حدث ورؤية

القمة العربية في الدوحة.. هشاشة بالغة.. ونتائج باهتة في لحظة فارقة

المقدمة:

شهدت المنطقة العربية في الأيام الأخيرة منعطفًا شديد الخطورة مع تصاعد الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة عقب استهداف مقر حركة حماس بقطر، في توقيت يشي برسالة استخفاف واضحة بالعالم العربي؛ إذ جاء متزامنًا مع انعقاد القمة العربية في الدوحة.

هذه القمة التي كان من المفترض أن تمثل فرصة لإعادة بناء موقف عربي جماعي أو صياغة إستراتيجية طارئة تستجيب للكارثة الجارية في أقل الأحوال، غير أنّ نتائجها لم ترقَ إلى مستوى اللحظة التاريخية ولا إلى سقف تطلعات الرأي العام العربي.

فقد اكتفى القادة العرب بخطابات جوفاء وإصدار بيان ختامي وُصف بأنه ضعيف وباهت، عاجز عن مواكبة حجم المأساة والتحديات المصيرية الآنية، ومفتقر إلى الحد الأدنى مما ينتظره الشارع العربي من خطوات عملية.

قمة لم يكترث حتى لحضورها عدد من حكام العرب؛ إذ غاب عنها عدد غير قليل، في مشهد له دلالاته، من بينهم الرئيس التونسي قيس سعيّد، وسلطان عُمان هيثم بن طارق، وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وأمير الكويت مشعل الأحمد الجابر الصباح، ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، وملك المغرب محمد السادس، غيابات عززت انطباعًا بأن القمة لم تعد تحظى بالأولوية في أجندات تلك العواصم العربية، وبأن التنسيق العربي المشترك يواجه أزمة بنيوية.

أنّ مظلّة تأمين الخليج العربي باتت مكشوفة على نحو غير مسبوق، بما يهدّد نظم الحكم في الخليج نفسها أمام استباحةً معلنة لسيادتها.

أربع قمم عربية متتالية عُقدت منذ بدء العدوان على غزة ، إلا أنها أخفقت جميعًا في إيقاف الهجوم الإسرائيلي أو في إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، بل تفاقم المأزق إلى حدّ تعرض سبع دول _من بينها ست دول عربية _ لقصف الاحتلال من دون أن يُترجم ذلك إلى أي إجراء عملي، في وقت بقيت فيه المخرجات العربية أسيرة بيانات التنديد والشجب التقليدية التي فقدت فاعليتها ومصداقيتها، هذه الوقائع مجتمعة تعكس استمرار تراجع الوزن الإستراتيجي للقرار العربي الجماعي وتضع علامات استفهام كبرى حول جدوى القمم في صيغتها الحالية وقدرتها على الاستجابة للتحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة العربية!

إن هذه القمّة تُثير أسئلة استراتيجية بالغة الأهمية تتصل بواقع الأمن الخليجي ومآلاته، فقد أظهرت التطورات الأخيرة، وفي مقدمتها الهجوم الإسرائيلي المتزامن مع انعقاد القمّة، أنّ مظلّة تأمين الخليج العربي باتت مكشوفة على نحو غير مسبوق، بما يهدّد نظم الحكم في الخليج نفسها أمام استباحةً معلنة لسيادتها.

وفي الوقت ذاته، تبدو فرص بناء تحرّك عربي جماعي فعّال شبه منعدمة؛ إذ إن عقودًا من التجارب والاجتماعات الفارغة لم تفضِ إلى آلية ردع أو موقف عربي موحّد، ما يشير إلى صعوبة تحقّق هذا المسار في المدى المنظور.

ومع ذلك، أتت بعض المبادرات الفردية – مثل توقيع اتفاق الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان – لتثير التساؤل حول دوافع توقيع الاتفاق في هذا التوقيت وهل يعد استجابة لمطلوب التحالفات الدفاعية عقب الهجوم الأخير على الدوحة؟!

ومن هنا تنبثق إشكالية هذا التحليل: هل تمثّل هذه المبادرات بوادر تحوّل حقيقي في إدراك صانعي القرار الخليجي لطبيعة التهديد، أم أنها ستظلّ إجراءات معزولة لا تغيّر جوهر المعادلة الأمنية الراهنة، لكون الاتفاق بين دولتين داخل المحور الأمريكي؟

1-التهديد الإسرائيلي: تحدٍّ صارخ للأمن العربي:

الهجوم الإسرائيلي حمل رسائل إستراتيجية دموية موجهة إلى جسد النظام الإقليمي العربي بأسره؛ إذ تؤشر الوقائع إلى أن إسرائيل تتصرف باعتبارها قوة قادرة منفردة على تجاوز الحدود التقليدية للسيادة والتحرك دون اكتراث بالاعتبارات الدبلوماسية أو بعواقب الردّ الإقليمي!

هذه المنهجية تُعمّق شعور هشاشة المنظومة الأمنية العربية وتعيد إنتاج منطق مفاده أن أمن أي دولة عربية لم يعد محصنًا، وأن إسرائيل مستعدة لضرب أي طرف عربي ساعة تشاء، بلا ضابط أو رادع فعلي ما دامت إسرائيل قادرة على احتلال سماء وجغرافيا هذه البلاد!

إن استهداف مدن أو عواصم عربية لا ينبغي قراءته كرسائل موجهة إلى جهة بعينها فحسب، بل كإعلان عن نية العدوان لقوة تفرض وقائع جديدة في الإقليم؛ وقد كرّس ذلك الخطاب الإسرائيلي علانية، وكرر نتنياهو عباراته أكثر من مرة بعد الاعتداء، حتى يرسخ المعنى في عقل من يتأخر فهمه للرسائل، فالرسالة الإسرائيلية مفادها إعلانهم أنهم باتوا سادة على هذه المنطقة، وأنهم قادرون على تهديد أي رأس تعترض طريقهم.

2-نتنياهو واستهتاره بالقمة العربية:

عمّق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استفزازاته وغطرسته، حين أكمل ضرب غزة واستهدف المدنيين والمنشآت بالتزامن الدقيق مع انعقاد القمة العربية، في رسالة مقصودة تتجاوز مجرد المصادفة لتطعن في هيبة أي تجمع عربي قائم.

جولة روبيو للمنطقة مرت دون إدانة واضحة للقصف الإسرائيلي على الدوحة أو للقصف الذي أودى بحياة عشرات المدنيين في غزة، بما في ذلك تدمير نحو 30 مبنى سكنيًّا، لتعبر عن كونها جزءًا من إستراتيجية أمريكية لتسويغ التصعيد

وتتكرر المفارقة نفسها في كل قمة؛ إذ تطالب الدول العربية المجتمع الدولي بالتدخل أو فرض العقوبات في حين تمتلك الدول العربية أدوات ضغط وإجراءات لم تُستخدم بالقدر الواجب، ويدرك نتنياهو وحكومته هذا الواقع جيدًا، فيواصلان العدوان بثقة أكبر عقب كل قمة، مستفيدين من غياب الإرادة العربية الموحدة!

وقد برهنت تجارب سابقة، مثل الإجراءات الشاملة التي اتُخذت ضد الدوحة أثناء الأزمة الخليجية (حصار اقتصادي، إغلاق أجواء، قطع علاقات دبلوماسية)، على قدرة الدول العربية على اتخاذ خطوات جماعية حادة عندما تريد، غير أن هذه القدرة لا تُفعّل في مواجهة المخططات التوسعية الإسرائيلية، ليبقى الرد محصورًا في بيانات الاستنكار والشجب التي تواكبها في المقابل خطوات إسرائيلية أوسع في التمدد وفرض الوقائع الجديدة على الأرض.

3-روبيو في إسرائيل: تعزيز للانحياز الأمريكي:

بالتزامن مع انعقاد القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة بتاريخ 15 سبتمبر 2025، برزت زيارة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إلى تل أبيب، والتي جرت في 14 سبتمبر؛ أي قبل القمة بيوم واحد، ضمن جولة رسمية في المنطقة، وتشير المعطيات إلى أن هذه الزيارة استهدفت احتواء التوترات التي فجرتها الضربة العسكرية للاحتلال، وأعادت إلى الواجهة النقاش حول حدود دور الولايات المتحدة كوسيط في مسار الصراع.

خلال الزيارة، نشر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي صورًا لرِوبيو مع نتنياهو والسفير الأمريكي مايك هاكابي داخل أحد الأنفاق الاستيطانية في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة حيث شارك روبيو في أعمال الحفر، التي تُدار من قبل منظمة “إيلاد” الاستيطانية، وهو ما يدل على دعم صريح لسياسات السيطرة الاستيطانية التي تنتهجها إسرائيل.

كشف البيان الختامي للقمة العربية في الدوحة عن صمت متعمد تجاه الولايات المتحدة، رغم وضوح دورها الراعي والمساند لإسرائيل وعملياتها العسكرية، فضلًا عن وجودها العسكري الأكبر داخل قاعدة العديد في قطر نفسها والذي لم يُفعَّل لمنع الضربة الإسرائيلية

جاءت هذه الزيارة قبل انتقال روبيو إلى قطر في 16 سبتمبر للقاء أمير الدولة تميم بن حمد آل ثاني، ويبدو أنها تهدف إلى محاولة أمريكية للتوفيق بين الحفاظ على التحالف الإستراتيجي مع إسرائيل من جهة، والشراكة مع قطر من جهة أخرى، رغم الغضب الإقليمي الواضح من الضربة الإسرائيلية.

تصريحات روبيو خلال هذه الجولة أثارت غضبًا واسعًا؛ حين وصف المقاومة الفلسطينية، خاصة حماس، بـ “الحيوانات البربرية” في مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو، مشيرًا إلى هجوم 7 أكتوبر 2023.

جولة روبيو للمنطقة مرت دون إدانة واضحة للقصف الإسرائيلي على الدوحة أو للقصف الذي أودى بحياة عشرات المدنيين في غزة، بما في ذلك تدمير نحو 30 مبنى سكنيًّا، لتعبر عن كونها جزءًا من إستراتيجية أمريكية لتسويغ التصعيد بل ودعمه، خاصة مع بدء إسرائيل عملية احتلال بري كبرى لغزة في 16 سبتمبر في نفس موعد زيارة روبيو لقطر، والتي أدت إلى نزوح آلاف السكان وتدمير بنى تحتية واسعة، حيث أكد روبيو أن “الولايات المتحدة تدعم إسرائيل في القضاء على حماس نهائيًّا، حتى لو تطلب ذلك عمليات برية واسعة النطاق”.

4-الصمت العربي المريب تجاه أمريكا!

كشف البيان الختامي للقمة العربية في الدوحة عن صمت متعمد تجاه الولايات المتحدة، رغم وضوح دورها الراعي والمساند لإسرائيل وعملياتها العسكرية، فضلًا عن وجودها العسكري الأكبر داخل قاعدة العديد في قطر نفسها والذي لم يُفعَّل لمنع الضربة الإسرائيلية!

هذا التغاضي عكس إحجامًا وخوفًا من توجيه أي لوم للإدارة الأمريكية أو مطالبتها بالوفاء بمسؤولياتها كقوة حليفة، بالضغط على حليفتها إسرائيل لوقف التصعيد أو منع الهجوم على قطر، ويُفتح بذلك الباب أمام تساؤلات حادة يجب أن تطلق حول الحدِّ الذي يمكن لقادة الدول العربية الاعتماد فيه على “الوسيط” الأمريكي والذي يصطف في اللحظات الحرجة بصورة فجة خلف مصالح تل أبيب!

وفي الوقت الذي يتحدث فيه نتنياهو عن “تغيير الشرق الأوسط” وعن “إسرائيل الكبرى”، ويعرّبد طولًا وعرضًا في غزة والضفة وسوريا ولبنان واليمن ويصل قطر، يتحدث النظام المصري في القمة عن “تقويض جهود السلام”!

لتدل الرسائل المتكررة من واشنطن وتل أبيب على أن المطلوب من النظام العربي الرسمي هو القيام بوظائف أمنية محددة لمنع تحركات الشعوب، ولا يسمح لها ببلورة موقف سياسي مستقل تجاه القضايا المصيرية حتى في أحرج اللحظات، في ظل موقف أمريكي مُعلن بوضوح، آلاف المرات عن مركزية التحالف مع إسرائيل والدفاع عن سياساتها حتى عندما تنحدر إلى عدوان صريح أو تطهير عرقي.

هذه الشواهد مجتمعة تُبرز حدود وطبيعة التحالفات العربية القائمة مع الولايات المتحدة، وحدود الإجراءات الغائبة في مواجهة الحليف الأمريكي نفسه!!

5-غياب الإجراءات الفعلية: بيانات من ورق!

في هذا السياق، يُنظر إلى البيان الختامي للقمة العربية على أنه هشٌّ خالٍ من أي إجراءات ملموسة، رغم فداحة الأحداث الأخيرة، مكتفيًا بالتصريحات الرمزية ولو تصاعدت لهجتها دون اقتراح خطوات عملية للتصدي للعدوان الإسرائيلي.

ولم يتضمن البيان أي قرار بقطع العلاقات الدبلوماسية أو حتى تهديد ضمني بها، ولم يُطرح أي خيار لإغلاق الأجواء العربية أمام الطائرات الإسرائيلية أو تنفيذ إجراءات اقتصادية وسياسية قد تُحدث تأثيرًا حقيقيًّا!

وفي الوقت الذي يتحدث فيه نتنياهو عن “تغيير الشرق الأوسط” وعن “إسرائيل الكبرى”، ويعرّبد طولًا وعرضًا في غزة والضفة وسوريا ولبنان واليمن ويصل قطر، يتحدث الخطاب المصري في القمة عنتقويض جهود السلام”!

يبرز أكثر من أي وقت مضى الدور الواجب على الشعوب العربية، التي تعيش بين وطأة القهر الداخلي وخيبات المواقف تجاه غزة، باعتباره عنصرًا حاسمًا في إحداث التغيير، ويقترن بذلك مسئولية العلماء والمفكرين في بيان حقيقة شرعية هذه المواقف العربية الرسمية وتوضيح حدود مسؤولية الحكومات أمام شعوبها وأمتها

يعرّبد وزير خارجية ترامب وسفيره في المسجد الأقصى والخطابات العربية تبحث عن وئام موهوم وسلام مزعوم، إلى جانب خطابات فضفاضة لا تعبر عن الواقع الحقيقي، إذ يظل التعاون الأمني بين بعض الدول ومنها مصر قائمًا مع إسرائيل حتى الآن، مما يوضح أن هذه الخطابات العربية داخل القمة  لم تكن إلا  للاستهلاك الإعلامي الذي لا حقيقة له إذ لو أن التوترات حقيقية لظهر ذلك على مستوى الملف الأمني والملف الاقتصادي الذي تتعاون فيه بلاد عربية أخرى مع إسرائيل، ومنها بلاد لم تكتف بالصمت عن المجازر في غزة، بل بادرت إلى إنشاء ممرات برية لتوريد المواد الغذائية للاحتلال خلال الحرب!

خاتمة:

في ضوء هذه النكسات السياسية والميدانية، جاءت القمة الأخيرة أشبه بـ«قمة الشعارات الجوفاء» و«اجتماع العاجزين»، معبرة عن اتساع الفجوة بين الخطاب المعلن والقدرة الفعلية على اتخاذ قرارات مؤثرة، أو حتى مجرد الإرادة لفعل ذلك!

 ويبدو أن النتائج والتبعات المستقبلية قد تتضمن ما يلي:

  • استمرار إسرائيل في توجيه الضربات متى شاءت، دون أن تواجه عواقب فعلية من النظام العربي الجماعي.
  • بقاء الدور الأمريكي قوة مؤثرة فوق الإرادة العربية، ما دامت الحكومات العربية تُراهن على “وعود واشنطن” دون اعتمادها على قرارها الذاتي.
  • تزايد حالة عدم الثقة لدى الشارع العربي بأي منصة عربية جامعة نتيجة تراجع الإيمان بتأثير أي اجتماع قمة في معالجة القضايا المصيرية.

إن ما جرى خلال القمة يدل بوضوح على فكرة مركزية ظاهرة، وهي أن مسار التحرر والاستقلال الحقيقي داخل البلاد العربية يحتاج إلى إعادة شق الطريق من جديد.
فإسرائيل تجاوزت حدًّا تاريخيًّا في سياساتها التوسعية، لا يمكن عزوه فقط إلى مشروع شخصي لنتنياهو وحده، بل إلى وجود تصور جديد داخل أجهزة صنع القرار الإسرائيلية، يحمل في طياته تطورًا توسعيًّا كبيرًا في عقيدتها العسكرية، من أجل بدء تنفيذ حلمها القديم، والمتمثل في إقامةإسرائيل الكبرى“!

في هذا السياق، يبرز أكثر من أي وقت مضى الدور الواجب على الشعوب العربية، التي تعيش بين وطأة القهر الداخلي وخيبات المواقف تجاه غزة، باعتباره عنصرًا حاسمًا في إحداث التغيير، ويقترن بذلك مسئولية العلماء والمفكرين في بيان حقيقة شرعية هذه المواقف العربية الرسمية وتوضيح حدود مسؤولية الحكومات أمام شعوبها وأمتها!

إن تفعيل هذا الدور في إطار تحركات واعية ومدروسة يمكن أن يشكّل رافعة حقيقية للتغيير، وكسرًا لدوائر العجز، التي تحيط بعالمنا العربي والإسلامي.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى