رد حماس على خطة ترامب: توازن المقاومة والمفاوضات السياسية

مقدمة:
في خضم الحرب والعدوان الإسرائيلي الممتد على قطاع غزة، قدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما اعتبره “خطة إنهاء الحرب”، زاعمًا بها السعي إلى سلام دائم، حيث ربط وقف إطلاق النار في غزة بالإفراج السريع عن “المختطفين الإسرائيليين”، في مشهدٍ جسّد انحيازه الواضح لإسرائيل وتجاهله لحقوق ضحايا غزة.
كما طالب في خطته بنزع سلاح غزة ساعيًّا لتحويل القطاع إلى منطقة بلا سيادة فلسطينية، متجاهلًا جذور الصراع، ومجرّدًا المقاومة من حقِّها عبر طرح ما سماه “عفو .. وخروج آمن” لعناصرها، وكأنها قضية جنائية لا نضال تحرري!
ثم منح نفسه شرعية الوصي حين اقترح إدارة انتقالية برئاسته، متجاوزًا الحق الفلسطيني ومكرّسًا لمشروع جديد لوصاية خارجية على أرض غزة!
وبتوفيق إلهي وحنكةٍ سياسية لافتة، قلبت حركة حماس الطاولة في ردّها السياسي على “خطة ترامب”، إذ لم تُقدِم على قبولها حرفيًّا، ولم تُبدِ رفضًا صريحًا، بل مارست مناورةً سياسية محسوبة حافظت من خلالها على ثوابتها الإستراتيجية، ووسّعت هامشها الدبلوماسي.
فقد حيّدت الضغط الأميركي، عبر إعلانها استعدادًا مشروطًا للتعامل مع بعض بنود الخطة، مستثمرةً وعد إطلاق الأسرى كأداة لتجفيف الذريعة التي استُخدمت ضدها في تسويغ استمرار الحرب، وفي الوقت نفسه، دفعت حكومة نتنياهو إلى مأزق داخلي حاد، إذ وضعت ائتلافه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الرفض الذي يُظهر إسرائيل كطرفٍ يعرقل استعادة أسراه، أو القبول الذي يضعف خطابه الأمني.
الأهم أن ردّ الحركة تجاوز الجانب التكتيكي؛ فبينما تواجه حربًا مدمّرة، إلا إنها قد نجحت في الحفاظ على الظهور كفاعل فلسطيني مؤثر يمتلك خطابًا قادرًا على التفاوض المتوازن.
هذه الخطوة –رغم بساطتها الظاهرية– أعادت تثبيت مكانة الحركة داخليًّا، عبر حديثها عن إدارة القطاع من خلال هيئة فلسطينية مستقلة (تكنوقراط)، وليس عبر وصاية خارجية، بما يعكس إدراكًا عميقًا لمجالات الحركة السياسية المتاحة.
حقيقة الموقف السياسي الذي يحمله ردّ حركة حماس:
جاء بيان حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بشأن خطة ترامب لوقف الحرب في غزة ليؤكد تركيز الحركة على المشروطية: فلم يكن الرد قبولًا مطلقًا للخطة، بل قبولًا مشروطًا بما يحقق _حال تنفيذه_ وقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع، وبما يجعل الاتفاق مرتبطًا بتحقيق المطالب الأساسية للشعب الفلسطيني.
أولًا: منهجية سياسية متوازنة:
تعاملت حماس مع الخطة الأمريكية لا باعتبارها عرضًا يُقبل أو يُرفض بالكامل، بل كوثيقة تفاوضية تتضمن بنودًا يمكن نقاشها وأخرى تستوجب التحفظ أو الإهمال.
وأظهرت الحركة قدرة على الفصل بين ما تملك الحديث بشأنه (الأسرى) وبين ما يخدم الشعب الفلسطيني مباشرة مثل وقف العدوان، انسحاب الاحتلال، وإدخال المساعدات، وجعلت كل ما يمسّ الحقوق الجوهرية لمستقبل غزة مرهونًا في ردها بالتوافق الفلسطيني الجامع، وبذلك جسّد البيان سياسية تُوازن بين صون الثوابت واستثمار أي فرصة تخفف المعاناة الإنسانية عن أهل غزة.
ثانيًّا: رؤيتها لملف الأسرى:
أبرزت الحركة مرونة محسوبة في التعاطي مع ملف الأسرى، فوافقت مبدئيًّا على إطلاق سراح المحتجزين وفق ظروف ميدانية آمنة ومحددة، مؤكدة أن بعضهم لدى فصائل أخرى وأن التواصل الميداني مع كل المجموعات ليس متاحًا بالكامل.
و ركّز البيان على ضرورة التوافق الداخلي والتفاوض التفصيلي قبل أي تسليم، وعبرت في بيانها عن استعدادها للدخول ” في مفاوضات لمناقشة تفاصيل ذلك ” في إشارة إلى أن الحركة لن تنفذ أي بند إلا بعد تحديد واضح لكل جزئية من البنود العامة وغير المفصلة في خطة ترامب، ولعل هذا الموقف يستند إلى تجارب سابقة، كالذي حصل في ملف الأسير عيدان إسكندر، حيث قدمت الإدارة الأميركية وعدًا لحماس وخرقت هذا الوعد إذ لم يترتب على الإفراج عن عيدان أي خطوات ملموسة نحو وقف إطلاق نار دائم أو تخفيف الحصار عن غزة، ما يجعل الحذر في أي عملية مستقبلية أمرًا منطقيًّا وضروريًّا.
بهذا الطرح، نجحت حماس في كسب مساحة زمنية معقولة للتحرك السياسي المحسوب، وفي الوقت ذاته نقلت الضغط إلى الجانب الإسرائيلي الذي وجد نفسه أمام اختبار داخلي صعب بين رفض الخطة أو قبولها بشروط الحركة.
ثالثًا: موقف ثابت من السلاح والشرعية:
تجنّب البيان الإشارة إلى مطلب ترامب بنزع سلاح المقاومة، وهو ما عُدّ موقفًا دلاليًّا بالغ الأهمية، وبذلك حافظت الحركة على مبدأ أن السلاح ليس عبئًا بل أداة حماية وطنية فالمقاومة حق للشعب المحتل، ولا يمكن التخلي عنها، هذا الموقف الثابت منح الحركة مصداقية أمام جمهورها، وأظهرها كقوة سياسية مسؤولة لا تفرّط في أدوات الردع ولا في أمن شعبها.
رابعًا: رفض الوصاية الخارجية:
رفض البيان بصورة ضمنية أي صيغة تفرض وصاية أو إدارة أجنبية على قطاع غزة، معتبرًا أن إدارة القطاع تكون لهيئة فلسطينية خالصة، وهذا الموقف يزيل من جهة أخرى حجة إسرائيل والولايات المتحدة حول رفض الحركة تسليم الحكم، ويعبّر عن تمسك الحركة بمبدأ السيادة الفلسطينية، ورفض تحويل غزة إلى كيان تابع يخضع لترتيبات أمنية أو إدارية خارجية، لخطورة هذا التدويل على مستقبل القضية.
خامسًا: استثمار المواقف الإقليمية:
استندت حركة حماس كما جاء في بيانها إلى مشاورات عربية وإسلامية على خطة ترامب لتقوية موقفها السياسي.
في هذا السياق، تبرز المواقف التركية الأخيرة، والتي كشف عن طرف منها الرئيس رجب طيب أردوغان في اتصال هاتفي مع ترامب عقب إصدار البيان، أوضح خلاله أن تركيا تبذل جهودًا دبلوماسية نشطة في ملف غزة، مؤكدًا استمرار إسهام أنقرة في هذا الملف، وأهمية إنهاء الهجمات الإسرائيلية لضمان نجاح أي مبادرات سياسية.
تصريحات أردوغان تعكس قيام تركيا بدور مبكر، وعملها على خلق أجواء تساعد في تقوية الملف الفلسطيني قبل صدور خطوات رسمية من الحركة، وهو ما منح حركة حماس هامشًا أكبر لتحليل بنود الخطة ووضع ردها ضمن سياق أقوى وأكثر اتزانًا.
كما يعطي هذا التدخل التركي بُعدًا عمليًّا؛ فهو يُظهر أن موقف الحركة ليس معزولًا، بل يأتي ضمن سياق أوسع لدعم استقرار غزة وإقرار حق الفلسطينيين.
سادسًا: الانسحاب معيار لتقدّم المفاوضات:
ركّزت حماس في بيانها على بند الانسحاب باعتباره المعيار الأساسي الذي تقيس من خلاله جدية تنفيذ الخطة، فهو يشكّل نقطة البداية لديها لتقييم أي تقدم سياسي أو ميداني على أرض الواقع، خاصة أن خطة ترامب تقترح انسحابًا تدريجيًّا مع الاحتفاظ بشريط حدودي عازل لصالح إسرائيل، بينما حماس تربط الانسحاب بمرحلة التبادل لضمان التنفيذ الكامل.
الانسحاب في مراحله الأولى بحسب الخطة الأمريكية سيكون حتى “الخط الأصفر”، ما يعني تحرير معظم مدينة غزة من الوجود العسكري المباشر.
هذا الإجراء يُمكّن مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين نزحوا مؤخرًا من العودة إلى منازلهم واستعادة جزء من حياتهم الطبيعية، ويتيح للحركة فرصة لإعادة ترتيب البنية الإدارية والاجتماعية للقطاع بما يخدم حقوق السكان ويدعم صمودهم.
إن تركيز حماس على بند الانسحاب والذي يجري التفاوض عليه الآن في مفاوضات الجانبين في مصر مع مراجعات من طرف حماس بخصوص ما طرحه ترامب فيها، يوضح أن أي تحرك لاحق لن يتم إلا بناءً على تحقق خطوات ملموسة على الأرض، ما يمنح الحركة أداة قوية لتثبيت مكتسباتها وحماية الحق الفلسطيني، ويضع معيارًا واضحًا يمكن من خلاله قياس مدى التزام الجانب الآخر بتنفيذ الاتفاق المقترح.
التهديدات المحتملة والإجراءات الممكنة:
ورغم هذه الصياغة التي قدمتها حركة حماس؛ إلا أن إمكانية قلب الطاولة على الاتفاق من قبل نتنياهو ليست افتراضية، بل متوقعة وفق سيناريوهات عدة.
فالحركة قد تُتهم بعرقلة الاتفاق إذا لم تقبل تنفيذ الجزء الأول المتعلق بالإفراج عن الأسرى منفردة عند الخط المحدد أمريكيًّا، ويمكن لنتنياهو خرق الاتفاق إذا فشلت المفاوضات في ضمان الانسحاب الكامل، أي أنه قد يُفرج عن الأسرى بينما تتعنت إسرائيل في الانسحاب، وتُجدد القصف المكثف على القطاع، ومن ثم يتواصل شروعها في محاولات إخلاء غزة بالقوة أو بالضغط والحصار، فيُستأنف العدوان من جديد.
لذلك تُعد عملية “ربط تسليم الأسرى بانسحاب القوات الإسرائيلية الكامل” خطوة جوهرية لضمان تنفيذ الاتفاق بشكل متكامل، حيث يخلق إطارًا زمنيًّا واضحًا يسهل مراقبة التطبيق، ويحول دون استغلال إسرائيل لملف الأسرى لتعطيل أو الإخلال بتنفيذ الاتفاق.
ومع ذلك، يظل التهديد قائمًا على الرغم من هذه الخطوة المقترحة، فالتاريخ والتجارب السابقة مع إسرائيل تشير إلى ذلك، وهذا الواقع يجعل من الضروري استمرار الدور الفاعل للوسطاء الوازنين كتركيا لضمان تنفيذ الالتزامات على الأرض، وحماية الحقوق الفلسطينية من أي محاولات لإضعافها أو الالتفاف عليها، وذلك في ظل الحرص الإسرائيلي والأمريكي الواضح على تحجيم أي إشراف إقليمي أو عربي على خطط السيطرة في غزة، وفي ذلك السياق طرحت خطة ترامب فكرة إنشاء مجلس سياسي بقيادة توني بلير لإدارة القطاع، على أن يكون مقره في مدينة العريش المصرية وهو المقترح الذي يشكل تحديًّا صريحًا للسيادة المصرية.
وفي ظل التعقيدات المحيطة بمسار التفاوض، يمكن أن تميل المقاومة إلى خيار تسليم الأسرى على مراحل متتالية لا دفعة واحدة، بما يضمن تزامن العملية مع خطوات الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع. ويستند هذا الطرح إلى تجارب سابقة كشفت عن خروقات مبكرة من جانب الاحتلال، كما حدث في الهدنة الأولى حين استباح القطاع في الساعة الأولى من تمام تسليم الأسرى من ثمّ، فإن اعتماد آلية متدرجة في التنفيذ قد يشكل ضمانة واقعية لتثبيت الانسحاب والتحقق من جدّيته، ويحول دون تكرار سيناريوهات الغدر والنقض السابقة.
خاتمة:
نجحت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في قراءة شروط خطة ترامب وتفريغها من محتواها الحقيقي، حيث ركزت على ضرورة التوافق الفلسطيني والتفاوض الدقيق المفصل حول بند تسليم الأسرى، وفي هذا السياق قد أظهر الموقف الغربي، وعلى رأسه الأمريكي، ازدواجية فاضحة في التعاطي مع ملف الأسرى، إذ ينشغل الخطاب الغربي بالبكاء على عشرات الأسرى الإسرائيليين، بينما تغصّ سجون الاحتلال بآلاف الأسرى الفلسطينيين، كثير منهم اعتُقلوا من بيوتهم لا من ميادين القتال، وبعضهم أُعيد اعتقاله بعد الإفراج عنه في صفقات تبادل سابقة. هؤلاء يواجهون صنوفًا من التنكيل والعقاب الجماعي، دون أن يُذكروا في أي من التصريحات الأمريكية أو الأوروبية!
هذا التناقض الصارخ يكشف اختلال موازين العدالة في الخطاب الغربي، ويؤكد أن التعاطف المعلن مع “الأسرى” الإسرائيليين ليس تعبيرًا عن قيم إنسانية بقدر ما هو امتداد للانحياز السياسي للاحتلال.
ولقد حرصت المقاومة الفلسطينية على الحفاظ على موقف موحد مع الفصائل الأخرى، إدراكًا منها لأهمية التماسك الداخلي في مواجهة التحديات السياسية والميدانية.
وقد برز هذا الحرص بوضوح في الموقف والتصريحات الصادرة عن حركة الجهاد الإسلامي وغيرها من الفصائل، التي عبّرت عن دعمها للنهج المشترك رغم صعوبة التنسيق في ظل ظروف الحرب.
كما وافقت حركة حماس على أن يكون الانسحاب الكامل ووقف إطلاق النار ركيزة لقبولها المشروط بالخطة.
كما وضعت الحركة خطوطًا واضحة بشأن إدارة القطاع مستقبلًا، رافضة ضمنيًّا أي محاولة لإدخال لجنة خارجية بقيادة توني بلير أو إشراف ترامب المباشر، ما يمثل تحديًّا للسيادة الفلسطينية والمصرية على حد سواء.
ومع وجود تهديدات محتملة من الجانب الإسرائيلي، تبرز الحاجة إلى ضمانات واضحة في التنفيذ، وذلك بربط تسليم الأسرى الإسرائيليين بالانسحاب الكامل من القطاع.
لقد أظهرت خطة ترامب عجز إسرائيل والولايات المتحدة حتى بعد عامين من القتال عن فرض إرادتهما على قطاع غزة المحاصر والمقاومة الباسلة، إذ لم يُستَعَد الأسرى، ولم تُلقِ حماس سلاحها، ولم يترك أهل غزة أرضهم.
وفي هذا السياق جاء رد حركة حماس إدراكًا لحساسية المرحلة وتعقيدات الموقف، مظهرًا قدرتها على الجمع بين المقاومة الميدانية والتفاوض السياسي، مع الحفاظ على وحدة الفصائل الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره دون وصاية خارجية.