قراءة سريعة في تطورات المشهد اليمني على خلفية المواجهة المسلحة بين صالح والحوثي
شهدت صنعاء في الأيام القليلة الماضية مواجهات مسلحة بين القوات الموالية لصالح وقوات الحوثي، لتضع التحالف بينهما على حافة الانهيار، والسؤال الذي يطرح بقوة في هذا السياق: هل تعد حادثة جامع الصالح التي أشعلت المواجهات المسلحة بين الطرفين مجرد حادث عرضي؟ أم أن التوتر بينهما لم يكن وليد تلكم اللحظة، بل كان له ممهدات جعلت التحالف يذهب بعيداً عن دائرة التماسك؟ هل كان للدور الإقليمي والدولي دوره في تغيير مسار تحالف صالح الحوثي؟ أم أنه يراهن على مآلات الحدث في السيطرة على الأرض؟
ولأجل الاقتراب من المشهد بتطوراته الجديدة والخطيرة في ذات الوقت نحاول في هذا التقدير استجلاء إشكالياته والعوامل الدافعة له باتجاه التأزيم بل ربما الانهيار، والوقوف أيضاً عند مساراته وانعكاساته على مستوى البنية الداخلية لليمن، وكذلك على المستوى الإقليمي والدولي.
صراع غامض وتحالف مصلحي هش:
ليس خفياً على المتابع للشأن اليمني في داخله وخارجه المسارات التي مرت بها علاقات صالح بالحوثي منذ عام 2004م حتى اللحظة الراهنة، فقد شهد الطرفان حروباً ستة ما بين عامي 2004 و2010م، كان بمقدور صالح إبان كونه رئيساً للبلاد قبل خلعه القضاء على الحوثيين منذ أول حرب بين الطرفين، إلا أن مساره في حقيقته كان باتجاه مغاير لظاهر المواجهة العسكرية، إذ كان مقصوده توظيف الحوثيين في تحقيق أهدافه السياسية بتثبيت حكمه والسيطرة على مقدرات البلاد، وكان أكبر عائق أمامه التيار الإسلامي المتمثل بحزب التجمع اليمني للإصلاح، ولأجل إضعافه ثم القضاء عليه كانت علاقاته السرية مع الحوثيين والحيلولة دون تحقيق انتصار في المواجهات العسكرية هي المسيطرة على المشهد اليمني طيلة هذه المدة، لكن جاءت الثورة اليمنية عام 2011م لتأتي على مشروع صالح بالإبطال، وكان الحوثيون مشاركين في ساحات الاعتصام المطالبة بإسقاط صالح وحكمه، وهو ما أفضى إلى قبول صالح المبادرة الخليجية للأزمة اليمنية، التي تقضي بالانتقال السلمي للسلطة إلى نائبه هادي، ثم التأسيس لحكم جديد مبني على شرعية من الشعب، ليكون انتخاب هادي رئيساً مدنياً منتخباً من الشعب، ولكن لم تكن هذه الانتقالة التي تقضي بإزاحة صالح عن السلطة وخسارة مكاسبه في العقود الثلاثة التي قضاها في حكم اليمن لتذهب بعيداً عن المصلحة السياسية التي كان يتغياها هو وزمرته، فقد كان موقف الحوثيين من المبادرة الخليجية هو الرفض، وقد أفضى هذا الموقف إلى اختلال ميزان الحكم في اليمن ونظامه، وبسبب تحركاتهم السياسية والعسكرية وامتدادهم على الأرض اقتضى أن تواجهه الحكومة المنتخبة سياسياً وعسكرياً، ولكن احتفاظ صالح بدائرة استحكامه في المشهد اليمني بحكم جذوره ومنظومة أتباعه وضمان الحماية التي كفلتها له المبادرة الخليجية التي قضت بعدم التعرض له ومحاسبته، كان وراء لعبته السياسية التي أعقبت إزاحته عن السلطة، فلم يجد أفضل من الحوثيين في واقع الأمر لتحقيق أهدافه، فتحالف معهم وسهل لهم كل الوسائل التي تعينهم في تحقيق نجاحاتهم العسكرية، وهو ما أفضى إلى تسليم صنعاء بيد الحوثيين وتأسيس حكومة الانقلاب على الثورة التي شهدت تأسيس مجلس للحكم مناصفة بينهما لإدارة المشهد السياسي اليمني داخلياً وخارجياً، وكانت أبرز مضامينه مواجهة التحالف الخليجي، والقضاء على الشرعية.
صالح والحوثي وحيثيات الصراع الراهن:
من هنا كان لزاماً في رأينا قراءة المشهد السياسي الراهن في سياق هذه الخلفية التاريخية السابقة على مفاصله المعاصره، ذلك أن الذي يحكم عقلية هذا التحالف بين صالح والحوثي هو المصلحة السياسية المدفوعة بهوى التسلط والاستبداد حتى ولو أفضى إلى التحالف مع الجماعة التي كان يصفها في السابق بأنها جماعة متمردة خارجة على النظام والقانون، وهي السرطان الخبيث الذي يسري في جسد الأمة اليمنية، فالواقع السياسي أثبت أن صالح في تحالفه مع الحوثي كان يستهدف القضاء على خصومه، كما أن الحوثي استهدف السيطرة والتمكين على الأرض، وهو ما لم يتحقق للجماعة حتى هذه اللحظة، وبناء على ذلك فإن الحادثة التي شهدها جامع الصالح لا تخرج عن كونها تنازع القوى على الأرض بعد تعارض المصلحة الآنية بعيداً عن المصلحة التي جمعتهما إبان حربهم على الشرعية، ويشهد لهذا مسارات التحالف في المرحلة السابقة، إذ شهدت توترات ساهمت إلى حد كبير في إضعاف لحمة تحالفهم الهش أصلاً، وقد اعترف صالح نفسه في شهر آب/أغسطس الماضي بوجود خلافات عميقة داخل التحالف بينه وبين الحوثيين، بالرغم من دعوات الحوار بين الطرفين لمواجهة أزماتهما المستحكمة، فضلاً عن الحرب الإعلامية التي سبقت هذه المواجهة المسلحة منذ أشهر قليلة، كلها تصب في تأزيم الموقف بين حليفي الأمس، والذي ينبغي التنبيه عليه في هذا السياق أن الحوثيين بحكم وجودهم على الأرض وتحكمهم بمفاصل الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، جعلهم القوة الأكبر على الأرض، فضلاً عن سيطرتهم على المنافذ الإعلامية بمختلف مظاهرها، وما حدث من قطع للمنافذ الإعلامية التابعة لصالح من قناة وغيرها، يعد دليلاً على واضحاً على استحكامهم بالملف الإعلامي، الأمر الذي قد يجعل صالح بحركته الأخيرة في دائرة المغامرة غير المحسوبة؛ بسبب اختلال ميزان القوى بينه وبين الحوثيين، ولكن فيما يظهر أن هناك دعماً مادياً ومعنوياً يلقاه صالح من أعداء الأمس الذين حاربهم، أي من قوات الشرعية المعترف بها دولياً، وقوات التحالف الخليجي، في محاولة منهم في دائرة لعبة المصالح لجعل كفة الصراع في صالح غريمهم السابق، فالدعم الداخلي والخارجي وتماسك بنية صالح العسكرية هي التي تلعب دوراً في نجاح حركته الأخيرة هذه، ولا ينبغي كذلك التغافل عما قد يؤول إليه الصراع من مآلات سيئة على المدنيين الذين تعددت مآسيهم ونكباتهم على مختلف الأصعدة، وهم في الغالب لا يدخلون في حسابات المتصارعين كما شأن عقلية الصراع المسلح، فقد عانوا كغيرهم من مناطق الصراع في العالم العربي والإسلامي من القتل والتهجير والنزوح .. في غيرها، ولهذا وفي سياق الأزمة الراهنة نرى تصريح بعض مسؤولي الإغاثة الدوليين أن آلاف المدنيين محاصرون في منازلهم بسبب الاشتباكات، في إشارة إلى أن استدامة الصراع يفضي قطعاً إلى كثير من الخسائر في أوساط المدنيين.
الموقف الإقليمي والدولي وتباين النظر:
وإذا كان البعد الداخلي للمشهد اليمني حاضراً في حادثته الأخيرة، فإن البعد الإقليمي لا يخفي تفاعله في التأثير في مفاصل الحدث والموقف منه، وهو ما قد يشي في أثنائه بشيء من عوامل تحرك صالح باتجاه استغلال حوادث الاستفزاز بين الطرفين، ذلك أن مسار الحرب بين الحوثيين وصالح من جهة والتحالف الخليجي من جهة أخرى أظهر اختلاف النظر الخليجي إلى مكوني تحالف الحوثي صالح في كيفية التعامل، فلم يوضع الاثنان في بوتقة واحدة، وهو ما يعد أحد المرجحات في النظر إلى مسوغات تحرك صالح الأخير وما تضمنه بيانه المعلن على قناته الرسمية من فك الارتباط بينه وبين الحوثي، ويساعد على هذا النظر التغاير الإعلامي في توصيف المشهد وشخوصه، فمن الرئيس المخلوع إلى الرئيس السابق، ومن كونه شخصية محاربة للشرعية إلى شخصية وطنية، بالإضافة إلى التصريحات الرسمية لبعض المسؤولين الخليجيين وعلى لسان القادة العسكريين للتحالف الخليجي في دعم تحركات صالح على الأرض، مع أن وجود ابنه أحمد على الأرض الإماراتية يعد بحد ذاته عاملاً مؤثراً في تغاير الرؤى والأخذ بها باتجاه تباين المواقف إزاء مكوني التحالف الصنعاني، مع ما تحمله التوجهات الإقليمية السعودية من هذا الصراع الذي جعلها في دائرة الإشكال؛ لكونه يدور بالقرب من حدودها الجنوبية، وهي منذ بدايات الصراع وما تبعه من حملة عسكرية لا زالت تعاني من هجوم الحوثيين على هذه الحدود، فلعلها تراهن كثيراً بموقفها من أجل الخروج من ورطاتها في هذا الصراع، وهذا كله يفسر تغاير الموقف الخليجي من الصراع الصنعاني؛ ليجعل الموقف اليمني كله في دائرة صفقة جديدة على حساب شرعية الشعب اليمني ومطامحه وتطلعاته في الحفاظ على لحمته والتنمية والبناء الحضاري.
ومن جهتها لم تخف إيران موقفها المستمر في دعم الحوثي في استمرار سيطرته العسكرية والسياسية وامتداده في باقي الأرض اليمنية، وقد صرح أحد المسؤولين الإيرانيين أن لعبة الرياض الجديدة محكوم عليها بالفشل، وهي قراءة واضحة المعالم من قبل إيران في الحكم على أن تحركات صالح على الأرض جاءت بعد اتفاقات جديدة مع التحالف الخليجي، وأما الموقف الدولي فعلى عادته في مواضع التوتر لا يبرز في بداياتها حتى ينكشف المشهد وتبرز معالمه سواء في سياق الانفراج أو التأزم، بالإضافة إلى المراهنة على التفويض والوكالة في لعب الأدوار من اللاعبين الإقليميين لحساب القوى الدولية الكبرى.
خاتمة: اليمن وضرورة الوعي الراهن:
بغض النظر عن مآلات المواجهات المسلحة في الميدان بين صالح والحوثي، فإنه مما لا شك فيه أن تحالفهما يسوده التصدع والهشاشة التي تفضي إلى انهياره عاجلاً أو آجلاً، لكن ما يلزم التنبيه عليه والنظر إليه في سياق هذا المشهد المتأزم هو حجم التضليل الإعلامي الذي رافقه، سواء في سياقه الداخلي أو الإقليمي، ذلك أن تغاير نبرة التصريحات والبيانات الإعلامية والسياسية في توصيف الحدث وتوجيهه يحمل في أثناءه تجاوزاً خطيراً للمرحلة السابقة بكل ما تحمله في كيفية التعاطي مع شخصية من أمثال صالح، فتاريخه الشخصي وخاصة القريب بعد الثورة التي أطاحت به وحتى اللحظة الراهنة لا يسعفه للعب دور في تأسيس مرحلة جديدة تنبني على شرعية سياسية صحيحة من قبل المجتمع اليمني.
ولكن يظهر أن للبعد الإقليمي دوره في تأجيج هذا الصراع وتوظيفه لمصالحه، فالإمارات التي تلعب دوراً محورياً في البنية الداخلية اليمنية، ومن مصالحها التخلص من الحوثيين، وإعادة صالح أو ابنه إلى السلطة؛ ليكونوا يداً في تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية، والمملكة العربية السعودية لها هدفها الاستراتيجي في حماية حدودها الجنوبية من ورطاتها التي آلت إليها سياساتها، ولئن كان إسقاط الحوثيين هدفاً مشروعاً بحد ذاته إلا أنه لا يمكن في ذات الوقت تناسي مواقف صالح المخلوع فيما آلت إليه أمور اليمن، فليزم إزاءه الوعي بمتطلبات المرحلة الراهنة، وحسن إدارة الصراع في كيفية التعاطي مع هذه الأزمة، والحيلولة دون عودة عهد الاستحكام والاستئثار بمقدرات اليمن، وتجديد مسار الاستبداد الذي عرف به صالح وأمثاله، وعند الحديث عن احتمالات الصراع وما يمكن أن تؤول إليه مساراته، فإننا إزاء صراع مفتوح على كل الخيارات باعتبار صفرية مساره، ويبقى الدعم الداخلي والخارجي مرجحاً لطرف صالح في مآلات هذا الصراع، فاليمن فيما يترجح لنا إزاء صفقة سياسية جديدة يلعبها صالح مع التحالف الخليجي، وهو ما يعني انهيار تحالفه وشراكته السياسية مع الحوثيين.