تقارير

التطبيع الثقافي .. كسر عزلة أم خيانة

منذ احتلال الكيان الصهيونى لفلسطين إلى مابعد اتفاقية كامب ديفيد 1978 مرورا بمراحل السلاح والعنف والقوة والإرهاب التي يستخدمها ضد الأمة العربية وهو يسعى لترويض عقولنا على تقبل أفكاره للسيطرة علينا وإخضاعنا بأنه لا إمكانية لعيشنا إلا بقبول قمعنا وإملاء شروطه لأنه الأقوى الأن وربما إلى الأبد نتيجة العمل على جهلنا بكل السبل للحظات القوة والانتصار للشخصيات والأحداث في تاريخنا القديم والحديث حتى يصل بنا التفكير لخطورة اعتبار القمع الذى نتعرض له بأنه أمر طبيعي نستسلم له ويصبح الاتهام لأنفسنا بأننا نستحق هذا القمع لأنه راسخ في تركيبتنا الاجتماعية والتاريخية ، عندها يواصل الكيان الصهيوني قمعه مع تلميع صورته والتى لا يفرضها بالقوة هذه المرة بل عبر الحوار والندوات وورش العمل المشتركة لتغيير الهوية الثقافية فتصبح راسخة بشكل آلي وطبيعي بل وننشرها للأخرين ونبررها بعد طمس كل القمع السابق له حتى يصبح هناك من يدافعون عن وجوده ضد من اغتصبت أرضهم.

لاتصالح

من أهم المصطلحات التي استخدمها الكيان الصهيوني في ترويج فكرهم والوصول إلى عمق الآخر بكل سهولة ويسر، هو مصطلح “التطبيع” فهو لفظ رقيق وأنيق يُعجب به كل من سمعه، ويظن به خير الظنون، لكنها ترتدي بداخل اللفظ خمسين قناعاً وترقص على خمسين حبلاً. إن حسن استخدام هذا المصطلح عاد بالفوائد الجمة على المحتل الصهيوني ، حيث نجح قادته في تحويل المزاج النفسي الرسمي وبعض الشعبي العربي تجاه إسرائيل العدو التي جارت علينا إلى دولة جارة لنا وصديقة يجب التعايش معها.

وقد نجح القادة العرب عام 1967 في قمة الخرطوم بتسجيل ثلاثة لاءات نظيفة في سجل البطولة والرجولة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه، وأنتجت فكرة أن كل من يفكر أو يسعى للخروج عن (لا صلح _لا اعتراف _لا تفاوض) فهو باعتراف الجميع (خائن)، وقد لاقت هذه اللاءات إعجاب واستحسان الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، فصفقت لها لأنها منسجمة مع مزاجها تجاه عدوها الأول والأبدي.

واستمر هذا المزاج حتى وصل بنا قطار التاريخ إلى محطة (كامب ديفيد) حيث اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر التي سعت إلى تغيير المزاج العربي من (لا صلح _لا اعتراف _لا تفاوض) إلى فكرة أن إسرائيل جارة وصديقة ويجب أن نعيش معها بسلام وأمان حتى نقي الأجيال اللاحقة من حرارة الحروب.

وقد عبر عن الرفض وعدم الصلح الشاعر أمل دنقل فى قصيدته “لاتصالح”

لا تصالح

ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما

هل ترى ؟

هي أشياء لا تشترى

لم ينسجم المزاج العربي الرسمي والشعبي مع توجهات مصر السادات ، ولكن رويداً رويداً بدأ سحر اللاءات الثلاث يخف ولم يبق على عهدها إلا القليل، بينما كثيرون الذين نظروا بأن الخروج عن اللاءات الثلاث “خيانة” صاروا ينظرون له على أنه “ضرورة”. بعد مصر دخلت منظمة التحرير الفلسطينية والأردن على خط التقارب بشكل علني، فعقدوا اتفاقيات سلام خدمت إسرائيل بالدرجة الأولى وحصل العرب على صفر كبير على طريقة صفر المونديال الشهير، أما باقي الأنظمة حتى وإن لم يوقعوا على اتفاقيات سلام بشكل علني أو رسمي، فإن موقفهم من إسرائيل لم يبق على حاله كما كان، وبات الحكام وبعض الشعوب يندمون على أنهم لم يسارعو بالتقارب والاتفاقيات منذ البداية مع إسرائيل والتطبيع معها.

إن المتأمل في رغبة الزعامات العربية للتطبيع مع إسرائيل يجد أنهم يرغبون في الحفاظ على عروشهم من خلال كسب ود ماما أمريكا وهذا الكسب لا يتم إلا من خلال رضا إسرائيل باعتبارها الفتاة المدللة. رغم أن التطبيع يهدف إلى عدم مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني وإزالة كل الحواجز النفسية مع العدو الصهيوني ، فالتطبيع ببساطة هو جعل إسرائيل تبدو طبيعية كي يسهل تبرير جرائمها ووجودها .1

لم يقتصر تحول النظرة لإسرائيل على المستوى الرسمي فقط، بل امتد ليشمل قطاعات من المجتمع العربي الشعبي (الثقافية والفكرية والسياسية والإعلامية والفنية والرياضية) حيث نجد بعض القطاعات العربية تشارك مع وفود إسرائيلية في مهرجانات أو ندوات أو مؤتمرات تحت أسماء الحوار بين الأديان والتعايش السلمي. إذاً جوهر التطبيع الثقافي هو إعادة تشكيل منظومة القيم والمفاهيم العربية صهيونياً، وهو ما يتطلب ضرب فكرة المقاومة من جهة وفكرة العروبة من جهة أخرى ، فمعركتنا مع سرائيل” معركة ثقافية وأكاديمية وإعلامية وفنية، لا عسكرية واقتصادية فقط. و”إسرائيل” هي أكثر من يدرك ذلك . ولهذا تجهد في طمس وجهها الدموي من خلال إبراز وجوهها العلمية والفنية والأكاديمية و”الإنسانية” (خصوصًا الداعمة لحقوق  المهمشين والأقليات) ومن هنا فإن الدعوة إلى مقاطعة أي مشاركة فنية أو ثقافية عالمية في “إسرائيل” هي دعوة من أجل صون الفن والثقافة من الاستغلال الإسرائيلي.

التطبيع ببساطة هو جعل إسرائيل تبدو طبيعية كي يسهل تبرير جرائمها ووجودها .

ذرائع التطبيع الفني والثقافي

يطلق كثيرون الحجج من أجل تبرير التواصل مع الفنانين والمثقفين والأكاديميين الإسرائيليين وهي كالآتي:

  • التطبيع ضرورة وطنية تحتّمها معرفة العدو
  • التطبيع ضرورة فنية
  • التطبيع ضرورة إنسانية
  • التطبيع ضرورة ثقافية وأكاديمية
التطبيع ضرورة وطنية تحتمها معرفة العدو

كلّما نودى بمقاومة التطبيع الثقافيّ انبرى البعض لإطلاق شعار “اعرف عدوك” وكأن الشعارين متناقضان.

بإمكاننا معرفة عدونا، بل من واجبنا معرفته، ثقافيًّا وأكاديميًّا وسينمائيًّا لكن من دون الاحتكاك به وفرضه رغما عن أنف التاريخ وأنفنا جميعا. نستطيع مثلا أن نتعرف على إنتاج العدو عبر وسائل الإعلام المختلفة ، وليس من خلال دعوته إلى بلادنا، أو السماح له (أو لناشره أو منتجه أو موزّعه) بالاستفادة من أموالنا. بل المسألة تتعدّى الاستفادة المالية، ذلك لأن قبولنا بالاحتكاك المباشر بالأكاديميين والمثقفين والفنانين الإسرائيليين هو بمثابة رسالة إلى العالم تقول إن شعوبنا تفصل بين الجيش الإسرائيلي الذي قتلها وهجّرها، وبين مؤسساته الجامعية والثقافية والعلمية والطبية. وهذا مخالف للواقع والمنطق.

فالجامعات الإسرائيلية تسهم في الاحتلال والقمع من خلال أمور عديدة، أكثرها مباشرة هو دعم الجيش الإسرائيلي. فمعهد تخنيون التقني طوّر أنظمة قتالية، ويضم أكبر نسبة من الطلاب العاملين في احتياطي الجيش، فضلًا عن مهندسين معماريين بنوا جداره الفصل العنصري. وجامعة تل أبيب صمّمت عشرات الأسلحة، وتضم “معهد دراسات الأمن القومي” صاحب نظرية “القوة غير المتوازنة” الداعية إلى تدمير البنية التحتية المدنية وإنزال أشد أنواع المعاناة في حق الشعب الفلسطيني، وجامعة حيفا أيدت عملية “الرصاص المصبوب” ضد غزة (2008 ــــ 2009)، وأستاذ الجغرافيا فيها هو الذي اخترع فكرة الجدار العنصري، وهو صاحب قول: “إذا كنا نريد أن نبقى على قيد الحياة فعلينا أن نقتل ونقتل ونقتل طوال اليوم، كل يوم…” كما أن هذه الجامعات نفسها تزود المحاكم العسكرية المشاركة في جريمة قمع الشعب الفلسطيني ومقاوميه، بمتخرجي القانون.

أما المؤسسات الطبية الإسرائيلية فتضم أطباء إسرائيليين يشرفون على تعذيب الفلسطينيين، وذلك بحسب الدكتور يوران بلاشار الرئيس السابق للجمعية الطبية الإسرائيلية، والدكتور إيران دوليف، رئيس قسم “الأخلاقيات” فيها!.

وفي إطار اعتبار التطبيع مع العدو “ضرورة وطنية” يأتي كلام البعض عن لزوم الحوار مع وسائل الإعلام الإسرائيلية من أجل اختراق الوعي الإسرائيلي. غير أن الإسرائيلي لا ينتظر المثقف العربي كي ينوّره في شأن ما ترتكبه دولته أمام عينيه منذ 7 عقود!.

التطبيع ضرورة فنية

المخرج اللبناني زياد دويري صور فيلمه (الصدمة) طوال 11 شهرًا في تل أبيب، وكانت مبرراته والتى تكاد تجمع كل مبررات التطبيع الثقافي أو الفني. المبرر الأول أنه يتطلب عرض “الروايتين” ، وكأن الرواية الفلسطينية المشبعة بالعدالة والمظلومية والثورة، يمكن أن توازي الرواية الإسرائيلية القائمة على الظلم والتزوير والتهجير.

الضرورة الفنية هي التي تحتّم أن يذهب الفنان إلى كيان العدو، وأن يستعين بممثلة إسرائيلية لأنها قبلت أن تتعرى في الفيلم  وكأن على مخرجي أفلام الخيال العلمي عن سطح القمر أن يسافروا إلى القمر.

والمبرر الثاني الذى ساقه أن الفنان لا يُسأل عن أساليبه ، والحق أن الفنان هو أكثر من ينبغي أن يُسأل خاصة إذا تعرض الأمر للتطبيع الفني مع العدو ، لأنه يفترض أن يحمل مسؤولية اجتماعية وسياسية تفوق مسؤوليات غيره من البشر. وقد تم إخلاء سبيل زياد دويري، بعد أن صادرت السلطات اللبنانية جواز سفره الفرنسي واللبناني فور وصوله إلى مطار بيروت الأحد 10 سبتمبر، وأحالته إلى القضاء العسكري بتهمة التطبيع مع إسرائيل على خلفية زيارته لتل أبيب بين عامي 2011 و2012 والإقامة فيها 11 شهرًا لتصوير فيلمه الصدمة، والذي مُنع عرضه في لبنان وبعض الدول العربية.

التطبيع ضرورة إنسانية

المرء بحسب منطق التطبيع، لا ينبغي أن يكون ضد الأديان والأعراق الأخرى هنا يتعمد المطبّعون إظهار خصومهم وكأنهم ضد التواصل مع اليهود كأتباع ديانة سماوية، لا ضد التطبيع مع إسرائيل ككيان احتلالي تهجيري دموي. وهنا لا يتردد المطبعون أحيانًا في التبجح بأن من يطبّعون معهم “إسرائيليون يساريون” وكأن الهوية الإيديولوجية تنزع عن المحتل صفة الاحتلال.

التطبيع ضرورة ثقافية وأكاديمية

هنا يشدد التطبيعيون على أن “العالم قرية كبيرة” وأن المؤتمرات العالمية تحديدًا تضم إسرائيليين. ويتساءلون بخبث: هل تريدوننا أيها المقاطعون أن ننقطع عن العالم؟. والمطبّعون يجهلون أو يتجاهلون أن بإمكاننا الذهاب إلى غالبية المؤتمرات العالمية، إنّما ضمن شروط تمليها علينا واجباتنا تجاه وطننا وأمتنا وإنسانيتنا. فإذا دعينا إلى مؤتمر عالمي، فإن علينا قبل الموافق على الدعوة أن نتأكد من عدم حصوله على تمويل أو رعاية من السفارة الإسرائيلية أو من أية مؤسسة إسرائيلية أخرى، رسمية كانت أو خاصة. ثم علينا أن نتجنّب الاحتكاك بالإسرائيليين هناك، ولو من موقع معارضتهم، رافضين أن “نضع خلافاتنا السياسية معهم جانبًا” تحت أية حجة؛ ذلك لأن “عزل الثقافة والفن عن السياسة” هو تمامًا ما يريده العدو من أجل تغليف احتلاله بورق علمي وحضاري لمّاع.

أشكال وأنشطة التطبيع

التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين و عرب وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية. ويستثنى من ذلك المنتديات والمحافل الدولية التي تعقد خارج الوطن العربي، كالمؤتمرات أو المهرجانات أو المعارض التي يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين، بالإضافة إلى المناظرات العامة. كما تستثنى من ذلك حالات الطوارئ القصوى المتعلقة بالحفاظ على الحياة البشرية، كانتشار وباء أو حدوث كارثة طبيعية أو بيئية تستوجب التعاون الفلسطيني-الإسرائيل.

بعض المجالات والأنشطة التي ينطبق عليها التعريف السابق:
    • إقامة أي نشاط أو مشروع يهدف لتحقيق “السلام” من دون الاتفاق على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف حسب القانون الدولي وشروط العدالة.
    • إقامة أي نشاط أو مشروع، يدعو له طرف ثالث أو يفرضه على الطرف الفلسطيني/العربي، يساوي بين “الطرفين”، الإسرائيلي والفلسطيني (أو العربي)، في المسؤولية عن الصراع، أو يدعي أن السلام بينهما يتحقق عبر التفاهم والحوار وزيادة أشكال التعاون بينهما، بمعزل عن تحقيق العدالة.
    • إقامة أي مشروع يغطي أو يميع وضع الشعب الفلسطيني كضحية للمشروع الإسرائيلي أو يحاول إعادة قراءة تاريخ الصراع بحيث يقدم الرواية الصهيونية كرديف أو موازي للرواية الفلسطينية عن جذور الصراع وحقائق الاقتلاع والتهجير.
  • إقامة أي مشروع يرفض أو يميع أو يتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وخاصة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194، عبر الترويج لما يطلق عليه “النظرة للمستقبل” وتجاوز تاريخ الصراع.
  • مشاركة عرب أو فلسطينيين، مؤسسات أو أفراد، في أي مشروع أو نشاط يقام داخل إسرائيل أو في الخارج مدعوم من أو بالشراكة مع مؤسسة إسرائيلية لا تقر علنا بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أو تتلقى دعماً أو تمويلاً (جزئيا أو كلياً) من الحكومة الإسرائيلية، كمهرجانات السينما ومعارض تقنية المعلومات وغيرها.

الحقوق الفلسطينية فيما سبق تعني الحق في تقرير المصير، بما فيه حق اللاجئين في العودة والتعويض طبقا لقرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948، وكافة القرارات المتعلقة بعروبة القدس، وعدم شرعية الاستيطان ومصادرة الأراضي، وتهجير السكان بالقوة وتغيير الجغرافيا.

تطبيع ثقافي أم هيمنة؟

التطبيع هو جعل العلاقات طبيعية بين طرفين ليست العلاقات بينهما طبيعية حالياً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا، ولا حرج بالتالي من إطلاق تعبير “مقاومة التطبيع” على من يقاومون جعل العلاقات طبيعية بيننا وبين الكيان الصهيوني. وفي اللغة تأتي لفظة تطبيع على وزن “تفعيل”، فهي عملية دائبة وصولاً لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة  فالتطبيع نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو غيرها. لكن بغض النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحداً وهو جعل الوجود اليهودي في فلسطين أمراً طبيعياً، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنىً تطبيعياً. وهنا ندخل في صراع مع من لا يرى في التواجد اليهودي في فلسطين مشكلة، متجاهلاً أنه احتلال ويمثل التجسيد للفكرة الصهيونية في فلسطين، فتراه  يعترف به، وبكل حماسة، تحت ستار مقولات مخترقة تطبيعياً بالتعريف مثل مقولة “الدويلة الفلسطينية” و”الدولة الواحدة” و”قرارات الشرعية الدولية” “وحل الدولتين” وما شابه، لأنها مقولات تتضمن قبولاً إما بالتواجد اليهودي في فلسطين، وإما بدولة إسرائيل بشكلها الحالي أو كدولة من المطلوب إصلاحها ديموقراطياً وسلمياً من الداخل.

التطبيع نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية وغيرها

إذاً جوهر التطبيع هو كسر حاجز العداء مع الكيان الصهيوني بهدف جعل الاحتلال الاستيطاني الإحلالي في فلسطين أمراً طبيعياً أو مقبولاً أو عادياً.

الفن.. بوابة إسرائيل الخلفية للتطبيع الشعبي

بعد زيارة الرئيس محمد أنور السادات للكيان الصهيوني في نوفمبر عام 1977 ، وما تلاها من توقيع اتفاقية الصلح المصرية الإسرائيلية التي عرفت باسم ( كامب ديفيد ) المنتجع الأمريكي الذي وقعت فيه بحضور السادات ومناحيم بيجن والرئيس الأمريكي جيمي كارتر في سبتمبر 1978 ، و نتج عنها الاعتراف الدبلوماسي بين مصر وإسرائيل وتبادل السفراء وفتح السفارات في كل من القاهرة و تل أبيب .
 وبعد 15 عاما وقعت اتفاقية أوسلو في واشنطن 13 سبتمبر عام 1993 بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون و شيمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ، وسميت الاتفاقية على اسم العاصمة النرويجية أوسلو ، لأن المحادثات السرية بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي جرت فيها منذ عام 1991 عقب مؤتمر مدريد . وقد نتج عن هذه الاتفاقية عودة غالبية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية الأخرى وأغلب أجهزتها بما فيها الشرطة المدنية إلى قطاع غزة والضفة الغربية .

بعد التطبيع الرسمي المصري (كامب دفيد) فتح الكيان الصهيوني جبهة التطبيع الثقافي مع الكتاب والسينمائيين والأكاديميين العرب، بدعم من الأنظمة العربية، وهذا النوع من التطبيع أخطر من تطبيع القيادات السياسية لأنه يستهدف الثقافة والتاريخ والوعي الجمعي، وكل ما لم تتوصل إليه عمليات التطبيع الرسمي مع مصر والأردن، لذلك اعتبره البعض “التطبيع النَّاعم”، الذي يستهدف العقول وغسل الأدمغة والإنسلاخ عن التاريخ تدريجيا. ولا يغفل الكيان الصهيوني عن أي وسيلة يستطيع من خلالها اختراق عقلية المواطن العربي؛ للتأثير على قناعته السياسية وعقائده الدينية تجاه عدائه مع إسرائيل، في المراحل السابقة كانت إسرائيل تتخذ من الحروب وسيلة قسرية لفرض هيمنتها على العرب والمسلمين، فخاضت الكثير من الحروب في فلسطين ومع مصر وسوريا ولبنان، ولكن يبدو أن كلفة هذه الحروب مرتفعة، وتترك ندوبًا في الشخصية العربية معادية لإسرائيل لا يمكن محوها بسهولة.

لا يغفل الكيان الصهيوني عن أي وسيلة يستطيع من خلالها اختراق عقلية المواطن العربي؛ للتأثير على قناعته السياسية وعقائده الدينية تجاه عدائه مع إسرائيل

في الآونة الأخيرة ومنذ ست سنوات، أي مع بداية الربيع العربي، اعتمدت إسرائيل على تغذية حروب الوكالة في المنطقة، حيث كانت تدعم طرفًا من أطراف الأزمة السورية ضد الطرف الأخر، والهدف بالطبع إنهاك سوريا ككل واستنفاد قوى المقاومة. أدركت إسرائيل أن مسارات القوة الخشنة والحروب عرضتها لانتكاسات كبيرة كحرب غزة وحرب لبنان 2006. لذا لم تهمل خيار القوة الناعمة، وهو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد، لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، ويبدو أن بوابة الفن هي أحد المنافذ المهمة لهذا الغزو الناعم .

المطبّع الأول 

في نهاية عام 1993 وبعد إعلان اتفاقية أوسلو أعلن على سالم أنه يفكر فى زيارة إلى إسرائيل بسيارته لتأليف كتاب يجيب عن سؤالين: “من هم هؤلاء القوم؟ وماذا يفعلون؟” ونشر مقالًا فى مجلة الشباب المصرية بعنوان “السلام الآن” قال فيه، أن الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يشكل لحظة نادرة فى التاريخ، إنها لحظة اعتراف الأنا بالآخر، أى أنا موجود وأنت أيضا موجود، الحياة من حقى ومن حقك الحياة. وفى الحادية عشرة من صباح الخميس 7 أبريل 1994، بدأ رحلته مستقلا سيارته من العريش إلى رفح ومنها إلى إسرائيل. وقد قوبلت زيارته ردود فعل متباينة في صفوف المثقفين المصريين تجاه مسألة التطبيع الثقافي مع اسرائيل واستنكار واسع ومقاطعة له في مصر وأغلب الأقطار العربية .

وكان سالم قد أعلن دعمه لمبادرة الرئيس الراحل أنور السادات في نوفمبر 1977 بشأن السلام بين العرب وإسرائيل، وأيد زيارة الرئيس المصري للقدس، وكان داعما صريحا للتطبيع، مما أدى إلى نفور وكراهية الكثير من الكتاب والمثقفين والنقابيين له. وكان من أشد المؤيدين للتطبيع مع إسرائيل من بين الأدباء العرب، ولم يتنازل عن موقفه هذا رغم حجم الإدانة والرفض والاستنكار الذي تعرض له موقفه والتي انتهت بمحاولة طرده من جمعية الأدباء المصرية، غير أنها لم تتم لأسباب قضائية ولكنه عاش أجواء عدائية مع عدد كبير من زملائه وغالبية الشعب المصري. وفي يونيو 2005 قررت جامعة بن جوريون في النقب منحه الدكتوراه الفخرية، لكن الحكومة المصرية منعته من السفر لحضور الحفل واستلام الجائزة. كما قدمت له مؤسسة “تراين” الأميركية جائزة “الشجاعة المدنية”، وتسلمها في نوفمبر 2008 بمقر إقامة السفير الأميركي بلندن.

‫وقد اعتبر فاروق خورشيد رئيس اتحاد الكتاب المصريين في ذلك الوقت التي كانت من أولى المؤسسات النقابية التي اعلنت رفضها لاتفاقيات كامب ديفيد أن “الاتحاد لا يزال متمسكا برفض التطبيع مع اسرائيل وزيارة علي سالم لن تغير من الأمر شيئا فهو لا يمثل إلا نفسه”. ‫وأضاف في تصريح لوكالة فرانس برس “نحن في الاتحاد وقفنا ضد أية محاولة للتطبيع, وواجهنا الذين حاولوا زيارة اسرائيل وتطبيع العلاقات معها وقمنا بفصل علي سالم من عضوية الاتحاد بعد زيارته لإسرائيل وعدم اعتذاره عن هذا الموقف”. ‫وكان اتحاد الكتاب المصريين قام بفصل علي سالم من عضويته في مايو 2001 بعد قيامه بزيارة أولى لاسرائيل 2.

‫ من جانبه ذهب الكاتب الروائي صنع الله ابراهيم إلى حد اتهام سالم بأنه “يعمل لصالح الموساد بشكل أو بأخر لأنه يخدم خططهم للتوغل في الحركة الثقافية المصرية وإضفاء نوع من العادية على تصريحات ومواقف وزيارات التطبيع”.

‫واستهجن أيضا الروائي جمال الغيطاني زيارة سالم “في الوقت الذي يقوم فيه كتاب أوروبيون وأمريكيون وأفارقة بزيارة الشعب الفلسطيني وقيادته للتضامن معهما في مواجهة المذابح التي يرتكبها الاسرائيليون”. ورأى أن هذا يطرح “علامات استفهام كبيرة حول أيهم أحق بالزيارة دولة اسرائيل المعتدية والقمعية أم الضحية” مشيرا إلى أن أي “كاتب حقيقي لا بد أن يدفعه ضميره للقيام بدعم الضحية وليس الجلاد”.واعتبر الغيطاني أن علي سالم “لم ينجز أي نص مسرحي له قيمة يعتد بها خلال السنوات العشر الأخيرة”. ووصفه بأنه “مجرد كومبارس يلعب في المساحة الخلفية للمسرح للدفاع عن إسرائيل في الفضائيات العربية ويبذل الجهود الجبارة في تحقيق أهدافه هذه”.

وفي المقابل اعتبر جمال عبد الجواد الخبير في مركز الدراسات السياسية التابع لمؤسسة الاهرام أن علي سالم “كاتب مهم ولم يرتكب مخالفة قانونية بهذه الزيارة”. وقال “هناك رؤيتان حول هذا الموضوع، واحدة لمؤسسات نقابية تمتلك التأثير والقيمة الأدبية والمعنوية على أعضائها إلا أنها غير ملزمة وموقفها معارض للتطبيع ولزيارة اسرائيل لأنها ترى أن ذلك يضر بالموقف العربي وبحل القضية الفلسطينية”. والأخرى ترى أن “العلاقة مع إسرائيل مفيدة وقد تسهل حل القضية الفلسطينية وتحقق السلام في المنطقة وتحقق مصالح الشعب المصري”. ‫واعتبر عبد الجواد أنه “كان من الخطأ وقف العلاقة مع اسرائيل, لأنه ترك الفرصة لليمين الاسرائيلي للاستفراد بالمجتمع الاسرائيلي خصوصا خلال السنوات الأربع الاخيرة, حيث اتجه المجتمع الاسرائيلي إلى اليمين أكثر”. وقال إن “زيارة علي سالم تصب في اتجاه تغيير الرأي العام الإسرائيلي ولا أعتقد أنها خاطئة”.

وأيده في هذا الرأي أمين مهدي عضو جمعية القاهرة للسلام مبررا ذلك “بأن الجهات الرسمية في مصر تقوم بالتعامل مع اسرائيل وتبادل الزيارات”. ‫وتساءل في تصريح لصحيفة “المصري اليوم” “كيف نتعرف على إسرائيل إلا بالتعامل معها كمثقفين دون اللجوء إلى المترجمات العبرية الضعيفة”. وأضاف “أن علي سالم من حقه أن يختار ما يشاء حتى ولو كان خاطئا, لأن حق المعرفة مكفول حتى ولو كان مع خصم أوعدو” متهما “الدكتاتوريات العربية” بانها “حليف موضوعي غير مباشر لإسرائيل”. وأوضح ان “ما يريده اليمين الاسرائيلي من عزلة في المنطقة هو هدف من أهداف الدكتاتوريات العربية, لأن اليسار الاسرائيلي يطالب بالاندماج في المنطقة الأمر الذي يقلق هذه الدكتاتوريات ويقلق اليمين الاسرائيلي”.

‫ومما لايعرفه الكثيرون أن على سالم  هو مؤلف مسرحية “أغنية على الممر”، التى روى فيها بطولات وحياة أبطال مصر من الجنود على الجبهة فى الحرب ضد المحتل الإسرائيلى، والتى طاف بها محافظات مصر، لحشد الروح المعنوية لمواجهة الاحتلال عقب نكسة 1967، يعتبر النص المسرحي “أغنية على الممر”، الذي تم تحويله إلى فيلم سينمائي سيناريو مصطفى محرم، وإخراج علي عبد الخالق، من أفضل الأعمال التي تناولت الحرب، من خلال جيل كامل من الشباب أفنى أجمل سنواته في الصحراء. في هذا العمل لم يُشر علي سالم إلا إلى الحالات النفسية وتحولاتها، التي يمر بها الجنود، أحلامهم وأوهامهم، لحظات اليقين، وأيام الوهم، بين ما يريدون تحقيقه وما يحدث بالفعل. الحدث الرئيس في العمل يأتي من خلال حصار فصيل من فرقة مشاة، يدافعون عن أحد الممرات المهمة والحيوية، ويرفضون التسليم بالهزيمة، رغم انقطاع المؤن والاتصالات، ذلك وقت حرب 1967، فهم بمفردهم في مواجهة الموت، هذه الحالة تكون هي المحرك لكل فرد منهم، بأن يستعيد لحظات حياته الفارقة، ماذا سيفعل إذا ظل على قيد الحياة، وماذا فعل والموت قريب؟ وما بين الإحباط والأمنيات يعيدون النظر في كل ما حدث حتى هذه اللحظة. شخصيات العمل تمثل أطياف المجتمع المصري، من عامل وفلاح وفنان وجامعي. وفي النهاية يموت ثلاثة منهم فداءً للحظة اليقين التي تحققت في أكتوبر 1973. وكما تنبأ الكاتب كما “ذكر بعض النقاد في فيلمه” بالنصر تنبأ بل وشارك بزلزال القيم الذي حدث بعد ذلك، خاصة في النصف الثاني من السبعينيات في مسرحيته الأكثر جماهيريا “مدرسة المشاغبين” والتي وقعت وكاتبها في تناقض حاد عند استقبالها، فعلى قدر الجماهيرية الكبيرة، جاء الانتقاد الحاد، بأنها مسرحية أفسدت الجيل والأجيال اللاحقة، وحطّت من قيم المجتمع وأخلاقياته، فما كان من علي سالم إلا الرّد بعبارة “لا يمكن لمسرحية أن تفسد شعباً أو أن تصلح شعباً” ، كان آخر تصريح له قبل يومين من وفاته (22/9/2015) بأن “إسرائيل ليست عدوا، ولا تمثل أي تهديد للأمن القومي المصري”.

وفي تعليقه على وفاة علي سالم  22/9/2015 إثر نوبة قلبية مفاجئة في شقته بحي المهندسين في القاهرة، عن عمر يناهز79 عاما ، قال الكاتب الصحفي وائل قنديل في تدوينة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، “إنني لا أشمت في الموت، ولكني سعيد برحيل جندي يحارب من أجل إسرائيل على أرض مصر

وبعد وفاته وجهت جامعة تل أبيب الدعوة لحضور احتفالية لتأبين الكاتب المصري علي سالم، الذي عرف بمواقفه التطبيعية مع إسرائيل.

لم يكن على سالم أخر المطبعين مع إسرائيل بل لحقه الكاتب والمفكر لطفى الخولي ، يقول الشاعر والكاتب الأردني جميل أبو صبيح في مقال له بعنوان “التطبيع الثقافي أيضا خيانة” نشر بجريدة الدستور في عمان بتاريخ ١٤ أكتوبر ٢٠١٥ ، بعد ظهور جماعة كوبنهاجن التطبيعية بوقت قليل التقيت في الدوحة بعرّاب الجماعة، الكاتب لطفي الخولي، بعد انتهائه من حوار ببرنامج الاتجاه المعاكس، الذي شاركه به الكاتب فخري قعوار. كان لطفي الخولي متبنيا مسألة التطبيع، متراجعا عن مواقفه السابقة أيام الحقبة الناصرية، بينما تبنى الكاتب فخري قعوار الرد المقاوم للتطبيع بصفته رئيسا لرابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. رأيت بلقائي لطفي الخولي فرصة لمحاورته بأن التطبيع الثقافي مع مثقفي الكيان الصهيوني خيانة لأمتنا ونضالها ولثقافتنا أيضا، بخاصة انه مثل مكانة متقدمة في خندق الناصرية، فما كان منه إلا أن دعاني لكتابة مقالة من ألف كلمة حول الموضوع، لنشره بصفحته المتخصصة لحوار التطبيع بصحيفة الأهرام، أدركت خلالها فورا كيف يتم سحب المثقفين إلى الجانب الآخر بإغراء الكتابة بصحيفة كبرى. أثبت فخري قعوار جدارته بموقفه المقاوم للتطبيع الثقافي، وبقي لطفي الخولي مصرا على موقفه. أعني هنا “بحسب كلام أبو صبيح” أن التطبيع لا يأتي من فراغ أو مجرد رغبة، وإنما له مداخلات أخرى لعل أهمها الإغراء بالمكتسبات الشخصية، فكما أراد الإغراء بالكتابة بالأهرام يوجد أيضا من أخذ مائتي ألف دولار تحت دعوى إقامة مؤتمر للتطبيع، وربما أيضا الوعود بجوائز دولية كبرى، كالتي نالها الروائي نجيب محفوظ، ومحاولات أدونيس الذي تم فصله من الاتحاد العام للكتاب العرب عام 1995 بسبب حضوره مؤتمر غرناطة.

أسماء كثيرة طفت على السطح التطبيعي لطموحاتها الخاصة، سعد الدين إبراهيم عقد مع الصحفي إريه ليفي صفقات بحثية نفسية حول الصراع العربي «الإسرائيلي»، وأنيس منصور المعروف باتفاقه مع حاييم جوردون إجراء لقاءات بين الشباب المصري والإسرائيلي، والمسرحي علي سالم الذي نال الدكتوراه الفخرية من جامعة بن جوريون. والطاهر بن جلون يهنئ الكيان الصهيوني أثناء حضوره معرض الكتاب في القدس  بذكرى إنشائه، وبوعلام  صنصال يحتفل أيضا مع الصهاينة بفطير صهيون المعجون  بالدم الفلسطيني في تل ابيب. كتاب ومسرحيون وفنانون عرب انتهازيون خرجوا على نضال أمتهم وطموح شعوبهم بمواقف شخصية لا تطمح إلا إلى تحقيق طموحات شخصية، وتواصلوا مع آخرين من الكيان الصهيوني اعتقادا منهم أن مغالبق ستفتح لهم في هذا الكون، بينما في حقيقة الأمر مسخرون لصداقات يسخرها الصهاينة لغاياتهم الخبيثة، فقد ذكر بن  جوريون في كتابه «اسرائيل تاريخ شخصي» يندر أن تجد أكاديميا أو سياسيا إسرائيليا لم يتثقف على أيدي الموساد «، يؤكد هذا ما نعرفه عن دولة الكيان أنها دولة من الجيش، لا يوجد فيها مواطن ليس عسكريا أو رجل أمن.

https://www.youtube.com/watch?v=B7Q_pkAeiKY

لذلك فإن سقوط أي مثقف عربي بفخ صداقة أو محاولة التقارب مع أي صهيوني داخل الكيان ولو حتى بطبع دمغة صهيونية على جواز سفره ما هو في الحقيقة إلا مشروع خيانة لأمته وشعبه، كما هو حال السقوط الأخير للمسرحي الجزائري مرزاق علواش بمشاركته بمهرجان حيفا السينمائي. يرمي العدو الصهيوني سنارته المسمومة فيصطاد الإنتهازيين من المثقفين الذين يسهلون له غسل يديه من الدم الفلسطيني وجرائمه ضد الإنسانية، ولو بأرخص الأثمان.. نشر مقالة  في جريدة، أونيل جائزة أدبية، أو مشاركة بمهرجان سيء، أو رشوة مال فاسد..

وليس ببعيد فعل الشاعر البناني سعيد عقل والذى نسب إليه تأليف أغنية زهرة المدائن لفيروز والبعض نسب كتابتها للأخوين رحباني ، سعيد عقل سطع نجمه في ثلاثينيات القرن الماضي. بدأ قوميا عروبيا وانتهى مؤيدا للصهيونية، حتى إنه رحب باجتياح لبنان عام 1982، وتمنى أن يكون في وسعه القتال مع القوات الإسرائيلية. نظم العديد من القصائد التي تتغنى بالشام، ما جعل وسائل الإعلام الرسمية السورية تحديدا تشيد به.غير أنه بدل مواقفه بشكل كامل، وانتقل من النقيض إلى النقيض حين تبنى رؤية معادية للعرب وللقومية العربية، تؤكد أن لبنان ليس جزءا من الوطن العربي، بل إن تاريخه وتراثه الفينيقي هو الأصل، كما تبنى موقفا معاديا للوجود الفلسطيني في لبنان. وصل عداؤه للقضايا العربية وخاصة فلسطين ووجود المقاومة الفلسطينية على الأرض اللبنانية إلى درجة تأييده الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، فكتب في إحدى الجرائد يشكر القوات الإسرائيلية على ما فعلته، ودعا اللبنانيين إلى القتال إلى جانب إسرائيل، مؤكدا أنه كان سيقاتل إلى جانبها لو أسعفته الظروف

بين القاهرة وأورشليم

بين القاهرة وأورشليم كتاب خرج إلى النور ليكشف العديد من الأسماء والأساليب، التي تتبعها السفارة الإسرائيلية مع المصريين المفاجأة الحقيقية هي أن مؤلف الكتاب هو السفير الإسرائيلي الخامس في مصر ديفيد بن سلطان ، الكتاب جاء كتوثيق لما حصل في مصر وكأنها تقارير الرصد اليومية للسفارة خصوصا التقارير التي ترصد ما يكتبه كبار الكتاب المصريين وما تنشره الصحافة اليومية من أخبارالتحركات والاجتماعات الثنائية بين الجانبين، مع إضافة العديد من الافتراضات والفرضيات والآراء الخاصة بالكاتب من وجهة نظره كسفير لدولة اسرائيل . الكاتب ركز على فترة توليه مهامه ” من عام 1992 حتى عام 1996 . إلا أنه تطرق إلى بدايات عهد الرئيس حسني مبارك عام 1981 وصولا إلى بدايات عمل السفير ديفيد كوهين

على الصعيد الثقافي يقول الكاتب أن السلطات المصرية أوعزت لكبار الكتاب بدعم التطبيع والترويج له بإشارته إلى مقالات إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام الأسبق تحت عنوان “مصر بعد السلام” ، ومقالات إبراهيم سعدة “مرحبا بالتحدي”، بالإضافة إلى وصفه الكاتب الكبير نجيب محفوظ بأنه أكبر المطبعين والكاتب لطفي الخولي وما كتبه الكاتب والصحفي أنيس منصور منتصف التسعينيات، بالاضافة إلى المؤرخ الدكتور عبد العظيم رمضان والمفكر علي السمان والكاتب المسرحي على سالم، ويتناول سلطان فى كتابه ماقام به مع وزير الثقافة فاروق حسني لتنفيذ البنود التطبيعية الثقافية على هامش اتفاقية السلام بين البلدين وأن الوزير المصري وحسب زعمه أكد له موافقته وتأييده للتطبيع كاشفا المراحل التي وضعها حسني لتنفيذ البنود التطبيعية بدءا من تفعيل علاقات المتاحف والآثار بين البلدين وصولا إلى المعارض والأنشطة الفنية، أما أكاديميا فقد كشف سلطان التعاون بينه وبين الدكتور مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة عام 1994 للوصول إلى تعاون أكاديميي للبلدين إلا أن الأمر لم يكن بهذه السهولة وظلت النتائج ضعيفة . الكتاب صدر عن دار نشر ابن لقمان بالقاهرة قام بترجمته عن اللغة العبرية عمرو زكريا ونزل الاسواق تحت عنوان “بين القاهرة والقدس” . يعتبر الكاتب ديفيد سلطان السفير الخامس الأبرز بين مجموع السفراء، عين فى 22 أغسطس عام 1992 وهو من مواليد الإسكندرية عام 1938، يتحدث المصرية بشكل مدهش، وكان مؤمنا بالتطبيع لأقصى حد، وتكمن خطورته فى قدرته على جذب المثقفين، بما عرف عنه من غزارة للمعلومات.

انسحابات ومقاطعات غنائية

النشاط الإسرائيلي في مجال الفن أخذت وتيرته تتصاعد خلال هذا العام، فقد أعلن عدد من الفنانين العرب عن انسحابهم من مهرجان “بوب كولتور”، الذي أقيم في العاصمة الألمانية برلين، من 23 إلى 25 أغسطس، بسبب رعاية سفارة الاحتلال الإسرائيلي له، ومن بين الفرق المنسحبة الفرقة الموسيقية المصرية “إسلام شيبسي”، كما نشرت فرقة “مزاج” السورية بيانًا، أعلنت فيه عن مقاطعتها للمهرجان، وأكدت أن المشاركة اعتراف، ونحن لن نعترف، في إشارة إلى مساهمة السفارة الإسرائيلية، مع العلم أن إسرائيل كانت تخفي هويتها كمنظمة لهذا المهرجان، وعندما كشفت عن رعايتها له انسحبت فرق عربية كثيرة، الأمر الذي أفشل سياسة الأمر الواقع التي أرادت فرضها.

وفى مهرجان «طنجة جاز» أكدت إدارة المهرجان على موقعها الرسمي إحياء الموسيقية الإسرائيلية، نوعام فازانا حفلاً هذا العام بقصر المؤتمرات «قصر مولاي حفيظ» رغم الرفض الذي عبر عنه العديد من الرموز الإعلامية والحقوقية في المدينة.

وقالت الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني بطنجة في بلاغ “إنها تدين بشدة هذه المحاولة التطبيعية التي اعتبرتها مكشوفة، وطالبت منظمي المهرجان بالتراجع فورًا عن هذه الدعوة المشبوهة”، وأكدت الجمعية أن هذه الخطوة التطبيعية المجانية سلوك خطير يستهين بمشاعر القوى الحية للشعب المغربي، ويلقي بالمسؤولية الجسيمة على عاتق السلطات التي تسمح بهذه الممارسة.

المفارقة هنا أن المغنية الإسرائيلية كانت تخدم في سلاح الجو الإسرائيلي الذي طالما قتل الأطفال، وشرد آلاف الفلسطينيين، وانتهك العديد من الأجواء العربية كسوريا ومصر.

محاولات إسرائيل في هذا المجال لم تقتصر على اختراقها للدول العربية التي ترتبط بها باتفاقيات سلام أو غير ذلك، بل إن هذه الاختراقات طالت أيضًا العمق الفلسطيني، حيث نحجت تل أبيب في شهر إبريل الماضي في استقطاب مغنية فلسطينية مسلمة للغناء في احتفالية إسرائيلية بيوم وطني معروف لديهم باسم “يوم الاستقلال”، وهو اليوم الذي شهد نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، وهو نفس اليوم الذي يلقبه الفلسطينيون بـ”يوم النكبة”، والذي شهد تواجد العدو الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، وتقام هذه الاحتفالات على جبل “هرتزل” الموجود في القدس، وفي هذا اليوم من كل عام يقوم أحد مطربي إسرائيل بإحياء هذا الحفل الغنائي، ولكن هذا العام وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل تتغير مفاهيم إحياء هذا الحفل، حيث قامت المطربة الفلسطينية “نسرين قادري” بإحياء الحفل والغناء أمام الجمهور الإسرائيلي، وكانت قادري قد فازت بأكبر مسابقة لاختيار الأصوات الشابة الجديدة في عالم الغناء الشعبي بإسرائيل، وهي “إيال جولان يناديك”، كما أنها عبرت عن فخرها بأن تكون أول متسابقة فلسطينية تفوز بهذا اللقب، بعدما غنت أغنية باللغة العبرية كُتبت في ذكرى الجنود الإسرائيليين القتلى.

https://www.youtube.com/watch?v=aQBwm0W2YAo

هكذا تحول الغناء من مقاوم للعدو والذى تغنت بها الشعوب مع المطرب الفلسطينى مارسيل خليفة إلى التطبيع والارتماء فى أحضان العدو بالأمس والذى بات صديقا اليوم على يد المطبعين.

اغتيالات رافضى التطبيع فى فلسطين

كانت الحركة الصهيونية قد عمدت منذ ولادتها إلى طمس تاريخ وثقافة ووجود الشعب الفلسطيني، والوجود العربي وكذلك الحضارات السابقة للحضارة العربية في فلسطين، وبما أن الصهيونية حركة استعمارية استيطانية فقد استفادت من أساليب الإستعمار البريطاني والفرنسي والإستيطان الدموي للغزاة الأوروبيين في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا، وجنَّدت أكاديميين وباحثين ومثقفين ومخرجين سينمائيين كبار في هوليود لتقديم اليهودي أحيانًا والصهيوني أحيانًا أخرى بمثابة المظلوم تاريخيا وبمثابة المنقذ للإنسانية أو البطل الخيِّر مقابل العربي الشرِّير، ولكن العديد من المثقفين المناضلين الفلسطينيين والعرب تفطنوا لأهمية هذه الجبهة الثقافية وتصدّوا لمخططات الكيان الصهيوني، ولم يحاول الكيان الصهيوني الرّد بالحجة على هؤلاء المثقفين الثوريين أو التقدميين، بل خطط (على مستوى رئاسة الحكومة وجهاز المخابرات) لاغتيالهم في البلدان العربية وفي أوروبا ، منهم غسان كنفاني أحد أبرز أعلام الأدب والثورة الفلسطينية، عاش النكبة وهو في سن الطفولة، وعايش معاناتها بكل وقائعها السياسية والاجتماعية، رسخ فكرة المقاومة في أدبه، وواكب حياة الفلسطينيين وكتب عن مآسيهم من منطلق إخلاصه لقضيته الإنسانية الكبرى فلسطين وللقضايا الإنسانية الأخرى. اغتيل كنفاني من قبل الموساد الإسرائيلي في 8 يوليو1972 بانفجار سيارة مفخخة في العاصمة اللبنانية بيروت، وبحسب نتائج لجنة التحقيق التي شكلتها الجبهة الشعبية فقد نتج الانفجار عن عبوة ناسفة قدرت زنتها بتسعة كيلوغرامات وضعت تحت مقعد السيارة وانفجرت عند تشغيلها.

بعد اغتيال غسان كنفاني على أيدى المخابرات الإسرائيلية . تأثر الشاعر والمناضل كمال ناصر بجنازة الشهيد غسان ،حيث قال في ذلك اليوم: “يا سلام. هكذا يكون عرس الكاتب الشهيد..” وتساءل: ترى هل ستتاح لي هذه الجنازة يوماً؟ وفي العاشر من أبريل 1973 تم اغتيال كمال ناصر أحد أبرز قادة الثورة الفلسطينية ومفكريها على يد المخابرات الإسرائيلية في بيروت مع اثنين من رفاقه وهما كمال عدوان وأبويوسف النجار. وكان لكمال ناصر جنازة بها آلاف من المشيعيين كالتي اشتهاها، وفقد تبين أنه أوصى منذ استشهاد غسان بأن يدفنوه إلى جانبه. وهكذا دفن كمال ناصر المسيحي البروتستانتي في مقبرة الشهداء الإسلامية. وكان آخر ما كتبه لمجلة «فلسطين الثورة» افتتاحية بعنوان «القيادات تتغير والأشخاص يزولون وتبقى القضية أكبر من الجميع».

ناجى العلي .. تم اغتيال الرسام الفلسطينى ناجي العلى بلندن فى 29 أغسطس 1987 في لندن متأثرا برصاصة أطلقت عليه في 22 يوليو/تموز من نفس السنة، في عملية اغتيال لم تتحدد بشكل قاطع الجهة التي قامت بها، ودفن في لندن، خلافا لرغبته بالدفن في مخيم عين الحلوة حيث قبر والده ، بدأت رحلته مع الرسم داخل الزنزانة، فخلال اعتقاله من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ملأ جدران السجن بالرسوم، ثم كرر الأمر حين اعتقله الجيش اللبناني. نقل تجربته على جدران الزنزانة إلى جدران مخيم الحلوة، فشاهد الصحفي غسان كنفاني خلال زيارة للمخيم بعض رسومه، ونشر أحدها في العدد 88 من مجلة “الحرية” في 25 سبتمبر 1961 لتبدأ رحلة غسان ورفيق دربه “حنظلة” على صفحات الجرائد.

توفي ناجي العلي يوم 29 أغسطس 1987 في لندن متأثرا برصاصة أطلقت عليه في 22 يوليو من نفس السنة، في عملية اغتيال ، ودفن في لندن، خلافا لرغبته بالدفن في مخيم عين الحلوة حيث قبر والده.

أهداف التطبيع… إسرائيلياً

التطبيع في المفهوم الإسرائيلي هو تكريس الحاضر، والانطلاق منه، وتجاهل الماضي والتاريخ والتراث والحضارة، فالتطبيع قد يكون أخطر نتائج اتفاقيات التسوية بين النظام العربي الرسمي وإسرائيل، وسينعكس هذا التطبيع حتما في المناهج المدرسية الرسمية، التي ستكون ملزمة بإجراء التحويرات فيها، بما لا يتناقض مع الاتفاقات المعقودة . فالتطبيع يستهدف المناهج المدرسية التي تخص الأجيال المعاصرة واللاحقة، لتنسجم مع الاتفاقات السياسية التي كرّست الاعتراف بالآخر على حساب جزء من الذات العربية في فلسطين، وبذلك يضعف منهج التربية الرسمي مناعة الأجيال القادمة تجاه عدوها التاريخي، ويصادر إرادتها في إنجاز ما عجزت أجيالها السابقة عن إنجازه من أهداف التحرر. فالتطبيع يبقى العامل الحاسم على المدى البعيد، لأن الصراع يترسخ في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها القومي، فتصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والدينية والحضارية دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع. وبالتالي فإن الإصرار الإسرائيلي على التطبيع، ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه والشخصية القومية.

التطبيع كما تنطوي عليه المخططات الإسرائيلية يهدف في التطبيق العملي إلى:

أولاً: إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية عبر تزييف الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي أقحمت إسرائيل في الوطن العربي.

ثانياً: التوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية لإسرائيل، بما في ذلك الوارد منها في بعض الكتب المقدسة كالقرآن الكريم، حيث كثفت إسرائيل جهودها العلمية لرصد وتسجيل وتحليل المفاهيم الإسلامية المؤثرة في الصراع مع “الصهيونية” كأحد أبرز وجوه العناصر البنائية للذهنية العربية.

إن الإصرار الإسرائيلي على التطبيع، ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه والشخصية القومية.

ثالثاً: أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسس للمشروع الصهيوني الموجه لتدمير الثقافة والهوية الحضارية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى داخل كل بلد عربي عبر إذكاء روح التناحر بين المنتمين للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات المختلفة من جهة، ومحاولة تحقيق السيطرة الثقافية والعلمية والتقنية من جهة أخرى.

رابعاً: تدمير المقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية، ولهذا فهو في نظر خبراء إسرائيل وباحثيها وقادتها العنصر الأهم والأكثر إلحاحاً في فرض الهيمنة “الصهيونية” على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائياً تعبيراً عن الهزيمة الحضارية والانهيار القومي والانتحار الجماعي.

يمكن الإشارة للعديد من الشواهد التي تؤكد سريان التطبيع لبعض النخب السياسية، فالتطبيع بين العرب والإسرائيليين يستهدف مفردات قاموس خطابهم السياسي والثقافي، فبتنا نتحدث عن إعادة الانتشار، بدلاً من الانسحاب أو جلاء الاحتلال، ووقف الاستيطان بدلا من إزالته، ولم نعد نستخدم كلمة العدو الصهيوني، وتردد ألسنتنا دون وعي، المسميات الإسرائيلية للأماكن العربية، ومن يدري أي صفات بدل “العدو” سنطلقها على إسرائيل في وقت لاحق.

ويلاحظ على الخطاب الرسمي والثقافي العربي أنه يتسم بنبرة استعطافية توحي وكأن الطرف الإسرائيلي هو الثابت وصاحب الحق، ونحن الطارئون، كما يختصر خطابنا حقوقنا في حدود الضفة والقطاع كحد أقصى، متجاهلاً تماماً حقنا التاريخي في فلسطين كاملة.

https://www.youtube.com/watch?v=1cm_GtpM9-I

كما أن التطبيع يستهدف إعادة صياغة مفاهيمنا ومناهج تفكيرنا، بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وإعادة النظر في الكثير من قضايا تاريخنا العربي، وإعادة قراءة، وربما كتابة، تاريخنا الماضي والمعاصر، فنعيد النظر في موقفنا من الحركة الصهيونية، والطبيعة الاستعمارية العدوانية لإسرائيل، ودور الغرب الاستعماري، فيما وصل إليه حال أمتنا من التخلف والتجزئة ونهب الثروات. لنلاحظ مثلاً ما جرى للثقافة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو، فقد تراجعت عملية الإبداع من حيث الإنتاج، في المجالات الأدبية، الشعر، الرواية، المسرح…الخ، للدرجة التي توقف فيها إنتاج الأغاني الثورية التي تمجد الوطن والنضال، وتحفز روح المقاومة.

لقد هدف التطبيع في المحصلة لغزو وتدمير قلعة الدفاع عن روح الأمة وحراس أحلامها، وحملة رسالتها، وهم المثقفون، والمفكرون، وكسبهم، إن أمكن، من خلال الحوار معهم، وإقناعهم بصورة “الإسرائيلي الطيب”، الذي يؤمن بالتعايش مع العرب، ودعوة المثقفين للاطلاع على التجربة الإسرائيلية، للانبهار بالمجتمع المتطور، عبر دعوات للاستراحة في منتجعات سياحية، ومنح للتفرغ الإبداعي، وتبادل الزيارات لاحقاً بين المثقفين من الجانبين، والنتيجة، تسويق إسرائيل ثقافياً للعالم العربي.

نستطيع وضع جملة من العوامل أدت إلى كبح جماح التطبيع مع إسرائيل، أبرزها:

1- التأثير الشعبي الممتد من جاكرتا إلى المغرب، والنشاط القوي للجاليات العربية والإسلامية في الغرب، التي تمكنت من كسب أنصار جدد للقضية الفلسطينية، وإعادة الزخم لمسألة مقاومة التطبيع، بوصفها إحدى وسائل مكافحة إسرائيل سلمياً، والآلية المتاحة الفعالة في غياب أخريات لا تلبي طموحات الناشطين الفاعلين.

2- التأثير الإسرائيلي، الناتج عن صورة الرعب التي ظهرت بها إسرائيل، وهي ذاتها التي شجعت على مكافحة التطبيع نفسه، ولم يكن ممكناً لها أن تمحوها، وقد امتدت صورها عبر الإعلام الفضائي والإنترنت في العالم كله، بما لم يدع أي مجال لدعوى التطبيع، ويضاف لذلك نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي خلفت الأكثر تشدداً وصلفاً بما لا يوفر أي أرضية للمطبعين العرب.

3- تنامي التأييد للمقاومة الفلسطينية بوصفها آلية ناجعة للتصدي للعدوان الإسرائيلي، وتراجع مشروع التسوية الفلسطيني، وتواري عرَّابيه، وتبعثر ملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، ولا عجب في أن تأييد المقاومة أكَّده أكثر من تقرير غربي واستطلاعات فلسطينية.

  • هكذا نجد أن هناك من يؤيد التطبيع دون أن يكون مبنياً على خلفية سياسية، أو بما يخدم مصلحة الأمة، بل يؤيد هؤلاء التطبيع لأنهم يعتقدون أنهم بموقفهم هذا سيرضى عنهم النظام الذي ينتمون إليه، أو يكون نكاية بخصمهم السياسي المحلي الذي هو دوماً ضد إسرائيل، وبالتالي يطبقون مقولة “عدو عدوي صديقي”.
  • ومنهم من يساند التطبيع لأنهم يأملون جني أرباح اقتصادية بالتعامل مع إسرائيل، وهؤلاء من أصحاب رؤوس الأموال وسماسرة الشركات العالمية الكبرى الذين لا يهمهم إلا الربح المادي فقط، خصوصا أن السفارات أو مكاتب الاتصال الإسرائيلية مستعدة لتقديم إغراءات مالية كتذاكر سفر أو منح مالية ودعوات يسيل لها لعاب ضعاف النفوس ومن يتطلع للشهرة. ربما يتذكر كثير من المصريين شركة موبينيل والتى اتهمت بالتجسس لحساب إسرائيل في أغسطس 2011، في قضية شهيرة “عرفت بأبراج موبينيل على الحدود المصرية الإسرائيلية”، التي اعترف فيها نجيب ساويرس نفسه -بعد محاولات للنفي- ولكنه ألقى المسؤولية على موظفين بالشركة، وتم تحويل القضية في عهد المجلس العسكري في عام 2012 إلى محكمة جنح اقتصادية، وحكم فيها بالسجن 3 -5 أعوام، مع إيقاف التنفيذ، وغرامة على خمسة موظفين بالشركة وانتهت القضية.
  • ويمكن أن نضيف نوعاً آخر من المطبعين وهم المتطرفون من الأقليات العرقية أو الدينية الذين يجدون في إسرائيل حليفاً لهم ضد ما يعتبرونه الهيمنة العربية أو الإسلامية.

أخيراً… من المهم الإشارة لمدى تصاعد الحالة الشعبية الرافضة على امتداد العالم العربي في “فرملة” اندفاعات التطبيع، بل في إعادة تشكيل مفاهيم جديدة للمواجهة من خلال أطر غير رسمية وتجمّعات شعبية، رغم أن مستويات التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وصلت إلى قيام بعضها أو مؤسساتها أو أشخاصها بتنفيذ مشاريع تعاونية ومبادلات تجارية واقتصادية مع نظرائهم الإسرائيليين

ما بعد التطبيع ووسائل المقاومة المعطلة

وفى مقال له كتب د. سيف عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية تعليقا على الرسالة التى تلقتها هواتف ملايين المصريين يوم 8 مارس 2016 “عميلنا العزيز مرحبا بك في أورانج، تم تغيير العلامة التجارية لشبكة موبينيل إلى أورانج”: إن  ما حدث في مسألة أورانج لا يمكن فهمه بمعزل عن عمليات التطبيع التي تجرى على قدم وساق بين نظام المنقلب والعدو الصهيوني على كافة المستويات السياسية والدبلوماسية والأمنية والدفاعية والاقتصادية والثقافية والرياضية.. الخ، ولكن قصة مختلفة كثيرا عما سبق؛ نظرا لارتباطها بعموم المصريين الرافضين للتطبيع على المستوى الرسمي، ولكنهم غير قادرين على فعل شيء أمام نظام يحكم بقوة السلاح ولا يتورع في الإتيان بأعمال الترهيب والترويع والقتل والقمع والتعذيب.. الخ. إن ما حدث في قضية أورانج أخطر مما يحدث على المستوى الرسمي؛ لارتباطه بعموم المصريين الرافضين للتطبيع مع الكيان الصهيوني على كافة المستويات، فإذا بهم يفاجأون بانتقال خدمات هواتفهم إلى شركة متواجدة في إسرائيل تقدم خدماتها للمستوطنات الإسرائيلية عيانا بيانا جهارا نهارا وسط استنكار عالمي وحملات أوربية لمقاطعتها، إذا بهم في قلب عملية تطبيع غادرة تمت بعيدا عنهم على مرأى ومسمع من مؤسسات دولة يحكمها ويتحكم فيها جنرالات، إذا بهم يستقبلون رسائل التطبيع إلكترونيا ” أهلا بكم في أورانج”، هكذا دون اختيار منهم أو سابق معرفة بهوية الشركة التي تحولوا إليها في دقائق. إن ما حدث لا يمكن وصفه إلا بعملية “تطبيع ماكرة خادعة غادرة ” تمت من وراء ظهر المصريين، تستهدف كسر ما تبقى لديهم من مخزون حضاري مقاوم للتطبيع بالفطرة، وهو أمر لا يمكن فهمه بعيدا عن مبادرات التطبيع التي خرج بها مثقفون مصريون ورياضيون مؤخرا، مطالبين بالتطبيع العلني مع إسرائيل، وكذلك لا يمكن فهم هذا الأمر بعيدا عن سلوك النظام الانقلابي القائم في علاقته بإسرائيل على كافة المستويات. لقد وصلت عمليات التطبيع الرسمي حدا فاق كل سقف بما فيها سقف مصطلح التطبيع نفسه، بحيث يمكن القول إن هذا المصطلح قد فقد قدرا كبيرا من قدرته التفسيرية التي تميز بها في الماضي، نظرا للتحولات النوعية التي جرت في هذه المساحة المهمة على مستوى السياسة الخارجية المصرية تجاه القضية الفلسطينية والعدو الصهيوني، الأمر الذى جعلنا نرشح مفهوما جديدا لوصف وتفسير ما يجرى في هذه المرحلة أسميناه “ما بعد التطبيع”؛ لأن ما يحدث على المستويات المختلفة تخطى الحالة الطبيعية في علاقات الدول ببعضها، إلى حالة أقرب للتبيعة للعدو صراحة، وليس أدل على ذلك سوى ما نتابعه من تصريحات شبه دورية رسمية وغير رسمية تخرج من الكيان الصهيوني تتفاخر بأن السياسات التي يتخذها السيسي هي من بنات أفكارهم وتعليماتهم وضغوطهم، كما في ملف إغراق الأنفاق، وهو أمر بالغ الخطورة، ويحتاج وقفة على كل المستويات، خاصة عندما تصل عمليات التطبيع إلى المستوى الشعبي بطريقة الاستغفال والاستحمار والاستهبال، كما حصل في موضوع أورانج.

المسؤولية الفردية

مع تراجع عمل معظم الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية، وانهيار جامعة الدول العربية التي كانت الناظم الرسمي العربي للمقاطعة ومناهضة التطبيع. المسؤولية اليوم فى مقاومة التطبيع لا يمكن أن تكون على عاتق حملة المقاطعة وحدها، في هذا البلد أو ذاك، بل على عاتق كل مواطن. كما قال الكاتب الكبير سعيد تقيّ الدين: أيها الحفل الكريم أهم ما أطمح إليه الآن، هو أّلا تخرجوا من هذه القاعة كأن شيئًا لم يكن، كان الناشط والأستاذ الجامعي الباكستاني الصديق الراحل إقبال أحمد، يقول لطلّابه: كل ليلة قبل أن تضعوا رؤوسكم على المخدّة، اسألوا أنفسكم: ماذا فعلنا من أجل فلسطين.

آن الأوان لاستعادة وسائل المقاومة المعطلة لدى الأمة وإعادة تشغيلها وتفعيلها، وعلى رأسها حملات المقاطعة لإسرائيل والشركات الداعمة المعروفة بالشركات متعددة الجنسيات المتواجدة في كل البلدان العربية، سواء العاملة منها في مجال الاتصالات أو في مجال المشروبات والأغذية الأخرى مثل كوكاكولا ونستلة وغيرها أو في أي مجالات أخرى. آن الأوان لعمل إعلامي منظم طويل الأمد يقوم على التنسيق بين كل المنابر الإعلامية الحرة يستهدف مناهضة عمليات التطبيع المتسارعة على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية، ويستعيد تنشيط وتفعيل وسائل المقاومة المعطلة في الأمة، وعلى رأسها المقاطعة الثقافية. فهل آن الأون.

___________________________________________________________

1-http://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/10/2/

2- https://www.arab48.com/

زر الذهاب إلى الأعلى