صراعٌ تركي إسرائيلي.. ملامح التحولات الإقليمية الجديدة حول سورية

برزت في الأيام الأخيرة، تطورات ميدانية وسياسية لافتة على الساحة السورية، تكشف عن تحولات محتملة في موازين القوى وترتيبات النفوذ الإقليمي.
البداية لاحت إعلاميا عبر تقارير عديدة تفيد بأن أنقرة تُجري تقييمًا لإنشاء قاعدة تدريبية عسكرية داخل الأراضي السورية، وذلك بالتعاون مع السلطات بدمشق، في سياق الجهود الرامية إلى رفع جاهزية المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية.
الغارات الإسرائيلية: رسالة مزدوجة لتركيا والنظام السوري:
مع تواتر الحديث بشأن مساعي تركيا لإنشاء قاعدة عسكرية لها في سورية، جاءت الغارات الإسرائيلية على مطاري حماة وتيفور لتعيد خلط الأوراق، إذ استهدفت الضربات بشكل مركّز البنى التحتية للمطارات، لا سيما في قاعدة “تيفور” التي تفيد التقارير الإسرائيلية، في “يديعوت أحرنوت”، أنها كانت موضع تفقد من وفد عسكري ومهندسين أتراك، في إطار تمهيد لوجود تركي مباشر.
ما جرى يمكن قراءته باعتباره رسالة إسرائيلية واضحة: لن يُسمح بتمدد تركي دائم في سورية التي تشكّل ساحة استراتيجية لنفوذها الإقليمي.
الغارات، التي طالت أبراج المراقبة والهناجر والمدارج، تهدف فيما يبدو إلى إخراج القاعدة من الخدمة لفترة طويلة، ومنع أي استخدام محتمل لها.
يشار إلى أن الاحتلال يستهدف بانتظام المنشآت العسكرية السورية منذ انهيار نظام الأسد في ديسمبر الماضي، مع تصاعد ملحوظ في العمليات حول قاعدة “تيفور” في الآونة الأخيرة.
إسرائيل: لا لجيش قوي على الحدود:
من أجل فهم السلوك الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر، لا بد من العودة إلى نقطة الانفجار الأولى في سورية، فمنذ اهتزاز سلطة دمشق مع اندلاع الثورة السورية في 2011، أبدت تل أبيب امتعاضًا من تمدد فصائل إسلامية على مساحات واسعة، معتبرة أن ما جرى يُنذر بانبثاق واقع جديد يُهدد التفوق الأمني والعسكري لها.
وقد رأت إسرائيل، في ضوء التجربة المصرية عام 2012، أن المنطقة تنزاح نحو ترتيبات إقليمية قد تُفضي إلى صعود نظم معادية لها، حتى أنها فضلت بقاء نظام الأسد، وبحسب تقرير لصحيفة “التايمز” اللندنية في مايو 2013، نقلًا عن مصادر استخبارية إسرائيلية، فإن “نظام الأسد الباقي على حاله، حتى وإن كان ضعيفًا، أفضل لإسرائيل وللمنطقة”، معتبرين أن “الشيطان الذي نعرفه خير من البديل المحتمل”، وهذا انطلاقًا من قناعتها بأن البديل سيكون أشد عداءً وأقل قابلية للتطويع، لكن مع زلزال 7 أكتوبر، دخلت العقلية الإسرائيلية مرحلة جديدة: فلم تعد غايتها ضبط الإيقاع، بل باتت تسعى للسيطرة المباشرة على كل تهديد، دون أي التزامات سياسية.
إسرائيل اليوم بوضوح لا تريد “دولة مستقرة” بجيش محترف على حدودها _سواء كانت هذه الدولة تركيا، أو سورية_ تحول دون حريتها في الحركة الجوية والعسكرية وقتما تشاء.
تبدّل المحددات الأمنية التركية:
من جانبها، لم تعد المحددات الأمنية التركية على حالها، بل أعادت أنقرة تشكيل أولوياتها استجابةً لتحولات البيئة الإقليمية المتسارعة.
كان الهمّ الأكبر لأنقرة طوال العقد الماضي هو الحيلولة دون نشوء كيان كردي مسلح على حدودها الجنوبية، وقد ركزت منذ 2011 وحتى 2020 على تفكيك مشروع “قسد” المدعوم أمريكيًا، والذي كان يوشك أن يربط شرق الفرات بشواطئ المتوسط، فيما لو اكتمل، لكن تمكنت تركيا، عبر عمليات عسكرية مركّزة مثل درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، من ضرب هذا المشروع وتجميده.
لكنّ الزلزال الذي أحدثه سقوط نظام الأسد في سورية دفع أنقرة إلى تبني مقاربة أمنية أكثر شمولًا، حيث بدأت ترى في التوسع العسكري الإسرائيلي الأخير تهديدًا وجوديًّا يوازي خطر الكيانات الانفصالية.
إذ يكشف سعيها لوجود وحدات تركية هندسية وعسكرية في قاعدة “تيفور” بسورية، إلى جانب الحديث عن نشر نظام دفاع جوي من نوع حصار (Hisar) في القاعدة لتوفير غطاء جوي لها، عن أن الدور التركي في المنطقة يحمل أبعادًا استراتيجية تتجاوز حدود الدفاع عن الأراضي التركية.
لقد أصبح من الواضح أن أنقرة تسعى الآن لتحقيق أهداف تتعدى مجرد تأمين حدودها، وأنها تسعى لإعادة تشكيل معادلة القوة في المنطقة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
رؤية أنقرة: لا استقرار مع سياسة “اليد المطلقة” الإسرائيلية:
تركيا، ترى اليوم أن الخطر لم يعد في جيبٍ معادٍ فقط، بل في مشروع إسرائيلي يتصرف وفق “سياسة اليد المطلقة”، دون حساب للمحيط أو التفاهمات، لا سيما مع غياب أي إعلان رسمي إسرائيلي عن حدود هذا السلوك أو سقف هذه السياسة.
هذا التبدل الميداني الذي أحدثه الاحتلال فرض على أنقرة إعادة النظر في موازين الاستقرار، فإسرائيل باتت تتعامل مع النظام السوري كمنظومة إرهابية، وتُسقط عن نفسها أي التزام سابق بالتوازن أو ضبط التصعيد، وهنا يتبلور جوهر التصادم التركي – الإسرائيلي الجديد.
لقد انتقلت إسرائيل من سياسة “الضربات المحددة لمنع التمركز الإيراني”، إلى نهجٍ أكثر عدوانية واتساعًا، يتمثل في:
– التعامل الحاد مع أي تحرّك غير مألوف حتى لو لم يكن إيرانيًّا؛ واستهداف مباشر لأي وجود عسكري في الجنوب السوري بدعوى أنه يقيّد “حرية الحركة الإسرائيلية”.
– ورفض قاطع لوجود قواعد تركية دائمة، حتى لو جاءت ضمن ترتيبات الإدارة السورية الجديدة، فمن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن مجرد وجود تركيا في سورية يُعدّ تهديدًا استراتيجيًّا.
كيف تدير أمريكا التوازن دون صدام مباشر؟
تصريحات الرئيس الأميركي في مؤتمره الصحفي مع نتنياهو، حين قال: “أنا أحب أردوغان، وإذا كان لك مشكلة معه فحاول أن تحلها“، تعكس سياسة أميركية محددة تراعي موازين القوى دون الانخراط في صدام مباشر مع تركيا.
فواشنطن، وإن كانت تدرك تمامًا حجم التحولات الميدانية في سورية، إلا أنها ترى أن ترك مساحة لتركيا في سورية لملء الفراغ الذي حدث سيكون له فوائد استراتيجية في إطار التوازنات الإقليمية.
فتركيا، باعتبارها دولة حليفة، تمثل عنصرًا رئيسًا في حفظ الاستقرار النسبي في المنطقة والرؤية الأمريكية الحالية تستهدف أكثر من غرض، فهي من خلال هذه التصريحات تهدف إلى تحميل تركيا المسؤولية المستقبلية عن أي تطورات في سورية، وكأن ترامب يوجه رسالة ضمنية مفادها أن “سورية أصبحت ملعبكم”، كما أنه يهدف إلى ترتيب الأدوار الأمريكية غير المباشرة في سورية، بحيث تكون تركيا الآن هي الوكيل المعتمد في المنطقة، كذلك لا يرغب ترامب في التورط في أي اشتباك إسرائيلي-تركي، خاصة أنه يسعى جاهدًا لإخراج أمريكا من أدوار الشرطي في العالم والتركيز على تقليل تدخلاتها، وتصريحاته تعكس رغبة في تجنب التصعيد مع أنقرة، مع التركيز على التنسيق المشترك في القضايا الأمنية والاقتصادية، وهو ما يصب في مصلحة الولايات المتحدة في تعزيز مواقفها دون إغضاب حليفها التركي.
وفي هذا السياق، يكون المحدد الأمريكي متمثلا في عدة جوانب رئيسة:
- حماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي تتضمن ضمان تدفق الطاقة والحفاظ على نفوذها الاقتصادي والسياسي.
- حماية أمن الاحتلال في الحد الأدنى، مع تجنب الانجرار إلى حروب مفتوحة بالوكالة أو النزاعات المباشرة، إذ يسعى المحدد الأمريكي لضمان استقرار حليفه الأساسي في المنطقة مع تجنب التصعيد الذي قد يؤدي إلى مواجهات شاملة.
- تقليل الحضور الأمريكي العسكري الميداني، والاعتماد على حلفاء، مما يمكنها من الحفاظ على نفوذها في المنطقة دون التورط المباشر في الصراعات.
المفاوضات الأخيرة بين تركيا وإسرائيل حول سورية:
في أذربيجان، عقدت في العاشر من الشهر الجاري مفاوضات بين تركيا وإسرائيل _عقب تصريحات ترامب عن أردوغان_ وقد ركزت المفاوضات على إنشاء آلية مشتركة لمنع الحوادث بين الجيشين التركي والإسرائيلي في الأراضي السورية، في مسعى لتجنب التصعيد العسكري.
نتائج المفاوضات:
فشلت المفاوضات بين تركيا وإسرائيل في التوصل إلى اتفاق حول الإجراءات المطلوبة لمنع التوترات بين البلدين في سورية، على الرغم من الجهود المبذولة، ومع ذلك، من المتوقع أن تُستأنف المفاوضات في وقت لاحق، ما يعكس استمرار محاولة إيجاد توافق بين الجانبين.
وتظل الاختلافات الجوهرية في المصالح بين تركيا وإسرائيل تشكل تحديًا كبيرًا في سياق تطورات الأحداث الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالتوسع العسكري التركي في سورية؛ حيث يبرز هذا التوسع كأحد العوامل الرئيسة التي تزيد من تعقيد العلاقة بين البلدين، إذ إن كل طرف يسعى لتحقيق أهدافه الأمنية والاستراتيجية في المنطقة، في هذا الإطار، تبرز التحركات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في سورية عاملًا إضافيًّا يعمِّق المخاوف التركية بشأن استقرار المنطقة، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني.
وعلى الرغم من الفشل الذي شهدته المفاوضات الأخيرة بين الطرفين في التوصل إلى توافق شامل، فإن الأحداث تظل تشير إلى أن السعي نحو تفاهم بين تركيا وإسرائيل في سورية مستمر، رغم ما يواجهه من تحديات كبيرة قد تعوق أي تقدم حقيقي في المستقبل القريب.
ختامًا: هل نشهد خريطة نفوذ جديدة في المنطقة؟
المؤشرات المتزايدة في الآونة الأخيرة تدل على أن الملف السوري دخل مرحلة جديدة حيث تشهد العلاقات التركية الإسرائيلية تطورات ملحوظة بشأن سورية، كما تتقاطع المصالح الأمريكية مع الحضور التركي، حيث يُعتبر منح تركيا الفرصة لتنفيذ خططها في بناء خطوط أنابيب الطاقة عبر سورية والتي تعد جزءًا أساسيًّا من إستراتيجيتها الاقتصادية متوافقًا مع المصالح الأمريكية التي تسعى لضمان تدفق الطاقة بشكل مستمر وآمن.
ومن هنا، يظهر التأييد الأمريكي ضمنيًّا لدور تركيا في سورية، حيث يتناغم هذا الدور مع أهداف استراتيجية الطاقة الأمريكية في المنطقة؛ إذ يُسهم ذلك في تعزيز الاستثمارات الأمريكية في قطاع الطاقة عبر فتح أسواق جديدة لشركات النفط والغاز الأمريكية، التي ستتولى اكتشاف وتكرير النفط والغاز في خطوط الطاقة الجديدة التي ستقوم تركيا بإنشائها في سورية، مما يحقق مصالح مشتركة للطرفين في أسواق الطاقة.
إن هذه التحولات التي تشهدها سورية تشير إلى نذر إعادة تموضع إقليمي ودولي معقد، حيث تتداخل مصالح القوى الكبرى في ظل توازنات دقيقة تتراوح بين التعاون والصراع، مما يدفع كل منها إلى إعادة النظر في أولوياتها الميدانية والأمنية في سورية.