عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (العلاقة مع الآخر: المشترك الإنساني والثقافي) ، يوم السبت 4/جمادى الأولى/1442هـ الموافق 19/ديسمبر/2020م، وكان استدعاء هذا العنوان مبنياً عل ضرورة مراجعة الموقف من الآخر ومسارات العلاقة معه في ضوء ما تثيره إشكاليات الواقع المعاصر، وما تمر به أمتنا الإسلامية، وأهمية إثارة هذه الموضوعات؛ تأسيساً للوعي الحضاري وإعادة تشكيل العقلية المسلمة بالجمع بين الأصالة التي تشعر المسلم بانتمائه الإسلامي وهويته، والمعاصرة التي تتطلب نظراً دقيقاً في الواقع ومقتضياته وحاجاته ومستجداته في ضوء مرجعية كلية حاكمة، ولأهمية الموضوع فإن زوايا النظر فيه وفي مضامينه لا تقف عند بعد موضوعي واحد، بل تتجاوزه إلى أبعاد موضوعية أخرى، فيتراوح ما بين ثقافي وسياسي واجتماعي .. في غيرها، ولمناقشة هذا الموضوع الشائك فقد استضاف المركز فضيلة الشيخ الدكتور حسن الحُمَيْد الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى سابقاً والمفكر الإسلامي لتسليط الضوء على هذا الموضوع الهام، وقد شارك في اللقاء مجموعة من الأساتذة والمفكرين والمهتمين بالسؤال الحضاري والثقافي في الأمة، وتضمن برنامج الندوة مداخلة رئيسة للدكتور حسن الحميد ثم فتح مجال النقاش لبقية المشاركين.
أولاً: مداخلة الدكتور حسن الحُمَيْد:
وفي الآتي محاورها وأبرز ما تضمنتها من أفكار ورؤى:
(1) الحديث عن قيم الاجتماع ضرورة ملحة لنجاح المشترك الإنساني، وقد تقدم في اللقاءين الماضيين الحديث عن أهمية الاجتماع والأدوات التي تساعد على تحقيقه من مثل الشورى والالتفاف حول قيم جامعة، وتبين لنا أن البشر بشكل عام عندهم نوعان من الأسئلة، الأسئلة الوجودية وهي التي تدور حول (من نحن؟ لماذا خلقنا؟ إلى أين المصير؟)، والأسئلة الحضارية والاستراتيجية وهي الأسئلة التي تدور حول (الكرامة، والعدل، والحقوق، والشورى، والمشاركة ..إلخ).
(2) والأسئلة الوجودية مرتبطة بموقف الإنسان الذاتي ومصيره يوم القيامة، بينما الأسئلة الحضارية الاستراتيجية تتعلق بإعمار الأرض وبناء منظومة الإحسان البشري وعلاقاته البينية، والمشكلة تكمن في العجز عن ترجمة هذه الأسئلة الحضارية إلى واقع عملي وجعل الحياة مدنية سليمة، ونحاول في هذا الجزء من الموضوع الإجابة عن سؤالات متداولة على ألسنة الناس سواء في الدائرة الإسلامية أو في غيرها ممن يخفقون في الإجابة العملية عن هذه الأسئلة، وهناك جملة من الأسئلة نعرضها في إطارين، الأول بسيط والإجابة عنها مختصرة وموجزة (نعم أو لا)؛ وقصد الاختصار والإيجاز تحديد الاتجاه اتفاقاً أو خلافاً. والثاني مركب، وأسئلة هذا الإطار تعبر عن إشكالات وسندور معها في سياق برنامج مقترح عملي يمكن الإفادة منه بمجموع ما طرح خلال هذه اللقاءات الثلاث.
(3) النهضة وأسئلتها تتمحور حول فكرة قوامها: كيف يفوز شركاء الحقوق والقيم بأكبر حصة في بيئة يشتد فيها التدافع والتنازع بين خصوم القيم والحقوق؟ وليس خافياً أننا نحن المسلمين شركاء في مجتمعات فيها خصومة شديدة بين فئات تنتصر للحقوق، وفئات ترفضها، وفئات تنتصر للقيم، وفئات ترفض القيم، وهذا التقسيم مرجعه أن من ينتصر لحقوق مدنية ليس بالضرورة هو من ينتصر للقيم، فهناك من ينتصر للحرية ولا يدافع مثلاً عن التدين .. وهكذا.
وفي كل المجتمعات توجد فئات تميل أو تستدرج وترضى أن تكون جزءاً من منظومة فساد أو استبداد وظلم، فضلاً عما يتربص بهذه المجتمعات من أعداء خارجيين، وعقدة الأمر الوصول إلى الشرعية التي من خلالها يتحكم أرباب الفساد والاستبداد، وإن كانت شرعية ناقصة أو وهمية من حيث أصلها، وعليه فإن هناك نزاعاً بين شرعيتين شرعية موهومة أو ناقصة، وشرعية حقيقة يدافع عنها المصلحون، وهذا التدافع على مدار التاريخ في سياقه الإسلامي أو غيره، فهناك إصلاحيون عبر التاريخ يحاولون دفع عجلة الإصلاح وإقناع الأغلبية الصامتة على تبني مفاهيمها التي يسعون بها إلى إنقاذ المجتمع من منظومة الفساد والاستبداد، وفي ظل هذا التدافع بين المنظومتين (الإصلاح والفساد) هناك كتلة من الأغلبية الصامتة التي تتحرك ببطء وتفعل بالتبع، لكنها مؤثرة في حركتها عند اتخاذها موقفاً بين هاتين المنظومتين.
(4) ورجوعاً إلى منهجية السؤالات المتعلقة بالبعد الحضاري والاستراتيجي، فإنَّ هناك سؤالين يرتبطان بالتشخيص:
السؤال الأول: إذا كانت الأسئلة الاستراتيجية مؤجلة، فمن المسؤول عن تأجيلها؟ هل هو الاستبداد أو التخلف والجهل الذي تعيشه المجتمعات؟ والبعض من المستبدين والمتنفذين يتندر بأن مجتمعاً ما لم يبلغ الرشد بعد حتى يكون مؤهلاً للديمقراطية والمشاركة .. إلخ. وبصورة أخرى: هل الاستبداد أحد مظاهر التخلف، أو أن التخلف أحد مخرجات الاستبداد؟ من هو الذي يصنع التخلف؟ هل هو استكبار فرعون (ما أريكم إلا ما أرى)، أو فسوق الأتباع (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين)، وتفكيك هذه الجدلية يتطلب وقفة تأملية تدبرية في إشكالية العلاقة بين الملأ والأتباع في القرآن الكريم. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الاستبداد لا يقف عند حدودها السياسية، بل يتجاوزها إلى أنواع أخرى من الاستبداد في بعدها الديني، والاجتماعي، والثقافي وغيرها، وهذه الصور من الاستبداد تستمد روحها من حالة الاستبداد السائدة، بحيث يتخادم بعضها مع بعض في إنتاج حالة التخلف والتراجع.
السؤال الثاني: في إطار الإجابة على الأسئلة الاستراتيجية هل يصلح أن يكون هناك اتفاق مع المستبد في الواقع الفاسد على أنصاف حلول: نصف حرية ونصف استبداد، وهل هذا التنصيف يعد حلاً عقلانياً، وهل سينتهي إلى مناصفة عادلة بين المستبد وما يريد وبين المجتمع وما يتطلع إليه؟
إنه بالتأمل العقلي والنظر في وقائع الأحوال والمجتمعات والقراءة الاعتبارية في التاريخ يثبت لنا نصف الحرية الممنوح لا يعني أكثر من أنه حرية الفسوق، وأن نصف الاستبداد هو استبداد الحقوق، وهذا يعني أن التنصيف ينتهي إلى حالة من شرعنة الاستبداد ومنح المستبد شرعية لا يستحقها، فضلاً عن كون الحرية التي منحت للمجتمع ليست ذات قيمة لأفرادها من وجهتها القيمية؛ وعندها تنتهي المناصفة إلى حالة من الاضطراب والفشل في الممارسة سواء في بعدها السياسي أو غيره، وفي الغالب فإن المجتمعات التي تسلك سبيل المناصفة قد تشهد قرارات لا تتسم بالثبات، فتارة تسلب حُقوق يتطلع إليها أفراد المجتمع، وتارة أخرى تُضخ قرارات فساد في اتجاه معين؛ والمحصلة أن مجتمع المناصفة لا يمكن أن يحقق توازنه في ظلها بل لا بد أن تميل الكفة إلى المستبد؛ بحكم ما يمتلكه من قوى وأدوات.
(5) كما أنَّ هناك سؤالين يدوران في إطار فلسفة تحصيل الحقوق والقيم، ويمثلان السؤالين الثالث والرابع في منظومة الإجابة عن الأسئلة الاستراتيجية، وهما الأول والثاني في إطار فلسفة انتزاع الحقوق:
السؤال الثالث: هل يمكن تحصيل الحقوق من غير تنازلات؟ واقع المستبد يشير إلى أن هذا المستبد استأثر بكل شيء بموجب ما تحققه حالة التنصيف الوهمية، بينما أعطى المجتمع مساحة من الحرية التي ما لو حجبت عنه، لكان حجبها ومنعها خيراً له من منحها، فهل يمكن تحصيل الحقوق من غير تنازلات؟
والإجابة تفترض أن كثيراً من المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون ليست خالصة لهم، حتى ينتزع المسلمون حقوقهم؛ فإن شركاءنا في المجتمع يريدون حقوقهم كذلك، وانتزاع الحقوق لا بد أن يكون معه قدر من التنازلات تقل أو تكثر؛ حتى يحصل كل طرف على قدر معقول من حقوقه، والأصل أنه كلما اتسعت دائرة الجغرافيا والبشر، كلما أصبحت مثالية الواقع في تحصيل الحقوق بإطلاق مستحيلة، وعندها يتطلب هذا الوضع الإصغاء لرأي المجموع حتى لو أفضى ذلك إلى خسارة بعض الحقوق من جميع المكونات داخل هذا المجتمع.
إن إدارة المجتمعات البشرية مثلها مثل المؤسسات الكبيرة لا يمكن أن تكون مثالية بالقدر الذي يرضي الجميع بحيث تأخذ جميع المكونات حقوقها بالكامل، بل يراعى في ذلك المجموع الذي يتطلب إحساناً في إدارة الأخذ والعطاء، بحيث يتنازل عن جزئية ليأخذ كلية حتى يقنع الآخر بالشراكة معه في النهاية، ويكون الربح للجميع وتكون النتيجة تحصيل قدر مرضي من الحقوق بالنظر إلى الحرمان السابق للجميع.
السؤال الرابع: وهو الثاني من فلسفة تحصيل الحقوق، هل يمكن الدفاع عن الحقوق من غير حريات للجميع؟
وهذا السؤال يتطلب قدراً من الحرية في التعاطي معه والنقاش فيه، والجواب المباشر عنه: لا يمكن الدفاع عن الحقوق من غير حريات للجميع، وتستوي في ذلك الحريات القيمية والحريات التي نرى أنها مفسدة للمجتمع، ومرجع التقرير في ذلك أن تحصيلنا لحرياتنا لا يتحقق إلا بأخذ شركاء الحقوق حقوقهم، والواقع الذي شُخص آنفاً في السؤالين السابقين يثبت أن الحريات التي تتمع بها هؤلاء هي في الأصل ممنوحة لهم، والمعادلة في هذا الواقع أننا لم نظفر بحريتنا بينما الطرف الآخر حقق مراده بأخذ حريته، فلا بأس من المطالبة بالحريات لنا ولغيرنا؛ لأن حريات غيرنا في الأصل ممنوحة لهم، وحتى تكون مطالبتنا بالحرية موضوعية نقول: إن الحرية للجميع، وبهذا نقطع الطريق على من يشاغب علينا باحتكار الحرية أو الإيمان بحريات بصورة انتقائية تخصنا نحن دون غيرنا. فلا بد إذاً من حريات للجميع تحت سقف القانون العام، حريات تسمح لكل شخص في الدفاع عن حقوقه وتحمل كل شخص على أن يقوم بواجباته، وتضع حداً صحيحاً تنتظم به العلاقة بين أبناء المجتمع، وهذه الحريات إذا ضبطناها بالتنازلات تعد نوعاً من النجاح الذي يضمن تحصيل المفقود من الحقوق.
(6) ومع أسئلة التشخيص وتحصيل الحقوق هناك أسئلة أخرى متعلقة بالانتقال من المطالبة بها إلى تثبيتها، ومن حالة المغالبة إلى حالة التمكين للحقوق والقيم، وهذه يمكن تناولها في ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: هل يمكن أن تسود القيم التي نطالب بها والحقوق التي نريدها من غير سيادة للإنسان؟ وبصيغة أخرى: أيهما أولى وأهم: سيادة الإنسان أو سيادة القيم؟
وهذا الموضوع يتطلب قدراً من العقلانية في مناقشته والتعاطي معه بعيداً عن المثالية والحماس الذي يتلبس به البعض، والعقل والمنطق والتاريخ عند التأمل كلها تثبت بصورة حاسمة أنه لا يمكن أن تسود القيم دون أن تسود الأمة صاحبة القيم، فالقيم بغير أمة تسود هي قيم قابلة للإزاحة والتلاعب، والواقع السائد اليوم سواء في دول تمارس الاستبداد الكامل أو دول يسود فيها التنصيف الموهوم للحرية أظهر أن في كلا النوعين يحدث تلاعب بالحقوق والقيم؛ بسبب أن سيادة المجتمع بيد الذي لا يؤمنون بهذه القيم.
إن القيم لا تسود الذين يؤمنون بها إيماناً نظرياً، بل تسود بحملتها إذا كانت لهم سيادة، وبالتالي فإن جدلية سيادة الأمة وسيادة الشريعة ينبغي أن تحسم في إطار أن سيادة الأمة قبل سيادة الشريعة، وفي السنة معالم ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة متحققين بقيم مثالية عالية تسع الجميع، إلا أن السيادة كانت بيد المشركين وبيئتهم لا ترتضي هذه القيم، ولذلك هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيئة قابلة لهذه القيم وتحققت لهم السيادة فيها وسادت قيمهم بالرغم من وجود المنافقين واليهود، إلا أن الأمر كان بيد النبي عليه الصلاة والسلام.
السؤال الثاني: كيف تتحقق سيادة الأمة حتى تسود القيم والحقوق؟ وهذا سؤال إنشائي يتطلب طرحه في سياق أكثر وضوحاً: هل يمكن تحقيق سيادة الإنسان أو سيادة الأغلبية أو سيادة المجتمع من غير اجتماع أغلبية تحقق هذه السيادة؟
وحديثنا هنا عن الاجتماع وليس الإجماع؛ لأنه متعذر في بيئة مكوناته مختلفة ومتغايرة، والمقصود الاجتماع الغالب، فالاجتماع الغالب النسبي هو شرط للتمكين وتحقيق السيادة، وذلك لا يكون إلا بقرار للأغلبية الفاعلة، لقد أثبت الاستقراء التاريخي والواقعي أنه لا كرامة بغير حقوق، ولا حقوق بدون سيادة، ولا سيادة بدون اجتماع، والفرقة والتنازع هي أعظم حوائل وموانع الاجتماع النسبي.
السؤال الثالث: إذا كان الجواب على السؤال الثاني ب (لا)، فإنه يولد سؤالاً آخر، وهو: هل يمكن وفق الأسباب التي جعلها الله تعالى في خلقه تحقيق اجتماع نسبي غالب في ظل انقسام شركاء القيم والحقوق على الفكرة الجامعة؟
والجواب نظرياً متصور ويسير لكن الإشكال يكمن في تنزيله واقعياً عملياً، فإنه لا يمكن تحقيق هذا الاجتماع في ظل الانقسام على الفكرة الجامعة؛ لأن هذا الانقسام مفضٍ إلى تفتت الفكرة وتفتت المجتمع الحامل للفكرة، والناظر في أحوال المجتمعات يدرك أن التراجع عن الاجتماع الغالب فيها يكون متدرجاً في دركات الانقسام من الأقل خطورة إلى أكثرها؛ فإن التراجع عن قيم الأمة الجامعة من دائرة التفوق المطلق إلى التفوق النسبي بسبب الإنقسام؛ لأن الأخير لم يبلغ مداه، ولكن بتغلغه في بنية المجتمعات ينقلها إلى نوع من المغالبة والتفوق بالتحالفات البينية، فيبحثون عن حلفاء صغار؛ ليكونوا معهم في نصر فكرتهم والدفاع عنها، ومع تقدم الوقت تنعكس الصورة فيكون هناك أقوياء يدافعون عن فكرتهم ويتحالفون مع بعض مكونات كتلة الأغلبية كأقليات للبقاء، وهذا ما نراه في الواقع حين تأتي أحزاب علمانية فاسدة تتحالف مع تيارات إسلامية أو غيرها في نصر برنامجها السياسي، وبمعادلة رياضية إنه كلما كثرت الأحزاب والجماعات والحركات التي تنبثق من الكتلة الفكرية الواحدة، كلما كان الفشل حليفاً للجميع، ولا يشفع لهم حسن النوايا ولا تضحياتهم.
(7) وثمة زاوية أخرى دالة على أهمية ومحورية ومركزية الاجتماع، وهذه المرة من جهة آثار الاجتماع وبركاته على الأرض، فإن هناك آثاراً عملية تترتب على الاجتماع المتحقق في الواقع على الفكرة الجامعة، وهذه الآثار أهمها ما يأتي:
أ.الانتصار بغير حرب يكون بالاجتماع كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: “نصرت بالرعب”، والدول الكبرى اليوم كما هو ظاهر منصورة بالرعب؛ لانطوائها على القوى والقدرات التي تجعلها فاعلة في السياسة الدولية.
ب.كسب المفاوضات يكون بالاجتماع، فكلما كان المفاوضون مجتمعي الكلمة كلما كان الكسب حليفهم، والعكس كذلك فإن الخصم حريص على تفريق كلمة المفاوضين، بحيث ينفرد بكل واحد منهم، وفي هذا نقض لكلمتهم الجامعة، فيحقق أهدافه.
ج.الاجتماع طريق صحيح وسليم لخفض التكاليف المادية والبشرية.
د.الاجتماع يحقق أعلى نسبة من الأهداف التي يتغياها الجميع.
هـ.الاجتماع أفضل طريق لتجفيف منابع الغلو والإرهاب، والغلو يصنع في حالة تعدد الرايات.
و.الاجتماع يكشف الدخلاء.
ز.الاجتماع يجفف منابع التنافس الضار.
ح.الاجتماع يمنع حالة الاقتتال البيني.
ط.الاجتماع يضمن بناء مؤسسات مجتمع مدني قوية لا يمكن أن تتحقق إلا به.
(8) وفي الختام يمكن وضع مقترحات عملية لتحقيق الاجتماع الذي هو أهم خصائص الأمم الواعية الراشدة، ولكن ينبغي ونحن نقدم هذه المقترحات العملية ألا نضع موانع يستحيل معها تحقيق هذه المقترحات في الواقع، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى ثلاثة مسارات:
المسار الأول: تعزيز فكرة الانتماء المهني بدلاً من الانتماء الفئوي، والانتماء المهني في الدول والمجتمعات الحضارية يعني تأسيس روابط ونقابات مهنية تعبر عن احترام التخصصات وتبتعد عن المجاميع العشوائية، بحيث تكون العلاقة المهنية أقوى من العلاقة الفئوية أو الحركية، وبهذا الانتماء يصبح كل اتجاه مهني هو قائد مجتمعي في المجال الذي هو فيه يقف على الإشكاليات التخصصية في إطاره ويقوم بمعالجتها ويصحح الأخطاء ، وبهذا التصور من الانتماء المهني يمكن تجاوز احتكار الفرص وإماته روح التنافس غير الشريف أو الاستعداء الديني والسياسي أو إقصاء الآخر.
المسار الثاني: تعزيز فكر الفرز المجتمعي على أساس قيمي بدلاً من الفرز المناطقي والعرقي والمذهبي والحركي، وهذا الفرز يجعل التآخي بين أبناء الأوطان سهلاً، ويجعل الانتقال بين الأخيار في أرضية مشتركة تجمعنا قيم الفضائل وليس الجماعات والفصائل، ونتعارف بالأهداف النبيلة ونقيمها مقام الجماعة والقبيلة.
المسار الثالث: وضع حد وآلية للتفريق بين نوعين من المؤسسات، مؤسسات سيادية معبرة عن تطلعات العامة توجب الشراكة، ومؤسسات أخرى تهتم بإدارة الاختلاف في بعده الفكري والمذهبي وما يتعلق بالآراء والقناعات الشخصية، وتفرق فيما بينها من حيث طبيعة عملها والعلاقة بها، والمؤسسات السيادية حاضنة للكليات، ومن شروطها: المساواة، والمشاركة، والبعد عن التحزب والفئوية، ومن نماذج هذه المؤسسات العمل السياسي، والتعليم، والعمل الإنساني، والمؤسسات الحقوقية.
ثانياً: اتجاهات النقاش:
أثار الموضوع جملة من التساؤلات الإشكالية بحكم تعقده وتشابكه في سياقات مختلفة، وأهم ما دار حول النقاش ما يأتي:
(1) إشكالية الموازنة في إطار المناصفة بين الحرية والاستبداد قد يكون خياراً واقعياً لجأت إليه بعض المجتمعات المسلمة في بعض مراحلها التاريخية بناء على ما يقتضيه فقه الموازنات والأولويات وقواعد المصالح والمفاسد في الواقع التاريخي المعني، لكن هذا لا يعني البتة الركون إلى هذا النوع من المعالجات لبعض إشكاليات الواقع التاريخي الغابر؛ لأنه كما يبدو من قسماته حالة اضطرارية ألجأت المسلمين آنئذ، ولا يمكن جعل هذه الحالة أصلاً واختياراً على مدار الزمان، والأهم من ذلك النظر إلى واقع المسلمين المعاصر، وما يقتضيه نموذج الدولة الحديثة من وسائل وأدوات وآليات يلزم المسلمين التعاطي معها وتسكينها في دائرة احتياجات الواقع، ولكل زمان حاجاته ومقتضياته، وواقع اليوم يفرض على الجميع وخاصة في بعده السياسي اجتماعاً بين مكونات المجتمع الواحد وإن كانت مختلفة دينياً ومذهبياً، وتداولاً للسلطة تحفظ به الحقوق والحريات بعيداً عن الاستبداد والفساد.
(2) تقتضي معالجة إشكاليات الواقع الأخذ بنهج المغالبة السلمية، وهذا يستدعي فرزاً لكثير من البنى والمضامين التي تنطوي عليها المنظومة الإسلامية التي تأثرت بكثير من المناهج والمسالك التي جعلتها في دائرة التفرق والتنازع، ومحاولة تجاوز ما اعترتها من هنات واختلالات وانحرافات في ثاني الحال، والأخذ بها إلى حيث الاجتماع الغالب النسبي، ولا يخفى أن البنية الإسلامية اليوم تنطوي على كثير من الحركات والجماعات والأحزاب التي تعمل في سياق متقابل لا يمكن أن تتحقق مقاصد الاجتماع الغالب مع ما تسلكه وتسير فيه هذه الحركات.
(3) تحقيق الاجتماع الغالب وتجاوز كثير من إشكاليات البنى الداخلية والمجتمعية قد يواجه أيضاً إشكالية الحمولة التاريخية التي تنطوي عليها الخبرة الإسلامية، وهذا يسهم في صعوبة تحقيق كثير من الأفكار التي سيقت في هذه الندوة، ولكن بشيء من التأمل وبكثير من الهمة والعزيمة الصادقة مع ما يقتضيه حسن النهج يمكن تجاوز هذه الإشكالية كذلك، وذلك يتأتى بفتح الملفات الكبرى على طاولة البحث والنظر والنقاش بين المسلمين في سياقهم الداخلي، وبينهم وبين غيرهم في سياقهم الخارجي في البنية المجتمعية الداخلية، وهذا يتطلب صبراً ومطاولة ونظراً مصلحياً ومقاصدياً عالياً تقوم عليها النخب المختلفة في المجتمع الإسلامي.
(4) أثار النقاش طرح مسألة التغلب في بنية النظام السياسي الإسلامي، وقد عرفت هذه المسألة على مستوى الفكر في أروقة التراث السياسي الإسلامي، وعلى مستوى الحركة في الخبرة التاريخية الإسلامية، وما زالت هذه المسألة على طاولة البحث والنظر، ويعتريها كثير من التقريرات الحكمية التي جعلتها بمعزل عن المراجعة على مدار قرون، وإثارتها في هذه الندوة جعلها مجالاً لاقتراح تناولها في بعض ندوات المركز القادمة.
ولعل الموضوع بهذه الرؤى والأفكار وما دار حولها من نقاش قد قارب الكمال إلى القدر الذي يسع نظراً تفاعلياً بين النخب في إطاره بالإضافة إلى ما قدم في هذا السياق من أفكار، ولا يقف عند حدود التنظير والتأصيل بل يأخذ بعداً أكبر من خلال جعله في سياقات عملية وخطط وبرامج تنزيلية، تحرك الراكد وتثير الساكن وتمحو آثار العجز الذي حل بالأمة في واقعها المعاصر، فاستعينوا بالله ولا تعجزوا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.