كورونا ومنهجية الإنذار والتبشير وفتح باب الأمل العريض
يتميز المنهج القرآني في تناوله لقضايا الإصلاح الكبرى والظواهر الكونية بتناوله الفريد الجامع المتوازن المتدرج، وهو في هذا التناول ينطلق من مقصد كلي مستقر في مقاصده الكلية وتشريعاته الجزئية؛ وهو الرحمة وإرادة الإصلاح.
ولعل ملاحظة هذا المنهج الفريد يرشد المصلحين إلى منهجية التعامل والتعاطي مع تفشي فيروس كورونا الجديد وتحوله لوباء عالمي وخطر وجودي يتهدد العالم كله؛ صالحه وطالحه، محسنه ومسيئه؛ مؤمنه وكافره، على نحو ربما لم يخطر ببال أكثر المتشائمين..
يقول تعالى في سورة الروم: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (41) [الروم:41].
فالآية تتحدث عن فساد عريض عام عمَّ الكون كله؛ بره وبحره، والفساد الذي ظهر وتمكن على هذا النحو؛ الذي يمنع انتفاع الناس بما سخره الله لهم من البر والبحر الذي امتن الله به تعالى على عباده 🙁 وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [الجاثية:13]؛ فإذا هم بين عشية وضحاها؛ مهددون بفقد هذه النعمة؛ قال ابن عاشور: (وَفَسَادُ الْبَرِّ يَكُونُ بِفِقْدَانِ مَنَافِعِهِ وَحُدُوثِ مَضَارِّهِ، مِثْلَ حَبْسِ الْأَقْوَاتِ مِنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْكَلَأِ، وَفِي مَوَتَانِ الْحَيَوَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ.. وَفِي حُدُوثِ الْجَوَائِحِ مِنْ جَرَادٍ وَحَشَرَاتٍ وَأَمْرَاضٍ… وَفَسَادُ الْبَحْرِ كَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي تَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ)
ثم قال: (فَكَانَ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ أَنِ انْقَطَعَتْ سُبُلَ الْأَسْفَارِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ…] التحرير والتنوير [21/109].
وهو عين ما أصاب العالم الحديث رغم ما يملكه من تقنيات حديثة وسبل انتقال ووسائل مواصلات ورغم ما وصل إليه من علم، وبلغت الأرض شأوا بعيدا في التقدم والزخرف حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها!!
وفي تناول القرآن الفريد لهذه الظاهرة يقرر حقائقه الكبرى؛ فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثًا، ولا يقع مصادفة، إنما هو تدبير اللّه وسنته وقدرته، وهو مقتضى عدله ورحمته وحكمته البالغة!
فعدله قائم مستقر؛ فإنه لا يظلم أحدًا؛ ولم يك مغيرَ نعمةٍ أنعمها على قوم حتى يكونوا هم سبب ذلك، ورحمته حاضرة شاهدة؛ فإنما هي بعض أعمالهم؛ الظاهرة والباطنة، لا كلها ولا جلها؛ وإلا ما ترك على ظهرها من دابة! وحكمته ظاهرة واضحة؛ «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه؛ فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى اللّه وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم.
فما ظهر لهم من فساد الأحوال واضطراب الحياة كافٍ لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، فإن هم لم يرجعوا ولم يبادروا بالتضرع إلى الله والفرار إليه؛ يأتي التحذير والتوعد بفساد أعظم قد يحل بهم مثله وهو ما أصاب الذين من قبلهم بسبب ما كانوا عليه من نظير حال هؤلاء (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) فأمرهم بالسير في الأرض والنظر في مصير الأمم التي أشركت وكذبت؛ سير أبدان وسير قلوب؛ للنظر والتأمل بعواقب المتقدمين؛ فهي سنن كونية مضطردة لا تتخلف إذا وجدت أسبابها، ولا تحابي أحدًا؛”أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟!”، قال: “نعم، إذا كثر الخبث”.
ثم يفتح باب الأمل العريض لمن يستفيد من الآيات ويبادر للتوبة والإنابة؛ فما أصابكم من هلع وحرج ومشقة وكساد، وما تقطعت بكم من سبل؛ فإن الله عز وجل برحمته الواسعة يذهب ذلك كله ويبدلكم من بعد خوفكم أمنًا ويؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛ [لِيُبَشِّرَكُمْ بِصَلَاحِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْمَطَرِ]. [الفخر الرازي -مفاتيح الغيب] ولتجري الفلك بأمره؛ فتسيروا في الأرض بعد أن انقطعت بكم سبل الأسفار في البر والبحر والجو، ولتستأنفوا أعمالكم وتجارتكم وتبتغوا من فضل الله، ولعلكم تشكرون.