مفاوضات المقاومة مع الاحتلال.. قراءة في السياق والمحاذير

مقدمة
في سياق عدوان شامل وممنهج يتعرض له قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تتصاعد تداعيات الحرب على غزة سياسيًّا وعسكريًّا، بينما تواصل المقاومة الفلسطينية صمودها وتُعيد تموضعها وفق التطورات الجديدة، التي فرضتها صلابة المواجهة وطول أمد الحرب، في هذا السياق يأتي هذا الاتفاق المقترح بهدنة غزة، في لحظة فارقة تشهد تغيرات واضحة في موازين القوى؛ الأمر الذي يجعله مرشحًا لأن يؤثر في مسار الحرب على غزة.
غير أن الاتفاق، الذي يُسوَّق له كفرصة لإنهاء القتال، يثير جملة من المخاوف على قضية غزة بشأن بنيته ومضامينه، إذ تُظهر بعض طياته آليات تستهدف تحييد القوة السياسية والعسكرية للمقاومة، واستدراج غزة تدريجيًّا إلى حالة من “الترويض الإنساني”، تُفرغ الانتصار من معناه تحت ضغط الحصار والجوع والاحتياجات المعيشية العاجلة.
ومع ذلك، لا يمكن التعامل مع هذا الاتفاق إلا بوصفه اتفاق الضرورة في لحظة شديدة التعقيد، فرضت فيها المعاناة الإنسانية غير المسبوقة على غزة أثمانًا هائلة. لكنه، وإن كان اتفاق ضرورة، فإن قبوله لا يعني التسليم بشروطه كما هي، بل يستوجب يقظة استراتيجية صارمة في فهم مقاصده وتفكيك مضامينه، لضمان ألا يتحول إلى مدخل لإعادة تطويع الواقع الفلسطيني، لكيلا يكون بوابة خلفية لنزع أدوات القوة عن مشروع المقاومة تحت غطاء “التهدئة”.
مفاوضات ملغومة:
تتبلور في العاصمة القطرية الدوحة ملامح اتفاق تهدئة محتمل، في ظل جولة تفاوضية غير مباشرة تخوضها حركة حماس مع الاحتلال، عبر وساطة إقليمية، وتُعد هذه الجولة من أكثر المراحل تعقيدًا نظرًا لتراكم تداعيات الحرب الكارثية على قطاع غزة، ما يجعل من هذه المفاوضات اختبارًا حقيقيًّا لإمكانية الوصول إلى صيغة تُنهي العدوان.
حماس من جهتها وافقت مبدئيًّا على الإفراج عن عشرة رهائن كجزء من تفاوض أشمل لا يقتصر على تبادل أسرى أو هدنة إنسانية مؤقتة، بل يستند إلى تصور سياسي لوقف العدوان ورفع الحصار وإعادة إعمار القطاع.
على الجانب الآخر فإن المسار التفاوضي يكشف إصرارًا إسرائيليًّا على فرض وقائع ميدانية خطيرة، تتجلى في خرائط عسكرية تسعى إلى “إعادة تموضع” لا “انسحاب”، وإبقاء القوات العسكرية على أكثر من 40% من مساحة قطاع غزة.
وتبرز نقطة مفصلية ينبغي التوقف عندها بدقة: وهي إن استخدام مصطلح “إعادة انتشار” بدلًا من مصطلح “انسحاب” ليس مجرد تلاعب لغوي، بل هو تعبير عن إرادة سياسية تهدف إلى إعادة إنتاج السيطرة العسكرية الصهيونية في صيغة مرنة، دون تحمّل الكلفة المباشرة للاحتلال، فالانسحاب معناه نهاية السيطرة الفعلية للمعتدي، بينما إعادة الانتشار لا تعني سوى تعديل تموضع القوات داخل الأرض المحتلة نفسها.
هذا التلاعب بالمصطلحات سبق أن استخدمه الاحتلال في اتفاق أوسلو، حين جرى تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق A وB وC، وهي التي لم تلبث أن تحولت إلى مربعات أمنية خاضعة بشكل مباشر أو غير مباشر للسيطرة الصهيونية، رغم الادعاء بنقل الصلاحيات، واليوم، قد يُستنسخ هذا النموذج في غزة، تحت غطاء “التهدئة” و”الاحتياجات الإنسانية”، ما يهدد بتحويل القطاع إلى مناطق معزولة، أشبه بـ”معسكرات احتواء” لا تختلف كثيرًا في طبيعتها عن النماذج القمعية في تاريخ الأنظمة العنصرية.
أحد أبرز تجليات هذا النهج هو الإصرار الإسرائيلي على إبقاء السيطرة على مدينة رفح، ورفض عودة السكان المهجرين إليها، مما يعني فعليًّا منع مئات الآلاف من الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم، والإبقاء على التهجير كأمر واقع، وتصف حماس هذا الطرح بأنه بمثابة “شرعنة لإعادة احتلال القطاع”، وتُشَبِّهه بمحاولات خلق مناطق تجميع مغلقة تشبه “معسكرات النازية”، لا تمتّ لمفاهيم الكرامة أو السيادة بصلة، وتُعد استكمالًا لحرب الإبادة التي لم تتوقف.
في ضوء ذلك، حذَّر عدد من المراقبين من أن هذه الخرائط الإسرائيلية تمثل تكريسًا لتقسيم القطاع إلى مربعات أمنية خاضعة للسيطرة المباشرة أو غير المباشرة للاحتلال، مع منع حرية التنقل وحرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حياته بحرية، كما أكدوا أن قبول مثل هذه الخرائط من شأنه تقويض أي مكاسب سياسية أو ميدانية حققتها المقاومة خلال الحرب، وتحويل الاتفاق إلى غطاء لإعادة هيكلة السيطرة الصهيونية لا لإنهائها.
رؤية حركة حماس في المفاوضات:
تنطلق حركة حماس في اتفاق التهدئة من منظور سياسي شامل، حيث ترى أن وقف إطلاق النار جزء من معركة أوسع لإنهاء الاحتلال ورفع الحصار، وأن المفاوضات ليست لتقديم تنازلات مقابل تحسينات مؤقتة، بل اختبار لإرادة وقف العدوان جذريًّا.
وتسعى الحركة سياسيًّا في هذا الصراع لتحقيق عدة مطالب أساسية:
- وقف شامل ودائم لإطلاق النار، لأن الهدنة المؤقتة وحدها ستُستغل لإعادة ترتيب الاحتلال لتموضعه.
- انسحاب كامل لقوات الاحتلال من غزة إلى مواقع ما قبل 2 مارس 2024، دون تكرار “إعادة الانتشار”.
- فتح دائم للمعابر مع ضمان وصول المساعدات تحت إشراف دولي محايد.
- حق العودة الفوري للنازحين من مناطقهم الأصلية، خاصة رفح والشمال.
- رفع كامل للحصار الجوي والبري والبحري المفروض منذ 2007، من أجل عودة الحياة بصورة طبيعية.
- تبادل أسرى متوازن، يشمل إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، مع استعداد مبدئي للإفراج عن عشرة رهائن إسرائيليين كخطوة أولى.
تهدف بذلك حركة حماس إلى رفض تقليص المفاوضات وتحويلها إلى مجرد مقايضة إنسانية ضيقة، مؤكدًة أن المعركة الأساسية هي معركة الشعب الفلسطيني، لفرض سيادته على أرضه، واستخلاص حقه في التحرير، وليس فقط على من أجل تدفق المساعدات والإغاثة، فالتسوية الحقيقية يجب أن تعكس هذه المبادئ، وتحقق تغييرًا جوهريًّا ينهي الاحتلال ويكسر الحصار.
رؤية الاحتلال الإسرائيلي في المفاوضات:
يركز الاحتلال الإسرائيلي في مفاوضاته على هدف أساسي يتمثل في تحييد حركة حماس عسكريًّا وتقويض قدراتها على الحكم والسيطرة داخل قطاع غزة، حيث تعتمد إسرائيل على استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الميداني والسياسي في غزة، من خلال فرض شروط وقواعد جديدة تضمن استمرار سيطرتها بشكل مرن، بدلاً من الانسحاب الكامل.
في هذا الإطار، يقدم الاحتلال مجموعة من المطالب والخطط التي تهدف إلى الحفاظ على وجوده العسكري والأمني داخل القطاع، مع إبقاء القيود على حركة الفلسطينيين وفرض رقابة مشددة على معابر القطاع، وكل ذلك تحت ذريعة الأمن هذه المواقف تعكس فيما يبدو نية الاحتلال في استمرار السيطرة على غزة، ومنع تحقيق انتصار حقيقي للمقاومة، وتحويل أي اتفاق تهدئة إلى مجرد وقف مؤقت للقتال لا يغير من واقع الاحتلال شيئًا، ولذلك تعد أهم أهدافه:
- رفض وقف إطلاق نار دائم قبل القضاء الكامل على قدرات حماس العسكرية، معتبرًا التهدئة مجرد تكتيك مؤقت.
- فرض خطة “إعادة تموضع” عسكري بدلًا من انسحاب كامل، مع إبقاء القوات في مناطق واسعة من غزة، خاصة في رفح.
- استمرار السيطرة على رفح ومنع عودة أكثر من 700 ألف نازح، ما يشكل كارثة إنسانية وسياسة تهجير ديموغرافية.
- تسويغ الاحتلال لهذه السيطرة بذريعة أمنية لمنع تسليح المقاومة وتهريب الأسلحة، مما يكرس السيطرة الدائمة على القطاع.
يتضح مما سبق أن محاولة الاحتلال فرض وقائع جديدة على الأرض عبر “الترتيبات الأمنية” التي تعيد إنتاج الاحتلال بصيغة أكثر مرونة، تُظهر استراتيجية واضحة لتفكيك قطاع غزة وتحويله إلى مناطق محاصرة بلا سيادة أو قدرة على إعادة البناء، مما يستوجب موقفًا تفاوضيًّا حازمًا من المقاومة لمنع تحول الانتصار إلى استسلام تدريجي.
التحديات الراهنة للمقاومة.. محاذير وتهديدات:
في سياق هذه المفاوضات الجارية، تبرز أمام المقاومة الفلسطينية جملة من التحديات الجوهرية التي تهدّد بإفراغ أي اتفاق مرتقب من مضمونه، وتحويل منجزات الصمود إلى مكاسب شكلية، سعيًا نحو إعادة إنتاج السيطرة على قطاع غزة، ضمن مسار متدرج ومتصاعد، ويمكن تلخيص أبرز هذه المحاذير فيما يلي:
- 1. إشكالية “وقف إطلاق النار“:
لا يزال الخلاف قائمًا حول ماهية وقف إطلاق النار: فبينما تصر حماس على الوصول لوقف شامل ودائم للعدوان، تصوغ إسرائيل طرحها حول “هدنة مؤقتة” تُمكّنها من التقاط الأنفاس، وتحقيق أهدافها العسكرية على مراحل، وهذا الفارق المفاهيمي يُعدّ جوهريًّا، ويُحدد إن كان الاتفاق بداية لإنهاء الحرب أم محطة تكتيكية نحو استئنافها.
- المماطلة الإسرائيلية كأداة تفاوضية:
كما كان الأمر في اتفاق نوفمبر 2023، تعيد إسرائيل توظيف سياسة “المماطلة المؤسسية”، من خلال ترك قضايا التنفيذ الميدانية لما يُسمى “الخرائط التي تُناقش لاحقًا” وأخطر ما في هذا النهج هو البدء بتنفيذ بنود حساسة مثل تسليم الرهائن في إطار هذه الخرائط المؤجلة، وهو ما يشكّل مخاطرة تفاوضية كبرى، فالاتفاق بصيغته الحالية ينص على إعادة انتشار جزئية شمالًا أولًا، وتأجيل جنوب القطاع إلى ما بعد 7 أيام، بناءً على خرائط لم تُعلن بعد، ما يهدد بإعادة فرض السيطرة بعد استلام الرهائن، لا العكس.
3.مصير القيادة والمقاومة المسلحة:
- تطرح إسرائيل شروطًا تُعدُّ مرفوضة سلفًا من قبل المقاومة، مثل نفي قيادات حماس وتجريد غزة من السلاح، وهذا على الحقيقة لا يُعدُّ تفاوضًا، بل شروط استسلام مغلفة.
- مخاوف بشأن تبادل الأسرى:
- الاتفاق المقترح ينص على إطلاق 10 رهائن أحياء و18 جثة خلال 60 يومًا، لكن دون أن يتضمن الاتفاق حتى الآن أي التزام صريح أو مقابل فعلي محدد بشأن نوعية الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم الإفراج عنهم، وقد تذهب إسرائيل بحسب تحذيرات عدد من المراقبين _ إن لم تعدل المقاومة هذا البند خلال المفاوضات_ إلى إطلاق جنائيين لتفريغ الصفقة من بُعدها الكفاحي.
- الأكثر خطورة من ذلك هو بدء العملية بإطلاق 8 رهائن في اليوم الأول دفعة واحدة، ما يُضعف الورقة التفاوضية للمقاومة.
- المساعدات الإنسانية كأداة ابتزاز:
- ينص الاتفاق المقترح على إدخال مساعدات “كافية”، دون تحديد الكمية أو النوعية أو آلية التوزيع، مع غياب أي نص واضح يربط المساعدات بفتح المعابر دون تدخل أمني إسرائيلي.
- وما تطالب به المقاومة هو إشراف دولي محايد على توزيع المساعدات، تفاديًا لاستخدامها كسلاح ضغط، أما الصيغة الحالية فتُبقي الحصار قائمًا فعليًّا.
6.الأمن والإعمار:
- يتحدث النص المقترح عن “ترتيبات أمنية طويلة الأمد” و”دعوة لاحقة لبحث وقف دائم”، دون جدول زمني أو التزامات دولية، ما يحوّل الاتفاق إلى حالة تفاوض مفتوحة تُنهك غزة سياسيًّا وشعبيًّا.
- كذلك، غابت خطة إعادة الإعمار كليًّا من النص، ما يفتح الباب أمام إسرائيل لاستخدامها لاحقًا كورقة ابتزاز سياسي، أو أداة للتحكم بشكل الإعمار أمنيًّا.
هذه التحديات، مجتمعة، تضع المقاومة أمام اختبار دقيق، فالحفاظ على منجزات المعركة، دون الانزلاق إلى اتفاق مشروط وغير متوازن يُعيد فرض الهيمنة الإسرائيلية من بوابة التسوية، ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تمسُّك المقاومة بوضوح المفاهيم، ودقة الصياغات، وتوازن التنفيذ المرحلي.
خاتمة وتوصيات:
لا تملك حركة حماس ولا المقاومة الفلسطينية رفاهية رفض الاتفاق بالكامل، نظرًا للأوضاع الإنسانية الصعبة والمأساوية في قطاع غزة الذي يقترب من الانهيار، ومع ذلك، فإن القبول باتفاق ناقص أو مبهم سوف يؤدي إلى تدهور سياسي وإنساني أكبر.
لذلك، يُوصى أن يكون التعامل مع الاتفاق بدقة وعناية عبر عدة محددات للحفاظ على المكاسب ومنع استغلال أي ثغرات:
- التفصيل الدقيق لكل بند في الاتفاق، مع صياغة ملحق قانوني فني ملزم يوضح معايير التنفيذ ويمنع أي تأويل يخدم الاحتلال.
- ربط تنفيذ الاتفاق بآلية رقابة فعالة من جهات محايدة وذات مصداقية، وليس فقط الوسطاء التقليديين، لضمان الشفافية ومنع التلاعب.
- حماية ورقة الأسرى: وذلك بعدم الاستجابة لمقترحات الإفراج عن نصف الأسرى الأحياء ونصف الجثامين في المرحلة الأولى، ويُقترح توزيع عملية الإفراج على خمس مراحل تدريجية، لضمان أكبر قدر من المكاسب ومنع الاحتلال من استغلال أي مرحلة للانقلاب على الاتفاق أو إعادة التصعيد.
- تفكيك الحرب النفسية حول “قرب الاتفاق”: إذ تستخدم الولايات المتحدة والاحتلال الإعلانات المتكررة حول قرب الاتفاق كأداة للضغط على المقاومة شعبيًّا لتحميلها مسؤولية تأخير الاتفاق، وهو ما لا يجب التأثر به في المفاوضات مع إظهار أن التأخير ناجم عن تعنُّت الاحتلال وذلك لإبقاء الموقف الشعبي واعيًا لهذه المناورة الإعلامية التي تستهدف التأثير على خيارات التفاوض.
- استثمار عمليات المقاومة الباسلة والمتصاعدة حاليًا كعامل قوة وضغط في المفاوضات، لضمان تحقيق مكاسب سياسية وميدانية حقيقية، وعدم السماح بتحويل الانتصارات الميدانية إلى تنازلات سياسية غير مضمونة.
وفق هذه الاعتبارات تُعدُّ قوَّة أداء المقاومة وثبات المفاوض الفلسطيني عاملين حاسمين في التأثير على مسار العملية التفاوضية ومآلاتها، فكلما ازداد تماسك الفعل الميداني وتقدم الموقف السياسي بثقة وثبات، تعززت فرص الوصول إلى اتفاق يحفظ الحقوق ويقطع الطريق على محاولات الإملاء أو الالتفاف، فلا يمكن أن يكون هناك اتفاق دون وضوح، ولا وضوح دون دعم المقاومة، ولا مقاومة دون وعي سياسي يقرأ التاريخ ويواجه الفخاخ التفاوضية للاحتلال.