المقدمة:
الأركان الأربعة التي يتضمنها عنوان البحث في سياقها التركيبي تحمل في أثنائها قدراً كبيراً من المضامين التي يلزم أخذها في سياقات مختلفة، ولئن كانت التحولات السياسية التي شهدتها المملكة السعودية في واقعها الراهن، قد مثلت انعكاساً للواقع ببعديه الداخلي والخارجي، فإن للسياقات التاريخية وما اقترنت بها من أفكار وقراءات تعد ولا شك مؤثرة في سير هذه التحولات وصناعة أفكارها، إذ لا يمكن فصل السياق السياسي عن قسيماته من السياقات الأخرى بحكم كونها متشابكة في صناعة المشهد السياسي، والمتتبع للأنموذج السياسي السعودي منذ نشأته يقف على حقيقة كونه مكوناً من سلطتين حاكمتين هما السلطة السياسية والسلطة الدينية، ساهمتا في تغيير الخريطة السياسية لشبه الجزيرة العربية في مراحلها التاريخية منذ القرن الثامن عشر الميلادي.
ولأجل إحسان قراءة هذا الأنموذج في سياقه المعاصر ومآلاته، يحاول الباحث الوقوف عند مداخل بنيته السياسية منذ نشأتها الأولى مروراً بأبرز محطاتها التاريخية بمختلف مظاهرها، وصولاً إلى منظومتها المعاصرة وما شهدتها من صيرورة في مظاهر هذه البنية وانعكاساتها على الواقع السياسي السعودي، آخذاً بالاعتبار علاقة الديني بالسياسي ودورها في بناء الكيانات السياسية واستقطابها للشرعية السياسية، قاصداً تأسيس حالة من الوعي بضرورة التمييز بين عصمة الدين ومظاهر تطبيقه في الواقع المعيش، وهي لا تعدو كونها قراءة بشرية لنصوص هذا الدين، فتكون دائرة بين الخطأ والصواب، مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة المتغيرات الطارئة على البنية المجتمعية السعودية في واقعها المعاصر، وانعكاساتها على النظام السياسي ومساراته في إدارة شؤون البلاد داخلياً وخارجياً من جهة، ومن جهة أخرى -وهذا هو الأهم بالنسبة للباحث- أثرها على بنية الخطاب السلفي وحامليه سواء في مستواه الرسمي الخاص أو المجتمعي العام، ومدى قدرة هذا الخطاب على استيعاب تلكم المتغيرات وتأطيرها بظلال منهجه، والإبقاء على مستوى تأثيره في صانع القرار السعودي، أم أن البنية المجتمعية سائرة باتجاه فك الارتباط مع هذا الخطاب وسلوك مسار حداثي علماني.
مدخل مفاهيمي:
يتعرض الباحث في أثناء بحثه لجملة من القضايا والمسائل التنظيرية التي لها ارتباط بموضوع البحث، ومن الأهمية بمكان تسليط الضوء عليها قبل الولوج في مفاصل البحث؛ لأن بيانها يعطي القارئ تصوراً مفاهيمياً واضحاً، وفي هذا السياق نحاول أن نقف عند ثلاث قضايا مفاهيمية تأخذ بحُجُز هذا البحث وأمثاله، وتعد في ظننا إطاراً منهجياً هاماً تُقرأ أثناءه كثير من السياقات البحثية لو أحسنت قراءتها في ظلاله، وتلكم القضايا الثلاث هي: أولاً: السلفية مفهوماً ونهجاً، وثانياً: اكتساب الشرعية في تأسيس الكيانات السياسية، وثالثاً: إمارة المتغلب وهي مسألة لا تزال تعمل أثرها في الأمة منذ تأصيلها وتقريرها بعد انتهاء عهد الخلافة الراشدة، ومرجع أهمية هذه المسائل الثلاث في ظن الباحث أنها عناوين كبيرة غلبت على البنية السياسية السعودية منذ تأسيس الإمارة السعودية الأولى، وصولاً إلى الدولة السعودية الثالثة بشكلها المعاصر.
أولاً: السلفية المفهوم والنهج:
ونحن إزاء مفهوم على الرغم من وضوح سياقه التنظيري إلا أنه بقي في دائرة الإشكال من حيث زاويته الحركية، وهذه الجملة التقريرية تبعث على التعرض للمفهوم ثم النظر إليه في إطار التطبيق والتنزيل، ومرجع السلفية من حيث نسبته هو: السلف، والمراد بهم تاريخياً الصحابة والتابعون وتابعوهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة، وأصبح عَلَماً على ما كان عليه هؤلاء الأخيار، ومن تبعهم من الأئمة، كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبدالله بن المبارك والبخاري ومسلم في غيرهم، ويرى البعض أن ظهور مصطلح السلف كان نتيجة للنزاع الفكري بين الفرق الكلامية حول أصول الدين[1]، وأما مصطلح السلفية، فيعرفها البعض بأنها المنهج الشامل الذي عليه السلف الصالح، ويشمل ذلك: مصادر الدين ومنهج التلقي والاستدلال، وثوابت الدين العلمية (الاعتقادات) والعملية (التطبيقات والمواقف) بل هي منهج حياة مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال والاعتقادات والسلوك والمعاملات والحكم وغير ذلك[2]، وهو تعريف كما هو ظاهر من سياقه النصي قصد بيان الرؤية المنهجية لهذا المفهوم والإطار المرجعي الذي تأسس وانبنى عليه، لكن مع محدداته المنهجية العامة لا يخرجه في إطاره المصطلحي عن كونه رؤية اجتهادية يسوغ تبنيها، أما مضمونها، فإن عموم صياغته لا تجعله موضع إجماع عند التنزيل والتطبيق؛ بحكم الاختلاف في فهم ألفاظ النصوص، وخاصة في سياق ما هو ظني الثبوت والدلالة، وأيضاً ما تستدعيه الوقائع من تغاير في الرؤى فتنعكس خلافاً إما في إطار التنوع أو التضاد.
وإذا أردنا الإشارة إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه الظاهرة السلفية، فإنه لا توجد دلائل صريحة جازمة في زمن إطلاق هذا المصطلح، وإنما هناك بعض العبارات التي ساقها المحققون من أهل العلم تعد قرائن على شيوع وانتشار النسبة، ومن ذلك ما قاله السمعاني: ” السَلَفي بفتح السين واللام، وفى آخرها الفاء، هذه النسبة الى السَلَف وانتحال مذهبهم على ما سمعت”[3]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” ولا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً”[4]، وقال الحافظ الذهبي: “السَلَفي -بفتحتين- وهو من كان على مذهب السلف”[5]، ومن هنا فإن الظاهرة السلفية لا تقترن بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، بل لها جذورها العميقة في المراحل الزمنية السابقة.
وبالنسبة لسياق المفهوم في دائرة الدعوة النجدية التي أسسها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، فإننا من خلال مفاصل حياته وسيرته ندرك أن السلفية كمفهوم في مراحلها الزمنية السابقة لعصره لم تأخذ بعداً جمعياً شعبياً، بل على العكس تماماً، نراها قاصرة على بعض حامليها ومتبنيها في أرض نجد، بالرغم من كون المذهب الحنبلي الذي كان يدين به الشيخ في الفروع، والذي يغلب عليه النهج السلفي في قضاياه العلمية والعملية قد دخل إليها في القرن التاسع الهجري، ولم ينتشر فيها إلا في القرن الحادي عشر الهجري، وفي هذا السياق يقول الدكتور بكر أبو زيد: “وأما إقليم نجد فقد عاش حلقة مفقودة التدوين لدى المؤرخين في مثل هذه المعارف، لكن يتأكد أن المذهب الفقهي الحنبلي كان سائداً فيها منذ القرن الحادي عشر الهجري، يتقدم في وضوح وجلاء حتى ظهر أئمة الدعوة في القرن الثاني عشر الهجري”[6]، لكن انتشار المذهب لم يتجاوز النطاق الفردي في دائرة الاستيعاب، وعلوم الفقه في دائرة العلم، ذلك أن أرض نجد في المرحلة الزمنية التي سبقت ظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد وجد فيها علماء وفقهاء[7]، إلا أن جل اهتمامهم بالفقه والمسائل الفرعية، أما العلوم الشرعية الأخرى فنصيبهم فيها قليل، وهذا ما يفسر الانحراف العقدي الذي كان منتشراً في تلكم المرحلة الزمنية، وبالنسبة للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في سياق منهج التلقي نرى تأثره الواضح بمدرسة الحنابلة ومحققيها من أمثال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد ترك أثره في حينه على أهل نجد حكاماً ومحكومين، قال الشوكاني: “صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن عبدالوهاب، وكان حنبلياً ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة، فعاد إلى نجد وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما”[8]، علماً أن الدعوة السلفية من حيث منهجها وحركتها كانت في ذلك الحين على نطاق ضيق في مناطق أخرى خارج سياق الجزيرة العربية، كما هو الحال في شبه القارة الهندية وبلاد الشام واليمن في غيرها[9]، ولعل ما رقمه بعض مؤرخي أعلام الدعوة يلخص لنا نطاقها ومجالها الذي ظهرت فيه، وكان قاصراً على دور الأفراد، وفي هذا يقول العلامة أبو الحسن الندوي في توصيف هذه المرحلة الزمنية: “ولكن لا يعزب عن البال أن الزمن كان زمن اضطراب شديد في الأذهان والعقول، وتزلزل في العقائد والأصول، وغفلة عن التعاليم الصحيحة للكتاب والسنة، وجهل مطبق، ونفور عن علوم الدين، واستنكاف عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. هذا وكانت الثورة ضد حكومات ذلك العصر، ونظمه السياسية التي كانت تستند -مخلصة أو غير مخلصة- إلى الدين، وتعتمد للحفاظ على سلطتها عليه، موضة العصر وشعار الأحرار”[10].
ثانياً: اكتساب الشرعية في تأسيس الكيانات السياسية:
مفهوم الشرعية في سياقها الوضعي لا يوجد اتفاق حول تعريفه، بل هناك تعدد في المسميات واختلاف في التعريفات لهذا المفهوم، فالبعض يطلق على مفهوم الشرعية اسم الشرعية السياسية، والبعض الآخر يميز بين مفهوم الشرعية والمشروعية باعتبار الأولى تتعلق بالجانب السياسي أي علاقة الحاكم بالمحكومين، بينما تختص الثانية بالجوانب القانونية حيث تصير مرادفة لسند قانوني أو نص أو قاعدة تبرر الحق أو الإذعان والحركة والتصرف[11]، ومرجع هذا التباين أن: “كلمة الشرعية يمكن القول بصفة عامة إنها ظلت في التراث الأوربي حتى قرابة القرن السادس عشر وهي لا ترتبط إلا بالإطار القانوني، الشرعية تصير مرادفاً لسند قانوني، أي نص أو قاعدة تسوغ الحق أو الأداء. التقاليد الغربية ظلت حتى فترة عصر النهضة لا تعرف أساساً للشرعية إلا وهو مرتبط بالقانون القائم والنصوص النافذة والصادرة عن المشرع، والمعبرة عن صفة العدالة الزمنية”[12]، ولكن يعرض هنا تساؤل تثير الدكتورة منى أبو الفضل في غاية الأهمية يسع مستويات الشرعية بمختلف سياقاتها، وهو: ما أهمية الشرعية من حيث قيمتها وجدواها؟ فتقول -جواباً-: “ثمة حقيقة اختبارية مؤداها وجود علاقة عكسية بين توافر عنصر الشرعية في النظام وعنصر القوة القهرية (القمع) فيه، فكلما ازدادت شرعية النظام كلما قلت حاجته إلى استخدام قاعدة القوة المادية التي يقوم عليها. من ناحية أخرى، فإن شرعية النظام إنما ترتبط أساساً بالقيم السائدة في النظام، التي ترتبط بدورها بالثقافة السياسية السائدة فيه، إذن فتماسك أي نظام إنما يقوم على شرعيته .. وفي حالة انعدام الشرعية، فإن النظام السياسي يسوده جو عام يتسم بالاضطراب وتعميق أزمة الثقة والتشكك في النظام، إلى جانب اكتساب النظام السياسي سمات عدم الكفاية والتبديد، وكذلك يعاني النظام من سيادة الفساد على مستويات مختلفة ..”[13].
وفي سياقه الإسلامي، ينصرف مفهوم الشرعية إلى مدى التوافق بين النظام السياسي وحكم الشرع على صعيدي النظرية والتطبيق، فالشرعية وفقاً لهذا التوافق هي التفاعل الإيجابي بين الواقع الإنساني والشريعة بوصفها هي الإطار المرجعي لنظام الحكم، وبهذا التقرير يتضح أن لمفهوم الشرعية مضموناً دلالياً يختلف عنه بالنسبة للفكر السياسي الغربي، الذي تعني الشرعية فيه قبول ورضا الجماعة المحكومة بحق النخب والمؤسسات السلطوية القائمة في الحكم، فهي بهذا الاعتبار تركز على الطاعة والرضا العام، ولا تلتفت للأسس التي تقوم عليها[14]، أما الشرعية في سياقها الإسلامي، فهي شرعية دينية، والشرعية في جانبها السياسي والقانوني مشمولة في تلك الشرعية الدينية الأصلية ولا يمكن فهمها إلا من خلالها، وبناء النسق القياسي للشرعية إنما يؤثر على قضية تأسيس الكيان وتنصيب السلطة وطبيعة الحركة في الأمة وتوجيهها، وأي حركة فردية أو جماعية لا يجب أن تتم إلا في ظلال البحث عن تأسيسها وتقويمها من حيث الشرعية أو عدمها، وإذا كانت الشرعية السياسية في غير سياقها الإسلامي تعني تبرير الوجود السياسي من منطلق الوعي الجماعي باكتساب الشرعية القانونية الصادرة عن السلطة الزمنية، فإن سياقها الإسلامي يؤسس للعلاقة بين الحاكم والمحكوم حالة اعتبارها للقواعد والمقاصد الشرعية العليا في إطار ما عبر عنه الفقهاء المتقدمون في تعريفهم للخلافة: حراسة الدين وسياسة الدنيا به[15]، بما يعني أن الشرعية لأي سلطة سياسية لا يمكن أن تتم إلا إذا جمعت ثلاث قواعد حاكمة: التأسيس العقيدي، إسناد السلطة اختياراً، ومتابعة الشرع وأحكامه وحدوده وشروطه[16].
ثالثاً: إمارة المتغلب:
هذه المسألة تعرف في كتب الأحكام السلطانية والمدونات الفقهية بمسألة أخذ الحكم بالقوة والقهر والغلبة، وهي إحدى الطرق الثلاث في كيفية انعقاد الحكم للحاكم، بل عرفت كذلك في كتب العقائد؛ بسبب الخلاف بين الفرق الكلامية في الموقف منها، وهي أحرى أن تكون في دائرة الفقه؛ ولكن في بعده الاجتهادي المصلحي المقصود عند الشارع[17]، والمسألة بسبب التقريرات الفقهية للعلماء السابقين أخذت حيزاً من الحكم الشرعي يصعب تجاوزه؛ لما اقترن به من العوارض القطعية، وعلى سبيل المثال يعرض بعض الباحثين المعاصرين هذه المسألة بقوله: “الأمر الثالث: أخذ الحكم بالقوة والغلبة، فمن تغلب على الناس بسيفه، واستتب له الأمر، حرم الخروج عليه، ووجب له السمع والطاعة بالإجماع .. قال ابن قدامة رحمه الله: (ولو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا بطاعته، وتابعوه، صار إماماً، يحرم قتاله، والخروج عليه، فإن عبدالملك بن مروان خرج على ابن الزبير، فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعاً وكرهاً، فصار إماماً يحرم الخروج عليه، وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم)، والخلاصة أنه إذا قهر الناس بسيف فهو ذو سلطان تجب طاعته”[18]، واقتران المسألة بحكم الإجماع جعلها تتجاوز زمنيتها وإطارها الاجتهادي؛ لتكون من ثوابت الأحكام التي يحرم القول بخلافها.
وبحكم كوننا في سياق الحديث عن المدرسة السلفية وأنموذجها السعودي، فإن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن العقلية السلفية لم تستطع أن تتجاوز منهجية الاجترار التاريخي في التعاطي مع هذه المسألة، بل أضحت قاعدة شرعية يتواردها العلماء في مصنفاتهم وفتاواهم، وبرغم أن أبرز خصائص العقل السلفي تتمثل في الاتباع والاجتهاد وترك التقليد كما هي تقريراتهم، إلا أنهم في هذه المسألة تحديداً كانوا أكثر الناس تمسكاً بمنهجية التقليد والمحاكاة بعيداً عن سلطة النص الحاكمة، ولذلك حين تقف على بعض التقريرات التي استدعتها بحثاً ودراسة تجدها مضطربة إلى حد التناقض، وعلى سبيل المثال ما قاله الدكتور عمر الدميجي في سياق حديثه عن طرق الحكم: “وهناك طريق آخر تجب الطاعة بموجبه، ويحرم الخروج عليه بسببه، ولكنه ليس من الطرق الشرعية، ولا يجوز إلا للضرورة لأجل مصلحة المسلمين وحقن دمائهم، وهذا هو طريق القهر والغلبة والاستيلاء على الحكم بالقوة، ومنه ما يسمى اليوم بالانقلابات العسكرية وما شابهها، وهذا هو الغالب في العالم الإسلامي اليوم”[19].
وهو تقرير في غاية الخطورة؛ لأن الاتكاء عليه يفتح الباب واسعاً لشرعنة إمامة المتغلب وسلطته المطلقة، حتى جعلت مساوية للولاية الشرعية القائمة على الشورى والتعاقد الرضائي، بل تفوقت عليها بعدة أمور، منها استحالة العزل عند أصحابها، بينما الولاية الشرعية يمكن فيها العزل[20]، وهذا الذي يفهم حتى من كلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه إذ قرر أن: “الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا”[21]، وإذا أردنا أن نقدم مبررات غلبة هذه المسألة على التقعيد الفقهي في سياقه السياسي، فإن للواقع السياسي آنذاك دوره في تشكيل هذه العقلية، ذلك الفقهاء وجدوا أنفسهم أمام دول تقوم وتسود، وليس فيها مكان للشرعية الإسلامية، أي شرعية الشورى والاختيار، ولكنها على كل حال دول تدين بالإسلام، وتحكم باسم الإسلام، وتنفذ كثيراً من أحكام الإسلام، ووجدوا أن التاريخ يضعهم أمام حكام تغلبوا وتمكنوا، واستولوا على الحكم وأقاموا دولتهم، لا بالشورى والاختيار من أهل الحل والعقد، ولكن بفضل شوكتهم وقوة عصبيتهم، وربما بفضل سيوفهم وسيوف أنصارهم[22]، فكانت جل تقعيداتهم الفقهية في هذه المسألة دائرة مع قاعدة المصالح والمفاسد، لا أنها دائرة مع الشرع حيث دار، أو أنها مستندة إلى نصوص الشريعة وألفاظها، وهي حجة يمكن أن يتسع لها زمانها الذي ظهرت فيه، أما أن تكون قاعدة عامة تسع الزمان والمكان، فهذا في حقيقته أفضى إلى مفاسد كبيرة جنتها الأمة ولا زالت في واقعها المعاصر، تتبدى في استحكام ظاهرة الاستبداد فيها.
المملكة السعودية: الذاكرة التاريخية وإرهاصات التأسيس:
يعد القرن الثاني عشر الهجري بقرينه القرن الثامن عشر الميلادي مجالاً زمنياً لتأسيس الإمارة السعودية الأولى، وهذا لا خلاف فيه بين المؤرخين، ولكن اختلفت زوايا النظر في قراءة الدور الذي لعبته هذه الإمارة، وطبيعة العقد السياسي الذي تم إبرامه بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب، وسنحاول أن نقف إجمالاً عند الحالة السياسية والدينية لشبه الجزيرة العربية قبيل تأسيس الإمارة السعودية الأولى، ومعلوم في ذلك الوقت أن بلاد العرب كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، وكانت تعرف آنذاك بالولايات العربية العثمانية، ووفقاً لما يراه بعض الباحثين أن أرض نجد تستثنى من ذلك؛ لأنها لم تكن خاضعة في ذلك الوقت للدولة العثمانية، باعتبارها خارجة عن التقسيمات الإدارية التابعة لها، وهذه التقسيمات وضعت في أوائل القرن السابع عشر، وإنما كان دخولها في هذه التقسيمات في أوائل القرن التاسع عشر، ومرجع عدم اهتمامها بأرض نجد أن الدولة العثمانية لم يعنها كثيراً إخضاع هذه المنطقة الداخلية لنفوذها؛ لأنها لا ترى في ذلك فائدة تذكر رغم نفوذها في أطرافها في الحجاز والإحساء[23]، وهذا منطقي بحكم المكانة الدينية التي تتبوؤها الحجاز، والمكانة الجغرافية التي تحتلها الإحساء بجميع أبعادها، أما أرض نجد فعلى العموم لم تشهد نفوذاً مباشراً للدولة العثمانية، ويظهر كما استنتجه بعض المؤرخين أنها تركت شؤون إدارتها السياسية إلى الأشراف الهاشميين حكام الحجاز الذين كانوا يشرفون على نجد وقبائلها إشرافاً جزئياً[24]، ولكن في ظننا لا يمكن الجزم بأنها كانت خارج سياق الدولة العثمانية بصورة كلية؛ على اعتبار أن البعد الجغرافي لشبه الجزيرة كله كان بيد العثمانيين وإن كان في أدنى درجات الضعف.
وعند النظر في سياق الحالة السياسية التي كانت عليها شبه الجزيرة العربية آنذاك، وفي نجد على وجه التحديد، كان يغلب عليها طابع الصراعات والنزاعات بين مكوناتها سواء في إطارها القبلي أو المناطقي، وبسبب غلبتها على المشهد النجدي، أفضت إلى تكريس حالة الانقسام بين الزعامات المحلية، وبالضرورة تكون الحروب والصراعات الداخلية هي السائدة بين مكوناته لأغراض السيطرة والنفوذ تارة، أو لأبعاد اقتصادية تارة أخرى[25]، وأما الحالة الدينية، فيلخصها ابن غنام بقوله: “كان أكثر المسلمين في مطلع القرن الثاني عشر الهجري قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال .. فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين: أمواتهم وأحيائهم، يستغيثون بهم في النوازل والحوادث، ويستعينونهم على قضاء الحاجات وتفريج الشدائد .. ولقد انتشر هذا الضلال حتى عم ديار المسلمين كافة، فقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم وهول مقيم ..”[26].
السلطتان السياسية والدينية وعقدهما السياسي:
في ظل هذه الأوضاع قام العقد السياسي بين الإمامين محمد بن سعود ممثلاً للسلطة السياسية، والإمام محمد بن عبدالوهاب ممثلاً للسلطة الدينية بنهجها السلفي، وبه قامت الإمارة السعودية الأولى، وإذا أردنا ربط مفهوم السلفية -الذي وقفنا عند بعده النظري في المدخل- بسياقه التاريخي الذي نحن بصدده وهو تأسيس الإمارة السعودية الأولى، فإنه لا يمكن إغفال أهمية المقاصد والأهداف التي تغياها الطرفان، فكما هو ظاهر من السياق التاريخي وقرائنه أن ابن سعود أراد بهذا العقد أن يجمع مقومات الدولة بيده بتحقيق نفوذه وتوسعه في شبه الجزيرة، فيكون بهذا قاصداً الملك، وأراد اكتساب الشرعية بتعاقده مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأما الأخير، فإنه رأى في تعاقده مع ابن سعود إعادة بناء الأمة بتمكين دعوته التوحيدية من الانتشار والاستيعاب، وهي مقاصد وأهداف لا تخرج عن سياقها الشرعي، ذلك أن ما حققته الدعوة النجدية وأئمتها من تجريد التوحيد وإزالة مظاهر الشرك والانحراف العقدي كل ذلك يصب في سياق المقاصد الشرعية، وهو أمر يُحمد فيُشكر ولا يُكفر، وبحق فإن أبرز ما حققته دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله يكمن في القضاء على البدع والمفاسد التي دخلت في الإسلام ظلماً والعودة إلى نقاوته الأولى وعدم الاعتراف بما تركه المفسدون مما يتعارض مع أصول الإسلام في بساطته وسماحته وترك الطقوس والاحتفالات والبدع الخاصة بتقديس الأولياء وقصر العبادة على توحيد الله وحده وفق ما دعا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واتبعه ووفق تعاليم القرآن، هذا فضلاً عن تحرير الفكر المسلم من الآراء الدخيلة التي تفسد عقله في علاقته مع الله، بالإضافة إلى إعادة الاعتبار إلى منهجية الأصول والمصادر الأصلية في الاستدلال والاستنباط بعيداً عن منهجية التقليد[27].
كما هو ظاهر من السياق التاريخي وقرائنه أن ابن سعود أراد بهذا العقد أن يجمع مقومات الدولة بيده بتحقيق نفوذه وتوسعه في شبه الجزيرة، فيكون بهذا قاصداً الملك، وأراد اكتساب الشرعية بتعاقده مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأما الأخير، فإنه رأى في تعاقده مع ابن سعود إعادة بناء الأمة بتمكين دعوته التوحيدية من الانتشار والاستيعاب
إمارة المتغلب وشرعنة الوجود:
ولكن أهم ثلمة في هذا التعاقد في رأينا هو فقدانه لقاعدة اختيار الأمة، واختلال قاعدة المتابعة للشرع بتأويل نصوصه، وتأسيس سلطته على ما أسماه الفقهاء “إمارة المتغلب“، وهو ما رقمناه في المدخل المفاهيمي، وطبيعة العقد الذي تم بين الإمامين في تأسيس الإمارة الأولى -بالرغم من الغموض الذي اكتنف هذا العقد؛ بسبب عدم وجود وثائق تاريخية مخطوطة تعبر عنه- قد توحي بشيء من هذا دون الجزم به، لكن الواقع التاريخي للسلطتين يعد عامل ترجيح في صحة مضامين هذا العقد، والناظر في المدونات التاريخية يدرك أن هناك تعارضاً في توصيف هذا العقد بين الطرفين، وأقرب نص فيما يظهر لنا هو نص ابن بشر في تاريخه، إذ نقل فيه أن محمد بن سعود رحمه الله قال للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: “أبشر ببلاد خير من بلادك، وبالعز والمنعة. فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين. وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم. فمن تمسك بها، وعمل بها، ونصرها، ملك بها البلاد والعباد .. فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك”[28]، ولئن كانت الوثائق التاريخية عزيزة ونادرة في إظهار بنود العقد بينهما، فالواقع التاريخي ومساراته تشهد على مضامينه ومحتوياته.
وفي المحصلة فإنه بالرغم من القيمة المنهجية التي انطوت عليها دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في نصرة التوحيد ونبذ الشرك ونشر الدعوة إلى منهج السلف، إلا أن المسار السياسي الذي مثله العقد بين الإمامين وما اقترن به من مؤثرات ومتغيرات في مراحل لاحقة أفضى إلى تكريس السلطة بيد الأفراد وشرعنة وجودها بأيديهم بالاستناد إلى تأييد علماء الشريعة، بعيداً عن سلطان الأمة واختيارها، فاستحكمت على إثرها ظاهرة التسلط والاستبداد، هذا فضلاً عما شهدته تلكم المرحلة التاريخية من وقائع وآثار على الساحة الإسلامية من قتل وتكفير، كان يمكن تجاوزها بوسائل أخرى غير التي مورست في حينه، ويظهر أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أراد استعجال الثمرة بالتحالف مع الحكام؛ لتحقيق مقاصده في تبليغ أصول دعوته، وهي مقاصد مشروعة ولا شك، لكن اتخذت مساراً أضحى موضع إشكال منهجي في المراحل الزمنية اللاحقة، دارت بين مؤيد ومعارض؛ لما أفضى به إلى من انتشار مظاهر التكفير والقتل عليه، وكانت تلكم المظاهر ولا زالت محل بحث ودراسة وخلاف بين الباحثين والدارسين بشقيهم التاريخي والشرعي.
ولكن لا يمكن أن نحاكم تلكم المرحلة إلا بموجب مقتضيات زمانها، وعلى ذلك جرى نهج العلماء المحققين، ولئن كان هناك مسوغ شرعي في حينه يتحقق به الإعذار، فإنه لا يمكن تسويغه في حالة تعميمه زماناً ومكاناً؛ لأن كثيراً من الأحكام الشرعية المقترنة بالفعل السياسي ومظاهره، تنبني على قاعدة المصالح، ومعلوم أن الأحكام المبنية على المصالح لا تشهد ثباتاً؛ لأنها ترتبط بالمصالح، وهي متغايرة ومتباينة، ولذلك قعد العلماء قاعدة: لا ينكر تغير الأحكام المبنية على المصلحة والعرف بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف والعوائد[29]، ولكن هذا لا يمنع من القول والتقرير بأن اجتهاد الشيخ رحمه الله تعالى يصب في دائرة الأجر أو الأجرين، ولا ينبغي إزاءه إطلاق التصويب على مقاله وفعله، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا ما جاء على لسان صاحب الشريعة، وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله كلمة إنصاف بحق الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، فيقول: “رفع محمد بن عبدالوهاب شعار التوحيد، وحق له أن يفعل، فقد وجد نفسه في بيئة تعبد القبور، وتطلب من موتاها ما لا يطلب إلا من الله سبحانه”[30]، ويقول كذلك: “الواقع أن حركة ابن عبدالوهاب من الناحية العملية سليمة، وقد تكون الوسائل الرديئة هي التي هزمتها”[31].
والباحث هنا لا يقف موقف المعارضة لفكر الشيخ أو دعوته لذات المعارضة، وليس مقصوده كذلك أن يقف في جانب المحاربين للشيخ ودعوته، بل بيانه في دائرة التقويم والمراجعة من داخل الظاهرة؛ ليتجاوز مواطن الاختلال في قراءة الظاهرات السياسية في وقائع تاريخية مثلت تحولات كبيرة في الأمة، ويظهر لنا أن هناك قصوراً منهجياً في بعده السياسي، انعكس على الأحكام الشرعية في دائرة تنزيلها وتطبيقها على الوقائع والأعيان، ومنهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في حقيقته لم يخرج عن دائرة بناء العلاقة بين الحاكم وعالم الشريعة، وهي دائرة متأثرة بدرجة كبيرة بالفقه السياسي التقليدي لعلماء الأمة الذي تغلب عليه البنية الوظيفية التجزيئية، واعتبار السلطة هي محور الفعل السياسي، مهملاً بسببها دور الأمة وموقعها ومكانتها وصلاحياتها ووظائفها في بناء الأمة بمختلف مظاهرها[32].
منهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في حقيقته لم يخرج عن دائرة بناء العلاقة بين الحاكم وعالم الشريعة، وهي دائرة متأثرة بدرجة كبيرة بالفقه السياسي التقليدي لعلماء الأمة الذي تغلب عليه البنية الوظيفية التجزيئية، واعتبار السلطة هي محور الفعل السياسي، مهملاً بسببها دور الأمة وموقعها ومكانتها وصلاحياتها ووظائفها في بناء الأمة بمختلف مظاهرها
العقد السياسي وحقوق الاسترجاع:
كان لطبيعة العقد السياسي بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب أثرها الكبير في استدعاء الحق السياسي في التمسك بالسلطة لآل سعود، وهذا كان حاضراً بقوة بعد سقوط الإمارة السعودية الأولى عام (1233ه/1818م)، والناظر في الإمارات السعودية الثلاث يجد أن آل سعود أدركوا أهمية دعم علماء الشريعة في إقامة سلطتهم، وليس فقط الاقتصار على القوة القبلية والعشائرية، وهذا ما ساعدهم على النجاح في محاولاتهم في إعادة إماراتهم، وهو أمر غاب عن الإمارات الأخرى كما هو الحال في إمارة آل رشيد ذات الطابع القبلي العشائري، وفي هذا السياق يقول الدكتور عبدالفتاح أبو علية: “ومع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهوم السياسيين، إلا أنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظلت أفكار دعوة ابن عبدالوهاب ماثلة في أذهان الناس، وظل المجتمع النجدي يكن ولاء للأسرة السعودية التي تبنت الدفاع ضد حكم الترك ومحمد علي، وعلى رأس هؤلاء المؤيدين جماعة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ذوي الرأي النافذ لما لهم من منزلة دينية محترمة بين أفراد المجتمع النجدي”[33]، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه أن المحرك الرئيس والدور الكبير في الإمارة السعودية الأولى كان للشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته، والسلطة السياسية كانت في دائرة التنفيذ، بخلاف قسيميها في الإمارة الثانية والثالثة كان الدور فيهما للسلطة السياسية والسلطة الدينية تابعة لها، وهذا يمثل مؤشراً ظاهراً على التحول في المسار السياسي للتعاقد السياسي في الإمارة الأولى.
والناظر في السياق التاريخي للإمارة السعودية الثانية، يرى غياب المسوغات التي سيقت في توصيف المرحلة التاريخية للإمارة السعودية الأولى باعتبارها خارج دائرة الحكم العثماني، بخلاف سياقها التاريخي المقارن لإمارتها الثانية إذ نجد أن الجزيرة العربية كانت تحت السيادة العثمانية، وهنا يظهر الاضطراب في الفكر السلفي في تكييفه للواقع السياسي حينئذ، وبقائه رهيناً لاجتهادات علماء الدعوة النجدية من أبناء الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ولئن كانت مصيبة في سياقها العلمي والشرعي باعتبارها تصحيحاً لمسار فهم الشريعة عقيدة وفقهاً، فإن قسيمها السياسي كان مضطرباً في قراءة الموقف وتكييفه؛ ذلك أن من أبرز تقريرات المنهج السلفي في سياقه السياسي حرمة الخروج على الحاكم بالسيف، وهي قضية مقررة منذ قرون على يد علماء أهل السنة والجماعة، وبالنظر إلى سياقها زمنها الذي نحن بصدده، نجد أن هذه القاعدة منخرمة، إذ يغلب عليها البعد السياسي.
ولئن كانت الأوضاع بمختلف مظاهرها تستدعي التحرك باتجاه تغييرها وتحسينها بالوسائل السلمية، فإن الخروج المسلح كان حاضراً وبقوة؛ لأجل إعادة حكم آل سعود على الجزيرة، والدليل على هذا أن مؤرخي هذه المرحلة أنفسهم مقرون بسيادة الدولة العثمانية على شبه الجزيرة كاملة، فهذا الدكتور عبدالفتاح أبو علية يقول: “وانطلاقاً من هذه المقومات ظلت تتوالى في نجد خلال الحكم التركي المصري انتفاضات هدفها إعادة حكم آل سعود. وكانت الدولتان العثمانية والمصرية تقابلان هذه الانتفاضات بإرسال حملات لإخمادها باعتبارها تحدياً سياسياً لوجودهما في شبه الجزيرة العربية”[34]، فقد كانت المصلحة السياسية هي الغالبة على المسرح السياسي، والنصوص التاريخية تشعر بتوظيف الشريعة وعلمائها لأغراض سياسية، ومن أمثلتها ما قالته الدكتورة مديحة درويش عن الأمير تركي بن عبدالله: “وقد اضطر الأمير تركي تحت ضغط الظروف ولكي يحصل على شيء من الهدوء وللموازنة بين القوى المتطلعة إلى الجزيرة العربية، أن يعترف بسيادة الدولة العثمانية اعترافاً رسمياً، وقد ساعده هذا الاعتراف على السيطرة على نجد ومد نفوذه إلى الخليج، فاستولى على الإحساء والقطيف”[35]، وينسحب الأمر ذاته على تأسيس الإمارة السعودية الثالثة، وسنحاول في سياقها التاريخي أن نقف على التحولات السياسية التي رافقتها، كذلك الوقوف عند نشوء الدولة القومية في المنطقة العربية ومقوماتها، ومدى انعكاساتها على الفكر السلفي وكيفية تعاطيه مع المتغيرات الجديدة.
الإمارة الثالثة: التأسيس ومديات التحول السياسي والفكري:
شهدت البلاد العربية والإسلامية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تحولات سياسية كبرى ساعدت إلى حد كبير في تشكيل الخارطة السياسية في المراحل الزمنية اللاحقة، وتبرز في سياقها مراحل التآكل في جسد السلطنة العثمانية، والحملات الصليبية لاحتلال أجزائها، ومحاولتها تعميم تجربتها في الدولة القومية الحديثة، ليس لذات التعميم من جهتها الحضارية، وإنما من جهة الحيلولة دون تأسيس أنموذج إسلامي حضاري ينازعها في الهيمنة على الخارطة السياسية في العالم، وفي هذا السياق تحركت فرنسا وإسبانيا في المغرب العربي، وبريطانيا باتجاه جنوب الجزيرة العربية ومياهها، وكذلك مصر .. في غيرها من الحملات.
ويكفي للتدليل على فداحة الخطب الذي أصاب الأمة في تلك المرحلة من تاريخها أن نسوق ما قاله الزعيم مصطفى كامل في مقاله بجريدة اللواء (الإسلام وانكلترا) عام 1902م: “كيف يتصور عقل سليم أن بريطانيا التي احتلت مصر خداعاً، وسلبت السودان سلباً، وحرضت الأمة العربية على رفع العصيان في وجه الخليفة، ودعت المسلمين للافتراق والاختلاف، وبذرت بذور الفساد، ونشرت عصابات الدخلاء في بلادهم ليميتوا الشهامة من قلوبهم، تصير في يوم من الأيام حليفة للدولة العثمانية، وحليفة للإسلام والمسلمين؟! إن الدول عامة وانجلترا خاصة لا يتسابقن إلى طلب صداقة تركيا إلا إذ سعين وراء امتياز، أو تنافس في طلب معدن، أو احتلال جزيرة، أو استئجار شاطئ؟! …”[36]، وهنا يظهر أثر الخداع الذي يمارسه الغرب في تحقيق أهدافه، وهو مع اختلاف مظاهره وصوره ما بين نسخة انكليزية أو نسخة أمريكية، لا يخرج عن جوهره الحقيقي عن دائرة الهيمنة والنفوذ والتوسع على بلاد الإسلام والمسلمين، علماً أن النفسية العربية والإسلامية في بعدها الفكري في غالبها آنئذ كانت كما يقول الدكتور محمد محمد حسين: “ملونة بلون ديني يكاد يكون امتداداً للنزاع الصليبي في العصور الوسطى، وقد ساعد على تجمع الشعوب الإسلامية حول راية الخلافة العثمانية ما كان يبدو بوضوح من مطامع الدول الأوربية في هذه الشعوب جميعاً”[37].
وفي هذه المرحلة وبعد سقوط الإمارة السعودية الثانية عام 1891م، حرص آل سعود على إعادة حكمهم على يد عبدالرحمن وابنه عبدالعزيز، وكان التركيز موجهاً أول الأمر إلى إعادة أرض نجد إلى دائرة الحكم السعودي، وظاهر أن الفاعل الرئيس في التحرك السياسي على مختلف الأصعدة هو الضعف الذي أصاب الأنموذج العثماني، والنظر إلى الفواعل السياسية الجديدة في المنطقة، وهذا دفع باتجاه استثمار الموقف السياسي لتحقيق الأهداف السياسية في إعادة الإمارة السعودية، وكان الداعم الرئيس لآل سعود فيها علماء الدعوة النجدية والسلفية، بموجب الاتفاق التاريخي بين الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله، وكانت أبرز أعمال عبدالعزيز بعد استعادة الرياض القضاء على إمارة آل الرشيد في حائل، وإمارة الشريف حسين في الحجاز، وساعده في تحقيق مقاصده -بالإضافة إلى ضعف الدولة العثمانية ثم سقوطها فيما بعد على يد الحركة الطورانية- تحالفه مع الإنكليز ضد الأتراك، فقد عقد معهم معاهدة القطيف عام 1915م، اعترف فيها الانكليز بسلطته في نجد وملحقاتها، وذلك مقابل تعهد عبدالعزيز بعدم انضمامه إلى جانب الأتراك، ومحاربة ابن الرشيد حليفهم، وعدم التعرض لحلفاء بريطانيا في شبه الجزيرة[38].
وظاهر أن عبدالعزيز كان قاصداً الملك والسلطان، وهذا ليس سراً، فقد قال الشيخ حافظ وهبة وهو من المقربين من الملك عبدالعزيز: “وأخذ الأمير عبدالعزيز بعد فتح الرياض يعمل لنقض مملكة ابن الرشيد، واسترداد ملك آبائه وأجداده، وقد مكث أكثر من عشرين سنة يجالد، ويغالب الخصوم من النجديين الأشراف والأتراك ..”[39]، وهنا يبرز القصد السياسي في مسار الملك عبدالعزيز، إذ كان جل همه إعادة حكمه وتثبيته في الجزيرة، وهو مسار لم يظهر فجأة، بل مهدت له سوابق، وفي الوقت الذي كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله يقصد إقامة الدولة باعتبارها ضرورة من أجل إقامة الدين وليس العكس، إلا أن مقاصده توقفت بعد قيام الدولة في نجد عام 1158ه[40]، وبهذا يؤطر صنيع الملك عبدالعزيز في تأسيسه للإمارة السعودية الثالثة، ولكن السؤال الذي يعرض في هذا السياق: هل كان الملك عبدالعزيز مدركاً لعواقب تحركه السياسي؟ وهل كان يتماشى مع الأصول الشرعية في الحفاظ على وحدة الأمة المسلمة ولو كانت في إطار أنموذج ضعيف مثل الأنموذج العثماني؟ أم أن طموحه السياسي ومصلحته السياسية غلبت على هذا الفعل؟ ولا شك أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى وقائع ووثائق شاهدة على ذلكم العصر، ولكن هناك مؤشرات من خلال بعض المدونات التاريخية تقف بنا عند وقائع تثير في كثير من جوانبها إشكاليات كبيرة، فعلى سبيل المثال وفي الاجتماع الذي عقد بالكويت يوم 20 نوفمبر عام 1916م ألقى عبدالعزيز بن سعود كلمة، قال فيها: “إن الأتراك قد حكموا على أنفسهم بالعزلة التامة عن باقي المسلمين؛ لسوء معاملتهم للشعوب الأخرى وعدم معاملتها بالإنصاف، ولقد عملوا دائماً على إضعاف العرب وتفريق كلمتهم، بينما يعمل البريطانيون على جمع كلمة العرب، ومساعدتهم على النهوض”[41]، وهي كلمة يغني مضمونها عن بيانها.
بيد أننا نستطيع -من خلال النظر في مآلات الفعل- إدراك حجم المأساة التي أصابت الأمة، وقد كانت اللعبة الدولية ذات أثر كبير في تغيير الذهنية المسلمة وانعكاسها على الخارطة السياسية بسبب حجم الخداع السياسي الذي مارسه الغرب في استمالة حكام الخليج وغيرهم من أجل الخروج على الدولة العثمانية، وفي هذا السياق يقول برنارد لويس: “إن التغريب في المنطقة العربية أدى إلى تفكيكها وتجزئتها، وإن هذا التفكيك السياسي واكبه تفكيك اجتماعي وثقافي، والواقع أن إلحاق المنطقة بالغرب لم يكن ممكناً إلا عن طريق تفكيكها وتجزئتها، ولو أعطيت لأي سياسي في العالم، مسألة يسألونه فيها أن يسعى إلى إلحاق المنطقة العربية بالغرب، لما اختار غير الأسلوب الذي اختاره الغرب فعلاً .. ولعل من يستبعد دور الغرب في إشعال فتيل هذا التقاتل، هو واحد من اثنين: خادع أو مخدوع”[42].
وهنا يلزم الباحثين عند تعرضهم لدراسة هذه المرحلة التاريخية وأمثالها، أن يستدعوا الذاكرة التاريخية في تعامل الغرب مع الأمة، ذلك أن الغرب حرص من خلال ممارسة خداعه في تفكيكها وتفتيتها على ضرورة تجاوز مفهوم الأمة الجامعة والقضاء عليها، وجعل مفهوم الدولة القومية بديلاً عنه، وهو مفهوم يعد عاملاً مساعداً في تثبيت عملية التفتيت والتفكيك للأمة؛ لكونه مفضياً إلى حالة من التعدد ليس فقط في سياقها الجغرافي بل كذلك في الرؤى ونماذج من التنمية الاستتباعية التي غُلفت بسياقات فكرية مغايرة لنسقها الإسلامي[43].
الخطاب السلفي وآل سعود: أدوار التثبيت:
لقد استطاع الملك عبدالعزيز من خلال استيلائه على الحجاز وطرد الأشراف منه أن يكتسب -بعد بعده الجغرافي- الرمزية الدينية، وقد استثمرها عبدالعزيز وأبناؤه إلى حد كبير في تثبيت حكمهم، ولا شك أن العرب في الجزيرة العربية كما قال العلامة ابن خلدون: “لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الذين المذهب للغلظة والأنفة، والوازع عن التحاسد والتنافس فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك”[44].
ولو تتبعنا بعض المواقف التاريخية التي عصفت بالحكم السعودي وكان لعلماء الشريعة دورهم البارز في الوقوف بجانبه وتثبيته إزاء العامة، لكان دليلاً ظاهراً لما قاله ابن خلدون في الكيفية التي يتم بها تثبيت الحكم والتقليل من الآثار في زعزعة الموقف السياسي،
ومن أهم المواقف التي يمكن أن يشار إليها في هذا السياق:
أولاً: لما هجمت جيوش إبراهيم باشا على نجد في أواخر الدولة السعودية الأولى وقصدوا استئصال الدعوة السلفية وأتباعها، ساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم وانتصارهم، فعندئذ ألَّف الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رسالته “الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك”، ومثله ما حدث حين هجوم العساكر التركية على بلاد نجد سنة 1253هـ وساعدهم من ساعدهم حتى استولوا على كثير من نجد، فصنّف الشيخ حمد بن عتيق رسالة قوية سماها: “سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك”، فكانت هاتان الرسالتان سبباً في حينها في تثبيت الحكم من خلال بيان الحكم الشرعي، بل وكانت الفتاوى الشرعية تلعب دورها البارز في إصلاح الفتن داخل البيت السعودي نفسه، فبعد وفاة فيصل بن تركي سنة 1282ه، وتولي الحكم من بعده ابنه عبدالله، حصل شقاق واختلاف بين عبدالله وأخيه سعود، ووقعت على إثره حروب وفتن متلاطمة، فكان للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله دور ظاهر في الإصلاح بينهما وجمع الكلمة وحفظ الدماء ودرء الفتنة بحسب الطاقة، وقد ظهر هذا من خلال رسائله التي كتبها لهذا الغرض[45].
لو تتبعنا بعض المواقف التاريخية التي عصفت بالحكم السعودي وكان لعلماء الشريعة دورهم البارز في الوقوف بجانبه وتثبيته إزاء العامة، لكان دليلاً ظاهراً لما قاله ابن خلدون في الكيفية التي يتم بها تثبيت الحكم والتقليل من الآثار في زعزعة الموقف السياسي
ثانياً: أزمة جماعة إخوان من أطاع الله مع الملك عبدالعزيز، ولا شك أن الملك عبدالعزيز استعان بهذه القوة الدينية العسكرية في حروبه لتوطيد حكمه، وتوحيد قبائل شبه الجزيرة، وبسط الأمن على أرجائها، فأدت الحركة دورها بكفاءة وصدق وإخلاص، ولكن عندما عجزت حركة الإخوان عن استيعاب متغيرات العصر، ومتطلبات المرحلة الجديدة، التي من أهمها استعانة الملك عبدالعزيز بوسائل الحضارة الحديثة، والاستفادة من تقنيتها، حدث الصدام بين الحركة والملك عبدالعزيز، مما أدى إلى المواجهة الحربية، وإلى هزيمة الإخوان، والقضاء على حركتهم، في معركة السّبَلَة، 1929م، وكان للعلماء دورهم البارز في دعم عبدالعزيز في مواجهة الإخوان، وقد ظهر ذلك في مشاركتهم لمؤتمر الرياض عام 1919م للنظر في الموقف الشرعي من الإخوان، كما صدرت فتاوى شرعية من كبار العلماء آنذاك، في بيان غلوهم، وخطأ مسلكهم[46].
ثالثاً: في أحداث الحرم المكي عام 1979م، والتي وافقت الأول من محرم عام 1400ه، وهي أحداث كانت مآلاً للجماعة السلفية المحتسبة لمؤسسها جهيمان العتيبي، والحادثة تعد ولا شك تحولاً كبيراً في الفكر السلفي داخل المملكة، إذ قسمت الخطاب السلفي بين خطاب رسمي داعم للحكم السعودي، وخطاب سلفي معارض، وبغض النظر عن مفاصل هذا الحدث، فإن للعلماء دورهم الكبير كذلك في دعم العائلة المالكة، وثبت هذا في البيان الرسمي لهيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى، وضمنت بيانها فيما يخص هذا الشأن الرد على هذه الجماعة بالخروج على الإمام، وجاء فيه: “فبمناسبة انعقاد مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر صفر عام 1400 هـ للنظر في الأعمال المدرجة في جدول أعمال هذه الدورة، رأت الهيئة أن من واجبها إصدار بيان بشأن الاعتداء على المسجد الحرام من قبل الفئة المعتدية الضالة التي كفى الله المؤمنين شر عدوانها فتم القضاء عليها بفضل الله وكرمه، فإن هيئة كبار العلماء بهذه المناسبة تستنكر من هذه الفئة الظالمة فعلها الآثم وعدوانها الغادر وتعتبرها بذلك قد ارتكبت عدة جرائم أهمها … الخروج على إمام المسلمين وولي أمرهم، وهم مع إمامهم وتحت ولايته وسلطانه في حال من الاستقرار والتكاتف والتآلف والتناصح واجتماع الكلمة يحسدهم عليها كثير من شعوب العالم ودولها مستهينين بجريمة الخروج على ولي أمر المسلمين وخلع ما في أعناقهم له من بيعة نافذة جاهلين أو متجاهلين ما في ذلك من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة”[47]، وأهم ملمح يمكن بيانه في حادثة جهيمان إدراك السلطة الحاكمة أن التيار الديني في بعض مكوناته خرج عن عباءة الدولة، وهو ولا شك تحول خطير طرأ على العلاقة بين السلطتين من جهة، وعلى تماسك النظام السياسي في علاقته بقاعدته المجتمعية من جهة أخرى، وهو ما استدعى تجييش الخطاب الديني لمواجهة الأزمة.
المملكة ومسارها السياسي: أمام خطابين أم خطابات:
هذا العنوان الجانبي من البحث يثير إشكالية البنية السعودية بمختلف مظاهرها، وخاصة في بعديها الفكري والسياسي، وخاصة بعد أحداث حرب الخليج الأولى عام 1991م؛ وسبب جعل هذا التاريخ محدداً تاريخياً للتحول الفكري في الخطاب السلفي وعلاقته بالمنظومة الحاكمة أنه يعد أول حادث زعزع البنية المرجعية للخطاب السلفي في التعاطي مع المواقف السياسية للنظام الحاكم، وهو بهذا يكون انعكاساً فكرياً لمنهج تلقي انفتح على دوائر أكبر من دائرته النجدية، ومرجع الإشكالية المتعلقة بهذا الحدث، هو تغاير القراءات في تحليل وتفسير الفعل السياسي لصناع القرار في المملكة باستقدامه للقوات الأجنبية إلى الجزيرة العربية وغيرها من المواقف السياسية.
وهنا لا ينبغي الوقوف عند الحادثة بمعزل عن ممهداتها التي ساعدت على إعادة تشكيل العقلية السلفية في الداخل السعودي، فقد كان للانفتاح العلمي لكثير من طلبة العلم في الاطلاع على أطروحات فكرية خارج إطار المنظومة الفكرية الحاكمة التي مثلتها كتابات أئمة الدعوة النجدية دوره البارز في تعزيز الوعي المجتمعي ببعديه الداخلي والخارجي لدى هذه الثلة من طلبة العلم، دون أن يجسد هذا الوعي خروجاً في حقيقة الأمر عن السياق العام للمنظومة الحاكمة في المملكة، إلا أنه ساعد إلى حد بعيد في إخراج الدائرة الشرعية في بعض مكوناتها من سياقها التقليدي، إلى قسيماتها ذات البعد الشمولي في قراءة الموقف بمختلف مظاهره.
ونشير في هذا السياق تحديداً إلى الأثر الذي تركته جماعة الإخوان المسلمين من خلال رموزها وأطروحاتها في البنية الفكرية السعودية، بصورة أكبر من أي جماعة أخرى احتك بها المجتمع السعودي بكافة مكوناته، ولا شك أن التطورات المختلفة التي شهدتها المملكة وخاصة في منظومتها التعليمية ساعد إلى حد كبير في استقطاب الرموز الفكرية والعلمية من مختلف الأقطار العربية وخاصة من مصر وسوريا، ومن أبرزهم: محمد قطب، ومناع القطان، وسيد سابق، ومحمد الغزالي، وعلي الطنطاوي، وعبدالفتاح أبو غدة، وعبدالرحمن حسن حبنكة .. في غيرهم، وهذه المنظومة من العلماء والمفكرين ساعدت بشكل كبير في إعادة النظر في المناهج التعليمية للجامعات والمعاهد، وهو ما فتح المجال أمام طلبة العلم للولوج إلى أنساق فكرية وعلمية لم يكونوا على علم بها في ظل منهج التلقي السائد في دائرته النجدية الضيقة[48].
ومن هذه البنية ظهرت أسماء لعلماء شباب حاولوا من خلال المنافذ الدعوية والعلمية المتاحة أن يرسموا للمجتمع السعودي، خارطة للوعي في سياقات خارج الدائرة الشرعية التقليدية، ذلك أن هذه الفئة من العلماء الجدد رأوا أن العلاقة بين السلطة السياسية وعلماء الشريعة الرسميين قائمة على الارتباط المصلحي الذي يؤول إلى تمرير كثير من السياسات التي لا تقبل في رأي هؤلاء العلماء الجدد، فكأن -على حد قول بعض الباحثين- المسار الذي يحكم هذه العلاقة قائم على دمج وذوبان هؤلاء المشايخ داخل جهاز الدولة، مما جعل تلك العلاقة قابلة للاهتزاز في نظر بعض فئات المجتمع، وبالذات النخب العلمية الجديدة[49]، وهو ما ظهر أثره بعد أحداث الخليج عام 1991م، حيث ظهر الشرخ في الدائرة الشرعية بين علماء السلطة، والعلماء الشباب في مناسبتين: الأولى: حول فتوى جواز الاستعانة بالقوات الأجنبية، والمناسبة الثانية، على خلفية المطالبة بالإصلاح في المملكة العربية السعودية، وتجسدت في المطالبات التي تضمنتها مذكرة النصيحة[50]، وأهم ما يمكن بيانه في هذا الإطار أن هذا الأنموذج من السلفية بغض النظر عما أطلق عليه من أوصاف ومسميات، فإنه استطاع إلى حد كبير أن يستقطب الشباب داخل المجتمع السعودي ويؤسس لفكرة المعارضة في سياقها السلمي لا العنفي، وساعد في ذلك امتلاك هذا الأنموذج لوسائل التأثير العقلي والعاطفي، مستفيدة من ثمار النهج العلمي والدعوي لعلماء الإسلام من كل بقاء الأرض، والحق أن دائرة التأثير لم تقتصر على الحدود المحلية بل تجاوزتها إلى خارج البلاد، وهو ما يجعل دائرة التأثير -ولا زالت- ممتدة في الزمان والمكان، ولولا القوة التي جوبه بها هذا التيار من قبل السلطة الحاكمة؛ لكان له شأنه في دائرة الاستقطاب، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
ولم يقتصر تأثير هذه الأحداث على هذه الثلة من طلبة العلم المتأثرين بالدعوة السلفية والإخوان المسلمين، بل كانت أيضاً محركاً لظهور تيارين سلفيين، ولكن في سياق معاكس، التيار الأول الذي كان منضوياً في الدائرة السلفية الرسمية بكافة مكوناتها فكراً ومنهجاً، ولكن بعد أحداث الخليج وظهور أفكار المعارضة السلمية ومطالب الإصلاح، ظهر هذا التيار منافحاً عن ولاة الأمور وداعياً في ظنه للمحافظة على البنية المجتمعية، وهو التيار الذي عرف بالجامية نسبة للشيخ محمد أمان الجامي، أو التيار المدخلي نسبة للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، وهذا التيار تم توظيفه بقوة؛ لأجل مقاومة التأثير الفكري والمنهجي الذي يمكن أن يترتب عليه انتشار فكر تيار العلماء الشباب المتأثر بفكر الإخوان ومنهجه، وبالفعل فقد مورس إرهاب فكري جسده كم هائل من المؤلفات والردود، ساهم إلى حد بعيد في التقليل من آثاره المنهجية، مواكبة مع حملة الاعتقالات التي شملت رؤوس التيار في تسعينات القرن العشرين، أما التيار السلفي الثاني الذي كان حضوره وبقوة أيضاً في العقد الأول من القرن العشرين، فهو تيار السلفية الجهادية، وقد مثله الشباب العائد من أفغانستان عقب إخراج الاتحاد السوفيتي منه، وهذا التيار، في حقيقته كان من أبناء الحركة السلفية بجميع مكوناتها، بل كان مدعوماً من السلطتين السياسية والدينية؛ بغض النظر عن مقاصدهما، ولكن الحملات الشديدة التي وجهتها السلطة السياسية لهذا التيار، أرغمته على الممارسات العنفية، وبسببها أظهر التيار قراءات مغالية في تفسير النصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع، وأيضاً مواقف فعلية انعكست سلباً ليس فقط على الحركة السلفية في بعدها المحلي بل على جميع مفاصلها في العالم الإسلامي، ولم يقف الأمر على الحركة السلفية من حيث تأثيراتها بل أفضى إلى التأثير على بقية التيارات الإسلامية، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م لتؤسس لمرحلة جديدة في نظر الغرب إلى التيارات الإسلامية، وخاصة التيار السلفي في دائرته السعودية، إذ لم يقتصر النظر إلى هذا التيار من زاوية بعض مكوناته ممن انتهج العنف مسلكاً، بل تجاوزه ليسع في الحكم كل مكوناته، ولم يشفع منهج الاعتدال والبعد عن وسائل العنف لها في النأي عن الحكم عليها بالإرهاب والتطرف، وأفضت هذه الرؤية إلى تعطيل وإلغاء كثير من المناشط الدعوية والخيرية في المملكة وخارجها، ولم يقف الأمر عند هذا القدر بل جاء الانقلاب على ثورات الربيع العربي ليؤكد هذا النهج من صانعيه ووكلائه في محاربة كل مسار سواء في دائرته السلفية أو غيرها في التغيير والتحرير من ظواهر الاستبداد والاستعباد.
وفي سياق آخر، شهدت المملكة بروز تيار وافد ذي خطاب مغاير خارج الإطار الإسلامي، هو التيار الليبرالي، وهذا التيار تأثر إلى حد كبير بقسيمه العربي الذي واكب بروزه من حيث زمنه أواخر الدولة العثمانية وأوائل القرن العشرين، بل ساهم بشكل كبير في إسقاطها، أما الصوت الليبرالي في سياقه السعودي، فيعود حسب أبو القاسم حاج حمد إلى خمسينات وستينات القرن الماضي على التوالي في سياق منفصلين فيما يظهر، ولكنهما اجتمعا مقصداً وغاية وهي المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري في البلاد، الأول فيما عرف بحركة الأمراء الأحرار عام 1958م، قادها الأمير طلال بن عبدالعزيز، والثاني تجمع نجد الفتاة، وهو تجمع من المثقفين السعوديين خارج البلاد ظهر في مطلع ستينات القرن العشرين[51]، لكن الانتقالة التي شهدها التيار الليبرالي كان في أعقاب أزمة الخليج الأولى عام 1990م، حيث كانت الأزمة مجال استثمار لهذا التيار، فعلى إثر الخلاف بين العلماء الشباب والحكومة وكذلك تواجد القوات الأجنبية على أرض الجزيرة وظف كل إمكاناته ووسائله وقنواته لخلخلة الأوضاع وطرح مشروعه الليبرالي في إطار ما يسمى بالعريضة المدنية عام 1990م، وقد ضمنت جملة من المطالب ذات البعد الإصلاحي للمنظومة السياسية والدستورية والمجتمعية[52]، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م لتمثل نطقة انطلاق جديدة فاصلة لحدوث تغييرات شملت العالم كله، وفي هذه المرحلة دخل الإسلام مرحلة حصار ومواجهة مع القوى الداخلية الثقافية والفكرية المعارضة له في التوجه، ولقد حاول التيار الليبرالي الاستفادة بقوة من هذه الأحداث، بل يرونها أربابه قد أسهمت في تسريع وتيرة المشروع الليبرالي، وأن المرحلة القادمة هي مرحلة الانتقال نحو ذلك المشروع، وفي هذا السياق يرى تركي الحمد أن هذه المرحلة التي نعيشها هي مرحلة انتقالية ضرورية، بين زمن قد ولى وجديد في طريقه إلى القدوم[53].
وما بشر به تركي الحمد وأمثاله قد حان أوانه حين تناغمت التوجهات السياسية الجديدة للملك سلمان وابنه محمد مع ما يستهدفه الليبراليون، وأهم ما أقدم عليه سلمان وابنه في عهده الجديد جملة من القرارات التي تشير إلى تحول جذري واضح في توجهات المملكة من المجتمع المحافظ إلى مجتمع أكثر انفتاحاً،
وذلك من خلال عدد من الشواهد، أهمها: أولاً: إنشاء هيئة الترفيه، التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل ودفع السعوديين إلى تحويل نفقات السياحة الخارجية إلى الداخل بغض النظر عن مظاهر هذا الترفيه وتوافقها مع الحدود الشرعية. ثانياً: إقامة منتجع البحر الأحمر السياحي. ثالثاً: تخفيف القيود على المرأة[54]، رابعاً: التماهي المطلق مع السياسة الأمريكية وتوجهاتها في المنطقة العربية في محاربة التيارات الإسلامية، وقد شكلت زيارة ترمب إلى الرياض منعطفاً خطيراً في سياقها الخليجي والإقليمي، إذ أعقبتها اشتعال الأزمة الخليجية مع قطر. خامساً: حملة الاعتقالات الكبيرة التي طالت العلماء والمشايخ والمفكرين خارج الدائرة الرسمية، بل وأعقبتها كذلك اعتقالات طالت أمراء ووزراء سابقين ورجال أعمال مؤطرة بإطار محاربة الفساد، بينما يرى كثيرون أن ابن سلمان يسعى للقضاء على أي معارضة داخلية؛ من أجل أن يستفرد بالحكم، وأخطر ما يسعى إليه التيار الليبرالي كما يظهر من خلال وسائله ومنافذه هو محاولته تأسيس حاضنة شعبية جديدة داخل المجتمع السعودي، لتؤسس مع سلطتها الحاكمة لمرحلة تتجاوز فيها الخطاب الديني وتأثيره في الحاضنتين على حد سواء، إلا بالقدر الذي يصب في دعم وتثبيت التوجهات الجديدة للمملكة.
الخاتمة:
التطورات السياسية التي تمر بها المملكة السعودية ومؤثرات البعد الإقليمي والدولي، وإملاءات الفاعلين الدوليين تؤكد على سلوكها مسارات مغايرة لنهجها الذي تأسست عليه ومارسته في مراحل زمنية طويلة على الأقل في ظاهر الأمر، ولئن كانت الإمارة الأولى قد تأسست على أساس دعم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بغطاء سياسي يسعها حفظاً وحماية، ويؤمنها في تحقيق أهدافها الدينية، فإن للإمارتين الثانية والثالثة بعداً مغايراً قصد به النظر إلى إرجاع الحكم السعودي وتثبيته بغطاء ديني في هذه الحالة، وفي جميع هذه المراحل كان للخطاب الديني الذي يمثله الخطاب السلفي دوره الداعم في دعم السلطة السياسية بغطائه الشرعي، والوقوف معها في أزماتها، سواء في بعدها الداخلي أو الخارجي، ولكن أن يكون الخطاب السلفي نفسه مستهدفاً من قبل السلطة السياسية، هذا يعد بلا شك تحولاً كبيراً في المشهد السياسي السعودي، قد يأتي على هذا الخطاب بالإبطال أو الإعطال، وفي سياق الختام يثير الباحث جملة من القضايا والمسائل التي يمكن وضعها -فيما يحسب- في دائرة إحسان التناول والتعامل مع المشهد السياسي للمملكة، مستهدفاً فيها، ومنبهاً بها على أهمية الوعي بفقه الموقف وإحكام توصيفه؛ بغية جعله وسيلة اتصال بما تضمنه من رسائل تنبيه وتوعية للأمة، وعلى وجه الخصوص في جزئها السعودي منها:
أولاً: المشهد السياسي السعودي بشخوصه الفاعلة داخله يظهر -من خلال عوارضه الطارئة عليه- قدراً كبيراً من طبائع الاستبداد السياسي، ولم يجاوز الكواكبي الحقيقة وهو يصف ظاهرة الاستبداد قبل أكثر من قرن، إذ تعد الحالة السعودية المعاصرة أحد أفراد نصه رحمه الله، وللتدليل على هذا نستدعي سياقه للنظر في مدى مطابقته للموقف السعودي الراهن، إذ يقول رحمه الله: “وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية”[55]، فحين تقرأ هذا النص للكواكبي بل لو تقرأ كل كتابه تشعر -كما يقول الدكتور سيف الدين عبدالفتاح- وكأنه يحدثك عن الحكام العرب المعاصرين، فالمستبد عدو للحق والحرية يتجاوز الحد ما لم ير حاجزاً من حديد، ويتحكم في أمور الناس بإرادته لا بإرادتهم، وبحسب أهوائه لا طبقاً لشريعتهم، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحرية والتداعي بمطالبته[56]، ومآل الاستبداد تعطيل طاقات الإنسان، وقتل حوافزه وطموحاته، وحرمان البلاد من عطاءات أبنائها، فتتسع ظاهرة الاغتراب بين الحاكم والمحكوم، وتعقبها مظاهر التصفية أو التضييق والتقييد، وفي أحسن الأحوال مفارقة الأوطان[57]، ولهذا في أزمنة الاستبداد يحرم الناس من السفر وتخرج قوائم المنع والحظر من كل شيء إلا ما كان دائراً مع مقاصد المستبد.
يرى كثيرون أن ابن سلمان يسعى للقضاء على أي معارضة داخلية؛ من أجل أن يستفرد بالحكم، وأخطر ما يسعى إليه التيار الليبرالي كما يظهر من خلال وسائله ومنافذه هو محاولته تأسيس حاضنة شعبية جديدة داخل المجتمع السعودي، لتؤسس مع سلطتها الحاكمة لمرحلة تتجاوز فيها الخطاب الديني وتأثيره في الحاضنتين على حد سواء، إلا بالقدر الذي يصب في دعم وتثبيت التوجهات الجديدة للمملكة.
ثانياً: إدراك الحالة السعودية المعاصرة يستدعي من أبنائها ابتداء تجاوز صدمتها الأولى، وضرورة الصبر على ضراء فتنتها، ثم ليس في مكنة وقدرة شهودها مواجهتها في دائرة التعانف، بل تتم مواجهتها بما تيسر في أيدي النخبة الفكرية المسلمة القويمة عبر وسائل الوعي، ومن أدواتها في هذا السياق:
– ضرورة الأخذ بمقومات الوعي الفكري والمنهجي بمختلف أبعاده، وفك الارتباط بين المنهج وقيمه الرصينة الثابتة وانعكاساته في الواقع المعيش، فلا بد من التفريق بين الدين باعتباره وحياً محفوظاً، وبين قراءات بشرية تجتهد في فهم للدين متأثر بالواقع، فيجعلها مترددة بين صواب الفكر وخطئه، وبهذه الرؤية نستطيع إسقاط الفكر الكهنوتي -بدائرتيه السياسية والدينية- الذي غلب على الأمة بمنهج: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
– دراسة التجربة السلفية الممثلة بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وانعكاساتها على البعد السياسي بمراحله الثلاث، وتتم هذه الدراسة في دائرة التقويم والوقوف عند مدى صوابية الأفكار المقترنة بالفعل الحركي في الوقائع، وينبه في هذا السياق إلى أهمية رصد وتتبع المؤثرات الزمنية في فكر الدعوة السلفية، ومحاولة تحليل مقوماتها ومكوناتها في ضوء الموقف المعاصر، وبهذه الأداة نستطيع تجاوز منهجية الاجترار التاريخي التي تغلب على الفكر الإسلامي من جهة، وتجاوز منهجية المحاكاة التي غلبت على المدرسة النجدية في أكثر مراحلها الزمنية، وهي يساعد بدوره على إسقاط كل هالة من الهالات التي جعلت لنفسها حقاً في القول أو الفعل في سياق الخطابين السياسي والديني.
– استثمار التداخل الفكري والمنهجي بين المدارس الفكرية داخل الدائرة السنية، وهو تداخل شهدته المملكة منذ منتصف القرن العشرين سواء في حالة الاستقطاب أو في حالة الالتجاء، وقد ساعد هذا التداخل على تطعيم الفكر السلفي بعوامل السعة والمرونة في التعامل مع مختلف المظاهر، وهو ما يستدعي تأطير كل ثمار الفكر بمقتضيات زمانه دون تجاوز لثوابت وقواعد الشريعة.
ثالثاً: في سياق الدائرة المجتمعية الكلية، يحتاج الخطاب السلفي وحاملوه إلى استقطاب واستيعاب كل دوائر الفكر السائدة في المجتمع السعودي، وإن كانت خارج دائرة الفكر الإسلامي، ومد الجسور معها طالما أنها دائرة في إطار الإبقاء على اللحمة المجتمعية الواحدة؛ من أجل مواجهة استبداد السلطة وتحكمها في مفاصل المجتمع ومكوناته بوسائل التعسف وجنوده المنظمة كما وصفها الكواكبي رحمه الله.
____________________________________________________________________________
[1] د.مصطفى حلمي، قواعد المنهج السلفي في الفكر الإسلامي: بحوث في العقيدة الإسلامية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1426ه/2005م، ص159.
[2] د.ناصر بن عبدالكريم العقل، مقدمات وقواعد في منهج السلف في العقيدة، الرياض، دار الفضيلة، ط1، 1436ه/2015م، ص15.
[3] عبدالكريم بن محمد السمعاني، الأنساب، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، ط1، 1396ه/1976م، ج7ص104.
[4] أحمد بن عبدالحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425ه/2004م، ج4ص149.
[5] شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1404ه/1984م، ج21ص6.
[6] بكر بن عبدالله أبو زيد، المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب، الرياض، دار العاصمة، ط1، 1417ه، ج1ص509.
[7] عبدالله بن عبدالرحمن آل بسام، علماء نجد خلال ثمانية قرون، الرياض، دار العاصمة، ط2، 1419ه، ج1ص130.
[8] محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، القاهرة، دار الكتاب الإسلامي، ج2ص6.
[9] انظر: محمد بن عبدالرحمن المغراوي، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية، القاهرة، المكتبة الإسلامية، مراكش، النبلاء للكتاب، ج5ص560 فما بعدها.
[10] السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، رجال الفكر والدعوة في الإسلام، دمشق، دار ابن كثير، ط3، 1428ه/2007م، ج3ص69.
[11] هشام أحمد عوض جعفر، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416ه/1995م، ص83.
[12] د.حامد عبدالله ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1428ه/2007م، ج2ص66.
[13] د.منى أبو الفضل، المدخل المنهاجي لدراسة النظم السياسية العربية، القاهرة، دار السلام، ط1، 1434ه/2013م، ص295.
[14] د.السيد عمر، الشرعية بين فقه الخلافة وواقعها للدكتورة أماني صالح: قراءة وتلخيص، القاهرة، مركز الدراسات المعرفية، ص3.
[15] د.سيف الدين عبدالفتاح، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي، منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، عمان/الأردن، المركز العلمي للدراسات السياسية، ط1، 2002م، ص316.
[16] المرجع السابق، ص325.
[17]وفي هذا يقول الدكتور فريد الأنصاري: ” وأما ما سكتت عنه النصوص جميعاً من الكتاب والسنة، وأحيل على الاجتهاد، فإنما هو من المرتبة التشريعية الثالثة! أي من حيث قصد الشارع إليها، وليس فقط من حيث هي مسألة اجتهادية! وبين الاعتبارين فرق بالنظر الأصولي الدقيق! أعني أن إهمال الشارع أمراً بعدم النص عليه في الأصلين: الكتاب والسنة، مع وجود المقتضي للتشريع، لا يكون نسياناً ولا غفلة، وإنما تشريعاً! أي أن الشارع قد قصد إلى إغفال ذلك قصداً، ولم يكن عنده بالمقصود أصالة من الدين. وإنما يكون حينئذ من الوسليات والتبعيات، ولذلك وكله إلى الاجتهاد! وفي مثل هذا قال علماء أصول الفقه: السكوت في معرض الحاجة بيان! … إلا أن الإشكال موضوع البحث الآن هو: تبين المرتبة التشريعية للأحكام السياسية في الإسلام، من حيث هي أحكام سلطانية أو فن حكم الدولة، ونغامر ابتداء بتقديم الدعوى قبل أدلتها! فنقول: إن الأحكام السياسية بهذا المعنى لم تنل من التشريع الإسلامي في الغالب إلا المرتبة الثالثة”، انظر: فريد الأنصاري، البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، القاهرة، دار السلام، ط1، 1430ه/2009م، ص61-72.
[18] د.محمد بن فهد الفريح، الأحكام الفقهية المتعلقة بمنصب الإمامة، الدمام، دار ابن الجوزي، ط1، 1434ه، ص15-17.
[19] عبدالله بن عمر الدميجي، الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، الرياض، دار طيبة، ط1، 1408ه، ص222.
[20] د.أحمد الريسوني، فقه الثورة، مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي، القاهرة، دار الكلمة، ط1، 1434ه/2013م، ص23.
[21] عبدالرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ط5، 1416ه/1995م، ج9ص5.
[22] أحمد الريسوني، إمامة المتغلب بين الشرع والتاريخ، الجزيرة: https://goo.gl/QWz2TR، 20/3/2014م.
[23] د.مديحة أحمد درويش، تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين، جدة، دار الشروق، ط1، 1400ه/1980م، ص12.
[24] د.عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب عرض ونقد، الرياض، دار طيبة، 1409ه/1989م، ص236، وأمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية، دار الكتاب العربي، بدون تاريخ، ج1ص23.
[25] د.صالح بن عبدالله العبود، عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، نشر المجلس العلمي في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ط1، 1408ه، ج1ص39.
[26] الشيخ حسين بن غنام، تاريخ نجد، القاهرة، دار الشروق، ط4، 1415ه/1995م، ص13.
[27] أنور الجندي، مقدمات العلوم والمناهج، القاهرة، دار الأنصار، 1409ه، ج3ص211.
[28] الشيخ عثمان بن عبدالله بن بشر النجدي الحنبلي، عنوان المجد في تاريخ نجد، الرياض، دارة الملك عبدالعزيز، ط4، 1402ه/1982م، ج1ص42. ونص ابن بشر يقترب منه في بعض فقراته ما نقله المؤرخ حسن الريكي في كتابه لمع الشهاب عن ابن سعود أنه قال للشيخ الإمام: “هذه القرية قريتك، والمكان أنت واليه، فلا تخش أعداءك. والله لو انطبقت علينا جميع نجد ما أخرجناك عنا. فقال -أي الشيخ الإمام-: أنت كبيرهم وشريفهم، أريد منك عهداً على أنك تجاهد في هذا الدين، والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك، وإن المشيخة والخلافة في الدين فيَّ وفي آلي من بعدي أبداً بحيث لا ينعقد أمر، ولا يقع صلح ولا حرب إلا ما نراه كذلك”، إلا أن محقق الكتاب الأستاذ الدكتور عبدالله الصالح العثيمين يشكك في هذه الواقعة، ويؤكد على أن مؤرخي نجد أنفسهم لم يذكروها بهذه الصورة، كما هو الحال بالنسبة لابن غنام وابن بشر، انظر: حسن بن جمال الريكي، لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب، تحقيق د.عبدالله الصالح العثيمين، الرياض، دارة الملك عبدالعزيز، 1426ه/2005م، ص72.
[29] د.صالح بن غانم السدلان، القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، الرياض، دار بلنسية، ط1، 1417ه، ص434.
[30] محمد الغزالي، مائة سؤال عن الإسلام، القاهرة، نهضة مصر، ط4، 2005م، ص270.
[31] المرجع السابق، ص295.
[32] للمزيد من الدراسة والتحليل انظر: لؤي صافي، العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416ه/1996م، ص21 فما بعدها، ود.أحمد الريسوني، الأمة هي الأصل، بيروت، الشركة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2012م، ص10.
[33] د.عبد الفتاح حسن أبو علية، تاريخ الدولة السعودية الثانية، الرياض، دار المريخ للنشر، ط4، 1411ه/1991م، ص37.
[34] المرجع السابق، ص38.
[35] د.مديحة أحمد درويش، مرجع سابق، ص57.
[36] ينظر: د.حاكم المطيري، عبيد بلا أغلال: مختصر الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية، نسخة ألكترونية، ص79.
[37] د.محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، القاهرة، مكتبة الآداب، بدون تاريخ، ج1ص2.
[38] حافظ وهبة، جزيرة العرب في القرن العشرين، القاهرة، دار الآفاق العربية، ط3، 1375ه، ص318، د.مديحة أحمد درويش، مرجع سابق، ص83،
[39]حافظ وهبة، مرجع سابق، ص242.
[40] د.حاكم المطيري، الحرية أو الطوفان، نسخة ألكترونية، ص252.
[41] حافظ وهبة، مرجع سابق، ص251.
[42] د.سيف الدين عبدالفتاح، التحديات السياسية الحضارية في العالم الإسلامي مع إشارة للتحديات السياسية الداخلية، بحث منشور في مركز الحضارة للدراسات السياسية، ص16، د.محمد سعيد رمضان البوطي، الجهاد في الإسلام: كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟، دمشق، دار الفكر، ط1، 1414ه/1993م، ص174، نقلاً عن برنارد لويس: (the middle east and the west).
[43] د.سيف الدين عبدالفتاح، المشروع الحضاري الإسلامي للتغيير: سيرة ومسيرة، القاهرة، دار البشير، 2014م، ص34.
[44] العلامة عبدالرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دمشق، دار يعرب، ط1، 1425ه/2004م، ج1ص289.
[45] د.عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف، جهود علماء الدعوة السلفية بنجد تجاه النوازل والأحداث، مجلة البيان، ربيع أول 1422ه/يونيو 2001م، العدد: 163، ص8.
[46] حركة الإخوان في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (1910م-1930م)، بحث من موسوعة: مقاتل من الصحراء، للأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، موقع المقاتل: https://goo.gl/5pXFrk.
[47] حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر، مجلة البحوث الإسلامية، الرياض، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، محرم/جمادى الثاني 1400ه، ج5 ص309.
[48] ستيفان لاكروا، زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، ترجمة عبدالحق الزموري، بيروت، الشركة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2012م، ص61.
[49] د.محمد بن صنيتان، النخب السعودية دراسة في التحولات والإخفاقات، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2005، ص111.
[50] يُنظر: أحمد عدنان، السجين 32 أحلام محمد سعيد طيب وهزائمه، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 2011م، ص265.
[51] محمد أبو القاسم حاج حمد، أشكال ومضامين وتطور الصراعات السياسية في المملكة العربية السعودية 1923م-2003م، الحلقة الثانية، بحث منشور على موقعه الخاص في الفيسبوك: https://goo.gl/uJegK2K.
[52] أحمد عدنان، مرجع سابق، ص255.
[53] وليد بن صالح الرميزان، الليبرالية في السعودية والخليج دراسة وصفية نقدية، بيروت، روافد للطباعة، ط1، 1430ه/2009م، ص87.
[54] السعودية نحو العلمانية: ابن سلمان ينقض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نون بوست: https://goo.gl/McSwUS، 24/9/2017م.
[55] عبدالرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، بيروت، دار النفائس، ط3، 1427ه/2006م، ص38.
[56] من تقديم الدكتور سيف الدين عبدالفتاح لكتاب طبائع الاستبداد للكواكبي، مقدمة تحليلية للباحث عمرو أشرف مصطفى، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم، ص9.
[57] انظر مقدمة الدكتور أسعد السحمراني لكتاب طبائع الاستبداد، طبعة دار النفائس، مرجع سابق، ص17.