إعلان ترامب خطوة نحو الفوضى العالمية
إعلان ترامب خطوة نحو الفوضى العالمية
قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدم التصديق على التزام إيران بالاتفاق النووي المبرم مع الدول الكبرى عام 2015، مؤكدا أن طهران لن تحصل على السلاح النووي أبدا.
واستدعى ترامب سلسلة من الاتهامات لإيران بلغت اعتبارها مسئولة وحاضنة للإرهاب حول العالم كله، وسرد بعض أحداث الأربعين سنة الأخيرة بدءا من احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية بطهران ١٩٧٩ وهجمات بيروت ١٩٨٣ و ١٩٨٤ إلى دعم بشار الأسد في استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد الأطفال في سوريا، وإيواء قادة من تنظيم القاعدة والتعامل مع كوريا الشمالية.
وطلب ترامب من الكونجرس إعادة العقوبات التي كانت مفروضة على إيران، كما طلب من وزارة الخزانة فرض عقوبات على الحرس الثوري الإيراني (دون أن يطلب اعتباره منظمة إرهابية)، وهدد ترامب بأنه سينهي الاتفاق إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الكونجرس والحلفاء بشأن تشديده وتحسين شروطه.
وقد سارعت كل الدول المشاركة في الاتفاق النووي الإيراني والوكالة الدولية للطاقة الذرية على تأكيد تمسكهم بالاتفاق النووي، وأعرب الاتحاد الأوروبي بلغة حادة عن رفضه للتصرفات الأحادية للرئيس الأمريكي.
يمكن قراءة إعلان ترامب من عدة زوايا تشير مجتمعة إلى أنه خطوة نحو فوضى عالمية:
- قال ترامب إن إيران لم تلتزم “بروح” الاتفاق النووي بما يؤكد أنها بالفعل التزمت به، وهو ما أكده وزير الخارجية الأمريكي الذي أعلن أواخر الشهر الماضي أن إيران التزمت بالاتفاق حتى الآن. الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدورها رفضت إعلان ترامب، وأكد رئيسها بعد ساعة واحدة من خطاب ترامب أن رقابة الوكالة على إيران في غاية الصرامة وأن ثمانية تقارير دورية أثبتت كلها الالتزام الكامل لإيران ببنود الاتفاق النووي.
- كلام ترامب عن إثارة إيران للتوتر والنزاعات في الشرق الأوسط صحيح، وسياسة إيران التوسعية في المنطقة لها بالفعل آثار مدمرة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ولكن لا علاقة لهذا بالاتفاق النووي الذي أبرم لغرض وحيد وهو منع إيران من الوصول للتسلح النووي. غني عن الذكر هنا أن للولايات المتحدة نصيبا وافرا في إثارة الأزمات في نفس المناطق وربما بصورة أعمق، ولعل إعلان ترامب أن الأزمة الخليجية الحالية هي أولى “ثمرات” زيارته للرياض تعبير فج عن منافسة أمريكية لإيران في العبث بأمن واستقرار الشرق الأوسط.
- وصف ترامب للاتفاق النووي بأنه أنقذ النظام الإيراني من انهيار كان وشيكا تحت وطأة العقوبات الاقتصادية وأطلق يدها في الشرق الأوسط، هو ادعاء غير دقيق، لأن التدخل الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن كان سابقا للاتفاق النووي، وأثناء الحصار الذي كان مفروضا عليها، وسقوط صنعاء بيد الحوثيين بدعم إيراني كامل وقع قبل عشرة أشهر من الاتفاق النووي.
- تنديد ترامب بتسليم إيران ١.٧ بليون دولار بعد الاتفاق النووي وتساؤله عن أوجه إنفاق هذه الأموال هو اعتراض غريب ويعكس غطرسة لإرضاء جمهوره وكأنه في معرض حملة انتخابية، فهذه الأموال أموال إيرانية مجمدة في الولايات المتحدة منذ ١٩٧٩ وكانت تمثل دفعة مقدمة من نظام الشاه لشراء أسلحة، وتم إلغاؤها بعد الثورة الإيرانية (بقيمة ٤٠٠ مليون دولار وأضيف إليها ١.٣ بليون دولار فوائد لفترة التجميد باتفاق أمريكي إيراني تم التفاوض عليه).
- اتهام ترامب لإيران بإيوائها قادة ومقاتلين لتنظيم القاعدة متوافق مع تقرير الخارجية الأمريكية الصادر في يوليو الماضي، والذي أشار إلى أن إيران تستقبل – على الأقل منذ ٢٠٠٩ – قيادات من تنظيم القاعدة، وأنها قد سمحت لهم بإنشاء ممر عبر أراضيها لإرسال مقاتلين إلى سوريا وجنوب شرق آسيا.
- واتهم ترامب إيران أيضا بأنها بالفعل خرقت الاتفاق النووي على الأقل مرتين عندما تخطت الحد الأقصى المسموح لها من الماء الثقيل (١٣٠ طن متري). هذه الواقعة صحيحة، ولكنها تعني في الواقع تماسك الاتفاق النووي وصرامته، لأن إيران في الحالتين استغلت بعض الألفاظ اللغوية المطاطة وزادت من حدها لإنتاج الماء الثقيل بنسبة لا تتجاوز ١٪ ولكن سرعان ما تم اكتشاف هذا التجاوز من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ونظام الرصد والمراقبة وعادت إيران لمستوى الإنتاج المسموح لها. الحالتان تثبتان أن الاتفاق يعمل بنجاح وصرامة.
- لعلها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تتوحد فيها مواقف أوروبا كلها وروسيا والصين ومؤسسات أممية ضد الولايات المتحدة في قضية بهذه الحساسية والخطورة.
- خطاب الرئيس الإيراني لشعبه بعد قليل من خطاب ترامب، جاء مفعما بالمرارة والتحدي والحرص على وحدة الداخل الإيراني أمام العاصفة القادمة. الخطاب – للأسف الشديد – أظهر فارقا كبيرا في التعامل السياسي مع الأزمات من قبل بعض الرؤساء والملوك العرب الذين لا يحترمون شعوبهم، ولا يتحدثون إليهم ويتركونهم دائما نهبا للتكهنات والإشاعات.
- لم يؤيد ترامب إلا إسرائيل وبعض دول الخليج. أما إسرائيل فموقفها كان متوقعا، وأما دول الخليج فإن تأييدها لترامب لن يفيده كثيرا ولكنه سيعمق التوتر والعداء أكثر مع إيران بلا مقابل.
- قادة الدول قد لا يتمتعون بمهارات سياسية عالية ولا ملكات شخصية متفردة، ولكن لابد لهم من امتلاك “رؤية” لما يريدون تحقيقه. يبدو أن ترامب يفتقد لهذه الرؤية في أغلب القضايا التي يتصدى لها، فهو يكره ويهاجم كل الاتفاقات التجارية الدولية التي عقدتها بلاده، لكنه لا يقدم بديلا، ويهاجم النظام الصحي لأوباما ولكن لا يستطيع حتى إقناع حزبه بخطة بديلة، ويؤكد على عبثية الوجود الأمريكي في أفغانستان ثم لا يجد بديلا إلا بالاستمرار وضخ مزيد من القوات، وهنا أيضا في الاتفاق النووي، لم يقدم بديلا أو رؤية مغايرة إلا إثارة التوتر العالمي والقفز إلى المجهول.
- أكد الاتحاد الأوروبي أن الاتفاق النووي اتفاق دولي وبرعاية الأمم المتحدة وليس اتفاقا ثنائيا وبالتالي لا يملك ترامب صلاحية إلغائه، بينما صرح ترامب أنه يمكنه كرئيس للولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق في أي وقت. يبدو أن تصريح ترامب هنا هو الصحيح والأقرب للواقع، لأن القانون الأمريكي يطالب ترامب بالتصديق على التخلي عن العقوبات النووية بشكل منتظم، ولذلك يمكن لترامب ببساطة عدم القيام بأي شيء والعودة إلى العقوبات النووية وهذا من شأنه إنهاء الصفقة، سواء رضي الشركاء الآخرون أم اعترضوا.
السؤال الملح الآن: ماذا بعد؟،
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- إما أن تأخذ إيران خطوة إلى الوراء من أجل استيعاب وامتصاص الضغط الأمريكي والاحتفاظ بالمكاسب الهائلة التي حققتها من رفع الحصار، وذلك بالموافقة على ما اقترحه وزير الخارجية الأمريكي بتعديل الاتفاق النووي وإضافة ملحق له يشمل منع – أو التحكم في – تطوير إيران للصواريخ الباليستية
- أو ترفض إيران ويصل الكونجرس الأمريكي لتوافق ما يقضي بإعادة فرض عقوبات على إيران دون الانسحاب الكامل من الاتفاق النووي. في هذه الحالة لن تتابع أوروبا وتفرض عقوبات مماثلة مما سيضعف أثر العقوبات الأمريكية الأحادية
- أو تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق برمته، وهو ما سيؤثر قطعا على الاتفاق وقد يؤدي لتصدعه وانهياره في نهاية المطاف. هذا سيعني عودة إيران – وربما بشكل متسارع – لبرنامجها النووي وهذا سيضعها والولايات المتحدة على طريق واحد للصدام، وقد تتمكن إيران من إعادة تفعيل برنامجها النووي وفي نفس الوقت الاحتفاظ بعلاقات مع أوروبا لأنها ستظهر بمظهر الضحية لنكوص الولايات المتحدة عن تعهداتها الدولية. الصدام المحتمل قد لا يكون مباشرا، ولكن قد يقع في مناطق “النفوذ” مما يعني مزيدا من الإضعاف للواقع العربي.
السيناريو الأخير هو الأقرب احتمالا، ومعناه تقويض الثقة في الاتفاقات الدولية برغم تصديق مجلس الأمن عليها بالإجماع، وهو ما يشجع دولا مثل كوريا الشمالية على التشبث بسياساتها الحالية وهي ترى الاتفاقات الموثقة تتداعى وتنهار.