حدث ورؤية

ماذا نفعل – نحن العرب – بعد وقف الحرب؟

من الطبيعي أن تختلف الآراء والتحليلات والتوقعات حول تداعيات الحرب بين إيران وإسرائيل، نظرًا لتعقيدات المشهد ولغياب المعلومات المؤكدة عن مسار ومجريات الحرب، لكن ليس من الطبيعي أن تختلف الآراء كثيرًا حول ما ينبغي أن يتعلمه العرب من الحقائق الصلبة لهذه الحرب.

ربما يظل المشهد السياسي ملتبسًا لأسابيع أو شهور قادمة، خاصة بعد تسريب تقييم استخباراتي أمريكي أولي أشار إلى أن الضربات الأمريكية التي شُنَّت نهاية الأسبوع الماضي لم تُدمر المنشآت النووية الإيرانية بالكامل، كما زعم الرئيس دونالد ترامب. وقد أكد وزير الدفاع بيت هيجسيث لاحقًا وجود هذا التقرير، لكن هون من أمره باعتباره تقريرًا أوليًّا فقط!

 وفي كل الأحوال، فإن الحرب تركت إيران أكثر عزلة وضعفًا، ولكن أشد غضبًا.

وإذا أصر ترامب على أن الولايات المتحدة قد “دمرت” البرنامج النووي الإيراني تمامًا، فلن يكون هناك أي معنى أو ضرورة لعقد اتفاق “نووي” مع إيران، وستكون المحادثات الأمريكية الإيرانية التي ستُعقد قريبًا لتفاهمات سياسية لهدوء المنطقة، أو لقدر من تقاسم النفوذ.

وفي الصورة الكبيرة بعد ضرب إيران ثم التوصل إلى وقف إطلاق النار، ليس من الواضح تمامًا ما إذا كان ترامب قد حقَّق “نصرًا سريعًا” أم أنه أدخل الولايات المتحدة في “ورطة” أخرى في الشرق الأوسط، لأنه مع تشبث قادة إيران بالسلطة واحتمال استمرارهم في السعي وراء برنامج نووي سري، فإن التعامل معه سيتطلب التزامًا عسكريًّا أمريكيًّا طويل الأمد تجاه المنطقة، وهو ما لا تبدو الولايات المتحدة مستعدة له.

نهبط من ضبابية الاحتمالات السياسية إلى عشر حقائق على الأرض، ينبغي للعرب أن يتعلموها بعد هذه الحرب الخاطفة:

  1. أظهرت الحرب العالم العربي المكتفي بمشاهدة القصف المتبادل في سمائه على الهواء مباشرة، في حالة من الهشاشة والضعف والانكشاف، بصورة لا تحتمل التراخي أو التأجيل في التصدي لها. إن استباحة العالم العربي احتمال واقعي، إذا اطمأن خصومه إلى فقدانه لأي أدوات ردع معتبرة، خاصة مع وجود إدارة أمريكية متنمرة وحمقاء.
  2. أثبتت إيران أن دول المنطقة يمكنها امتلاك شكل من أشكال قوة الردع، حتى لو لم تكافئ ما بحوزة إسرائيل وفي ظهرها الشريك الأمريكي.

وإذا كان السلاح النووي هو الرادع الأمثل، فإن العجز عن امتلاكه لا ينفي وجود وسائل أخرى للردع، خاصة مع انخفاض تكاليف الوسائل التقنية فائقة التقدم، وسرعة امتلاكها وتأهيل الكوادر البشرية اللازمة لها. كل هذا وغيره قريب المنال، لكنه يفتقد إلى إرادة سياسية وعزيمة تنفيذية.

  1. إن النجاحات الكبيرة التي أنجزتها إسرائيل في بداية الحرب كانت بفضل الاختراقات الأمنية الهائلة التي حققتها في الداخل الإيراني، ومن قبلها في مواجهتها مع حزب الله في لبنان. لا نعرف ما مستوى التأمين الداخلي لبلادنا العربية، لكن الحرب أثبتت أن الدولة البوليسية الإيرانية كان اهتمامها بالدرجة الأولى ضد المناوئين من شعبها، وليس للمتربصين بها من الخارج، وبين الأمرين بون شاسع في السياسات والأدوات والآليات.
  2. الاختراقات الأمنية المذهلة التي أطاحت بعشرات من القادة الإيرانيين، لابد أن تعيد التذكير بالقوة المدهشة للداخل الفلسطيني في غزة، الذي لم تستطع إسرائيل بعد عشرين شهرًا من الحرب اغتيال أي قائد عسكري، أو الوصول إلى أسراها برغم كل التركيز الاستخباراتي والدعم الأمريكي والبريطاني والفرنسي!

 إن هذه المقارنة المستحقة لابد أن تؤكد للعالم العربي أمرين:

الأول: أن المقاومة بهيكليتها وعقيدتها العسكرية أقوى من الجيوش النظامية التقليدية في مواجهة إسرائيل.

والثاني: أن المقاومة هي خط الدفاع الأول عن العالم العربي حقيقة لا مجازًا.

  1. أثبتت الحرب أن النظام العالمي الذي نعرفه آخذ في التلاشي، وأن مؤسساته فقدت تأثيرها الضعيف أصلًا، وإذا كان من طبيعة البشر أن يكون لهم نظام عالمي ما، فإن ما يدور في حلف الناتو والمواجهة الساخنة القصيرة بين باكستان والهند منذ شهرين، والهوان الأوروبي أمام التنمر الأمريكي، والاستخفاف بأي اتفاقيات دولية (حتى تلك التي عقدها ترامب بنفسه في ولايته الأولى مع كل من المكسيك وكندا)، والتقدم الروسي المستمر داخل أوكرانيا، كلها ربما تشير إلى نظام عالمي جديد تحكمه قوى إقليمية بديلًا عن الهيمنة العالمية. وإذا صح هذا التوجه، فإن العالم العربي يملك من المؤهلات والقدرات أن تكون له الكلمة الأولى إقليميًّا، إن قرر أن يفيق من حالة التيه والغيبوبة التي يعاني منها!
  2. أثبتت الحرب أيضًا أن التعويل على الحماية الخارجية من الولايات المتحدة أو غيرها، هو من الماضي غير القابل للاستمرار، وأن التهديدات التي يواجهها الأمن القومي العربي لا تحتمل التأجيل، وأن التركيز على دنيا الاستثمارات المالية والنزاعات العربية البينية الصغيرة هو عبث لا تحتمله اللحظة الراهنة.
  3. إن حقائق الجغرافيا السياسية تصب في صالح العالم العربي إذا نهض للاستفادة منها. لقد كان التلويح الإيراني قبيل وقف الحرب، باحتمال إغلاق مضيق هرمز، ورقة قوة وضغط لا يمكن إغفالها. وقد رأينا قبل ذلك أن قوة الحوثي المطل على مضيق باب المندب، لم تحطمها غارات جوية أمريكية مكثفة تواصلت لواحد وخمسين يومًا متتالية.
  4. ما زالت الفرصة سانحة لبعض الدول العربية للتدخل الفعال في حرب غزة، خاصة بعد حالة الإنهاك في أعقاب وقف الحرب الإيرانية الإسرائيلية. تستطيع بعض الدول العربية إذا اقتنعت أنها تدافع أولًا عن أمنها القومي، أن تعوض ما تقاعست عنه منذ بداية الحرب، وإلا فدورها قادم، ربما أسرع مما يتصوره كثيرون.
  5. لقد أظهرت إسرائيل قوة عسكرية متميزة في حربها مع إيران، لكنها تفتقر إلى الثقل اللازم لتكون قوة إقليمية مُهيمنة حقيقية، لكن الفراغ في المنطقة لابد أن يُملأ. لقد عادت إسرائيل لتتذكر المأزق الذي تراوح فيه في غزة، وقد أثبتت عمليات المقاومة التي لا تتوقف مصدر إحراج أطفأ حالة النشوة التي يتشاركها القادة الإسرائيليون وترامب. إذا كانوا يتحدثون عن شرق أوسط جديد، فإن المنطقة ربما تكون بالفعل في حالة مخاض له، ولكن يمكن أن يكون شرق أوسط غير الذي تحلم به الولايات المتحدة إذا قررت بعض الدول العربية أن تتقدم.
  6. لقد ظلت إيران عمدًا على أعتاب القدرة على امتلاك أسلحة نووية لفترة طويلة، كوسيلة لردع العرب وكسب نفوذ جيوسياسي مع التهديد الضمني ببناء سلاح نووي. قد تُعلّم الهجمات الأمريكية والإسرائيلية القيادة الإيرانية أن امتلاك ولو قنبلة نووية واحدة هو السبيل الوحيد لردع الأعداء، مما يدفع النظام الإيراني إلى إعادة تجميع صفوفه والتركيز على بناء قنبلة سرًّا، على الأرجح.

وختامًا:

لعل أكثر ما يحتاجه العالم العربي الآن هو وجود مؤسسة جامعة للعقل الاستراتيجي العربي، ترفع الواقع بلا مجاملة، وتحدد أولويات الثغور للمرابطة، وتستشرف مسارات استراتيجية لتوظيف القدرات المتاحة وبناء المؤهلات المفقودة نحو رؤى وأهداف استراتيجية محددة.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى