إرث محمد الضيف بعد عام: ملامح دوره في قيادة المقاومة

برز محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام، بوصفه أحد أبرز الشخصيات العسكرية التي أسهمت في صياغة استراتيجية المقاومة في فلسطين خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وتركز دوره الميداني في إرساء منظومة متكاملة للبناء العسكري، وإعادة تعريف مفهوم الردع، كما نجح في تحويل البنية العملياتية من رد فعل إلى المبادرة الاستراتيجية.
أولًا: الضيف وبناء القدرات العسكرية الذاتية:
في ظل الحصار المتواصل على غزة وتعقيدات بيئة الصراع، برز القائد محمد الضيف كأحد أبرز المهندسين العسكريين في تاريخ المقاومة الفلسطينية، حيث قاد مسيرة تطوير القدرات الذاتية لكتائب القسام بما يتجاوز الإمكانات التقليدية.
- الصناعات العسكرية القسامية: أشرف الضيف على تحويل غزة من منطقة محاصرة إلى ورشة تصنيع عسكري داخلي، شملت صواريخ بعيدة المدى، وطائرات مسيرة، وعبوات ناسفة متطورة، شكّلت نواة ردع نوعي غير مسبوق.
- الأنفاق الهجومية: مثّلت الأنفاق أحد ابتكارات الضيف في ميدان الحرب غير المتماثلة، حيث أسس شبكة تحت أرضية مكّنت من تنفيذ عمليات تسلل نوعية، وزرعت الرعب في عمق الجبهة الداخلية للاحتلال.
- سياسة المفاجآت العسكرية: اعتمد الضيف مبدأ الفعل الاستباقي، فشنّ عمليات نوعية بخطف الجنود، ما أجبر الاحتلال على إعادة حساباته الأمنية والعسكرية، ودفعه لتقديم تنازلات في ملفات حساسة، أبرزها صفقات تبادل الأسرى تحت الضغط، وأثبت أن المقاومة قادرة على المبادرة وفرض قدرتها.
ثانيًا: منظومة التخفي والعمل السري:
مثّلت تجربة محمد الضيف مع المطاردة والاغتيال مدرسة متقدمة في العمل الأمني داخل بيئة مقاومة مفتوحة ومخترقة نسبيًّا، نجاة الضيف من سبع محاولات اغتيال صهيونية، تركت بصمة أمنية شديدة التأثير على طبيعة البناء القيادي داخل كتائب القسام.
وبسبب نجاته المتكررة، رسّخ الضيف لنموذج القائد غير المرئي، فظل مجهول الصورة رغم حضوره الكاريزمي، ما منح الكتائب قدرة على المناورة الأمنية، وحمى القيادة من الانكشاف.
كما مكّنه العمل السري من تطوير خلايا غير مرتبطة هرميًّا، مما أعاق قدرة الاحتلال على تفكيك الشبكة القتالية رغم استهدافها المتكرر.
لقد تحول إلى رمز أمني واستخباري وباتت أجهزة الاستخبارات الصهيونية تعتبره “العدو رقم واحد”، فيما تحوّل اسمه إلى كابوس دائم في العقلية الأمنية الإسرائيلية.
ثالثًا: المحطات المفصلية في مسيرة محمد الضيف:
تميّزت مسيرة محمد الضيف بعدد من المنعطفات الكبرى التي شكّلت ملامح المشروع العسكري للمقاومة الفلسطينية.
أولى هذه المحطات كانت في عام 2002، حين استشهد القائد صلاح شحادة، وتسلّم الضيف بعدها القيادة العسكرية لكتائب القسام، في مرحلة اتسمت بإعادة الهيكلة والانفتاح على العمل النوعي، بما في ذلك تطوير الأسلحة محليًّا وتوسيع نطاق العمليات خارج حدود غزة.
أما في عام 2014، فقد برز الضيف كقائد ميداني فاعل خلال معركة “العصف المأكول”، حين دخلت صواريخ المقاومة ولأول مرة إلى قلب تل أبيب، في تحدٍّ غير مسبوق للردع الإسرائيلي، وقد أظهر في تلك المعركة براعة في إدارة الجبهات والاحتفاظ بزمام المبادرة رغم الغارات المكثفة.
وفي عام 2021، خلال معركة “سيف القدس”، استطاع أن يؤسس لمعادلة ردع جديدة مفادها: “القدس مقابل التصعيد”، رافعًا بذلك من مكانة القدس كخط أحمر لا يمكن تجاوزه دون رد.
ثم جاءت محطة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، والتي قادها الضيف مباشرة، وكانت العملية الأوسع والأكثر إيلامًا للكيان الصهيوني منذ تأسيسه، بشهادة قادته ومحلليه، وهذا الحدث نقل المقاومة من حالة الدفاع إلى الهجوم الاستراتيجي واسع النطاق، وكشف عن تراكم طويل في الإعداد والتخطيط وتخزين المفاجآت.
كل محطة من هذه المحطات لم تكن مجرد معركة، بل مثلت إعادة تعريف لدور المقاومة وقدرتها على قلب المعادلات، تحت قيادة قائد جمع بين السرية والمبادأة، والتخطيط الطويل والاستعداد الكامل للتضحية.
رابعًا: تحليل بيان أبي عبيدة في الذكرى السنوية لاستشهاده:
يعكس بيان الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد القائد محمد الضيف، مجموعة من المضامين الاستراتيجية ذات الدلالة المهمة:
- التأكيد على أن عملية “طوفان الأقصى” لم تكن عملاً عسكريًّا مجردًا، بل كانت تتويجًا لعقود من التخطيط والتطوير بقيادة الضيف، مما يعيد تأطير المعركة كفصل مفصلي في تاريخ الصراع مع الاحتلال.
- وصف محمد الضيف بأنه “شهيد الأمة”، وليس فقط شهيد فلسطين أو القسام، يحمل بُعدًا تعبويًّا يُعيد توجيه وعي الشعوب الإسلامية نحو القضية الفلسطينية كقضية مركزية من أهم قضايا الأمة، ويكرّس صورة الضيف كقائد فوق الحدود التنظيمية أو الجغرافية.
- ربط الضيف بالصحابة والقادة التاريخيين مثل خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة يحمل دلالة رمزية عميقة تسعى لتقديمه كنموذج ممتد من السيرة الإسلامية الجهادية، وهو ما يعزز الشرعية الدينية للخط المقاوم في وعي الجمهور.
- الإشارة إلى أن الضيف أعاد هندسة الردع وأدخل تكتيكات جديدة في الصراع، يتقاطع مع حقيقة أن المقاومة انتقلت في عهده من الدفاع إلى الفعل الاستباقي، ما يطرح رؤيته كصانع لمدرسة عسكرية جديدة، تقوم على التخفي والمفاجأة والتكامل بين الأنفاق والصواريخ والطائرات المسيّرة.
- الرسالة الموجهة للمستقبل في البيان واضحة، إذ يشدد أبو عبيدة على أن مشروع الضيف لم ينتهِ باستشهاده، بل هو مستمر بقيادة خلفائه، وبحضور تأثيره الرمزي، مما يربط الماضي بالحاضر في سياق تعبوي طويل الأمد.
- في المجمل، يمثّل البيان وثيقة تأريخية واستراتيجية، لا تُحيي الذكرى فقط، بل تُرسّخ الضيف كأيقونة ذات طابع مؤسسي ومُلهمة لرؤية التحرير القادمة.
خاتمة:
مثّل محمد الضيف نقطة ارتكاز في التحول البنيوي للمقاومة، من حالة دفاعية إلى معادلة ردع شاملة، تقوم على عنصر المبادأة، والقدرة الذاتية، والعمل تحت الضغط.
وبتتويج مسيرته بشهادة كادت تكون متوقعة بقدر ما كانت مؤثرة، أصبح الضيف حالة تُدرس في فن الحرب غير المتكافئة، ونموذجًا للرعب دائم الحضور في مخيلة صانع القرار العسكري الإسرائيلي.