة الأخيرة في صالح الولايات المتحدة، وإذا جرت المقارنة مع باقي الدول فالصورة أشد وضوحًا.

من الصعب أن يتراجع ترامب عن قراراته تماما، ولكن قد يلتف حولها بتعليقها لفترة كما فعل مع كندا والمكسيك في بداية ولايته. أما إذا تصاعدت معارضته داخليًّا، وهذا لا يُتصور حدوثه سريعًا وقد يستغرق أسابيع أو شهورًا فإن هذا سيربك المشهد الأمريكي الداخلي

إن ادعاء ترامب بأن الولايات المتحدة منهوبة مسلوبة وأن العالم سبب إفقارها، عارٍ من الصحة. أما الدخل المتوقع من الرسوم فصحيح، ولكن في مقابله ستضطر الدول الأخرى لفرض رسوم مقابلة أو حتى انتقامية، وفي الحالين سيدفع المواطن الأمريكي فاتورة هذه الرسوم بشكل مباشر، وإن حصل على دعم حكومي أفضل في صورة خدمات عامة.

أما إعادة توطين الصناعة في الولايات المتحدة فله مسوغات في مجالات محددة بما له علاقة بالأمن القومي مثل صناعة الحديد والألومنيوم والكيماويات والرقائق الإليكترونية، أما سائر الصناعات فلا ضرورة لها، بل ولا يمكن حتى استعادتها كصناعة المنسوجات، وصناعة السيارات، وقد ينادي البعض بعدم رغبتهم اقتصاديًّا في حدوث هذا!

إن استهداف دول فقيرة أو صاعدة مثل بنجلاديش وفيتنام برسوم عالية لأنها “سرقت” صناعات أمريكية، ومطالبة الشركات الأمريكية الكبرى التي فتحت مصانعها هناك بالعودة لتعود أمريكا عظيمة وغنية مرة أخرى، هو بحدِّ ذاته كاشف لطبيعة الحضارة الجشعة اللئيمة التي تقودها إدارة ترامب.

إذن بشكل عام لا توجد دوافع كافية للتسبب في اضطرابات هائلة في أسواق المال والتجارة ما يجعل هذه الرسوم خطوة متهورة وغير محسوبة.

ثانيًا: من الصعب أن يتراجع ترامب عن قراراته تماما، ولكن قد يلتف حولها بتعليقها لفترة كما فعل مع كندا والمكسيك في بداية ولايته. أما إذا تصاعدت معارضته داخليًّا، وهذا لا يُتصور حدوثه سريعًا وقد يستغرق أسابيع أو شهورًا فإن هذا سيربك المشهد الأمريكي الداخلي، وقد يزيد منه إقدام الاتحاد الأوروبي على خطوات انتقامية أو تصعيدية، وفي كل الأحوال لا يُنتظر لحرية التجارة العالمية أن تعود كما كانت، وستبدأ دول وتكتلات إقليمية إعادة تموضعها في ظل هذا الواقع الجديد. إن ردة فعل أسواق المال، والانخفاض السريع في أسعار النفط هو مرآة واضحة لإحساس عام باحتمالات ركود عالمي.

من اللافت في أحداث بهذا الحجم، أننا لا نسمع تقريبًا إلا صوت ترامب، فكل فريقه يُردِّد فقط صدى كلماته ويسارع لكيل المديح لأفكاره الخلاقة، والديمقراطيون لا صوت لهم ولا أثر، وحتى بنك الاحتياطي المركزي جاءت اعتراضاته خجولة ومترددة!

هناك احتمال آخر قد تستنفره هذه القرارات، وهو إنشاء تحالفات تجارية جديدة تسقط منها حلقة الولايات المتحدة، وقد يبدأ هذا بمزيد من التقارب الأوروبي الصيني.

ثالثًا: هناك سياق عام يمكن رصده في سياسات ترامب حتى اليوم، ويمكن وصفها بأنها تتصرف من أجل التخلي – أو هدم – النظام العالمي القائم، والاستهانة به. وقد صرحت الناطقة بلسان البيت الأبيض بشكل صريح – في إحدى إجاباتها الغبية – بأن البيت الأبيض لا يرى بقاء المؤسسات التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية. ليست هناك أي اعتبارات – ولو شكلية – للأمم المتحدة في حملة الإبادة المستمرة في غزة، ولا العدوان الإسرائيلي على سورية، ولا حتى الحملة الأمريكية على الحوثيين واليمن!

أضف إلى هذه الظواهر خروج أمريكا من الاتفاق الدولي مع إيران الذي ضمنته الدول الستة الموقعة عليه وتم التصديق عليه بالإجماع في مجلس الأمن، بينما يريد الآن عقد اتفاق منفرد! ثم خروج أمريكا من معاهدة المناخ ومنظمة الصحة العالمية، وتهديدها لمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وانقلابها مؤخرًا على اتفاقات التجارة الحرة مع كندا والمكسيك وغيرها، كلها تمثل تخليًّا تدريجيًّا عن النظام العالمي القائم، والذي كانت لا تستطيع الولايات المتحدة قبل سنوات قليلة أن تشن هجمات على دولة أخرى إلا تحت مظلة أممية، وتحالف دولي.

إن ترامب وفريقه مؤهلون تمامًا لهذا الدور المؤذِن بتشكل نظام عالمي جديد تبدو ملامحه اليوم غامضة وكئيبة.

وأخيرًا: اختفت أي ردود فعل عربية على القرارات برغم تأثرها المباشر بها، خاصة الدول النفطية والتي يمكن أن تتسبب في انخفاض عائداتها النفطية بشكل حاد. هذا الأداء الباهت في وسط أزمة عاصفة، إنما يعكس الحالة السياسية البائسة التي تمر بها الأمة العربية، وتمعن فيها من التيه والانقسام.

من الوارد أن تتبدل توقعات خبراء الاقتصاد بتغريدة مفاجئة لترامب، أو بحماقة غير محسوبة من أحد أركان فريقه (كما حدث في التعليقات المهينة لنائب الرئيس ووصفه للشعب الصيني بدونية وازدراء) أو بضجيج بعض الشركات الأمريكية الكبرى التي آلمتها الرسوم الأخيرة، أو بقدرة الصين أن تتحمل تبعات المواجهة التجارية أكبر من قدرة الولايات المتحدة على ذلك.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى