اختطاف الإسلامملفـات

المسار التاريخي لاختطاف الإسلام

فهم الواقع المعاصر وما يحمله من تحديات وعقبات في طريق البناء الحضاري بجميع مقوماته ومكوناته، وتبليغ الدين الحق وتحقيق شهود الأمة بمقتضى وجودها وحضورها، لا يستقيم بدون استدعاء ذاكرة الأمة التاريخية في كيفية مواجهة التحديات التاريخية ونماذج اختطاف الإسلام في المراحل الزمنية المختلفة.

ولا يمكن إدراك القيمة المطلقة التي تقوم عليها هذه الأمة بما تنطوي عليه من مقومات منهجية وتكوينية تتجاوز أبعاد الزمان والمكان؛ لتمثل المناط الصالح -على سبيل الحصر- لما يستجد من الحوادث عبر الأزمان، إلا بعد إزالة كل آثار الاختطاف التي أحاطت بالأمة على مدار تاريخها، ويكون بإزائها تصحيح للمفاهيم بمساريها الفكري والمنهجي، وإعادة تشكيل العقلية المسلمة بموجب ما تستدعيه القيم المنهجية المطلقة التي يقوم عليها الإسلام وخطابها الشرعي.

لقد كانت التحديات التي واجهتها الأمة على مدار تاريخها ولا زالت متنوعة المشارب والمظاهر، ولئن كان هناك تشابك بين عالم الأفكار والأشياء والأشخاص -كما يثيره مالك بن نبي- الذي تمثله الحركة المجتمعية في نشاطها العام، فإنه بالضرورة سيظهر رجحان لأحد هذه العوالم، وبهذا الرجحان لا شك يتميز كل إطار مجتمعي عن غيره[1]، وبهذه الصورة المجملة في دائرة الحركة والفاعلية المجتمعية، فإن للاختطاف بعده الشبكي في التأثير على المناشط المجتمعية في البعد التاريخي للأمة المسلمة، فهو وإن كان يتأسس في سياق فكري، ولكن هذا السياق له تأثيره لا جرم على عالم الأشخاص والأشياء؛ باعتبارها وعاء للأفكار ومجسدة له.

وبحكم ما لعالم الأفكار من أهمية وخطورة في ذات الوقت، فإن للبعد المفاهيمي فيه المجال الأبرز والأخطر؛ لكونه يمثل أكبر التحديات التي واجهت الأمة على مدار تاريخها؛ لكونه يمس جانب الهوية الإسلامية التي إن فقدها المسلم في حياته يفقد بها مسار هدايته ويدخل في مسالك الحيرة والاضطراب المنهجي التي تأخذ به في متاهات التفرق عن السبيل الحق، ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الأنعام: 153].

وأول ما تصاب به الأمم في أطوار الصراع الفكري والمنهجي مفاهيمها، وأهم الأمراض التي تصاب بها المفاهيم الميوعة ثم الغموض حتى تفقد خصوصياتها الشرعية والمنهجية المتعلقة بها[2]، وما أخطر أن تتجاوز الأمة خصوصيتها الحضارية بما انطوت عليه من مفاهيم وقيم، وتولي وجهها خارج سياقها؛ فتكون بذلك أسيرة غزو ثقافي ومفاهيم وافدة ومناهج قاصمة تأتي على المنهج العاصم بالإبطال.

ومن هنا كان من المستساغ منهجياً استدعاء محاولات الاختطاف التاريخية للإسلام وإبراز نماذج المواجهة الحضارية بشقيها الفكري والمنهجي للأمة، والوقوف عند عوامل قابلية الاختطاف ومسالكها معرفة وعلماً بغية بناء الحصانة الحافظة للعقلية المسلمة من دواخل هذا الاختطاف، وهذا مسلك ظاهر نبه عليه القرآن في خطابه واقترن معه البيان النبوي، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾[الأنعام: 55].

ومن جميل التأويل ما قاله الطبري في تفسير هذه الآية: “يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾: وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها يا محمد إلى هذا الموضع، حجتَنا على المشركين من عبدة الأوثان، وأدلتَنا، وميزناها لك وبيناها، كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم، فنبينها لك حتى يتبين حقه من باطله، وصحيحه من سقيمه”[3].

ولذا كان التداعي والتنادي من قبل النخب الفكرية والعلمية في هذه الأمة لازماً؛ للوقوف مثنى وفرادى بوجه هذا الاختطاف الذي ازداد شدة وعدة بما أجلبه من طرق ووسائل وإمكانات في وجه الإسلام وأهله، ولنا عزمة في تحقيق ما نصبو إليه من مواجهة لهذا الاختطاف، وهي أنموذج السبيل الحق وسالكيه على مدار زمان هذه الأمة ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

خطاب الوحي ومنبهات الاختطاف:

ونظرة في السياق القرآني نصاً وموضوعاً تجلي لنا محاولات الاختطاف الأولى قبل اكتمال التنزيل نفسه، وتحديداً في العهد المكي الذي كان مجالاً للتأسيس والتقعيد لمفاهيم الإيمان والتوحيد وقيم العبدية الصالحة التي -أي هذه المفاهيم كلها- كانت أساساً لبناء الجماعة المسلمة ونُظُمها في العهود اللاحقة.

وفي خضم الفاعلية المنهجية في تأسيس بناء الأمة على الدخول في السلم كافة، تأتي محاولات قطع الطريق عليها، تارة من قبل المشركين، وتارة من غيرهم، وهي محاولات فيما يظهر أضحت سلفاً لخلف على مستويات مختلفة المشارب في مراحل متطاولة من الزمن، ففي قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا[الإسراء: 73-74]، بيان مقاصد وأهداف العابثين بالإسلام وأهله؛ ليحرفوهم عن جادة الهداية.

ولم تكن هذه المحاولات تحمل في ظاهرها تخلياً كلياً عن الإسلام ومضامينه، وإنما قاربت ذلك بمسلك التدرج في سياق المكر الكُبار الذي تسلحوا به وصولاً إلى مآربهم، ولئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله منها؛ فإنها لا تثني عزمها عن فتنة أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، والعجب من السياق هو توصيف الحالة النفسية التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يوحي بقوة الضغوط وشدتها التي كان يعاني منها النبي صلى الله عليه وسلم، من جراء هذه المحاولات المتكررة والمتنوعة التي كانت تستهدف فتح ثغرات في الدعوة وموقفها وقيادتها، لتتسلل منها شيئاً فشيئاً إلى مواقع أشد تأثيراً وخطراً[4].

ومثله قوله تعالى: ﴿كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ . الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾[الحجر: 90-91]، في توصيف الذين حاولوا ولا زالوا من خلال خلفهم تعضية القرآن بجعله عرضة لمعايير الأهواء والعقل المنكوس، تواطئاً بين علماء السوء وأرباب الحكم؛ إما لأغراض ذاتية في نفسها، أو إرضاء لأقوام لم يسعهم القرآن هداية واتباعاً، وإنما كان عليهم حجة وبرهاناً، ولعلهم يتقون.

    بل لعل من بواكير الاختطاف بالكلمة ما قصه الخطاب القرآني من محاولات يهود انتهاز بعض المفردات المتداولة داخل البنية الإسلامية؛ بغية توظيفها في الطعن بالإسلام والمسلمين، وفي هذا يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[البقرة: 104]، ومرجع النهي أن المسلمين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا. على جهة الطلب والرغبة، من المراعاة، والمعنى: أي التفت إلينا. وكان هذا بلسان اليهود سباً، أو هي من الرعونة التي توصف بها الحماقة في التصرف، فاغتنموها، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية بالنهي عن هذه الكلمة[5]؛ لأنها تحتمل معنى فاسداً استغله اليهود، وجاءت عوضاً عنها لفظة: انظرنا، سداً لذريعة التنقص الذي تحتمله بعض الألفاظ.  

    كما أن في السنة مساراً أكثر بياناً وتفصيلاً في التحذير من هذه المحاولات بحكم الوظيفة البيانية التي انطوت عليها السنة، فجاءت بسياقات كلية فيها ضمانات الهداية والثبات من مزالق الطرق وسقطاتها، ومنها ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: “هذا سبيل الله”. ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: “هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه”. ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾[6]، وعنه أيضاً موقوفاً: أن رجلاً قال له: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم. فمن أخذ في تلك الجواد، انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾[7].

وفي السيرة .. محذِّرات:

    وعلى مستوى الفعل، لم تخل حوادث السيرة وسياقاتها المختلفة من منبهات للتحذير من الاختطاف؛ إمعاناً في الربط بين مقومات الهداية على مستوى الرؤية والتصور وبين مناطاتها عند التنزيل والتحقيق، وهي إن وسعت نخبة الصحابة وكبارهم الذين تربوا على عين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه، فأن تسع غيرهم من باب أولى.

    فقد روى ابن أبي عاصم في السنة عن جابر بن عبدالله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض الكتب، قال: فغضب، وقال: “أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية”[8]، وبغض النظر عن حكم ما تلبس به عمر رضي الله عنه الذي اختلف فيه العلماء، إلا أن العلة فيما يظهر دائرة حول حماية جناب العقيدة والمنهج والحيلولة دون تسلل المفاهيم الوافدة التي تنحي الخصوصية الإسلامية وتأتي على مفاهيمها بالإبطال.

    بل دائرة التبكير بالاختطاف عند استحضارها لا يمكن أيضاً أن تتجاوز الظاهرة اليهودية والظاهرة النفاقية في العهد المدني ثم بامتداداتهما الزمنية إلى اللحظة الراهنة، فقد كان لهما دورهما في محاولة إضعاف البنية الداخلية للجماعة المسلمة ببث الشبهات حول الإسلام؛ بغية الصد عنه وإبعاد المترددين الراغبين في الإسلام عن التفكير في الدخول فيه، بل وتشكيك المسلمين أنفسهم في دينهم.

    فعلى مستوى الدائرة اليهودية ما نجده من أمثلة ونماذج في محاولات الكيد بالإسلام وأهله، ومنها -على سبيل المثال لا الحصر اكتفاء به وتنبيهاً على غيره- تظاهرهم بالدخول في الإسلام أول النهار ثم الردة عنه آخره، ومقصودهم بهذا إيهام العامة من الأميين العرب وغيرهم أنهم بما أوتوا من دراية ومعرفة بصحة الأديان وصوابها وجدوا أن هذا الدين ليس حقاً، ولو كان خيراً لما فارقوه[9]، وقد واجه القرآن هذا المكر بفضحه وبيان عواره، فقال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[آل عمران: 72-73].

    وأما على مستوى الدائرة النفاقية، فقد برزت إلى الوجود في مواجهة الجماعة المسلمة، وسببت لها الكثير من المتاعب والمحن، ووضعت في دربها الكثير من الحواجز والعقبات، ومارست إزاءها من الداخل عمليات تخريبية لا حصر لها، والمشكلة الأساس في هذه الظاهرة تكمن في كون قوتها المعادية غير واضحة الأبعاد، منسربة في صفوف المسلمين، قادرة على الاستخفاء في أعقاب أي تخريب تمارسه، وهذا ما ظهر جلياً في حادثة الإفك مثلاً، وعند النظر إلى ظاهرة النفاق، فإنه لا يمكن عزلها عن الظاهرة اليهودية، بل هما متناغمتان في السياق بحكم ما انطوت عليه أهدافهما، ولعل من الدلائل على ارتباط حركة النفاق بالنشاط اليهودي ضد الإسلام الإشارات التي نصت عليها سورة البقرة في توصيف حالة الخلوة بين المنافقين وشياطينهم[10].

    إلا أن الحدث الأبرز الذي كان مساره معبراً بحق عن قصدهم في اختطاف الإسلام، وإضعاف شوكته، هو حادثة مسجد الضرار التي جاء ذكرها في كتاب الله بما يغني عن البحث في مفاصل الحادثة خارج سياقه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[التوبة: 107].

    والخطاب القرآني أظهر الباعث الذي دفعهم إلى بناء المسجد، وهو: المضارة بغيرهم وهم المسلمون، الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام؛ لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق، التفريق بين المؤمنين؛ لأنهم أرادوا ألا يحضروا مسجد قباء، فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى، الإرصاد لمن حارب الله ورسوله، أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد خيب الله تعالى مسعاهم، وأبطل كيدهم، بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه[11].

الصحابة والتابعون على خطى النبوة:

    وبسبب مخرجات التربية النبوية على مستوى التأسيس الفكري والتصوري وعلى مستوى الفعل والحركة، كان أسلافنا واعين لهذه الضرورة المنهجية في مدافعة محاولات اختطاف الإسلام، فتجسد وعيهم مجالدة فكرية ومواقف جهادية جادة بوجه كل وافد مفاهيمي ضار، أو أفهام تؤسس للعبث الفكري والمنهجي، ولعل تلك العزمة التي دفعت أبا بكر رضي الله عنه إلى محاربة المرتدين ومانعي الزكاة تعد مثالاً حياً للدفاع عن هوية الأمة الفكرية وإطارها المرجعي، إذ أطلقها صيحة مدوية في أرجاء الجزيرة: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه[12].

ومثلها أثر دِرة عمر رضي الله عنه على رأس صبيغ بن عسل لما داخلت عقله سؤالات الفلاسفة ومناطقة اليونان وشبهاتهم، فقد أخرج الدارمي بسنده عن سليمان بن يسار: أن رجلاً يقال له صبيغ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبدالله عمر، فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي[13]، والحادثة بمقتضى ما تثيره من سؤالات واستفسارات حول مرد العقوبة التي أوقعها عمر رضي الله عنه على صبيغ؛ مرجعها الحكم بالتعزير الذي يباح للحاكم إيقاعه على أحد الرعية؛ بسبب طروء ما يشغب على العامة من أفكار وتصورات، فيكون الحكم دائراً في سياق تصرف الحاكم في الرعية بموجب المصلحة سداً لذريعة الأفكار التي تحرف العامة عن السبيل، وإلا فإن منطق العلم والفقه يقضي بإقامة الحجة والبرهان عليه، لو أخذت الواقعة في سياقها العلمي والمعرفي.

وليس بعيداً عن هذا النهج ما فعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الزنادقة، الذين حاول خطف الإسلام وتشويه عقائده وإسقاط رموزه، فقد ذكر البخاري عن عكرمة قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تعذبوا بعذاب الله”. ولقتلتهم، لقول صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فاقتلوه”[14]، ومرجع قتلهم وإحراقهم أن هؤلاء الزنادقة كما ذكر الجوزجاني غلوا في الكفر، فزعموا أن علياً إله حتى حرقهم بالنار إنكاراً عليهم واستبصاراً في أمرهم[15].

    وسرت هذه النفحة في عقول وقلوب التابعين بإحسان، فاستوعبوها فكراً ونهجاً، وتغلغلت وتجذرت في علومهم ورسومهم، وظهر هذا واضحاً في مرحلة التدوين لمناهج الإسلام وعلومه، والحق أن هذه المرحلة كانت مراحل في غاية الخطورة؛ لكونها شهدت تأسيس العلوم وتدوينها بموجب ما تقتضيه قواعد الشريعة وضوابطها.

    فلأجل الحفاظ عليها من مداخل الاختطاف، انبرى علماء الإسلام لتمييز الصحيح من السقيم في العلوم كلها بعد بروز فتن الاختطاف للإسلام من قبل الفرق الخارجة عن الجادة وعن منهج الاستقامة، وخاصة ما كان منها في علوم الحديث التي كانت رافداً رئيساً من روافد حفظ الشريعة ونصوصها وخطابها، فلهذا يروي لنا الإمام مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين إذ يقول منبهاً على هذا المنهج: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم[16].

ومقصوده بالفتنة حالة الاضطراب التي شهدتها الأمة وقصد بها اختطاف الإسلام وإخراج أهله من دائرة السنة والجماعة، وعلى الرغم من اختلاف العلماء في توجيه كلام ابن سيرين حول الفتنة، فإن ظاهر مقصوده بها معناها الواسع الذي يعني انتشار الكذب والأهواء والتنازع بين المسلمين وكثرة الوضع والانتحال والتحزب لفريق دون غيره.

وللاختطاف مسار وامتداد ..

    لم تكن الهنات والثغرات التي شهدتها عصور الخيرية لتؤثر على النسق العام الذي استمسكت به ودارت معه حيث دار، إلا أنها مع ذلك كانت بذرة وجذراً لنسق تاريخي من صور الاختطاف للإسلام وأهله على مدار تاريخ هذه الأمة حتى يومنا هذا، وليس من مقصودنا تتبع وتقصي ذلكم النسق إلا بالقدر الذي يكشف لنا حقيقته ومساره، وإنما ذكر بعض الشيء ينبه على بعضه بالضرورة حال كونه مماثلاً له أو مقارباً.

    لكن من صور الرشد الفكري -قبل الحديث عن الصور التاريخية والمعاصرة للاختطاف- التنبيه على المرجعية الفكرية التي تأسست بها محاولات الاختطاف، ذلك أن هناك مشاغبة مفاهيمية حول وجود محددات لمفهوم الإسلام الصحيح، وتتردد في هذا السياق إشكالية وشبهة من جهة كون المفهوم منضبطاً بحدود وضوابط مؤسسة بأدلة محكمة ملزمة للأفهام ينطوي عليها الإطار المرجعي والخطاب التأسيسي والبياني نصوصاً ومقاصد وله أنموذج تنزيلي تاريخي يعد وحدة قياسية ومعياراً لا يسع أحداً الخروج عليها، أو أن هذا مجرد دعوى لا حقيقة لها، وأن هذا المفهوم يمكن قراءته بالأفهام الخاصة التي تسع أصحابها، فلا وجود لفهم مطلق يتجاوز الزمان والمكان، وأن القرآن والسنة قابلان للتأويلات المختلفة، وهو ما يفرغهما من دورهما المنتظر في نهاية المطاف.

    وهذه الشبهة مرجعها بعض الآثار التي أحاطت بالخطاب القرآني على وجه التحديد بوصفه خطاباً مؤسساً، على شاكلة ما نُقل عن بعض الصحابة من أن القرآن (حمال أوجه) أو (ذو وجوه)، إلا أن هذه الآثار لا تنهض قوة في مواجهة محكمات القرآن التي نصت صراحة على كون القرآن هداية ونوراً وحكمة وبياناً وبرهاناً ..، ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[العنكبوت: 51]، ولا تنهض كذلك في مقابل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كون القرآن سبباً للهداية وضماناً من الضلال، هذا فضلاً عن أن هذه الآثار في كون القرآن ذا وجوه لا تصح من حيث سندها، وإن كان متنها يمكن توجيهه في ضوء المحكمات القرآنية والأحاديث النبوية.

    وعوداً إلى السياق التاريخي للاختطاف، فإنه يمكن الإشارة -على سبيل الإجمال- تاريخياً إلى الأنساق الفكرية الرئيسة التي لعبت دوراً في التأثير على العقلية المسلمة على مدار التاريخ، قاصدة قراءة الإسلام بما تقتضيه قواعدها في فهم الشريعة وما تمليه عليها مؤثرات واقعها آنئذ، فكانت بحق محاولات لاختطاف الإسلام وحرفه عن مساره الإسلامي العام.

    وبموجب التراتبية التاريخية يعد أول الأنساق الفكرية ظهوراً في اختطاف الإسلام هو الخوارج[17]، وكانوا أول أمرهم اتجاهاً تاريخياً، أفضى إلى تأسيس جماعة متنوعة ومتعددة، وانبنت فلسفتهم الفكرية والمنهجية على ظاهرية منزوعة من قواعد الفهم الأول الذي تربى عليه جيل التلقي، وإنما أوتوا من سوء فهم لنصوص الوحي ومناطاتهم في التنزيل والتطبيق، ظانين أن تترسهم خلف ظواهر النصوص جعلهم في منأى ومأمن من الضلال والانحراف، ودارت مقولاتهم حول مسائل التحكيم والتكفير بالمعصية واستحلال دماء المسلمين والاستعراض ومحاربة المخالف بالسيف[18]، وعلى الرغم من اندثار كثير من معالمهم وهياكلهم، إلا أن بعض نسقهم الفكري والمنهجي عاد للظهور في العصر الحديث.

    ويأتي النسق الثاني، وهو الرفض، وكان أول أمره تشيعاً في مسائل الخلاف حول الإمامة التي حدثت في العصور الأولى، دون أن يكون له مساس بمسائل الاعتقاد، حتى دخلت عليهم مباحث الإمامة، ففتحت عليهم كل الانحرافات الفكرية والمنهجية في مسائل التوحيد، والنبوة، وعصمة الأئمة، والوحي، والآخرة، والموقف من الصحابة بل وعامة أهل السنة، وهي تقريرات وُظفت سياسياً على مدار التاريخ ولا زالت، أحدثت اضطراباً شديداً في الأمة في مراحلها الزمنية المتطاولة، فكان الرفض طعنة في ظهر الإسلام وأهله، ومثل بحق أعظم شرخ في الصف الإسلامي.

    ثم النسق الثالث المتعلق بالمعتزلة، وهو نسق له مؤثراته التاريخية التي شكلت كثيراً من مساراته، ذلك أن فكر الاعتزال في أول أمره دخلت عليه شبهة تنزيه الخالق عن مشابهة خلقه، وعلى الرغم من صحة هذه القضية في ذاتها -أعني قضية التنزيه-، إلا أنه دخل عليها من بوابة البراهين العقلية التي لا يتسع العقل لبحثها؛ لكونها من المسائل العقدية التي تدور مع التوقيف بالنص والوحي، ثم داخلتهم الشبهة المتعلقة بالأسماء والأحكام، فأحدثوا مقولة “المنزلة بين المنزلتين”، ثم كان المنعطف التاريخي الأخطر في تاريخ الفكر المعتزلي، وجسد بحق اختطافاً للإسلام وأهله؛ لكونه أضحى مساراً للتوظيف السياسي من قبل بعض خلفاء بني العباس، وهي المسألة التي اشتهرت بخلق القرآن في العصر العباسي الأول، وكانت قضية اهتزت لها الأمة وزعزعت كيانها، ولكن الله عصمها وحفظها بعلماء كبار أمثال الإمام أحمد بن حنبل، ثم وبمسائل وأصول أخرى أسسوا ما سمي فيما بعد بفلسفة علم الكلام، وعليها قامت المنظومة الكلامية أو المنهج العقلاني بالكامل.

    لقد تزامن ظهور هذه الأنساق الفكرية وتجسيداتها من الفرق مع تحصن أهل السنة بركيزتين: الأولى: خطاب الوحي بركنيه: الخطاب المؤسس (القرآن)، والخطاب المبين (السنة)، والثانية: الأنموذج التاريخي لهذه الأمة وهو سلفها (الصحابة والتابعون وتابعوهم) بمقتضى الخيرية التي وصفوا بها، والتراث العلمي الغزير، ومن خلالهما اجتهد أهل السنة في مدافعة ما حدث في التاريخ الإسلامي من تجاوزات وانحرافات سياسية وفكرية.

    وما يثيره هذا العرض التاريخي المجمل وبعيداً عن الحديث في دائرة الحكم الشرعي حوله، أن هذا التنازع كان في حقيقته داخل البنية الإسلامية ومجتمعاتها، وأدواته الفكر الإسلامي نفسه في الأصل، وقد مثل بهذا استنزافاً للفكر والعقل المسلم خارج دائرة الشهود الحضاري التي قصدتها عصور الخيرية.

 ولئن لم يكن لغير المسلمين جهود مباشرة من حيث النتاج الفكري في اختطاف الإسلام، فإن لهم جهوداً في إذكاء التنازع داخل البنية الإسلامية، ولهذا لم تبرز محاولات لاختطاف الإسلام فكراً ومنهجاً خارج الدائرة الإسلامية إلا في عصور متأخرة؛ ومرجع ذلك أن الحروب على الإسلام وأهله -صليبية أو غيرها- كان يغلب عليها الطابع العسكري الاحتلالي.

من السيف إلى الفكر:  

    لقد كانت الحروب الصليبية وهجمات التتار عاملاً محركاً للمسلمين، وموقظاً لهم من حالة السبات والغفوة؛ بغية إدراك الواقع وتبصر أسباب الضعف، والعمل على ترميم القواعد التي تآكلت من بنيانهم، والأسس التي خلخلها النفاق في صفوفهم، ثم مواجهة العدو الخارجي دفاعاً عن بيضة الإسلام وأهله، وبهذا استطاعوا إدارة الأزمة على مستوى البنية الداخلية وعلى مستوى المخاطر المحدقة بها من الخارج[19].

    كان الاتجاه السائد عند أعداء الإسلام والمسلمين منذ قرون خلت أن يباشروا بالغزو المادي المسلح، ولكنهم أدركوا بأخرة أن هذا النوع من الغزو لا يؤتي أكله على مدى بعيد، ولذلك عمدوا معها إلى وسائل أخرى أكثر نجاعة، وأقل خسارة من قسيمها العسكري، وهي الوسائل المتعلقة بالفكر والثقافة، فكانت نقلة مؤثرة في حقيقتها، وبهذا تنبه الغرب إلى أن سبيل الهيمنة على العالم الإسلامي بل العالم كله، لا يمكن تحقيقه بالآلة العسكرية فقط، وإنما لا بد من دعمها بمعاول الهدم الفكري والعقدي، بحيث تتناغم الوسائل جميعها في لعب أدوار الاختطاف، ولئن كانت حملات الاختطاف للإسلام داخل البنية مرجعها نزاعات علمية أو فكرية وظفت سياسياً، فإن لقسيماتها الغربية أهدافاً أخرى، وهي استهداف النفوذ والسيطرة والهيمنة سواء على سبيل الإدارة المباشرة بالاحتلال، أو على سبيل الاستتباع.

    وتأتي في الحقب التاريخية القريبة أنساق مختلفة استهدفت اختطاف الإسلام، ولكن جعلت مجالها أكثر اتساعاً، حيث جندت القوى الغربية أربع وسائل رئيسة: وهي التنصير والاستشراق والاستعمار والتغريب، وهي وسائل تنبه إليها قادة الغرب ومفكروه، ولذلك يشير الأستاذ أنور الجندي إلى أن القديس لويس بعد هزيمته في مصر في الحملة الصليبية السابعة هو أول من فكر في اقتحام الإسلام بما أسماه (حرب الكلمة) بديلاً عن حرب السنان، وفي هذا السياق يشير إلى منهجية التدرج في تحقيق مشروعهم في الاختطاف[20]:

أولاً: استدعاء علوم الإسلام ومعارفه التي حققها المسلمون إبان العهد الأندلسي، كما استقطب تراث الإسلام وجمع من مظانه الجغرافية.

ثانياً: وجهت الجهود إلى دراسة التراث الإسلامي، واكتشاف الجانب المضطرب منه، وكلفت العاملين معها، في حقل التعريب بإحيائه، ودفع المبعوثين المسلمين إلى جامعات الغرب بالكتابة عنه، وتجاهل الجوانب الإيجابية تماماً.

ثالثاً: تدافع قوى التنصير إلى اقتحام مجتمعات المسلمين، وركزت أساساً على اسطنبول والقاهرة وبيروت، وأقامت فيها مراكز أساسية للغزو، واستقبلت إرساليات كاثوليكية وبروتستانتية، وعقدت مؤتمرات تنصيرية في مناسبات مختلفة؛ لرسم خطط مستقبلية.

رابعاً: قيام الاستشراق بالدور الأكبر في تحريف مفاهيم الإسلام وقيمه، وتمثلت وسائلهم في: التشكيك في مصادر الدين الإسلامي وصحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية، المغالطات، تزيين الأفكار البديلة، افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلات، التلطف في دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة[21].

استراتيجيات الاختطاف المعاصرة:

    من أخطر الوسائل التي تناغمت فيها المنظومة الغربية بركنيها السياسي والفكري، استثمار مخرجات مراكز الأبحاث الغربية في دراسة الإسلام وكيفية احتوائه، وهي دراسات على الرغم من كونها لا تحمل خاصية الإلزام إلا أنها ذات قيمة عند صانعي القرار السياسي، من جهة كونها معامل أفكار وخلاصة تحليل لعناصر القوة والضعف في الدائرة الإسلامية، ولهذا تعد موارد رئيسة لصناعة الاستراتيجيات الغربية في الدوائر المختلفة، وخاصة الإسلامية منها.

    ولئن كانت نوعية الدراسات متباينة من حيث مواقفها تجاه الإسلام وأهله من حيث وسائل المواجهة، فإن اللحظة الراهنة شهدت نقلة في غاية الخطورة، تمثلت في بعدين، الأول تغير نطاق الرؤية وتوسع مجالها، فبعد أن كانت الهجمة في العقود السابقة مركزة على فصيل أو فئة من التيار الإسلامي، أضحت الهجمة موجهة بالكامل إلى التيار الإسلامي، وهذا ظاهر في مرحلة الانقلاب على ثورات الربيع العربي وتقلد ترمب حكم الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني أن كثيراً من هذه الرؤى وجدت طريقها إلى التنفيذ والتطبيق العملي، خاصة مع تنوع الأدوات المنفذة لهذا المشروع:

    ومن أبرز ما تضمنته هذه المشاريع من مضامين ما يأتي[22]:

أولاً: تغيير الإسلام أو احتواؤه أو تهميش دوره: والمقصود في هذه الجهة تغيير الإسلام بوصفه المحرك الفكري والعقدي لتيار مقاومة الهيمنة الغربية بمختلف أشكال وصور تلك المقاومة، وإزاء ذلك يلزم احتواؤه وإعادته إلى المسجد، ومنع تأثيره.

ثانياً: اختيار الاعتدال باعتباره مصطلحاً رئيساً في المواجهة الفكرية: ومصطلح الاعتدال مقصود به المفهوم الغربي وبنسخته الأمريكية على وجه التحديد، ويراد به تغيير الإسلام والمسلمين معاً، أو التلويح بأن أي مقاومة للاعتدال بالمفهوم الأمريكي هي تعبير عن التطرف والغلو الذي يجب معاقبته باسم القوانين الدولية، وبهذا يختطف الإسلام ومفهوم الاعتدال معه؛ ليكون أداة في تمرير مخططاتهم.

ثالثاً: استخدام المسلمين في مواجهة بعضهم البعض: وهذا يكون باستقطاب بعض الفئات داخل البنية الإسلامية في مواجهة التيار الإسلامي، تحت لافتات متعددة، بشعارات براقة، مقصودها فرض أصول جديدة لفهم الإسلام، والهجوم على ثوابت الدين، وتسويق وترسيخ منظومات فكرية منحرفة داخل البنية الفكرية للإسلام والمسلمين، وليس بعيداً عن هذا الإشادة والتكريم لرموز الإلحاد والانحراف في العالم العربي والإسلامي على حساب المنظومة المفاهيمية للإسلام الحق.

رابعاً: تغيير مناهج التعليم في المنظومة العربية والإسلامية وتهذيبها؛ بوصف ما تحتويه مضامينها من عوامل تغذية الإرهاب والتطرف، أو التكفير والقتل، أو مخالفتها لحقوق الإنسان في بعدها العالمي، على شاكلة مفهوم الجهاد في سبيل الله وبعض الأحداث المتعلقة بالسيرة وخاصة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحكام الزواج والأسرة، والأحكام المتعلقة بحقوق المرأة .. في غيرها.

خامساً: بناء شبكات مسلمة معتدلة على الطريقة الغربية (الأمريكية) مهمتها تطوير برامج تعمل على استخدام المسلمين في الحملة الداعية إلى الاعتدال بالمفهوم الأمريكي، وعلى سبيل المثال لا الحصر أعلن في العاشر من مايو عام 2018م عن تأسيس (المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة) في أبو ظبي، وقد حضره ممثلون من مائة وأربعين دولة، واستهدف المؤتمر التأسيسي للمجلس بحسب المنظمين له: التنسيق مع المؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية والمحلية، والسعي إلى إعلان عدم شرعية منظمات بعينها، والمطالبة بحلّ كل المؤسسات والجمعيات التي يرى أنها “تدعو إلى الكراهية أو تروج مضامين إرهابية أو تسوق الإفتاء إلى أغراض حزبية مجافية للدين الاسلامي ومصالح عموم أبناء الأقليات المسلمة”[23].

خاتمة المسار:

لم تكن محاولات اختطاف الإسلام حديثة العهد في تاريخ أمتنا، بل هي قديمة منذ بعث الأمة خاتمة للأمم، شاهدة عليها في المبتدأ والمختتم، وبحكم كوننا في دائرة الحركة التاريخية حول ظاهرة الاختطاف، فإن من الأهمية بمكان الوقوف على الخلفية الفكرية والحضارية التي تستبطنها هذه الظاهرة وشخوصها ومظاهرها المتنوعة على مدار التاريخ، ولا شك أن إدراك هذه الخلفية يساعد بشكل كبير على إحسان قراءة الظاهرة ومراجعتها، ومن ثم مواجهتها في سياق مفهومي الجهاد والمدافعة الحضارية بمعناهما الواسع، وكنا قد عرضنا في سياق المسار التاريخي جملة من النماذج التاريخية للاختطاف، وليس من خيار على سبيل الختام في هذا العرض التاريخي إلا أن نستدعي قلم الظلال ليكون خلاصة للمسار في السوابق وتنبيهاً على أخواته في اللواحق.

فيقول رحمه الله في سياق صنيع أهل الكتاب على مدار التاريخ في محاربة الإسلام وأهله: “وهذا الذي ندد الله به سبحانه من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة .. فهذا طريقهم على مدار التاريخ .. اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى. ثم تابعهم الصليبيون.

وفي خلال القرون المتطاولة دسوا مع الأسف في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون … دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله. ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود. ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق. ودسوا ولبسوا في الرجال أيضاً.

فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها: إنهم مسلمون. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية؛ ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين. وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ، والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون”[24].

 

   

 


[1] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دمشق، دار الفكر، إعادة الطبعة الأولى، 1423ه/2002م، ص36.

[2] إبراهيم البيومي غانم وآخرون، بناء المفاهيم: دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة، دار السلام، ط1، 1429ه/2008م، ج1ص8.

[3] محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، هجر للطباعة والنشر، ط1، 1422ه/2001م، ج9ص276.

[4] الطيب برغوث، منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتهاخلال الفترة المكية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416ه/1996م، ص343.

[5] محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1427ه/2006م، ج2ص293، والحسين بن مسعود البغوي، معالم التنزيل، الرياض، دار طيبة، 1409ه، ج1ص132.

[6] أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، بيروت، مؤسسة الرسالة، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، ط1، 1420ه/1999م، ج7ص207، ح: 4142.

[7] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، الرياض، دار طيبة، ط2، 1420ه/1999م، ج3ص367.

[8] ابن أبي عاصم، كتاب السنة، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني، بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1400ه/1980م، ص27، ح: 50، وقد حسنه الألباني، قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أسانيد هذا الحديث: “وهذه جميع طرق هذا الحديث، وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلاً”، انظر: الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الرياض، دار طيبة، ط1، 1426ه/2005م، ج17ص606.

[9] د.مصطفى مسلم، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، دمشق، دار القلم، ط1، 1420ه/1990م، ص92.

[10] د.عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط13، 1412ه/1991م، ص366.

[11] د.علي محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، بيروت، دار المعرفة، ط7، 1429ه/2008م، ص834.

[12] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، بيروت، الرسالة العالمية، ط1، 1432ه/2011م، ج5ص201، ح: 7284 و7285.

[13] أبو محمد الدارمي، كتاب المسند الجامع، بيروت، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1434ه/2013م، رقم 154، ص131.

[14] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، ح:6922.

[15] د.محمد أمحزون، مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين، القاهرة، دار السلام، ط2، 1428ه/2007م، ص218.

[16] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقاة وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، الرياض، بيت الأفكار الدولية، 1419ه/1998م، ص24.

[17] ينظر بشأن الخوارج والروافض والمعتزلة: د.أحمد سعد حمدان، مقدمة تحقيق كتاب: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي، الرياض، مؤسسة الحرمين، ط8، 1424ه/2003م، ج1ص20 فما بعدها.

[18] د.معتز الخطيب، الفكر الخارجي: أسسه ومقولاته، مدونات الجزيرة: https://goo.gl/EMX554، 14/12/2017م.

[19] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة، دمشق، دار القلم، ط8، 1420ه/2000م، ص19.

[20] أنور الجندي، الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية، دمشق، دار القلم، ط1، 1418ه/1998م، ص295.

[21] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، مرجع سابق، ص138.

[22] د.باسم خفاجي، استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام، القاهرة، المركز العربي للدراسات الإنسانية، 1428ه/2007م، ص50.

[23] مرتضى الشاذلي، ماذا تريد أبو ظبي من إنشاء المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة؟، نون بوست: https://goo.gl/udbpXk، 16/5/2018م.

[24] سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/2003م، ج1ص414.

زر الذهاب إلى الأعلى