حدث ورؤية

جولة ترامب الخليجية.. صفقات تجارية.. وغزة تحت القصف

في كسر لافت للأعراف البروتوكولية التي درجت عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة، اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يبدأ جولته الخارجية الأولى في ولايته الثانية من الخليج، ومكرِّرًا بذلك نهجًا ابتدأه في ولايته الأولى.

هذه الإشارة الرمزية تتجاوز الشكل الدبلوماسي، لتعكس تحولًا بنيويًّا في طبيعة التحالفات، فلم تعد واشنطن، في رؤيته، قوةً ضامنةً لأمن الحلفاء، بل شركة عملاقة تبحث عن عقود وصفقات وشراكات مربحة، لا عن التزامات استراتيجية طويلة الأمد.

في هذا السياق، بدأت زيارة ترامب بالرياض، في 13 مايو 2025، لتؤكد أن معيار العلاقة أصبح “الربحية”، وأن منطق التبادل المالي هو ما يحكم تموضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إنه إعادة تعريف لدور واشنطن في المنطقة، ليس كراعٍ أو ضامن، بل كشريك تجاري مسكون بالبحث عن المكاسب.

إن الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الأمريكي ليست رمزية فقط بل معبرة عن أهم توجهات سياسته الخارجية وربما الاقتصادية.

كون ترامب يجعل الخليج أول زيارة خارجية له في ولايتيه الأولى والثانية له معنى صلب في فكر الرجل وأولوياته، حلفاء الولايات التقليديون كانوا دائمًا من يشاركونها نفس الأفكار وطريقة الحياة، أو لارتباطات تفرضها الجغرافيا، أما إدارة ترامب فكأنها تضرب بهذا كله عرض الحائط.

وهذا جدول لأول زيارة خارجية لكل رئيس أمريكي منذ مطلع القرن الماضي:

الرئيس السنة الوجهة الأولى للزيارة الخارجية
ثيودور روزفلت 1906 بنما (لتفقد مشروع قناة بنما)
ويليام هوارد تافت 1909 بنما
وودرو ويلسون 1912 برمودا
وارن جي. هاردينغ 1920 بنما
كالفين كوليدج 1928 كوبا
هربرت هوفر 1928 هندوراس
فرانكلين دي. روزفلت 1933 جزر البهاما
هاري ترومان 1945 بلجيكا (نهاية الحرب العالمية)
دوايت أيزنهاور 1952 كوريا الجنوبية
جون إف. كينيدي 1961 كندا
ليندون جونسون 1964 كندا
ريتشارد نيكسون 1969 بلجيكا
جيرالد فورد 1974 المكسيك
جيمي كارتر 1977 المملكة المتحدة
رونالد ريغان 1981 كندا
جورج بوش الأب 1989 كندا
بيل كلينتون 1993 كندا
جورج دبليو بوش 2001 المكسيك
باراك أوباما 2009 كندا
دونالد ترامب 2017 المملكة العربية السعودية
جو بايدن 2021 المملكة المتحدة
دونالد ترامب 2025 المملكة العربية السعودية

جولة ترامب.. من أمن الخليج إلى صفقاته:

لم تكن جولة ترامب الخليجية، في مايو 2025، مجرّد زيارة بروتوكولية، بل إعلانًا صريحًا عن تحوّل في البنية المفاهيمية التي حكمت العلاقة الأميركية الخليجية لعقود، فبدلاً من أن يحمل معه خطاب الطمأنة الأمنية والدور الحامي كما هو المعتاد من الولايات المتحدة، أتى بخطاب الاستثمار والتصنيع والمصالح المتبادلة، ليؤكد أن “مظلة الحماية” قد تراجعت أولويتها في قائمة العلاقات، وأن “دراسات الجدوى” باتت المرجعية الأولى في إدارة التحالفات مع أمريكا!

النهج الذي ظهر خلال الزيارة لم يكن أمنيًّا كما جرت العادة، بل صناعيًّا واستثماريًّا صرفًا، لم يُعامل ترامب الخليج ككتلة جيوسياسية متماسكة، بل كسوق مفتوحة تتكون من دول متعددة المصالح والحسابات، يتعامل معها وفق مبدأ: “من يدفع أكثر، يحصل على الشراكة”.

لقد غابت في هذه الجولة الترامبية إشارات الالتزام العسكري الأميركي الحامي أو الضمانات الأمنية الاستراتيجية، ولم تُوقَّع أي مذكرات تفاهم حول أي درجة من “الضمانات الأمنية” التي صرحت بها عدة دول خليجية كشرط للالتحاق بقطار التطبيع، وحلّ محلها حديث مباشر عن صفقات التجارة، وسلاسل التوريد، ومناطق التصنيع المشترك.

العلاقة الأميركية – الإسرائيلية: تغيير في الأولويات:

يبدو  من خطوات ترامب الأخيرة وأحدثها جولته الخليجية أنه عازم على المضي قُدمًا في أجندته التي تركّز على تهيئة الظروف الملائمة لنجاح الصفقات التجارية في المنطقة، متجاوزًا بعض مطالب الاحتلال الإسرائيلي والتي شملت توجهات إدارته نحو المفاوضات النووية مع إيران رغم معارضة نتنياهو، واتفاق وقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن دون اشتراطات تتعلق بإسرائيل، ومفاوضات إطلاق سراح الجندي عيدان ألكسندر مع حركة حماس بوساطة قطرية، ودون تنسيق مع إسرائيل مما أدى إلى تصعيد قصف غزة، كما أعلن ترامب رفع العقوبات عن سورية ودعا لتطبيع العلاقات مع دمشق، رغم اتهامات إسرائيلية لرئيسها الشرع بـ الانتماء للحالة الجهادية “الإرهابية”.

هذه التحركات تعكس تحوُّلًا في أولويات السياسة الأميركية، عبر اتخاذ قرارات بعيدًا عن الضغوط الإسرائيلية كما حدث خلال فترة حكم جو بايدن، مع تركيز على إعادة ترتيب النفوذ في الشرق الأوسط، وقد أشارت إلى ذلك صحيفة “نيويورك تايمز” مؤكدة أن ترامب يعيد تشكيل السياسة الأميركية، مع اتفاقات لوقف العمليات في اليمن ورفع العقوبات عن سورية رغم مخاوف إسرائيل، ما يعكس تراجع أهمية إسرائيل في دوائر صنع القرار، كما أشارت الصحيفة من جانب آخر إلى استمرار الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل، رغم إهمالها في الجولة الخليجية ، بينما تصف “هآرتس” سياسة ترامب الإقليمية بأنها تجارية بعيدة عن الحروب التي يرغب نتنياهو في استمرارها في غزة وتصعيدها مع محور إيران، وأن الاقتصاد والصفقات التجارية باتت محور السياسة الأميركية في المنطقة.

الاستجابة للمطالب السعودية بشأن سورية:

 في إطار إعادة ترتيب الأوراق السياسية في الشرق الأوسط أعلن ترامب في الرياض رفع العقوبات الأمريكية عن سورية لمدة 180 يوما لضمان عدم إعاقة العقوبات للاستثمارات وتسهيل توفير بعض الخدمات.

تأتي هذه الخطوة في إطار رؤية أمريكية تسعى لإعادة رسم المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط، عبر تقوية العلاقات مع الرياض، وبما يسهم في تقليص نفوذ إيران في المنطقة، فاستقرار سورية وفق هذا النهج يعني قطع الطريق أمام إعادة إحياء وجود “حزب الله” في لبنان، ما يصب في صالح الأطراف الإقليمية التي تسعى إلى تأسيس نظام جديد بعيدًا عن الهيمنة الإيرانية.

وفي أبرز مظاهر هذا التبادل السياسي، قدّم ترامب للسعودية ما يشبه “هدية سياسية“، متمثلة في إعادة تأكيد مركزية دور الرياض في الملف السوري، بعد سنوات من تراجع نفوذها لصالح إيران وروسيا، لم يكن هذا الامتياز مجانيًّا، بل جاء في سياق صفقة أوسع ترتكز على مبدأ “الاستثمارات والعقود مقابل الرمزية والدور المركزي”، حيث تحاول السعودية استعادة مكانتها في المشهد السوري بغطاء أمريكي واضح.

الإمارات في عقل واشنطن… شريك مريح:

زيارة ترامب للإمارات تضع هذه الدولة الخليجية في موضع مميز داخل المنظومة الأمنية والسياسية الأمريكية، في ظل اختلافها الواضح عن بقية الحلفاء في المنطقة، خصوصًا السعودية.

فالإمارات لا تطلب حماية شاملة، بل تعرض شراكة متزنة، تنسجم مع الرؤية الأمريكية الجديدة التي تبحث عن حلفاء أقل تكلفة وأكثر فعالية، ومن خلال نهجها في التطبيع والتصنيع والاستثمار، تطرح أبو ظبي نفسها كنموذج يُغري صانع القرار الأمريكي بتعاون مريح، ما يتيح لها توسيع نفوذها الإقليمي، وآخر تجلياته ما حدث في السودان، حيث لا يمكن قراءة تحركاتها بمعزل عن الضوء الأخضر الأميركي، فالدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع هو نتاج إذن أمريكي غير معلن، يُجيز لابن زايد إعادة تشغيل ماكينة الحرب، ولعل زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى الخليج ولقاءه بمحمد بن زايد كانت المحطة التي دفع فيها ثمن هذا الصمت الأمريكي، على قاعدة: مالٌ مقابل صمت!

الصين وموقعها من الشراكة الخليجية:

ثمّة بعدٌ آخر بالغ الأهمية في توجهات إدارة ترامب خلال جولته في الشرق الأوسط، يعكس البُعد البراغماتي والتجاري الذي بات يهيمن على السياسة الأمريكية، ويتعلق بالمنافسة الشرسة مع الصين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، خصوصًا في قطاع أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.

وفي هذا السياق، تبرز مسألة مدى استعداد واشنطن لتخفيف القيود على تصدير مئات الآلاف من رقائق الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات المتقدمة إلى حلفائها في الخليج، وخاصة الإمارات والسعودية، اللتين تتنافسان على كسب اليد العليا في هذا المضمار التقني الحيوي.

وعليه، اتخذ ترامب خطوة حاسمة بإلغاء “قاعدة انتشار الذكاء الاصطناعي” التي كانت وضعتها إدارة بايدن، والتي فرضت قيودًا مشددة على تصدير هذه الشرائح المتطورة إلى عدد من الدول، بينها الإمارات والسعودية، خشيةً من تسريب التكنولوجيا.

وتدرس إدارة ترامب حاليًا صفقة كبيرة لتوريد مئات الآلاف من شرائح الذكاء الاصطناعي الأميركية المتقدمة إلى شركة G42 الإماراتية، التي قطعت علاقاتها مع الشركاء الصينيين تمهيدًا لشراكة استراتيجية جديدة مع الشركات الأميركية.

كما أعلن البيت الأبيض عن صفقات مع السعودية، شملت التزام شركة هيومين، المملوكة للدولة في الرياض والمتخصصة في الذكاء الاصطناعي، ببناء بنية تحتية تقنية تعتمد على شرائح نفيديا الأميركية المتقدمة خلال السنوات الخمس المقبلة، مما يعكس توجهًا أمريكيًّا نحو تمكين حلفائه من التقدم التقني في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد. هذا التوجه الأمريكي الجديد ربما يصطدم برغبة السعودية في الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الصين وتنويع مصادر التقنية، ما قد يفتح الباب مستقبلًا لإشكالات تقنية وأمنية.

تحقق المطالب التركية بجولة ترامب:

في سياق جولة الرئيس ترامب في الخليج، تحقق تركيا أحد أهدافها الاستراتيجية برفع العقوبات الأمريكية عن حلفائها في سورية، وهو ما يمثل خطوة محورية لتعزيز استقرار الحدود الجنوبية لأنقرة، والتخفيف من التهديدات الأمنية الناجمة عن نشاط الأكراد وموجات اللجوء، كما يقدم دفعة قوية للاقتصاد التركي الذي يُتوقع أن يكون فاعلًا رئيسًا في مشاريع إعادة الإعمار.

ويعكس حضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اجتماع ترامب مع الأمير محمد بن سلمان والرئيس السوري أحمد الشرع عبر الاتصال الهاتفي، مدى أهمية هذا القرار من وجهة النظر التركية، الذي يُنظر إليه كخطوة تاريخية تسهم في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي بما يخدم المصالح الأمنية لأنقرة ويعزز من دورها في العملية السياسية السورية.

تهميش مصر في جولة ترامب:  

على الرغم من مكانة مصر المركزية في العالم العربي، فقد بدا واضحًا تعمُّد تهميشها في هذه الجولة، حيث يجري استبعادها الآن من دائرة الاهتمام الإقليمي والسياسي، ولم يقتصر هذا التهميش على التجاهل السياسي خلال جولة ترامب فقط، بل بلغ حد مطالبة ترامب لمصر بعدم فرض رسوم على السفن الأمريكية العابرة لقناة السويس، مستندًا إلى دور أمريكا في إفشال العدوان الثلاثي عام 1956، وهو طلب يحمل إيحاءً واضحًا بتقويض السيادة المصرية ومكانتها الإقليمية!

مصالح الخليج وغزة المنسية:

تنظر دول الخليج إلى الطابع التعاقدي والبراغماتي لجولة ترامب باعتبارها فرصة لتعزيز تحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، غير أن ملف قطاع غزة ظل غائبًا عن أي انفراج حقيقي!

بعد انتهاء الجولة الخليجية، أعلن الاحتلال الإسرائيلي عن بدء عملية عسكرية موسعة في قطاع غزة تحت اسم “عربات جدعون“، متزامنة مع انعقاد القمة العربية في بغداد، ورافق ذلك صمت عربي رسمي واستمرار للتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، مما يعكس اختلالًا في أولويات النظام السياسي الفلسطيني وتراجعًا في الفعل العربي تجاه القضية.

وفي المقابل، تؤكد المعطيات الميدانية أن المقاومة الفلسطينية، خاصة في غزة، ما زالت تمتلك القدرة على الصمود والتفاعل مع التصعيد بأساليب اشتباك تراكمية، مما يشير إلى فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية رغم استمرار الحرب لنحو من عشرين شهرًا، وهو ما يؤكده حتى ضباط الاحتلال أنفسهم بفقدان الثقة في الحسم العسكري التقليدي.

خاتمة:

يتضح أن الغياب الحقيقي لملف غزة في جولة ترامب كان غيابًا من جانب الأنظمة العربية نفسها، فبينما يعلن ترامب عن صفقات مالية واستثمارات ضخمة، ويُظهر عدم التزام واضح بوقف الحرب على الفلسطينيين، تبدو الأنظمة العربية الرسمية صامتة أو منسجمة مع هذا الواقع!

وما يزيد هذا الغياب مأساويةً أن هذه التريليونات من الدولارات العربية، التي تُضَخُّ في صفقات مع واشنطن، كان من الممكن أن تُعيد إعمار غزة وتدعم المقاومة من الأصل خلال هذه المواجهة، بل وتعيد رسم موازين القوى لصالح قضية الأمة المركزية “القدس”، إيمانًا بحق الأمة في التحرر والنهوض.

إن هذا الغياب العربي يعكس اختلالًا بنيويًّا متوقعًا في أولويات النظام السياسي العربي، ما يجعل معاناة غزة والحصار والإبادة الميدانية متواصلة دائمة! في الوقت نفسه، تظل المقاومة الفلسطينية حية وصامدة، تشكل العائق الحقيقي أمام تحقيق الاحتلال لأهدافه العسكرية، رغم كل التصعيد ومحاولات التهميش.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى