عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (كيف ينظر المسلمون إلى المستقبل؟)، يوم السبت 20/ربيع الآخر/1442هـ الموافق 5/ديسمبر/2020م، وقد استدعى طرح موضوع النظر المستقبلي لدى المسلمين جملة من الدواعي والمسوغات التي سارعت بعقد هذه الندوة في زمانها، ولعل أبرز هذه الدواعي ما تمر به الأمة من أزمات ومضايق على مختلف الأصعدة والمجالات وليس آخرها الهجمة على الإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام، كما أن طرح هذا الموضوع جاء ليتوج عدة خطوات اتخذها المركز على مدار ثلاث سنوات من العمل المتواصل في سياق الانشغال بالهم الجامع الذي استهدفه ووضع له قراءات أولية في دائرة الأفكار ومسارات مقترحة للتفعيل، وهو التيار الإسلامي العام وتأسيس العقل الاستراتيجي للأمة، فضلاً عن قراءات ومراجعات غيرها لكثير من قضايا الأمة وما تشهده من وقائع وأحداث وما تستلزمه من القيام بواجب البيان والتنبيه والتركيز على إعادة تشكيل العقل المسلم وبناء وعيه الحضاري بقضايا أمته وما تواجهه من أزمات، وكان المتحدث الرئيس في هذه الندوة سعادة الأستاذ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح أستاذ العلوم السياسية والمفكر الاستراتيجي، كما شارك في الندوة ثلة من المفكرين والأساتذة والمنشغلين بهموم الأمة وأزماتها.
أولاً: مداخلة الدكتور سيف الدين عبدالفتاح:
حينما نتحدث عن العالم الإسلامي في القرن الأخير وهو القرن العشرين والدخول إلى قرن جديد، فإن هناك بعض التعبيرات الشائعة من مثل الألفية الثالثة الجديدة، من خلال التذكرة بأيام الله والاعتبار بحوادثها، فإن عالم المسلمين معني كغيره بل مأمور بالقيام بعملية التعرف على ما مضى عليه من حقب، وموقعه في هذه الحقب الزمنية والامتدادات المكانية ومكانته ودوره في الفاعلية والتأثير، بل ربما لا نبالغ في الاستنتاج أن حديث ا لتجديد الذي يحرك مكامن البحث عن الفاعليات واستثمارها في عمليات تجديدية مستأنفة، يحيلنا إلى توقف وتدبر واعتبار على رأس كل مائة نتدبر قوى التجديد وإمكاناتها، وأن (من) لا تزال تشير إلى معنى تعبئة قوى التجديد والتعرف عليها استشرافاً لمستقبل فاعلياتها وتفعليها في عملية صناعة المستقبل.
وحينما نتحدث عن العالم الإسلامي في قرن مضى فإن علينا ضمنا أن نتعرف على أحواله في القرن الأخير، كمنطلق لاستشراف هذا العالم وقدراته ومكانته في قرن آت أو زمن آت، هكذا يجب أن نتعلم معنى العبرة والاعتبار وحركة العبور الزمني من ماض إلى واقع إلى مستقبل، والتي تحرك مضامين العبرة ومغزى الاعتبار.
وحينما نقارب هذا الموضوع فليس من هدفنا أن نرصد حصراً من تكلم عن مستقبل العالم الإسلامي وتصنيف اتجاهاته على قيمة هذا العمل وضرورته، وليس من هدفنا أن نعود إلى هؤلاء الذين كتبوا عن مستقبل العالم الإسلامي طيلة القرن الفائت ثم نتعامل مع حصيلة ذلك، فنعرف ما تحقق من توقعات وما لم يتحقق، وما تحقق على أرض الواقع ولم يتوقع.
وليس أيضاً من هدف هذا الموضوع رصد الحركة التاريخية طيلة القرن في تدرجه في تصور عام لتاريخ المسلمين كخط صاعد، أو كخط هابط، أو شكل متعرج، أو حركة دائرية، أو غير ذلك من أشكال اهتم بها فلاسفة التاريخ، حينما أرادوا تجريداً للواقع في أشكال نمطية يحاولون تسكين الحوادث التاريخية وتتابعها ومساراتها ضمن هذه الرؤى لتصير دليلاً على مسار تطور التاريخ، وهي محاولات بدا لبعضها أن تسير في سياق معمق، وفي بعضها لم تكن إلا خواطر مسبقة أفرغت على أرض الواقع وحشرت الوقائع والحوادث وفق تصور بعينه.
وعلى أهمية التعرض لذلك ونحن بصدد التعامل مع تاريخ المستقبل ومستقبل التاريخ، فإن البحث فيه يتواصل ليس فقط فيما يتعلق بالمسلمين ولكن غالباً ما يتصور البعض ذلك في سياقات للبشرية من قبل نبوءات نهاية التاريخ، أو حديث النهايات وحديث المابعديات الذي لا يتوقف، وهي تصورات تحركت ضمن بيئة الغموض، وتضارب الرؤى إلى حد الفوضى، وتنازع الرؤى والتبشير بالحضارة الغربية وأفكارها التي يراد لها أن تعمم في العالم، وارتباط هذه المسائل المحمومة بتوهمات لدى مروجيها بأن هناك عدواً مستقبلياً تلزم مواجهته من مثل الخطر الأخضر والخطر الإسلامي.
وليس من غرضنا كذلك الحديث عن رؤى مستقبلية متعددة صارت تتخذ أشكالاً متعددة في سياق سيناريوهات أو شكل البحث عن الرابحين والخاسرين في النظام الدولي، وفق أحاديث المكانة والتمكين، أو البحث في التحديات كمفهوم مستقبلي يتطلب الحديث عن معاني كيفية الفهم وكيفية المواجهة، ويبدو لنا أننا قد بدأنا مقدمة هذا البحث باستبعاد ما لا يدخل في زاوية التناول التي تتعلق بهذا الموضوع، فإن زاوية الاهتمام تنصرف إلى الإجابة على سؤال محوري:
(كيف ينظر المسلمون إلى مستقبلهم رصداً وتحليلاً وتفسيراً وتقويماً؟)
مفردات يحملها هذا التساؤل المهم وجب التوقف عندها لأنها تحمل في مكنوناتها معاني أخرى من مثل: أساليب التفكير، وطرائق التدبير، وعمليات التسيير، وحركة التغيير، ومداخل التأثير، وغايات التمكين.
الرؤى المستقبلية: مقدمات ومقومات:
وفي هذا المقام يحسن معالجة الموضوع في تلك القضايا المتكاملة، وفي أولها الحديث عن (الرؤى المستقبلية: مقدمات ومقومات):
فالتاريخ الإنساني بامتداده وتفاعلاته يحيلنا دائماً وعلى نحو فطري للنزوع لاكتشاف المستقبل، ذلك أن الزمن الآتي ظل هاجساً ملحاً رافق البشرية في رحلتها عبر الحياة، وهدف الإنسان على البقاء والاستمرار في سياق مواجهاته لتحديات تواصلت أو استجدت، وظل الإنسان مدفوعاً بفطرته للاستعداد للمستقبل بصورة عملية، وحين توسعت مداركه وارتقى عمد إلى محاولة اكتشاف مجاهيل المستقبل بطرائق أكثر تطوراً، فابتكر التنجيم والتكهن والتنبؤ وغيرها، وصار من يقومون بهذه الوظائف الأكثر خطورة، بالنظر لما ينطور عليه اكتشاف المجهول القادم من أهمية كبرى لدى الجميع دون استثناء.
وفي المقابل سعت الشرائع السماوية لصرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية في التبصر بالمستقبل فوضعت له مناهج تربط المستقبل بالغيب ورؤيا الأنبياء وتحديد ميدان حركته وفعله في إطار الإرادة الإلهية والجزاء الأخروي. ثم جاء الإسلام كخاتمة للرسالات متصفاً بالكمال والتكامل والتمام والتوازن بين التنظير والعمل، مانحاً الإنسان منهاجية صادقة وراقية وفاعلة في التعرف على المستقبل، بل والإسهام في صنعه دافعاً إياه نحو رؤية عمرانية شديدة العمق شديدة العموم والفاعلية تجعل من الكون ساحته الحضارية، يحقق الإنسان فيه هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا والآخرة (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)[الإنشقاق: 6]، هذا الكدح الحضاي الموصول بالله، جعل من أهم تكليفات الإنسان المؤمن ذلك الاستشراف المستقبلي (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد)[الحشر: 18].
بيد أن المسلمين في عصور تراجعت فيها فاعليتهم ووهنت قدراتهم، انساقوا بعيداً عن هذا المنهج الاستشرافي المحرك لعناصر تفكير وتدبر وتغيير فاعلية، وعاشوا حالات الانفعال والاستسلام، وتجاهلوا مكامن الفاعلية وعياً وسعياً ورعاية، مما أدى إلى وهن علاقاتهم وإدراكهم في الحاضر والمستقبل، واقترن ذلك بأنماط عليلة في التدبير والتفكير.
إلا أن ذلك لم يكن ليعني التوقف عن ممارسة الاستشراف المستقبلي، بل ظل الحكماء والمؤرخون يواصلون جهودهم في محاولات اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل، وقد أشرفت محاولاتهم إلى وضع معايير ومعادلات، وبدت هذه الدراسات المستقبلية في تطورها مستمسكة بفلسفة التقدم ومعايير التطور كما يقولون، واعتبروا دراساتهم هذه هي رهان الغرب في السيطرة على المسقبل، بل عدها آلفن توفلر ضماناً لاستمرار حياة المجتمعات في المستقبل، وأطلق عليها تسمية (استراتيجية البقاء)، وكأنه يريد القول بأن المجتمع الذي يفتقد التخطيط الاستراتيجي في إطار دراسة المستقبل دراسة علمية، ومواجهة متغيراته، فإنه لا يريد البقاء، وربما من طرف خفي لا يستحق البقاء؛ ذلك أن احتمالات بقائه ستتقلص بشدة في خضم موجات التغيير السريعة وصدماتها المتلاحقة.
ومن ثم فإن الحديث عن المستقبل في الرؤية الإسلامية لو أننا تعلمناه تعلماً وتدربنا عليه تدرباً ومارسناه ممارسة واعية بصيرة رصينة مكينة كان ذلك موصولاً بسنة كونة قائمة واسترشاداً يحفز الفاعلية والدافعية ولكان أمراً في غاية الأهمية، في إطار ذلك الشعار الذهبي الذي ظل يرفع في إطار الرؤية الإسلامية: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، فتؤكد على مسار هذه الفاعلية ووصلها باليوم الآخر المحرك الدائم لفاعليات الإنسان في سياق المسؤولية والأمانة والاستخلاف العمراني في الكون، وهو أمر يتأكد وظيفياً في مقولة علي رضي الله عنه: “من استبصر الأمور أبصر، ومن استدبر الأمور تحير”.
إن هذه الكلمات الجامعة تدل على تفسير كثير من وضع الحياة الذي يعيشه عالم المسلمين، ذلك أن المستقبل تفكيراً وتدبيراً وصناعة صار أمراً هامشياً على أرض الواقع، ووصلاً بمقولة علي رضي الله عنه فإن الإنسان الذي يدير ظهره للمستقبل سيكون خارج دائرة القرار، بل لن يجد له مكاناً حتى في الهامش؛ لأنه سيصير موضوعاً لا فاعلاً ومنفعلاً أو مفعولاً به لا فعالاً، فيكون البقاء ولو حتى في دائرة الهامش بقرار من دائرة التحكم التي يمسك بها من استقبل الأمور وأبصرها وعرف الزمان واستعد له.
ولا يمكِّن من الاستعداد للمستقبل أن يكون ناجحاً فاعلاً ومؤثراً استناداً إلى أساليب عفوية أو دراسات عشوائية أو اهتمامات آنية، أو بلغة وعظية، أو بحديث عن آمال وأماني، تكتسي ثوب نصوص دينية، تؤول من كل طريق، وبكل طريق متعسف، يحرك كل معاني الانتظار والقعود عن الفاعلية. بل وجب تأسيس مناهج علمية لدراسة المستقبل تستند إلى رؤيتنا للعالم (الرؤية الكونية التوحيدية: استخلافاً وإعماراً)، وتستقى من أصولنا الإسلامية، وما تؤصله من قواعد ومنهج للنظر والتفكير والتدبر، ومن تاريخ البشرية وخبراتها وتجاربها: (قل سيروا في الأرض فانظروا).
وإذا كان عالم المسلمين بضعفه وعدم قدرته قد تراجع في إسهامه في استشرافه المستقبلي، وإذا كانت الحضارة الغربية قد ابتكرت أشكالاً متعددة ومتنوعة من الدراسات المستقبلية، وفقاً لتصوراتها وغاياتها، منسجمة مع تطلعات تلك الحضارة وما تريد من المستقبل، وربما هذا في ذاته يشكل نقطة كاشفة وفارقة في آن واحد، أهم عناصر كاشفيتها تكمن في إشارتها إلى عناصر الضعف الذي اعتور العقل المسلم، وعدم قدرته على مواجهة تحدياته، وعدم مناسبة استجاباته لتلك التحديات التي تتراكم وتتعقد، وهو أمر لا بد أن يدفع عالم المسلمين إلى أن يعتقدوا أن التفكير المستقبلي ضمن صياغاته العلمية والتوحيدية صار من أهم فروض الوقت لتحقق للعقل المسلم قدراته وفعاليته في مواجهة تحدياته، وأن تكون استجاباته على المستوى المطلوب تفكيراً وتدبيراً وتغييراً وتأثيراً.
هذه الرؤية الهادفة إلى استشراف المستقبل في منظوره الإسلامي ليست حديث أماني وآمال، أو حديث توقعات ونبوءات، أو حديث مراهنات على سقوط الحضارات والمدنيات الأخرى التي سيكون الإسلام بديلاً لها، بل إنها تعبير عن نظر عميق وعمل دقيق، حديث علم ومعرفة موصولة بحبل من الله (الإيمان والأمانة) وبحبل من الناس (الاستخلاف والعمران)، وكل ذلك ضمن الصلة الأكيدة بين حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأخروية.
إن بناء المستقبل تتحرك أوصاله في صلة حميمية بين الحلقات الزمنية (الماضي والحاضر والمستقبل)، ولأننا مهددون في حاضرنا فلا خيار لنا إلا ببناء مستقبلنا، وبناء المستقبل هو قرار الحاضر، فحاضرنا كان المستقبل بالنسبة لماضينا، وفي حينه لم نتخذ قرار بناء الحاضر، فبتنا مهددين، وتتمثل العلاقة النظرية للماضي بالمستقبل في اكتشاف تطبيقات سنن التاريخ، وتلمس سنن القوة والضعف، والنظر إلى التاريخ كمعمل تجارب، وهذه الرؤية ليست ذات طبيعة تراجعية نحو الماضي، ولكنها عودة متكاملة الأركان لأصول مرجعيته تجعل من الدين ومرجعيته الحافزة للاهتمام بصياغة الحياة وإعمارها بمنهج تلك المرجعية، واهتمامها بالواقع، لتكون مجمل هذه الرؤية محددة المنطلق مؤسسة الحركة والهدف في بناء المستقبل، ومن هنا تبدو هذه الرؤية الاستشرافية في عودة للماضي لا للجمود عليه بل للاعتبار منه، ولا تهرب من ضغوطات الحاضر للمستقبل فتتحدث حديث الأماني أو الانتظار بل هي أصول فعل وفاعلية، إنها تعبير عن الوعي المتكامل لمعادلة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل. فهذه المعادلة الموصولة والمتواصلة هي التي بإمكانها وضع الأسس العلمية والتربوية لبناء المستقبل.
إن الأمة التي تقترب من نهايتها أو تشارف على الموت، أو تحدد أجلها القريب (عمر أمة الإسلام)، وما يفيد ذلك من قرب القيامة أو يستعجلونها (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)[النحل: 1]، إنها العظمة القرآنية في التعبير بالماضي ثم المضارع ليحول النظر الإنساني إلى أن أمر الله آت لا محالة، وأن ليس على الإنسان استعجاله بل العمل حتى بلوغه، ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحيلنا إلى العمل المتواصل بقوله: “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”.
إن هذه الأمة قد تنكفئ على نفسها وتبدأ بالاستغراق في استحضار أمجاد الأمة في الضمائر والعقول؛ لأنها لم تعد ترى من جدوى في الحديث عن المستقبل أو الاستعداد له، فالذي يشارف على الموت يعلم أن مستقبله هو اللحظة التي يعيشها بأزماتها وأوجاعها، فتبقى هذه اللحظة بالنسبة له مجرد استعراض لشريط الذكريات، كما أن هذه الأمة قد تجعل من الحديث عن عمر أمة الإسلام وقرب أجلها، وما يترتب على ذلك من تكثيف الأحداث في الأعوام المتبقية قد يورث ثقافة انتظار لا ثقافة نظر، وثقافة قعود واتكال لا ثقافة فعل وفاعلية، ينتظرون البشارة فتقع في أيديهم باردة، ولا يتفاعلون من الإنذار معتبرين أنهم ليسوا معنيين به، بل غيرهم هو المعني بالدمار والهلاك. بينما تريد مجتمعات أخرى ضمن نظرها العليل وفعلها الكليل (عبد كلٌ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير)، أن ترى في ذلك نظرية لخرق المراحل والمسافات والقفز عبر الزمان والمكان، فتحاول رسم صور مستقبلها بالتشبه بمجتمعات تختلف عنها، مارست سيرها الطبيعي في جادات التاريخ والجغرافيا، واكتشفت صور مستقبلها بالمناهج التي أفرزتها مسيرتها. وعندها لا يكون هذا التشبه سوى صور كاريكاتورية ليست ذات قيمة لا تعبر عن الواقع بشيء “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه”.
ومن هنا فإن استشراف المستقبل وبناءه ليس تجاوزاً للحقائق الكونية، ولا خرقاً للزمن والواقع أو الاستغراق في واحدة من حلقات الزمن (من ارتكان للماضي، أو الوقوع في أسر الواقع وضغوطاته أو الانطلاق للمستقبل بلا عمل يركن إلى حديث الأماني)، بل هو نظر بعيد، وحركة تدبير تمتلك ثلاثة عيون بصيرة، عين تنظر إلى الماضي وتستلهم منه، وأخرى تتأمل الحاضر وتنطلق منه، وثالثة تتبصر المستقبل وتستشرفه، في إطار نظرة تكاملية واحدة.
وفي ضوء موقع العالم من الدراسات المستقبلية وقف الدكتور مهدي المنجرة المهتم بالدراسة المستقبلية قائلاً: “لقد كانت لي مشاركة في جميع الهيئات الدولية المهتمة بالدراسات المستقبلية والاستراتيجية ووقفت على مدى حيوية وخطورة هذه المؤسسات، ولكننا حينما نعود إلى بلداننا لا نجد شيئاً من ذلك، وهذا يجب أن نأخذه بعين الاعتبار؛ لأنه نتيجة لعدم التقدير للخبرة وعدم التقدير للعلماء وأصحاب الكفاءات في أي ميدان، وإننا لا نقدر إلا ما يأتينا من الخارج، ولا نعطي التقدير الكافي للطاقة البشرية داخل بلداننا”.
توجهات الدراسات المستقبلية والتراث الإسلامي:
وعند الحديث عن توجهات الدراسات المستقبلية في سياق التراث الإسلامي نجدها قد اتخذت أشكالاً مختلفة، فهناك توجه حاكى التفكير في المقارنة بين واقع واقتراح واقع جديد، فبدأ هذا التوجه مع الفارابي في المدينة الفاضلة، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورحلة ابن فضلان، واتخذت في بعضها شكل القصة، واتخذت في شكل آخر التصور المقارن المباشر ما المدينة الفاضلة؟ كيف تتكون؟ مم تتكون؟ إلى ماذا تهدف؟
والتوجه الثاني في جوهره يتلاقى مع التوجه السابق (المدينة الفاضلة) كنوع من اليوتوبيا، ولكنه يتخذ ثوب النصائح، بما يجده الكاتب فرصة لنقد الواقع المعيش آنذاك، واقتراحات من باب النصيحة لاستشراف مستقبل يختلف في أشكاله وحركاته ومعادلاته عن الوضع القائم كتب نصائح الملوك، أو كتابات الحكمة السياسية أو مرايا الأمراء من الكتابات الاستشرافية المهمة في هذا المقام.
ويبدو لنا توجه ثالث مهم يتحرك صوب الأزمات وطرائق كشفها استشرافاً لواقع جديد ومستقبل أفضل، قد يتواكب مع أطروحات نظرية، وجهت من خلالها رؤية الأزمة وكيفية الخروج، منها كتاب (الغياثي) للإمام الجويني واحد من الأمثلة المهمة في هذا المقام، وها هو كتاب المقريزي في الخروج من أزمات مادية تمثلت في مجاعات ومظاهر فساد استحكمت وهو كتاب (إغاثة الأمة في كشف الغمة)، وكتاب الأسدي (التيسير والاعتبار)، وقبلهما كتاب حاول أن يخط طريقاً إصلاحياً عن طريق اكتساء معاني السياسة الشرعية وهو كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية ويعد نموذجاً مهماً في الرؤية الاستشرافية التراثية.
ويتوج هذه الاتجاهات اتجاه رابع مهم يتمثل في الخطة الخلدونية حينما تجمع بين علوم التاريخ والعمران والسياسة لتؤصل رؤية تكاملية، يكمل عمقها وفائدتها في تلك الخطة التكاملية في رؤية الحدث التاريخي واستشراف توجهاته ومساراته وحركاته، وهو يقدم في هذه الرؤية رؤية تحليلية، ورؤية تفسيرية، ورؤية تقويمية، رؤية ذات أبعاد ثلاثية تنطلق من التحليل والتفسير إلى التقويم والاستشراف ضمن خطوط تنظيرية عامة (نظرية العصبية ودورة العصبيات)، (نظرية أعمار الدول)، (نظرية السنة العمرانية التي تؤصل جملة من المنطوقات المهمة تقدم أصولاً لمسارات العمران، ضمن تأصيل نظرية للسنة، تقدم إرشادات ودلائل وقرائن مهمة في عمليات الاستشراف ورؤية المستقبل).
وأما التوجه الخامس، فقد دار مع فكرة المهدي والمهدوية ليحولها من إطار البشارة والنبوءة من أن الإصلاح آت، ومن المهم إطلاق فاعليات لتفعيل الوصول إليه وبلوغه، إلى فكرة أسطورية، كان لها بعض آثارها في الكتابات المعاصرة.
عوامل ومسوغات النظر الاستشرافي التراث الإسلامي:
إن هذه التوجهات المتعددة في النظرة الاستشرافية للمستقبل ليست بالقطع هي الوحيدة، ولكن تلك كانت أهمها، ويعود انتشار هذا النظر الاستشرافي في جنبات التراث الإسلامي إلى عوامل عدة منها:
-النظر الإصلاحي: والذي يتجلى في أصوله مستنداً إلى أصول مرجعية في القرآن والسنة النبوية، ويستند أيضاً إلى مفهوم السياسة ذاته، فإن جوهر مفهوم السياسة المتمحور حول فكرة الإصلاح، حمل مؤشرات استشرافية غاية في الأهمية. فالسياسة وفق هذه الرؤية هي القيام على الأمر بما يصلحه، ذلك أن مفهوم الإصلاح هو بحد ذاته يحمل في جوهر معاني استشرافية مستقبلية، للخروج من وضع غير مرغوب إلى تشكيل وضع مرغوب يتسم بالإصلاح (السياسة هي ما كانت من الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد).
-النظر التدبيري: تكتمل أصول النظرة الإصلاحية مع عنصر آخر يتمثل في النظر التدبيري، وهو لهذا الاعتبار كان أحد معاني مفهوم السياسة، فالسياسة تعني ضمن ما تعني التدبير، والتدبير يشير إلى عناصر حركة تفكيرية، وعملية تنطلق من الوعي إلى السعي، التدبر في التفكير، والسعي في التدبير، إنها عملية توحي بالتخطيط والقدرة على السير بمقتضاه في طريق إيجابي بنائي لاستشراف المستقبل.
-النظر السنني: من أهم أصول هذا النظر الاستشرافي هو تعلم فعل السنة، والسنة الإلهية التي تؤصل قواعد لقوانين ونواميس تحكم الحركة والممارسة في عالم التاريخ، والأنفس والاجتماع، وقبل هذا كله التعلم على النواميس التي تتعلق بالحركة الكونية. النظر السنني يحمل في مكنوناته نظراً استشرافياً وإمكانات مستقبلية في تشكيل الوعي وحركة السعي. السنن تنساب ضمن حركات الزمن وترابطها الحاضر والماضي والمستقبل، وتربط فيما بينها ربطاً محكماً وحركات المجالات الكون والتاريخ والنفس والاجتماع لتؤكد بذلك نظراً استشرافياً محكوماً بالقوانين والسنن.
-النظر المقاصدي: يتكامل مع النظر السنني النظر المقاصدي، وطالما انتقلنا إلى دائرة المقاصد والأهداف والغايات الكلية والأصول العامة والتي تشكل مقاصد كلية كبرى وعامة يسعى إليها وترتجى، فإننا أمام نظر استشرافي موصول ومتواصل حتى بلوغ المقصد، مع ما يعنيه ذلك من ضرورة النظر إلى الكيفية التي يتوصل بها إلى المقصد في حالة نشدان دائم لمستقبل أفضل يتحرى المقاصد على نحو أكثر فاعليه وتفعيلاً في الواقع، في الحال والاستقبال.
مقومات النظر الاستشرافي للمستقبل في الرؤية الإسلامية:
وهنا أود التأكيد على مسألة مهمة مرتبطة بإشكالية النظر إلى الأحاديث النبوية وخاصة تلك المتعلقة بالفتن والملاحم، حيث يتعامل معها البعض بشكل يتنافى مع أصول المنهج؛ فلا يمكن بأي حال من الأحوال النظر في هذه الأحاديث إلا في سياق الرؤية المتعلقة بالبشارة والنذارة، وهي رؤية ترتبط أساساً بوظائف النبوة، ولذلك من الإشكالات التي أثارها بعض المستشرقين من أمثال جوستاف جرونباوم وهو مستشرق نمساوي حين قال: “ما لكم أيها المسلمون إن من قال إنكم إلى تخلف وتدهور هو نبيكم حين قال: خير القرون قرني هذا ثم الذي يليه ثم الذي يليه”.
وهو أمر يؤكد على الحالة النصوصية في التاريخ، وقد نسي هؤلاء محاولة التعرف على أن الفكرة التي كانت تتعلق بخيرية القرون مرتبطة بخيرية النقل بالنسبة لأساس الشريعة الذي ينقل من سلف إلى خلف، ومن ثم كان التحذير من التغيير بقوله: “ثم يفشو الكذب”، وإلا لما استطعنا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أولها أو في آخرها”، ولا يمكن إلا نجد ذلك إلا بالأسس التي تتعلق ببقاء فئة من الأمة ظاهرين على الحق إلى يوم الدين.
حين حدد القرآن وظائف ثلاث للنبوة هي الشهادة والبشارة والنذارة، فإنها وظائف تقع إجمالاً تحت مسمى الدعوة إلى الله والاستمرار في تبليغ الرسالة إلى العالمين، وما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام ذلكم اللبس الواقع في الفصل بين وظيفتي البشارة والنذارة من ناحية، والخلط بينهما من ناحية أخرى، ذلك أنهما يتكاملان في تحقيق مقصود الدعوة رغباً ورهباً.
إن الاقتصار على موضوع البشارة قد يحول النفس إلى ركون وقعود تحت دعوى الثقة بالله وإحسان الظن به سبحانه، ولو أحسنوا لأحسنوا العمل، كما أن الاقتصار على موضوع النذارة قد يوجد ظناً خاطئاً لا يقل خطورة عما سبقه فحواه الإفضاء إلى التعجيز، فيعد ركوناً من نوع آخر يستند إلى اليأس (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)[يوسف: 87].
وعلى هذا كان الفهم المتكامل والمتفاعل لمهمتي البشارة والنذارة في إطار من فقه جوهر سنن الله الشرطية يجعل من البشارة تحفيزاً على الحركة بمقتضى الشرع لا ارتكاناً إليها، ويجعل من النذارة تحذيراً من الوقوع في حالة يعقبها سوء عاقبة، فهو إعانة على الحركة المبصرة المهتدية، وتحقيق مقتضى الاعتبار من الإنذار حتى لا تنزلق الحركة الإنسانية إلى الانحراف أو تتوه عن طريق ابتغاء مرضاة الله تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)[الانشقاق: 6].
هذا الفهم المتكامل والمتفاعل لمهمتي البشارة والنذارة يؤكد عليه الشاطبي في تعبير دقيق دال على فهم عميق، فيقول: “إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس .. وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال، فيرد التخويف ويتسع مجاله، لكنه لا يخلو من الترجية .. وترد الترجية أيضاً ويتسع مجالها، وذلك في مواطن القنوط ومظنته .. ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب كان جانب التخويف أغلب، وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق، فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلاً .. كل موطن له ما يناسبه، ولكل مقام مقال .. ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء؛ لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما .. فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة، فجانب الخوف عليه أقرب، وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط، فجانب الرجاء إليه أقرب، وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه”.
هذا التكامل في وظائف وأدوار الرسالة على وفق ما توضحه الآيات الدالة على ذلك من مثل قوله تعالى: (شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً)[الأحزاب: 45]، وما يرتبط بهذه الوظائف من إضاءة وتشكيل للوعي بالسراج المنير، هو الذي يشكل الوعي بأصول هذه الوظائف وامتدادها في الزمان والمكان والفهم الصحيح لوظائف الرسالة على مر الزمان هو الذي يعصم الذهن المسلم من أي تفكير فاسد أو مختل لا يضبط النسب ولا يتعرف على مآلات الأفكار وتأثيراتها إن سلباً وإن إيجاباً.
إن هذه الوظائف الأربع تشير إلى أربعة عوالم: عالم الشهادة ووظائف البشارة والنذارة والدعوة وأدوات تتعلق بالبينات والكتاب والميزان التي ترتبط بالوعي ليقوم الناس بالقسط، ففهم وظيفة البشارة يكون لحفز الفعل الحضاري؛ لئلا ييأس، وفهم وظيفة النذارة لدافعية الفعل الحضاري؛ لئلا يركن أو يرتد، وفهم وظيفة الدعوة التي تحرك فاعليات الإنسان المسلم في كل علاقاته وفاعلياته فتكون مجال شهوده الحضاري مستخدماً كل الأدوات من بينات واضحة وكتاب منير وميزان قائم وقوة حامية للحق بوعي بصير وعدل مكين، فبمقتضى هذه الرؤية تفهم أحاديث الفتن والملاحم وعلامات الساعة والحديث عن غربة الإسلام، فكل تلك المسائل التي تدور حول الإنذار والنذارة يجب أن تقابل عقلاً واعياً وقلباً قابلاً في سياق تعرف على مقتضيات هذه الرؤية والفاعلية ضمن الفعل التاريخي في الزمان والمكان.
إن هذه القضايا كلها في كلمة جامعة تتعلق ببناء منظومة مفاهيم ومشروع يتعامل مع المستقبل ضمن رؤية العالِم وحدسها للاستشراف المستقبلي، ورؤية تتعلق بالنبوة واستشراف المستقبل، وتحدد مفهوم الغيب في الزمان والوقت والتاريخ وتصحيح النظر في عقيدة القدر، ورؤية تفكير سنني ومقاصد حاضنة وحافظة في الاستشراف المستقبلي، ورؤية للتجديد والإصلاح القرني تعبر عن فعل دائم في النظر للمستقبل وقيمة المسؤولية (ولتنظر نفس ما قدمت لغد).
ثانياً: اتجاهات النقاش:
أثارت المداخلة حول النظر المستقبلي وكيفية نظر المسلمين إليه جملة من الأفكار والرؤى والاستفهامات؛ بحكم ما تضمنته من قراءات ومعالجات ونَقَدات، وفي الآتي أبرز هذه الأفكار والمداخلات:
- اقتراح مشروع علمي فكري استشرافي للمستقبل، يتضمن رؤية الإصلاح في الأمة وخطتها بما تتضمنه من جوانب سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية ودينية .. في غيرها، وابتناء ذلك على ما تلهمه هذه المداخلة المهمة للدكتور سيف، وتجمع هذه الخطة بين الرؤية الإصلاحية واستشراف ما يستقبل الأمة من تحديات وما يواجهها من عقبات وإشكاليات والكيفية التي تمكنها من التغلب على ذلك كله، ويستلزم ذلك وضع خطط وسياسات وبرامج واستراتيجيات، وابتناء ذلك لا يجري في فراغ، فإن مركز رؤيا للبحوث والدراسات على سبيل المثال قائم على مشروعين متلازمين، الأول مشروع التيار الإسلامي العام، ومشروع العقل الاستراتيجي، وكلاهما يشكلان تداعياً لجمع طاقات الأمة وعلمائها؛ من أجل تحديد أزمات الأمة ووضع الخطط لمواجهتها سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى العمل والأبنية المؤسسية اللازمة والناهضة والرافعة للأمة.
- البعد الجمعي والجماعي في تفعيل الأفكار وضرورة اضطلاع طائفة في الأمة بوضع خرائط فكرية ومنهاجية تأخذ بها إلى دائرة التفعيل في الواقع، وهذا يتأتى في إطار تقاسم الأدوار وتكاملها بين المسلمين على قاعدة ثغور المرابطة، وما يلزم بيانه في هذا السياق أن الحديث عن التحديات ينبغي أن يعقبه مثله في كيفية مواجهتها، ويتطلب هذا الآتي: تجاوز الاستجابات العليلة والكليلة والاستجابات الافتعالية والإغفالية، وكون طرائق التفكير بمستوى ما تواجهه الأمة من تحديات، والاستعداد لمواجهتها بوضع الآليات والأدوات والوسائل اللازمة لذلك.
- التفكير المستقبلي يتطلب تقديم نماذج حافزة للفعل الحضاري في المستقبل؛ لأنها تشكل أمثلة تاريخية في كيفية مواجهة التحديات في واقعها الآني، وما تطلبته هذه التحديات من استجابات حقيقية تظهر فاعلية الأمة عبر تاريخها، والمثال الجلي في هذا الإطار نموذج صلاح الدين الأيوبي، فالوقت الذي ظهر فيه صلاح الدين كان وقت أزمة واستهداف ومواجهة تحديات كبرى، والأمة لم تخل على مدار تاريخها من أزمات تعصف بها تأتي على ما تنطوي عليه من مقومات قوة وقدرات، ولكن صلاح الدين استطاع أن يقدم جزءاً من انتصاراته ضمن اختراقات نوعية تمثلت في إعداد الأمة في شكل مستقبلي وبرنامج عمل متعلق بأهليات التغيير وما تطلبته من وسائل وآليات والقدرة على تفعيلها وتشغيلها على أرض الواقع.