تقدير موقفقراءة الحدث

الأكاذيب الأمريكية وخطة ترامب للسلام!

بعد طول انتظار ووعود لا تُحصى، أعلن ترامب وإلى جواره نتنياهو “خطة ترامب للسلام”، وعين نفسه رئيسًا لمجلس السلام! وشرح بعضًا من بنود خطته العشرين، وقال: “إن الكرة الآن في ملعب حماس، إما تقبل أو تتعرض لوعيد وتهديد نتنياهو بإنهاء الأمر عسكريًّا، وسأكون خلفه داعمًا له”!  الخطة كما وصفها نتنياهو لاحقًا “تحقق لإسرائيل كل ما كانت تريده، وتقلب عزلتها السياسية في العالم إلى عزلة لحماس”.

لقد كان لافتًا – قبل خطة ترامب بأسبوعين فقط – أن البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية الطارئة لبحث الهجوم الإسرائيلي على قطر والذي تضمن 25 بندًا، خلا تمامًا تمامًا من أي ذكر للولايات المتحدة، ولو بإشارة خجولة. كانت الولايات المتحدة الفيل الضخم الذي لم يلتفت إليه أحد في قاعة الاجتماع الذي ضم 54 دولة عربية وإسلامية!

لقد أصبح معلومًا من السياسة بالضرورة أن إسرائيل لم ولن تقوم بانتهاكاتها التي بلغت حد الإبادة الجماعية إلا بدعم أمريكي متواصل، أو بضوء أخضر أمريكي على أقل تقدير، ومع ذلك يجري تجاوز مواقفها، إلى الدرجة التي يعتبرها البعض “وسيطًا” مُرحبًا به لتحقيق السلام! بل ويصبح ترامب شخصيًّا رئيسًا لمجلس السلام الذي يحل مشاكل الشرق الأوسط التي بدأت منذ ثلاثة آلاف سنة على حد تعبيره!

خلال 15 شهرًا مرت من حرب غزة أثناء حكم بايدن، صدرت عشرات التصريحات والبيانات من بايدن وأركان إدارته كُررت مرة بعد مرة، وإذا عدنا لأي أسبوع في تلك الفترة، سنجد دائمًا تصريحات مثل:

  • إننا قريبون للغاية من إيقاف الحرب وتحقيق تسوية.
  • متمسكون بسياستنا المستمرة بحل الدولتين؟
  • لابد من زيادة تدفق المساعدات لسكان غزة وتخفيف معاناتهم.
  • اتفاقية تطبيع تاريخية بين السعودية وإسرائيل وشيكة.

طبعًا كل هذه التصريحات كانت كاذبة بشكل فجٍّ، ومع ذلك استمرت دون توقف، وفي المقابل لن تجد تصريحًا واحدًا من إدارتي بايدن وترامب ينطق كلمة واحدة عن استخدام الولايات المتحدة لنفوذها للضغط على إسرائيل لوقف الحرب، أو حتى مجرد التلويح بوقف المساعدات العسكرية!

صاحَب تولي ترامب مقاليد الحكم في يناير 2025 وسط حملة تهديدات شعواء، عقدُ اتفاق هدنة من ثلاث مراحل، انقلبت عليه إسرائيل قبل أن تبدأ الساعة الأولى للمرحلة الثانية، ووفرت لها حملة الأكاذيب الأمريكية المستمرة منذ عهد بايدن- وفرَّت لها غطاء سياسيًّا لترتكب ما لم ترتكبه في ولاية بايدن، فمنعت الغذاء والماء والوقود لأكثر من شهرين متتاليين، وشنَّت هجمات ضارية غير مسبوقة على غزة، وتفاقمت وحشيتها باستخدام التجويع سلاحًا للحرب مع تطبيع لعمليات القتل العشوائية؛ واستمرارها في استهداف المستشفيات والمدارس والمساجد وما بقي من بيوت؛ كل هذا على الهواء مباشرة أمام صمت أو تسويغ أمريكي  مبتذل بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!

الموقف الأمريكي يحتاج لتأمل وتحليل لفهم كل هذا الكم من الأكاذيب والخداع، والإجابة عن تساؤلات ثلاثة:

هل كان صانعو السياسة الأمريكية يصدقون ما يقولون فعلًا؟!

وهل تقف وراء هذه الأكاذيب رؤية سياسية متماسكة؟

أم رؤية مضطربة بين أسس إستراتيجية قوية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يقابلها تراجع في النفوذ والقوة؟!

 

فارق مهمٌّ!

قبل أن نحاول فهم الموقف الأمريكي لابد من التنبيه على فارق جوهري في موقف إدارة ترامب عن سابقيه. ترامب له توجٌّه متأثرٌ بشكل كبير باليمين المسيحي الصهيوني. وللتذكير فهذه بعض إجراءات ترامب في ولايته الأولى (أي قبل 7 أكتوبر بسنوات)، وهي ترسم مجتمعةً فكرَ الرجل حول المنطقة:

  • الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة (ديسمبر 2017)، مخالفًا الإجماع الأمريكي والدولي المستمر منذ عقود على أن وضع القدس سيُحسم في مفاوضات الوضع النهائي (المتفق عليها من أيام السادات وبيجن).
  • قطع التمويل الأمريكي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تقدم خدمات أساسية لملايين اللاجئين الفلسطينيين (في مايو 2018). ووصف ترامب الوكالة بأنها “وكالة معيبة بشكل لا يمكن إصلاحه”. اعتُبرت خطوة ترامب محاولة لإلغاء “حق العودة” من طاولة المفاوضات.
  • إغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة (سبتمبر 2018): أمرت إدارة ترامب بإغلاق بعثة المنظمة، مُعلّلةً ذلك برفض السلطة الفلسطينية التعاون مع فريق السلام الأمريكي. وكانت الإدارة قد وقّعت بالفعل قانونًا في نوفمبر 2017 يجعل إبقاء المكتب مفتوحًا مشروطًا بدخول الفلسطينيين في “مفاوضات مباشرة وهادفة مع إسرائيل”.
  • الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان (مارس 2019): خلال اجتماع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقّع ترامب إعلانًا يعترف رسميًّا بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، التي احتلتها إسرائيل من سوريا في حرب عام 1967. عكس هذا النهج أكثر من 50 عامًا من السياسة الأمريكية الثابتة، التي اعتبرت الجولان والأراضي الفلسطينية محتلة وخاضعة للتفاوض.
  • خطة “السلام من أجل الازدهار” الاقتصادية (يونيو 2019): حين كُشف النقاب عن هذه الخطة في مؤتمر عُقد في البحرين، وكانت تُمثل الجزء الاقتصادي من خطة السلام الأوسع التي قدمتها إدارة ترامب (أو ما سمي بصفقة القرن). وعدت الخطة باستثمارات دولية بقيمة 50 مليار دولار للأراضي الفلسطينية والدول العربية المجاورة، لكنها كانت مشروطة بتسوية سياسية. رفضت السلطة الفلسطينية الخطة، ولم تُستشر وقاطعت المؤتمر.
  • تغيير الموقف الأمريكي بشأن المستوطنات الإسرائيلية (نوفمبر 2019): حيث أعلن وزير الخارجية مايك بومبيو أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي. ألغى هذا الرأي القانوني الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عام ١٩٧٨ والمعروف باسم “مذكرة هانسل”، ووضع الولايات المتحدة خارج الإجماع الدولي، الذي يعتبر المستوطنات انتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة.
  • اتفاقيات إبراهيم (سبتمبر 2020): تواريخ التوقيع: سبتمبر ٢٠٢٠ (الإمارات والبحرين)، أكتوبر ٢٠٢٠ (السودان) وديسمبر ٢٠٢٠ (المغرب). هندست إدارة ترامب في سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وأربع دول عربية، وكان أحد الأهداف السياسية الرئيسة هو تجاوز القضية الفلسطينية من خلال بناء تحالف من الدول العربية المتحالفة مع إسرائيل ضد إيران. أدان الفلسطينيون جميعًا هذه الاتفاقيات باعتبارها خيانة لمبادرة السلام العربية.
  • مبدأ “بومبيو” بشأن وسم المنتجات (نوفمبر ٢٠٢٠): بعد خسارة ترامب للانتخابات، وفي إحدى خطواتها السياسية الأخيرة، أعلنت إدارة ترامب، من خلال وزير الخارجية بومبيو، أنه يمكن وسم البضائع المنتجة في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية بعلامة “صنع في إسرائيل” عند تصديرها إلى الولايات المتحدة. ورفضت هذه السياسة التوجيهات الأميركية الصادرة عام 1995 والتي كانت تشترط وضع علامة على المنتجات القادمة من الضفة الغربية وغزة، الأمر الذي أدى إلى تآكل التمييز بين إسرائيل والأراضي التي تحتلها.

كل هذه الإجراءات وهذا الازدراء لسلطة فلسطينية تعلن صباح مساء التزامها بالحلِّ السلمي، وتبصم بالعشر على براءتها من خيار المقاومة، ومع ذلك عاملها ترامب بهذه الغطرسة والخناق والتهميش، وحتى في ولايته الثانية منع إصدار تأشيرة دخول لرئيسها محمود عباس لحضور جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي يحضرها طوب الأرض، عقابًا له على اعتراف دول أوروبية بدولة فلسطين!!

كانت هذه المؤشرات في فترة رئاسية واحدة لترامب، تنبئ عن زيادة وحدة في النفاق والكذب الذي اتسمت به السياسة الأمريكية في العقود الأخيرة، وأن ادعاءها القديم الجديد بأنها تسعى وتساعد في بناء “عملية سلام”، كان مجرد غطاء لإدامة الوضع الراهن وترسيخه أكثر، تمامًا كما صورت سياستها الأوسع في الشرق الأوسط على أنها تعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت أحد أهم معاول وأد الربيع العربي. وهكذا، صرنا إذا سمعنا الإدارة الأمريكية تدعي نجاحًا في الشرق الأوسط، ننتظر بعده أن تسفر جهودها عن كوارث متتالية، فكيف ونحن نسمع ترامب الآن يتباهى أنه يريد إيقاف حرب بدأت منذ ثلاثة آلاف سنة؟ (وربما يكون يصدق نفسه في هذا الهراء!).

إن تزايد ووضوح تلك الأكاذيب، دفع كلًا من الفلسطينيين والإسرائيليين – عمليًّا – إلى تجاهل شعارات حلِّ الدولتين والسلام والديمقراطية والوساطة الأمريكية، واللجوء بدلًا عن ذلك للقوة فقط، بينما واصلت الولايات المتحدة إظهار مزيد من الدعم لإسرائيل، ثم الاكتفاء بمشاهدة الأنقاض.

 

تشريح التناقض الأمريكي

يمكن تلخيص بعض أسباب التناقض الأمريكي الكبير بين ما تعلنه من ثوابت وأهداف سياسية، وبين ما تحققه على الأرض:

تناقض في التعامل مع الطرفين معًا: الإدارات الأمريكية لديها دائمًا قناعة بأن الطريقة المثلى للتأثير على إسرائيل ليست من خلال الضغط عليها، ولكن من خلال الاستيعاب والاحتضان بالدعم والمساعدات. في نفس الوقت تتعامل مع الطرف الفلسطيني من منطلق الوصاية والأستاذية، ويعطون لأنفسهم الحق في تقرير من ينبغي أن يحكم الفلسطينيين، جهة أو أشخاصًا بعينهم (من المعتدلين!) وبالتالي يستبعدون من “عملية السلام” القوى الأكثر شعبية والأكثر قدرة على إقامة السلام أو عرقلته.

يضاف إلى هذا غفلة هذه الإدارات المتعاقبة عن حقيقة تعلُّق الفلسطينيين بأرضهم وعدم التخلي عن شبر منها بعد النكبة، تمامًا أو أشد من المستوطنين الإسرائيليين والقوميين المتدينين.

هذا الخطأ المزدوج من أسباب تناقض السياسة الأمريكية، ودفع المنطقة لمزيد من الاضطراب. والولايات المتحدة لها تاريخ طويل في هذا الفشل في تقدير مواقف الطرفين.

في عام 2000، أكد بعض كبار مسؤولي الاستخبارات الأمريكية، بناءً على معلومات مجتزأة، للرئيس كلينتون أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لن يكون أمامه خيار سوى قبول مقترحات كلينتون خلال قمة كامب ديفيد، وأنه سيكون من الجنون عدم قبوله. رفض عرفات هذه المقترحات، واحتفل به شعبه وقتها كبطل لفعله هذا.

في عام 2006، أغفلت إدارة بوش مؤشرات واضحة تُشير إلى فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية النزيهة التي لطالما نادت بها واشنطن وتوجس منها مسؤولو السلطة الفلسطينية آنذاك. موقف الإدارة الأمريكية من الانتفاضتين الأولى والثانية كان صادمًا من مفاجأتهم بما يحدث، وفوجئوا بطوفان الأقصى، ورغم نصيحة بايدن لإسرائيل ألا يأخذهم حب الانتقام إلى عدم التروي والتعامل بسياسة، فإن إدارته ساندت ودعمت السلوك الوحشي لإسرائيل، والذي تخطى ما كان يحذر منه بايدن بمراحل شاسعة.

قد يقول قائل: إن سوء تقدير دوافع ومواقف الأطراف في الصراع العربي الإسرائيلي أمر وارد، ولا يمكن ضمان عدم وقوعه من أي إدارة أمريكية أو أوروبية أو صينية أو روسية أو غيرهم.

وهذا صحيح ومقبول، لكن الإشكال في الحالة الأمريكية هو تكرار هذه الإخفاقات وإدمانها، بشكل يصعب تسويغه أو تفسيره، ولم نجد – على الأقل منذ مطلع الألفية – رغبة في أي بيت أبيض لإعادة تفكير حقيقية، أو مراجعة هذا التدهور الحاصل!

هذا العناد يتلازم أيضًا مع تباهي صانعي السياسة الأمريكيين بتلك الأخطاء، والدفاع عنها بمزيد من الأكاذيب! هؤلاء يرون “جدوى” الكذب، أنه قد يكسر الجمود، ويحقق إنجازات، ويمرر الخداع … ويسوغ القتل، وينسون أو يتناسون أن خداعهم أصبح لا يصدقه أحد، وأن الأنظمة التي كانت مخدرة بخداعهم، أصبحت الآن لا تثق بهم، وتوقن بكذبهم!

 

اعتبار الاستخبارات كبش فداء للفشل السياسي: الاستخبارات الأمريكية – كسائر دول العالم – تقدم تقاريرها وتقديراتها بكثير من التحفظات وقليل – أو ندرة – من الجزم والحسم، تاركة التقدير والقرار لصانعي السياسة. صحيح أنه في بعض الأحيان تجري تحريفات متعمدة تُصاغ فيها المعلومات الاستخباراتية بما يتناسب مع أهواء المسؤولين – كما حدث عندما أخبرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الرئيس بوش الابن عام 2003 بما أراد سماعه: أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وأن القضية المرفوعة ضده “مؤكدة”، لكن غالبًا ما تأتي بيانات الاستخبارات مصحوبة بتحذيرات مناسبة، كما أُعلن مرارًا وتكرارا في جلسات استماع الكونجرس لمسئولي الاستخبارات بعد كل حدث كبير (وآخرها القصف الأمريكي للمنشآت النووية الإيرانية).

قد يؤكد ويُذكر المسؤولون مثلًا بأن المعلومات التي تلقوها استُخلصت من محادثة واحدة في مكان واحد، وفي وقت واحد، دون الاستفادة من تحليل أوسع، وسياق أشمل، ومعرفة بافتراضات ضمنية. يمكن إخبارهم بأن ما يُستخرج ليس القصة الكاملة ولا يحل اللغز كله، وأن امتلاك أجزاء منه قد يكون أكثر تضليلًا من عدم امتلاكه. ومع ذلك، فإن التحذيرات لا تُهم كثيرًا. يبدو أن صانعي السياسات الأمريكيين ماضون في خطاياهم في السياسة الخارجية، مكتفون بإلقاء اللوم على قصور التقارير الاستخباراتية، وهذا جانب آخر مهم لشرح أسباب التناقض الأمريكي المتواصل.

هذا لا يبرئ أجهزة الاستخبارات المختلفة، لكن يجعلها أقل مسئولية عن الإخفاقات السياسية، ولكنها بالتأكيد ليست أقل وحشية وليست أقل غدرًا.

 

حدود القوة: الولايات المتحدة – حتى الآن – هي القوة العسكرية والاقتصادية والمؤثرة ثقافيًّا الأولى في العالم، ولكنَّ عددًا آخذًا في التزايد من دول الشرق والغرب يحاولون تجاهلها، وتجاوزها خاصة بعد الرسوم الجمركية الهوجاء التي فرضها – ولا يزال يفرضها – ترامب.

وحتى في المنطقة العربية، رأينا في عدة مناسبات، أن الولايات المتحدة بكل قوتها تواجه رفضًا صريحًا أحيانًا من إسرائيل، بل ومن الفلسطينيين، وتكتفي وقتها بمشاهدة إحراجها.

لقد رأت إمبراطوريات عديدة أنها في حال تراجعها لابد أن تفهم وتدرك أن للقوة حدودًا، وأنها إذا تجاوزت هذه الحدود في توجيه سلوك الآخرين فإن النتائج تكون عكسية. لنسترجع فقط كم مرة تكلم ترامب عقب قصف منشآت إيران النووية، عن عظمة القوة الأمريكية اللا محدودة، وكيف صبَّ جام غضبه على تقرير استخباراتي أمريكي “أولي” يشكك في آثار الضربة الأمريكية.

ترامب المتنمر دائمًا، أصبح عرضة بشكل متزايد لتنمر الآخرين عليه في الداخل والخارج. ولنسترجع أيضًا التصريحات والخطوط الحمراء التي أعلنتها أمريكا ضد بشار الأسد، وانتهت إلى لا شيء، ولنسترجع أخيرًا سياسات وتصريحات ترامب حول أوروبا والناتو، لنرى بلا أي لَبس كيف يتراجع النفوذ الأمريكي، ويستغني مجانًا عن حلفاء الأمس، تاركًا في حلوقهم مرارة ستبقى معهم لسنوات قادمة. إن ما تفقده أمريكا من نفوذ لا يمكن أن تعوضه بمجرد الضجيج أو الثرثرة الفارغة في جلسات ترامب الإعلامية المملة!

ستظل السياسة الأمريكية الخارجية على مسار مضطرب، حتى تنزل من برجها إلى واقع العالم الجديد، وتتعلم من تاريخها القريب في أفغانستان والعراق، حيث أظهرت الولايات المتحدة أنها لا تعرف كيف تخوض حربًا، فما بالك بالفوز فيها. فقد آلاف الأمريكيين ومئات الآلاف من الأفغان والعراقيين أرواحهم. وانتهت حرب العراق بحكومة مدعومة من إيران وميليشيات في السلطة، بينما أعادت حرب أفغانستان طالبان إلى السلطة في أعقاب انسحاب أمريكي مُخزٍ!

كان للولايات المتحدة ثلاثة حلفاء في المنطقة العربية، مصر والخليج وإسرائيل، فتجاهلت الأول (بل وزعق أوباما معلنًا في أعقاب الربيع العربي: مصر ليست حليفًا لنا!)، واستهزأت بالثاني، وارتمت في أحضان الثالث حصريًّا.

 

عودة إلى الواقع وخطة ترامب للسلام

ألقى ترامب بخطته في وجه المفاوض الفلسطيني، وجعل الكرة في ملعبه، ويقولون له: الآن: اقبل أو تحمل العواقب. تبدو أمام المقاومة الفلسطينية ثلاثة خيارات فقط:

  • القبول.
  • الرفض.
  • القبول بتحفظات أو شروط.

أولًا: نحتاج إلى تصور وضع المحيط العربي والإسلامي (إن جاز التعبير) وعلاقاته بترامب تحديدًا:

لقد كان رد فعل العالم العربي على إعادة انتخاب ترامب في ٢٠٢٤ مُعبّرًا للغاية. بكل المقاييس النظرية، كان ينبغي أن يكون كل شيء ضد ترامب في هذا الصدد، لأنه في ولايته الأولى، حسم موقفه لصالح إسرائيل كما تقدم، ساعيًا إلى كسر التقاليد والتخلي عن بديهيات عملية السلام التي اعتبرها محض خرافات.

خلال حملته الانتخابية في 2024، دعا ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى “إنهاء المهمة” عسكريًّا في غزة. ومع ذلك كله، جاء الارتياح العربي واضحًا وسريعًا ومرحبًا بقدوم ترامب، والتخلص من بايدن (ومن أوباما من خلفه)!

من الصعب فهم هذا الاختيار، إلا أن يقال: إن الاستبداد متناغم ومتآلف، وإن العديد من حكام المنطقة يرون ترامب ببساطة واحدًا منهم! حتى لو كانت بوصلته غير أخلاقية، أو أفعاله غير متوقعة، أو تنمره لا حدود له. هذا كله محير، ولكنه واقع مع الأسف الشديد. والأسف هنا مؤثر على موقف المفاوض الفلسطيني الذي لا يمكنه تجاهل الواقع المحيط به، على كل حال.

ثانيًا: كيف يكون الرد الفلسطيني؟

سؤال ملحٌّ ومهمٌّ وربما مصيريٌّ. هذه ملامح ما يترتب على الاختيارات المتاحة:

قبول خطة ترامب يعني:

  • استسلام وتفكيك المقاومة ونزع سلاحها وبنيتها التحتية.
  • تحكمًا أمريكيًّا مطلقًا (مجلس السلام هو الهيئة العليا – برئاسة ترامب وعضوية توني بلير) لقطاع غزة وفصله تمامًا عن الضفة.
  • وعدًا غامضًا بدولة فلسطينية مرهونة بحق النقض الإسرائيلي!
  • إدارة خدمات القطاع بهيئة ليس لها أي صلاحيات سياسية!
  • وأد مشروع التحرر الفلسطيني.
  • استقرار حكم نتنياهو وعصبته لأجل غير منظور.
  • تسارع عملية التطبيع.
  • إطلاق يد إسرائيل للهيمنة المطلقة على المنطقة.

هذا كله في حال وفَّت أمريكا بالتزاماتها، وهذا بعيد والغالب أن تنهار كل الخطة مع أول فرصة لإسرائيل للانقضاض، تحت أي ذريعة مفتعلة!

رفض الخطة يعني:

  • تفاقم الوضع المعيشي المأساوي في القطاع.
  • تباعد – وربما عزلة – بين المقاومة وداعميها الإقليميين.
  • احتمالات انقسام داخل صفوف المقاومة (خاصة إذا تأخر الرد).
  • ردود الفعل داخل إسرائيل تحتاج لدراسة ورصد.
  • احتلال غزة: ربما يستغرق شهورًا.

 

قبول الخطة بتحفظات أو شروط:

لعل هذا هو الاختيار الأفضل (أو الممكن)، وهذه بعض الضوابط الحاكمة المقترحة:

  • يجب إخراج الرد بشكل دبلوماسي وقانوني محكم.
  • الإصرار على مظلة أممية من مجلس الأمن (لتوفير ضمانات معقولة، وفي نفس الوقت إطالة أمد النقاش وتفويت فرصة أو زخم الخطة).
  • مراعاة وحدة صف الفصائل الفلسطينية، بحيث يمثل الرد كل الفصائل مجتمعة.
  • مراعاة العلاقة القائمة مع الوسطاء – مصر وقطر وتركيا – وتقدير جهودهم.
  • الإصرار على حق الشعب الفلسطيني وحده في تقرير مصيره، واختيار من يحكمه.
  • المقاومة ليست مخولة للتفريط في الأرض، أو تقرير مستقبل الشعب الفلسطيني.
  • يمكن للعشائر الفلسطينية في غزة أن تقوم بدور رئيسٍ في إدارة القطاع في الفترة الانتقالية.
  • الموافقة على كل البنود التي لا خلاف عليها مثل وقف الحرب وإعادة الإعمار وتبادل الأسرى والانسحاب الإسرائيلي ونحوها.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى