الكورونا وميزان المقاصد
لم يكن وضع الشريعة من حيث الأصل إلا لأجل أن ينتظم الإنسان في دائرة الصلاح التي تكفل حفظ وجوده المعنوي والمادي وتضمن استمراره في أداء وظيفته العبادية والاستخلافية التي كُلف بها، ولأجل ذلك وضع الشارع تكاليف كلها ترجع إلى حفظ مقاصده في الخلق، ومقاصد الشارع والشريعة هي الغاية التي من أجلها وضعت تلك الشريعة في كلياتها وجزئياتها متحرية أن تجري حياة الإنسان على ما فيه خيره وصلاحه، وهذه الكليات والجزئيات دائرة بين منظومة ثلاثية من المقاصد بحسب الاستقراء والتتبع الذي عُلمت ثمرته من نصوص الشرع، وهي الضروري والحاجي والتحسيني، فالضروري من شأنه الحفاظ على الوجود وكيانه، والحاجي من شأنه الحفاظ على علاقات الفاعلية الإنسانية بعيداً عن المشقة والحرج، والتحسيني من شأنه أن يضفي إلى الوجود والكيان جمالاً ونضارة وحسناً، ولا يخفى أن تفعيل المقاصد في هذه المنظومة الثلاثية يراعى فيه تحقيقها جميعها وقت الاختيار والإمكان، ويراعى فيه الأولوية التي يلزم فيها تقديم ما هو ضروري على حاجي، وما هي حاجي على تحسيني، في زمن تزاحمها وتعارضها.
وهذه الرؤية تسع وتسوعب المنظومة المقاصدية في مجالها الضروري، فقد تقرر عند علماء الأصول والمقاصد أن المقاصد الضرورية خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، والحفاظ عليها من الهلاك والفوت يعد حفاظاً على الوجود الإنساني وكيانه، وهذه المنظومة تسري فيها العلاقات بين مجالاتها في إطارين: الأول في إطار العلاقة الدائرية المتوازية، التي تعني حفظ جميع المقاصد في سياق احتضان كل مقصد كلي لأقسامه الأخرى، بمعنى أن تحقيق حفظ الدين يترتب عليه حفظ النفس والنسل والمال والعقل، وحفظ النفس يفضي كذلك إلى حفظ الدين والنسل والمال والعقل وهكذا في إطار دائري متوازٍ، وهذا تسعه وتستوعبه أوقات الرخاء والاختيار، أما أوقات الأزمات والشدائد، فإن العلاقة بين هذه المجالات تكون في إطار تصاعدي عند تحقق المعارضة ومزاحمتها في ظن المجتهد أو مظنتها أو حتى حالة التوهم التي تستدعي نظراً أولوياً بين هذه المجالات.
هذا التأصيل المقاصدي المجمل يلزم وجوباً استحضاره عند النظر فيما يجري في عالم الأحداث اليوم حيث تسارع انتشار وباء الكورونا في العالم أجمع، والنظر إليه من حيث الوجهة المقاصدية متعلق بادي الرأي فضلاً عن التعمق في أثنائه في دائرة حفظ النفس، وهي دائرة مقاصدية كلية مراعاة في نظر الشارع، قال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)[الأنعام: آية 151]، وقال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً)[النساء: آية 29] .. في آيات أخر، وإذا كان الدين أصل المقاصد وأعلاها من حيث قيمتها ومكانتها، فإن حفظ النفس يعني بقاء هذا الدين فاعلاً في الوجود، ولذلك قال الشاطبي: “لو عدم المكلف، لعدم من يتدين”، فأنت ترى أن فقدان النفس وذهابها مفضٍ إلى ذهاب الدين، ولو تأملت حال الداء الذي أضحى جائحة، فإنه يأتي على البشرية كلها في دائرة العدمِ، مما يستلزم الأخذ بأسباب الحفاظ على النفس، ولذلك قال ابن عاشور في حفظ النفس: ” أهمه حفظها عن التلف قبل وقوعه، مثل مقاومة الأمراض السارية. وقد منع عمر بن الخطاب الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عمواس”.
وهو يشير رحمه الله إلى صنيع عمر وفقهه رضي الله عنه وهو مشهور في التاريخ الإسلامي، وله نظائر دالة على الفهم والفقه في أمثال هذه الأحداث، وقد حمد عمر رضي الله عنه صنيع عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي أبعد الناس عن الوباء حتى رفعه الله عن البلاد والعباد، فقد قال عمرو بعد موت أبي عبيدة ومعاذ بن جبل في طاعون عمواس: “أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبلوا منه في الجبال”، وهذا الذي حدث، فقد خرج الناس وتفرقوا عنه في الجبال حتى رفع الله الوباء، وبلغ ذلك عمر بن الخطاب ولم يكرهه، وهو عينه الذي أخذت به الناس اليوم مما يسمى بالحجر الصحي للمرضى، ولزوم الأصحاء رحالهم ومنازلهم؛ لئلا يختلط الناس بعضهم ببعض فينتشر الوباء، وهذا يقضي بمنع كل ما هو مظنة لانتشاره من الاجتماعات والتجمعات، وهو ما يلزم أن يراعيه مجتهد الشريعة وصانع القرار بما يحقق تدبير شؤون الخلق معاشاً وحفظاً.