حالة حقوق الإنسان في مصر.. ماض ملتبس ومستقبل غامض
حقوق الإنسان والغرب
إن ملف حقوق الانسان من الملفات ذات التأثير والتغيير غير المباشر، يقوم الغرب باستخدامه بل باستغلاله في أحيان كثيرة كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد بعد حملات إعلامية موجهة؛ لصنع إجماع دولي يخول له صلاحيات التدخل لطرف على حساب طرف، أو حتى لضبط التوازن في الصراع أو لسرقة ونهب الثروات من تلك الدول.
وعلى الرغم مما عاشته الدول العربية من قمع للحريات وإسكات الأصوات وتعذيب بالسجون، وكل ذلك يحدث تحت مظلة قوانين أو بدون، مثل قانون الطوارئ الذي كان يحكم به مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي مصر، إلا أن الغرب لم يتدخل ولم يعقب، حتى أن المنظمات كانت تعمل على استحياء أو تغض الطرف، وهذا بسبب أن الأنظمة الحاكمة تعمل على مصلحة الغرب وتعزز دفاعات الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي، ويمكن الرجوع إلى وثائق وكيليكس وتقارير وزارة الدفاع الأمريكية التي أفرج عنها مؤخراً لمعرفة شكل التعاون[1] في العديد من الملفات التي فيها انتهاك حقيقي وفاضح للشعوب وغض النظر عنها والاشتراك في التعذيب وأخذ اعترافات بأساليب وطرق محرمة بكل القوانين والأعراف[1].
يمكن أن نطلق على هذه الإشكالية مسمى: ازدواجية المعايير، حتى أن هذه الإشكالية قد تكون خفت في بعض المناطق وزادت في مناطق أخرى، كما يمكن أن نرى في سوريا كيف يقوم الغرب بوضع حدود للدول العربية في حال التدخل لنصرة أو حماية المدن السنية، وهو عكس ما نراه من صمت تجاه إيران لتدخلها في سوريا والعراق؛ بل نرى انتقادًا لاذعًا يوجه لتركيا وقطر وبعض المنظمات في حال تدخلها حتى لو كان هذا التدخل هو تدخل إنساني بحت يهدف للإغاثة، نرى تحرك الاتحاد الأوروبي والغرب لوضع ضوابط وقواعد لتنظيم دخول تلك المعونات[2] قد يكون هناك دوافع أخرى لا مجال لذكرها في هذا المقام، إلا أن ما نريد الخروج به هو إثبات قاعدة ازدواجية المعايير لدى الغرب في ملفات تتعلق بحقوق الإنسان، سواء بالنقد أو بصنع الإجماع الدولي بغية التدخل بأشكال مختلفة.
ويمكن أن نأخذ حرب البوسنة والهرسك مثالاً، حيث استمرت الحرب عدة سنوات بين 1992 – 1995، كان وقتها مجلس الأمن على خلاف شديد حول سبب[3] النزاع، وكانت أمريكا قد طرحت أكثر من مرة خيار التدخل العسكري ولكنه لم يجد أي توافق ولا إجماع في مجلس الأمن، حتى قام الإعلام الأمريكي بعرض القضية على أنها تطهير عرقي وبدأت بعدها وسائل الإعلام في العالم تتناقل الأخبار ونشرها، وكان وقتها ما يسمى مجزرة سربرنيتشا في سوق شعبي سنة 1995[4] حيث كان المواطنين يقفون صفوفًا للحصول على الخبز وتعرضوا لنيران قناصة، قام الإعلام الغربي بنشر تلك الصور واللقطات عن المجازر، بالإضافة إلى تقارير حقوق الإنسان من عدة منظمات صنع إجماع عالمي جعلها على قوة عند طرح خيار التدخل العسكري في مجلس الأمن.
ويمكننا هنا أن نعدد الأمثلة حول كيفية قيام الغرب باستخدام المراكز الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني كغطاء للعديد من القرارات وخاصة العسكرية، وكان آخرها الضربة الأمريكية لمطارات النظام السوري بحجة استخدامه للأسلحة الكيماوية، وكيف رأينا أن الإعلام الغربي فجأة استيقظ ضميره تجاه الشعب السوري، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسات أخرى وتحليل لأبعاد كل تدخل على حده، ولكن يكفينا هنا أن نخرج بمعادلة يقوم بها الغرب وخاصة أمريكا في كثير من الأحيان لصناعة قراراتهم.
تقارير لمنظمات ومراكز حقوقية (داخلية أو خارجية) + تغطية إعلامية مكثفة = غطاء للعديد من القرارات
و يعتبر ذلك مؤشر لقياس وتوقع القرارات الأمريكية والغربية، إلا أننا لا يجب أن نضع منظمات ومراكز حقوقية في صف الحكومات والأحزاب، ونخلط مساحات بمساحات، فكثير من تقاريرها موضوعية وحيادية؛ مثل منظمة العفو الدولية وغيرها، بل إنها في كثير من الأوقات تكون هي الصوت الوحيد ولها تأثير في الصوت الانتخابي في الدول، وتسعى الأحزاب إليها، وتخشى من تقاريرها، وعلى جانب آخر فهي قامت بتدريب كثير من الشباب في الأوطان العربية في مجال حقوق الإنسان، للأسف الكثير أصبح عنده نفور للتعامل مع تلك المؤسسات لأسباب مختلفة، وهو ما يحتاج إلى معالجة وفك التباس عند الكثير، سواء ضحايا أو جهات، وخاصة المعارضة أو الثورية.
حتى الآن هذه المعادلة أثبتت جدواها في كثير من الأحيان، وعلى كثير من القطاعات الموهومة بالنموذج الغربي في سعيه لتطبيق العدل، إلا أن التغيير الذي فرضته المجتمعات بعد ثورات الربيع العربي في تونس ومرورًا بمصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق، قد كشف الكثير والكثير عن كذب الادعاءات الأمريكية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وظهر للجميع الازدواجية في التعامل والتخبط والتردد والاستغلال في الكثير من القضايا، فقد فاحت رائحة العمالة للأنظمة، وظهر على السطح دعم الدكتاتوريات وتسليح الأنظمة لضرب شعوبها، والسكوت عن مجازر ومحارق، وكل ذلك في ما دون مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني، بل إنه حين ننظر إلى “محكمة الجنايات الدولية“ نكتشف أن دورها أو سبب إنشائها كان لغرض محاكمة بعض القادة فقط لا غير، وأنها أداة مسيسة بشكل تام تخضع إرادتها للغرب ويقوم باستخدامها في تهديد الدكتاتوريات التي يقوم بدعمها بطبيعة الحال.
تعتبر تلك إحدى أهم الإشكاليات الخارجية في ملف حقوق الإنسان، في بنائنا لورقة تقدير الموقف حول مستقبل ملف حقوق الإنسان في مصر، أما الإشكالات الداخلية وهي متشابكة ومتداخلة في عدة نقاط سنقوم بسردها، ولكن قبل سردها علينا تفكيك بعض الأمور حتى ،تتضح الصورة، فعند الاطلاع ومراجعة التقارير التي أصدرت من مختلف المنظمات والمراكز الحقوقية، يثبت لنا مدى تدهور الملف في مصر وتجاوز حدود وثوابت كانت أحد أهم مكتسبات الثورة؛ بل إن الموضوع تجاوز حد التضييق، وصار الكل يعمل تحت مظلة الحكومة، فلا يستطيع إخراج أي دراسة أو تقرير إلا بعد أخذ الموافقة والإذن من الأجهزة المعنية “الأجهزة الأمنية“.
السياق الأول: المراكز والمنظمات الحقوقية القديمة -السياق العام؟
فإذا قمنا بعمل مسح عام لعدد الجمعيات التي تعمل في مصر فسنجد أنها بالآلاف، ولكن عدد قليل جدًّا هو ما يسبب المشاكل والمتاعب للحكومة من خلال تقاريرها وأنشطتها، وخاصة الجمعيات العاملة والمتخصصة في ملفات حقوق الإنسان والسياسة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية وحملات التوعية والثقافة؛ حيث تقوم الحكومة بالتضييق عليهم وتشويههم إعلامياً واتهامهم بالعمالة، بسبب تلقيهم دعماً مادياً من جهات أمريكية وأوروبية. وتكمن الإشكالية هنا أن النظام المصري يرى تلك الجمعيات والمراكز من منظور حزب سياسي معارض وليس من منظور منظمة مجتمع مدني؛ بل أنه يقوم بترويج أن تلك المنظمات تمثل عائقاً لمحاربة الإرهاب دون تعريف أو مراقبة و محاسبة، وهي الإشكالية الثانية التي يقوم فيها النظام المصري بممارسة ضغوط إعلامية شرسة[5] ضد تلك المنظمات مستغلاً دماء بعض الجنود الذين سقطوا في عدد من العمليات التي قامت بها مجموعات من التنظيمات المتشددة بسبب دوافع مختلفة؛ سواء ردة فعل على الجرائم والانتهاكات التي يقوم بها النظام، أو تبني بعض التنظيمات لاعتقادات متطرفة.
فعند الاطلاع على ملف حقوق الإنسان في سيناء نجد عواراً شديداً في سلوك بعض المنظمات
أيضًا من ضمن الإشكاليات التي أصابت تلك المنظمات هي الازدواجية في تبني القضايا؛ فعند الاطلاع على ملف حقوق الإنسان في سيناء نجد عوارًا شديدًا في سلوك بعض المنظمات مع تلك القضايا؛ من رصد على استحياء أو صمت أو غض النظر.
وقد تختلف الدوافع وتتفاوت حسب طبيعة الضغط؛ فالتمويل أحد تلك الضغوط؛ حيث يلعب تمويل المنظمات دوراً في توجيه تلك المنظمات وترتيب الأولويات والتخصصات؛ بل في تبني نماذج فكرية بعينها، حيث نرى هنا تمايزًا عند رصد السلوك، وهو يعكس مدى التأثر بالاستقطاب الشديد الذي وصل له الشارع المصري؛ فنجد مثلا ملف الاختفاء القسري والمعتقلين يتمايز فيه سلوك المنظمات حسب انتماء الضحية وتوجهه الفكري، فأصبح تفاعل الناشطين والمنظمات مؤطرًا ومؤدلجًا في أحيان كثيرة، وهي من أكبر الإشكاليات التي تمثل عائقًا لملف حقوق الإنسان، والأعظم من ذلك هو صمت وتبني بعض الناشطين والمراكز لمواقف النظام المصري[6].
السياق الثاني: ملف حقوق الإنسان والإسلاميين
بعد أحداث الحرس الجمهوري والمنصة ومجزرة فض اعتصام رابعة، حاول الإسلاميون الدخول إلى ذلك الملف وتشكيل جماعات ضغط على النظام في الخارج، واستخدام الملف لنزع شرعية النظام أو استمالة الغرب ضد النظام في مصر كغاية أساسية من ذلك التحرك، وليس الملف بعينه وما يمثله من أهمية، ويمكن أن نقول إنه وضع بعض الحكومات والساسة الغربيين في حرج أمام شعوبها، وبعض المنظمات الحقوقية التي تتسم بالحيادية في الكثير من تقاريرها، وقد كانت المؤسسات الإعلامية الغربية لها دور كبير في لعب دور الصامت عن تلك المجازر، وعدم إظهارها بالشكل المناسب لحجم تلك المجازر .
استنتج الإسلاميون وخاصة “الإخوان المسلمون” فيما بعد عدم جدوى تلك التحركات؛ بل عدم جدوى الملف كلية، وهو ما أدى إلى نزع الدعم المالي فأدى إلى تدهور الملف بشكل كبير، بعد أن كان هناك تحركات تمثل ضغطًا حقيقيًّا على النظام، ويمكن أن نقول إن تلك التحركات كان لها مردود عند الشعوب وبعض الصحفيين حتى ولو ضمنياً، ولكن هذا التدهور الذي حصل من صرف الملايين على مكاتب المحامين الدوليين، وتقديم ملفات في مختلف المحاكم، ثم التوقف فجأة سواء، من المجموعتين أو الطرفين المحسوبين على الإخوان المسلمين.
وهذا ما يجعلنا نستخرج مجموعة من الإشكاليات عند الإسلاميين في ذلك الملف، وهو الافتقار الشديد إلى الخبرة في إعداد الملفات وتوثيقها، فإذا نظرنا إلى تلك المجازر سنجد أنه لا يوجد حتى الآن توثيق كامل يليق بحجم المذابح والجرائم التي حدثت من قبل تلك المراكز، والأشخاص المسؤولة عن ذلك الملف وخاصة المجازر والأحداث الكبرى، بل صاروا يستخدمون أرقاماً دون دليل، بل إن الرقم الوحيد الموثق قام به مجموعات بتمويل من قبل الأمم المتحدة[7]. والأمر الآخر فقد صارت بعض تلك المراكز تحتكر المعلومات والبيانات، وهو ما يمثل انتهاكًا شنيعًا لحق الضحايا وذويهم؛ بل إن الأمر امتد وأصبح على شكل استغلال.
يواجه بعض الحقوقيين المحسوبين على الإسلاميين عدة إشكاليات في العمل الحقوقي، منها الأسلوب الخاطئ في إخراج القضايا ونشرها، وفي بعض الأحيان الكذب المتعمد في بعض التقارير
يواجه بعض الحقوقيين المحسوبين على الإسلاميين عدة إشكاليات في العمل الحقوقي، منها الأسلوب الخاطئ في إخراج القضايا ونشرها، وفي بعض الأحيان الكذب المتعمد في بعض التقارير بغية التصدر أو التضليل، وهو ما يفقدها المصداقية مع مرور الوقت، وهذا للأسف بسبب الخلط بين جانبين يحتاجان إلى توازن، الجانب الأول العاطفة المحركة لتوثيق الانتهاكات، والتوثيق السليم والصحيح، دون أن تؤثر العاطفة على شكل التقارير؛ فالتعامل العاطفي والانفعالي عند كتابة التقارير قد يؤثر عليها، ويصبغ عليها صبغة أو نزعة قد تصيب التقرير بالعوار وعدم الحيادية، وهذا بسبب أن كثيرًا من المعدّين لتقارير حقوق الإنسان يصيبهم الخلط بين شكل التقارير الحقوقية والتقارير الإعلامية، والمفترض أن التقارير الإعلامية تستقي بياناتها ومعلوماتها من التقارير الحقوقية.
السياق الثالث: سطوة النظام المصري على ملف حقوق الإنسان
أولاً: قانون منظمات المجتمع المدني [8]
ويعتبر هذا القانون معوقًا وحائط صد لكل المنظمات العاملة في مصر بشكل مستقل؛ حيث إنه لا يمكن أن تقوم أي مؤسسة بإصدار تقارير أو دراسات دون أخذ تصريح وموافقة من قبل الحكومة، أما الأمر الثاني فهو الهيئة الوطنية المشكلة من قبل بعض الجهات الأمنية والجيش والحكومة لمراجعة ومناقشة كل طلبات الحصول على تمويل أجنبي، وسيتم حل كل الجمعيات إذا لم توفق أوضاعها تبعًا للقانون الجديد خلال عام، والأمر الثالث هو السجن 5 سنوات وغرامة مالية عالية في حال مخالفة بعض مواد القانون فيما يتعلق بالنشر.
وهذا يجعلنا نتوقف هنا ونقول إنه خلال سنة سنشهد انخفاضًا شديدًا في عدد الجمعيات، وتحكمًا أمنيًّا وحكوميًّا كاملًا بمؤسسات المجتمع المدني، وهذا يجعلها بين خيارات التبعية أو الإغلاق.
ولكن يبدو أن المؤسسات الأمريكية تقوم بالوقوف ضد هذا القانون بسبب تبعياته في تقييد عمل المنظمات التي تتلقى دعماً أمريكياً، وهو لا يعني أن المؤسسات الأمريكية مهتمة بملف حقوق الإنسان في مصر، ولكنها تستخدم ذلك الملف والشعارات التي تتغنى بها، حتى تدافع عن المنظمات التي تمدها بالمعلومات والبيانات التي تساعدها على فهم ودراسة واقع المجتمع والدولة، والتنبؤ بالسيناريوهات المطروحة على الساحة المصرية، خاصة ذات البعد المجتمعي، حتى تستطيع بناء تصور شبه كامل بالقرارات الأصوب التي يجب اتخاذها طبقًا لمصلحة الأمن القومي الأمريكي والكيان الصهيوني، وهو ما جعلها تستخدم ملف المعونة الأمريكية للدفاع عن أدوات قياسها والضغط على النظام المصري، ويبدو أن المؤسسات الأمريكية على خلاف حاد مع القيادة الأمريكية المتمثلة في ترامب، وهو ما يمكن أن نلاحظه في حجم الإقالات وتضارب التصريحات بين الرئيس ووزارة الخارجية، هذا الأمر يجعلنا نرى جانبًا آخر من النظام المصري، والجهات الداعمة للثورة المضادة في الشرق الأوسط ضد ثورات الربيع العربي، وهو أن المنظومات لديها اعتقاد ضمني بالنزعة الفردية في السلطة، وأن ترامب يمثل نقلة في تحقيق الكثير من الأهداف، وهو ما كان عكس التوقعات حينما وقفت المؤسسات الأمريكية والماكينة حاجزًا أمام تلك التطلعات؛ كما حدث في الأزمة الخليجية الأخيرة.
ثانياً: المجلس القومي لحقوق الإنسان
بعد الرجوع إلى قانون 197 لسنة 2017 بتعديل قانون 94 لسنة 2003 [9] نجد أن معظم التعديلات في مجملها جيدة، خاصة وأنه نص على استقلال المجلس، إلا أنه طبقًا للوضع القائم، فإن المجلس ستكون تبعيته وولاؤه للسلطة التي استبدت بالحكم، من خلال ترشيحات من قبل بعض المؤسسات، التي تتحكم بها وتعين القائمين عليها، واختيار رئيس مجلس النواب، بالإضافة إلى أن كل التقارير يتم إخراجها وفقًا للقوانين المنظمة، ويعني بذلك قانون منظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى أن التفتيش والمراقبة على السجون يتم من خلال طلب وليس بالإخطار.
ثالثا: لجان تقصي الحقائق
قام البرلمان بتجميد[10] عمل 12 لجنة لتقصي الحقائق في العديد من المواضيع، وهو ما يجعلنا نجد أنفسنا أمام فساد تام دون أي منفذ لخروج أو تسريب لأي معلومة، وهو السمت العام الذي تسعى الدولة لتطبيقه في كل المؤسسات؛ كنظرة مخابراتية حساسة وعقيمة تجاه أي معلومة.
السياق الرابع: تفاعل المجتمع مع ملف حقوق الإنسان والضحايا
إن هذا السياق هو أخطر سياق، وهو من وجهة نظري مكمن الحل لكثير من الإشكاليات التي نواجهها في هذا الملف، الخطوة الأولى التي يتوجب على الجميع البداية بها، وتكمن أهمية هذا السياق في أنه يمثل أحد أهم العوامل الرئيسية المحركة لكثير من الانتفاضات الشعبية والمظاهرات، وبالطبع الثورات الجماهيرية.
لذلك يقوم النظام الحاكم بمنظومته وأجهزته الأمنية بعدم التساهل، أو ترك مساحة لتحرك منظمات المجتمع المدني والناشطين؛ لأنه أدرك بعد شرارة الثورة أن ذلك الملف هو مدخل رئيسي لصناعة موجات غضب على شكل مظاهرات وانتفاضات، تمثل له تهديدًا فعليًّا، وهو ما جعله يتحرك على جهتين بعدة استراتيجيات وسياسات عامة:
–الاتجاه الأول: مع المنظمات والمراكز
حيث يقوم بتجفيف منابع التمويل والتضييق والتحكم في التقارير التي يصدرها من خلال قوانين قمعية، وأيضًا بدفع عملائه وزرعهم في تلك المؤسسات لتشتيت عملها.
– الاتجاه الثاني: مع الجماهير
وخاصة القابلة للتثوير مثل قطاعات الطلبة، والشباب المتبني المنهج الثوري، والمناطق العشوائية الفقيرة؛ حيث يقوم بمواجهتهم بالعديد من الأساليب والاستراتيجيات:
o الإفراط في استخدام القوة عند وجود أي مظاهر لشكل معارضة، خاصة الحركية والتي قد يكون لها تفاعل جماهيري.
o استنزاف الطاقات وتفريغها في إطار يقبل السيطرة عليه دون الخروج بنتائج تمثل تأثيراً أو تغييراً مرضياً للمشاركين.
o تشويه النماذج الشبابية في الإعلام، من خلال هجوم منظم من مختلف القنوات والصحف المطبوعة والإلكترونية.
o تصدير نماذج شبابية تافهة ومفرغة، تعطي انطباعات ورسائل للجماهير عن مدى ضحالة وعمالة الناشطين الحقوقيين.
o بسط سيطرته من خلال مجموعة من البلطجية، بشكل منظم ومشترك مع الأجهزة الأمنية أو رجال الحزب الوطني.
يقوم النظام أيضاً بمحاولة صنع ما يسمى “الاعتياد على تقبل الجريمة“، بعمل العديد من الجرائم والانتهاكات وتصديرها لجماهيرها بشكل اعتيادي بمبررات سطحية تافهة، وتحت صنع مناخ استقطابي حاد من خلال تغطية إعلامية قوية يكسبه مساحة من التغول في حقوق المجتمع وتجاوز الحدود الحمراء، حتى صار القتل والتصفية خارج القانون والاختطاف والتعذيب وهدم المنازل والتهجير هو السمة العامة والاعتيادية أمام المجتمع، وعليه تقبل ذلك ووضع رأسه في الأرض دون حتى أي كلمة اعتراض؛ بل اللجوء للتوسل والتماس الرحمة والشفقة منه.
هناك العديد من الأساليب التي انتهجها النظام وهي تحتاج إلى الدراسة والتدقيق في تطور نمط القمع لدى النظام الحاكم؛ حيث إنه قام بالعمل عليها وتطبيقها خلال عدة فترات، (فترة حكم المجلس العسكري بعد تنحي مبارك – فترة حكم الإخوان والتجهيز للثورة المضادة) حتى وصل لمرحلة التمكين. وتكمن خطورة ذلك الموضوع في أن الاحتلال الصهيوني أصبح يتبنى نفس النهج اقتداء بكثير من الأساليب التي يقوم بها النظام، أو يمكن القول منظومة الثورة المضادة في الوطن العربي.
أنواع الإشكاليات وتفصيلها:
1- الإشكالات الداخلية (المراكز والمنظمات القديمة + المراكز والمنظمات الإسلامية)
2- الإشكالات الخارجية
3- إشكاليات تتعلق بتفاعل المجتمع مع قضايا حقوق الإنسان
الإشكالات الداخلية (المقصود بالداخلية داخل مصر) | الإشكالات الخارجية (المقصود بالخارجية خارج مصر) | إشكاليات تفاعل المجتمع |
نظرة النظام المصري للمنظمات على أنها حزب سياسي | ازدواجية المعايير في استخدام ملف حقوق الإنسان | تأطير بعض الملفات الخاصة بحقوق الإنسان من قبل المنظمات والناشطين |
ادعاء النظام أن تلك المنظمات تمثل عائقًا ضد مكافحة الإرهاب | استنزاف للطاقات وتفريغها في إطار يقبل السيطرة عليه، دون الخروج بنتائج تمثل تأثيرًا أو تغييرًا مُرضيًا للمشاركين | |
ازدواجية تبني القضايا | تشويه النماذج الشبابية في الإعلام، من خلال هجوم منظم من مختلف القنوات والجرائد | |
التمويل | تصدير نماذج شبابية تافهة ومشوهة، تعطي انطباعات ورسائل للجماهير عن مدى ضحالة وعمالة الشريحة الثورية | |
تمايز سلوك وردود أفعال المنظمات تجاه قضايا وقضايا حسب الضحية | بسط سيطرته من خلال مجموعة من البلطجية، بشكل منظم ومشترك مع الأجهزة الأمنية أو رجال الحزب الوطني | |
تبني بعض الناشطين والمنظمات لنفس لغة النظام المصري في مكافحة الإرهاب | الاستخدام المفرط للقوة من قبل النظام، منع قطاعات كثيرة من المجتمع من التفاعل مع أي ضحية أو قضية | |
الخبرة والقدرة على توثيق كامل لحالات الانتهاك | محاولة النظام صناعة الاعتياد والتعايش مع الجرائم والتماس الرحمة منه | |
احتكار المعلومات والبيانات | ||
قانون المجتمع المدني | ||
الكذب ونشر التقارير المغلوطة، مما يمثل فقدان للمصداقية للملف ككل والناشطين. | ||
تأثر التقارير بعاطفة أو أيدلوجية الناشط قد يحول دون التفاعل مع تلك التقارير وتبتعد عن الحيادية |
إن هذه الإشكاليات أنتجت عدة ظواهر بالنسبة للناشطين:
– ظاهرة الأفراد الناشطين وغير المؤطرين تحت أي من المراكز والمنظمات؛ كهيثم غنيم.
خروج هذه الظاهرة يجعلنا نتأكد أنه على الرغم من حجم الإشكاليات الموجودة، استطاع مجموعة من الناشطين تجاوز كل تلك العقبات، ولكنه لا يكفي لمواجهة كل تلك الإشكاليات، حتى وإن أصبحت أعدادهم بالعشرات، فمهما كان تأثيرهم فالأطر التنظيمية حتى ولو بسيطة تحافظ على استمرارية نشاطهم وتوظيف جهودهم، في أهداف يكون لها واقع وتأثير على الأرض.
– ظاهرة الناشطين المتسلقين ووالذين يمكن أن نطلق عليهم عملاء النظام.
على الجانب الآخر وجد بعض الناشطين تلك الحواجز تمنعهم من الوصول والشهرة والتسلق، لضخامة حجم المؤسسات والحواجز وصعوبة التدرج الوظيفي والتنظيمي بها، فجعلهم في وسط تلك الجرائم والتجاوزات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية يصرحون تصريحات تنافق تلك الأجهزة وتنتقد تقارير العديد من المنظمات المعروف عنها حياديتها ومصداقيتها في تقاريرها، وهذا ما عجل بصعودهم على مختلف المنصات الإعلامية. قام النظام الحاكم باستغلالهم وفي نفس الوقت فتح لهم مساحات من السلطة والنفوذ، يجعلهم يتربعون فوق تلك المنظمات.
إن تلك الظواهر تبشرنا أنه يمكن البناء على تلك الظواهر؛ لتقويم وتطوير عمل المنظمات والمؤسسات، وأيضًا ترسل لنا رسائل أن تلك المنظومة تحتاج إلى إعادة ترتيب وتنظيم، تتناسب مع بيئة جديدة مختلفة تمامًا مع البيئة التي نشأت فيها.
خطورة الملف
كما ذكرنا من قبل أن ذلك الملف يعتبر مدخلاً جيداً للمجتمع في تثويره وتحريكه ضد النظام، ولذلك يقوم النظام بكل ما يمكن عمله لإغلاق ذلك الباب، وعدم ترك أي مجال أو مساحة لأي تفاعل جماهيري قد يخرج عن إطار السيطرة، ولكن هناك عاملاً يُعد أكثر خطورة، وهو توثيق الجرائم ومرتكبيها، حيث إن توثيق الجرائم يوفر بيانات ومعلومات يمكن الاستدلال بها في حين حصول أي تغيير للنظام، سواء بشكل ناعم أو خشن، وهو بالتأكيد سيفتح باب المحاسبة والمحاكمة أياً كان شكلها، سواء بمحاكم ثورية أو ملاحقات أو غيرها، وهو ما يمثل خطراً شديداً، لذلك لا يتساهل النظام في التعامل مع كل من يقوم على جمع أو توثيق الانتهاكات والجرائم، ويقابل ذلك بالعنف الشديد وحملات إعلامية مجهزة بتهم العمالة وغيرها، وقد يلجأ إلى الاعتقال والتصفية دون حرج يذكر.
التوصيات
قبل الحديث عن التوصيات حول الإشكاليات السابق ذكرها، وما هي الطرق التي يجب سلوكها أو تبنيها، يجب علينا الإشارة إلى ملف هام جداً، وهو “واجبات الإعلام” تجاه ملف حقوق الإنسان؛ حيث إن ارتباط الملفين ببعضهما البعض يخرج عدة نتائج يكون لها التأثير حتى ولو بشكل تراكمي ويمكن النظر إلى تلك النقطتين:
– حماية منظمات المجتمع المدني والدفاع عنها، وإعطاؤها مساحة كافية على الشاشة لمخاطبة المجتمع.
– بالطبع نحن نعاني من سطوة النظام على المؤسسات والقنوات الإعلامية، كما أنه لا يمكن للإعلام أن يتطور إلا بوجود مساحة من الحرية واحترام واستيعاب الرأي والرأي الآخر؛ لذلك فإن الاتجاه والدفع في الإعلام البديل هو خيار بديل يمكن مخاطبة المجتمع به وتوعيته بشكل منظم ومحترف، سواء من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، أو غيرها من القنوات.
بعد سرد الإشكاليات نجد أنفسنا أمام مشكلات مركبة ومعقدة يصعب كتابة روشتة علاج لها أو توصيات يمكن أن تمثل حلاً سهلًا لتلك الإشكاليات، ولكن يوجد عدة محاور تحتاج إلى جهود كبيرة حتى نصل إلى تحسن ملموس يمكن البناء عليه لاستعادة حتى ولو جزء من مناخ الحريات الذي شهدناه بعد الثورة.
أولًا: تلاقي المجموعات والنماذج غير المؤطرة.. ومحاولة الخروج بمجموعة من الحملات المشتركة التي تعزز وتخلق مساحة من التعاون المشترك وتبادل خبرات، وهو ما يتوجب وجود مبادئ أو ميثاق عمل يرجع إليها عند الاختلاف.
ثانيًا: إيجاد مصادر تمويل داخلية أو خارجية، بدلًا من الدول والمنظمات الغربية، وهو بالطبع أمر يصعب تنفيذه لسببين، الأول عدم وجود تمويل كبير كالذي تمنحه تلك الدول، ثانياً الضغوطات التي يقوم بها النظام من مصادرة الأموال والمؤسسات من خلال لجان التحفظ على الأموال، فيجب إيجاد آلية ما توفر تمويل ثابت ومرشد، وهو ليس من المستحيل تنظيمه حتى ولو على شكل اشتراكات تجمع من بعض رجال أعمال في الخارج.
ثالثا: استغلال الثغرات لعمل الأجهزة الأمنية في بناء تقارير، وهو يحتاج إلى تراكم للمعلومات وخبرة.
رابعا: توفير مناخ آمن للضحايا وذويهم للحصول على المعلومات والبيانات التي يمكن توثيق الجرائم والانتهاكات منها، حتى وإن لم يتم نشرها.
خامسًا: تجديد الدماء. إن هذا الملف يحتاج إلى تجديد دماء وشباب يستطيعون البدء وليس في رصيد كل منهم عداوة أو كراهية أو مواقف تكون حاجزاً عن تفاعل الجماهير مع القضايا؛ فكثير من الأحيان تخسر القضايا جماهيرياً بسبب حامليها وليس بسبب القضية.
سادسًا: يجب أن تقوم المنظمات والمراكز الحقوقية بتطوير أدواتها في التواصل مع الجماهير ورصد الانتهاكات وآليات إخراجها.
المصادر
[1] https://www.opensocietyfoundations.org/sites/default/files/globalizing-torture-20120205.pdf
[2] http://elaph.com/Web/news/2013/3/802476.html?entry=Syria
في العديد من الاجتماعات التي يقوم بها الاتحاد الأوربي مع المنظمات والمؤسسات الإغاثية وفي تواصل مع أحد مديري تلك المنظمات تحديدًا مؤسسة الإغاثة الإسلامية في غازي عنتاب حمزة عبدالله، تحدث فيها عن كواليس الاجتماعات وضغوطات والقيود المعطلة للعمل الإغاثي
[5] دراسة مركز حرية فكر وتعبير عن الإعلام في مصر http://afteegypt.org/wp-content/uploads/2013/02/afte001-14-02-2013.pdf
[6] حوار مع تامر وجيه
[6] دراسة عن مركز كرنيجي
http://carnegie-mec.org/2017/03/31/ar-pub-68596
[7] إسماعيل إسكندر وحسام بهجت